الكتاب: العمدة في محاسن الشعر وآدابه المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ) المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد الناشر: دار الجيل الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ابن رشيق القيرواني الكتاب: العمدة في محاسن الشعر وآدابه المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ) المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد الناشر: دار الجيل الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] باب في فضل الشعر العرب أفضل الأمم، وحكمتها أشرف الحكم؛ لفضل اللسان على اليد، والبعد عن امتهان الجسد؛ إذ خروج الحكمة عن الذات، بمشاركة الآلات؛ إذ لا بد للإنسان من أن يكون تولى ذلك بنفسه، أو احتاج فيه إلى آلة أو معين من جنسه. وكلام العرب نوعان: منظوم، ومنثور. ولكل منهما ثلاث طبقات: جيدة، ومتوسطة، ورديئة، فإذا اتفق الطبقتان في القدر، وتساوتا في القيمة، ولم يكن لإحداهما فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهراً في التسمية؛ لأن كل منظوم أحسن من كل منثور من جنسه في معترف العادة، ألا ترى أن الدر وهو أخو اللفظ ونسيبه، وإليه يقاس، وبه يشبه إذا كان منثوراً لم يؤمن عليه، ولم ينتفع به في الباب الذي له كسب، ومن أجله انتخب؛ وإن كان أعلى قدراً وأغلى ثمناً، فإذا نظم كان أصون له من الابتذال، وأظهر لحسنه مع كثرة الاستعمال، وكذلك اللفظ إذا كان منثوراً تبدد في الأسماع، وتدحرج عن الطباع، ولم تستقر منه إلا المفرطة في اللفظ وإن كانت أجمله، والواحدة من الألف، وعسى أن لا تكون أفضله، فإن كانت هي اليتيمة المعروفة، والفريدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الموصوفة؛ فكم في سقط الشعر من أمثالها ونظرائها لا يعبأ به، ولا ينظر إليه، فإذا أخذه سلك الوزن، وعقد القافية؛ تألفت أشتاته، وازدوجت فرائده وبناته، واتخذ اللابس جمالاً، والمدخر مالاً فصار قرطة الآذان، وقلائد الأعناق، وأماني النفوس، وأكاليل الرءوس، يقلب بالألسن، ويخبأ في القلوب، مصوناً باللب، ممنوعاً من السرقة والغضب. وقد اجتمع الناس على أن المنثور في كلامهم أكثر، وأقل جيداً محفوظاً، وأن الشعر أقل، وأكثر جيداً محفوظاً؛ لأن في أدناه من زينة الوزن والقافية ما يقارب به جيد المنثور. وكان الكلام كله منثوراً فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأمجاد، وسمحائها الأجواد؛ لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعراً؛ لأنهم شعروا به، أي: فطنوا. وقيل: ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون؛ فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره. ولعل بعض الكتاب المنتصرين للنثر، الطاعنين على الشعر، يحتج بأن القرآن كلام الله تعالى منثور، وأن النبي صلى الله عليه وسلم غير شاعر؛ لقول الله تعالى: " وما علمناه الشعر، وما ينبغي له " ويرى أنه قد أبلغ في الحجة، وبلغ في الحاجة، والذي عليه في ذلك أكثر مما له؛ لأن الله تعالى إنما بعث رسوله أمياً غير شاعر إلى قوم يعلمون منه حقيقة ذلك، حين استوت الفصاحة، واشتهرت البلاغة؛ آية للنبوة، وحجة على الخلق، وإعجازاً للمتعاطين، وجعله منثوراً ليكون أظهر برهاناً لفضله على الشعر الذي من عادة صاحبه أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 قادراً على ما يحبه من الكلام، وتحدى جميع الناس من شاعر وغيره بعمل مثله فأعجزهم ذلك، كما قال الله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " فكما أن القرآن أعجز الشعراء وليس بشعر، كذلك أعجز الخطباء وليس بخطبة، والمترسلين وليس بترسل، وإعجازه الشعراء أشد برهاناً، ألا ترى كيف نسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشعر لما غلبوا وتبين عجزهم؟ فقالوا: هو شاعر، لما في قلوبهم من هيبة الشعر وفخامته، وأنه يقع منه ما لا يلحق، والمنثور ليس كذلك، فمن ههنا قال الله تبارك وتعالى: " وما علمناه الشعر، وما ينبغي له " أي: لتقوم عليكم الحجة، ويصح قبلكم الدليل، ويشهد لذلك رواية يونس عن الزهري أنه قال: معناه ما الذي علمناه شعراً، وما ينبغي له أن يبلغ عنا شعراً. وقال غيره: أراد وما ينبغي له أن يبلغ عنا ما لم نعلمه، أي: ليس هو ممن يفعل ذلك؛ لأمانته ومشهور صدقه. ولو أن كون النبي صلى الله عليه وسلم غير شاعر غض من الشعر لكانت أميته غضاً من الكتابة، وهذا أظهر من أن يخفي على أحد. واحتج بعضهم بأن الشعراء أبداً يخدمون الكتاب، ولا تجد كاتباً يخدم شاعراً، وقد عميت عليهم الأنباء، وإنما ذلك لأن الشاعر واثق بنفسه. مدل بما عنده على الكاتب والملك؛ فهو يطلب ما في أيديهما ويأخذه، والكاتب بأي آية يفضل الشاعر فيرجو ما في يده؟ وإنما صناعته فضلة عن صناعته، على أن يكون كاتب بلاغة، فأما كاتب الخدمة في القانون وما شاكله فصانع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 مستأجر، مع أنه قد كان لأبي تمام والبحتري قهارمة وكتاب، وكان من عميان الشعراء كتاب أزمة كبشار وأبي علي البصير، وكان ابن الرومي من أكبر كتاب الدواوين، فغلب عليه الشعر؛ لأنه غلاب. وكما تجد من يمدح السوقة في الشعراء فكذلك تجد للسوقة كتاباً، وللتجار الباعة، في زمننا هذا وقبله. ولما أهجم بهذا الرد، وأورد هذه الحجة، لولا أن السيد أبقاه الله قد جمع النوعين، وحاز الفضيلتين، فهما نقطتان من بحره، ونوارتان من زهره، وسيرد في أضعاف هذا الكتاب من أشعاره ما يكون دليلاً على صدق ما قلته، إن شاء الله تعالى. ومن فضل الشعر أن الشاعر يخاطب الملك باسمه، وينسبه إلى أمه، ويخاطبه بالكاف كما يخاطب أقل السوقة؛ فلا ينكر ذلك عليه، بل يراه أوكد في المدح، وأعظم اشتهاراً للممدوح، كل ذلك حرص على الشعر، ورغبة فيه، ولبقائه على مر الدهور واختلاف العصور، والكاتب لا يفعل ذلك إلا أن يفعله منظوماً غير منثور، وهذه مزية ظاهرة وفضل بين. ومن فضائله أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه، وحسبك ما حسن الكذب، واغتفر له قبحه، فقد أوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير لما أرسل إلى أخيه بجير ينهاه عن الإسلام، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما أحفظه، فأرسل إليه أخوه " ويحك إن النبي صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 عليه وسلم أوعدك لما بلغه عنك، وقد كان أوعد رجالاً بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه فقتلهم يعني ابن خطل وابن حبابة وإن من بقيء من شعراء قريش كابن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يقتل من جاء تائباً، وإلا فانج إلى نجائك، فإنه والله قاتلك، فضاقت به الأرض، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متنكراً، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وضع كعب يده في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد أتى مستأمناً تائباً، أفتؤمنه فآتيك به؟ قال: هو آمن، فحسر كعب عن وجهه وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله هذا مكان العائذ بك، أنا كعب بن زهير، فأمنه رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنشد كعب قصيدته التي أولها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول يقول فيها بعد تغزله وذكر شدة خوفه ووجله: أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ال ... قرآن فيه مواعيظ وتفصيل لا تأخذني بأقوال الوشاة فلم ... أذنب، ولو كثرت في الأقاويل فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وما كان ليوعده على باطل، بل تجاوز عنه ووهب له بردته، فاشتراها منه معاوية بثلاثين ألف درهم. وقال العتبي بعشرين ألفاً، وهي التي يتوارثها الخلفاء يلبسونها في الجمع والأعياد تبركاً بها. وذكر جماعة منهم عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي الشاعر أنه أعطاه مع البردة مائة من الإبل، قال: وقال الأحوص يذكر عمر بن عبد العزيز عطية رسول الله صلى الله عليه وسلم كعباً، وقد توقف في عطاء الشعراء: وقبلك ما أعطى هنيدة جلة ... على الشعر كعباً من سديس وبازل رسول الإله المستضاء بنوره ... عليه السلام بالضحى والأصائل واعتذر حسان بن ثابت من قوله في الإفك بقوله لعائشة رضي الله عنها في أبيات مدحها بها: حصان رزان ما تزن بريبةٍ ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل يقول فيها: فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي ثم يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرئ بي ماحل فاعتذر كما تراه مغالطاً في شيء نفذ فيه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحد، وزعم أن ذلك قول امرئ ماحل، أي: مكايد، فلم يعاقب لما يرون من استخفاف كذب الشاعر، وأنه يحتج به ولا يحتج عليه. وسئل أحد المتقدمين عن الشعراء فقال: ما ظنك بقوم الاقتصاد محمود إلا منهم، والكذب مذموم إلا فيهم. حكى أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين النيسابوري أن كعب الأحبار قال له عمر بن الخطاب وقد ذكر الشعر: يا كعب، هل تجد للشعراء ذكراً في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قوماً من ولد إسماعيل، أناجيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلا العرب. وقيل: ليس لأحد من الناس أن يطري نفسه ويمدحها، في غير منافرة، إلا أن يكون شاعراً، فإن ذلك جائز له في الشعر، غير معيب عليه. وقال بعضهم وأظنه أبا العباس الناشئ العلم عند الفلاسفة ثلاث طبقات: أعلى، وهو ما غاب عن الحواس فأدرك بالعقل أو القياس، وأوسط، وهو علم الآداب النفيسة التي أظهرها العقل من الأشياء الطبيعية كالأعداد والمساحات وصناعة التنجيم وصناعة اللحون، وأسفل، وهو العلم بالأشياء الجزئية والأشخاص الجسيمة، فوجب إذا كانت العلوم أفضلها ما لم تشارك فيه الجسوم أن يكون أفضل الصناعات ما لم تشارك فيه الآلات، وإذا كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 اللحون عند الفلاسفة أعظم أركان العمل الذي هو أحد قسمي الفلسفة وجدنا الشعر أقدم من لحنه لا محالة، فكان أعظم من الذي هو أعظم أركان الفلسفة، والفلسفة عندهم علم وعمل. هذا معنى الكلام المنقول عنه مختصراً وليس نصاً. فإن قيل في الشعر: إنه سبب التكفف، وأخذ الأعراض، وما أشبه ذلك؛ لم يلحقه من ذلك إلا ما يلحق المنثور. ومن فضائله أن اليونانيين إنما كانت أشعارهم تقييد العلوم والأشياء النفيسة والطبيعية التي يخشى ذهابها، فكيف ظنك بالعرب الذي هو فخرها العظيم وقسطاسها المستقيم؟ وزعم صاحب الموسيقى أن ألذ الملاذ كلها اللحن، ونحن نعلم أن الأوزان قواعد الألحان، والأشعار معايير الأوتار لا محالة، مع أن صنعة صاحب الألحان واضعة من قدره، مستخدمة له، نازلة به، مسقطة لمروءته، ورتبة الشاعر لا مهانة فيها عليه، بل تكسبه مهابة العلم، وتكسوه جلالة الحكمة. فأما قيامه وجلوس اللحون فلأن هذا متشوف إليه، يحب إسماع من بحضرته أجمعين، بغير آلة ولا معين، ولا يمكنه ذلك إلا قائماً أو مشرفاً، وليدل على نفسه، ويعلم أنه المتكلم دون غيره، وكذلك الخطيب، وصاحب اللحون لا يمكنه القيام لما في حجره كرامة منه على القوم، على أن منهم من كان يقوم بالدف والمزهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكماً " وقيل " لحكمة ": فقرن البيان بالسحر فصاحة منه صلى الله عليه وسلم، وجعل من الشعر حكماً؛ لأن السحر يخيل للإنسان ما لم يكن للطافته وحيلة صاحبه وكذلك البيان يتصور فيه الحق بصورة الباطل، والباطل بصورة الحق؛ لرقة معناه، ولطف موقعه، وأبلغ البيانين عند العلماء الشعر بلا مدافعة، وقال رؤبة: لقد خشيت أن تكون ساحراً ... راوية مراً ومراً شاعراً فقرن الشعر أيضاً بالسحر لتلك العلة، ويروي أيضاً لقد حسنت بسين مضمومة غير معجمة، ونون، والتاء مفتوحة. باب في الرد علي من يكره الشعر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه "، وقد قال عليه الصلاة والسلام: " إنما الشعر كلام، فمن الكلام خبيث وطيب "، وقالت عائشة رضي الله عنها: الشعر فيه كلام حسن وقبيح، فخذ الحسن واترك القبيح، ويروي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى لحسان بن ثابت في المسجد منبراً ينشد عليه الشعر، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أعلم منه، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 على بن أبي طالب رضي الله عنه: الشعر ميزان القول، ورواه بعضهم: الشعر ميزان القوم. وروى ابن عائشة يرفعه قال: قال رسول الله صلى الله علية وسلم: " الشعر كلام من كلام العرب جزل، تتكلم به في بواديها، وتسل به الضغائن من بينها " وأنشد ابن عائشة قول أعشى بني قيس بن ثعلبة: قلدتك الشعر يا سلامة ذا ... فايش، والشيء حيث ما جعلا والشعر يستنزل الكريم كما ... ينزل رعد السحابة السبلا ويروى عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: مر الزبير بن العوام رضي الله عنه بمجلس لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحسان ينشدهم، وهم غير آذنين لما يسمعون من شعره، فقال: مالي أراكم غير آذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة؟ لقد كان ينشد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن استماعه، ويجزل عليه ثوابه، ولا يشتغل عنه إذا أنشده. ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أرغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فوالله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فما يغير علي ذلك، فقال عمر: صدقت. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: مر من قبلك بتعلم الشعر؛ فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وقال معاوية رحمه الله: يجب على الرجل تأديب ولده، والشعر أعلى مراتب الأدب وقال: اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر دأبكم، فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض، وأنا أريد الهرب لشدة البلوى فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة: أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح ويروى أن أعرابياً وقف على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إن لي إليك حاجة رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك، فإن أنت قضيتها حمدت الله تعالى وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله تعالى وعذرتك، فقال له علي: خط حاجتك في الأرض، فإني أرى الضر عليك، فكتب الأعرابي على الأرض إني فقير فقال له علي: يا قنبر؛ ادفع إليه حلتي الفلانية، فلما أخذها مثل بين يديه فقال: كسوتني حلة تبلى محاسنها ... فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا إن الثناء ليحيي ذكر صاحبه ... كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا لا تزهد الدهر في عرف بدأت به ... فكل عبد سيجزى بالذي فعلا فقال علي: يا قنبر، أعطه خمسين ديناراً، أما الحلة فلمسألتك، وأما الدنانير فلأدبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنزلوا الناس منازلهم " وقيل لسعيد بن المسيب: إن قوماً بالعراق يكرهون الشعر، فقال: نسكوا نسكاً أعجمياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وقال ابن سيرين: الشعر كلام عقد بالقوافي، فما حسن في الكلام حسن في الشعر، وكذلك ما قبح منه. وسئل في المسجد عن رواية الشعر في شهر رمضان وقد قال قوم: إنها تنقض الوضوء فقال: نبئت أن فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول ثم قام فأم الناس، وقيل: بل أنشد: لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزاً ... ولو رضيت رمح أسته لاستقرت وقال الزبير بن بكار: سمعت العمري يقول: رووا أولادكم الشعر؛ فإنه يحل عقدة اللسان، ويشجع قلب الجبان، ويطلق يد البخيل، ويحض على الخلق الجميل. وسئل ابن عباس: هل الشعر من رفث القول؟ فأنشد: وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا وقال: إنما الرفث عند النساء، ثم أحرم للصلاة. وكان ابن عباس يقول: إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب؛ فإن الشعر ديوان العرب. وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعراً. وكانت عائشة رضي الله عنها كثيرة الرواية للشعر. يقال: إنها كانت تروي جميع شعر لبيد. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وكان أبو السائب المخزومي على شرفه، وجلالته، وفضله في الدين والعلم يقول: أما والله لو كان الشعر محرماً لوردنا الرحبة كل يوم مراراً. والرحبة: الموضع الذي تقام فيه الحدود، يريد أنه لا يستطيع الصبر عنه فيحد في كل يوم مراراً ولا يتركه. فأما احتجاج من لا يفهم وجه الكلام بقوله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون " فهو غلط، وسوه تأول؛ لأن المقصودين بهذا النص شعراء المشركين الذين تناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء، ومسوه بالأذى، فأما من سواهم من المؤمنين فغير داخل في شيء من ذلك، ألا تسمع كيف استثناهم الله عز وجل ونبه عليهم فقال: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا " يريد شعراء النبي صلى الله عليه وسلم ينتصرون له، ويجيبون المشركين عنه، كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. وقد قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " هؤلاء النفر أشد على قريش من نضح النبل "، وقال لحسان بن ثابت " اهجهم يعني قريشاً فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام، في غلس الظلام، اهجهم ومعك جبريل روح القدس، وألق أبا بكر يعلمك تلك الهنات " فلو أن الشعر حرام أو مكروه ما اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم شعراء يثيبهم على الشعر، ويأمرهم بعمله، ويسمعه منهم. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 يريه خير له من أن يمتلئ شعراً " فإنما هو من غلب الشعر على قلبه، وملك نفسه حتى شغله عن دينه وإقامة فروضه، ومنعه من ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، والشعر غيره مما جرى هذه المجرى من شطرنج وغيره سواء. وأما غير ذلك ممن يتخذ الشعر أدباً وفكاهة وإقامة مروءة فلا جناح عليه وقد قال الشعر كثير من الخلفاء الراشدين، والجلة من الصحابة والتابعين، والفقهاء المشهورين، وسأذكر من ذلك طرفاً يقتدي به في هذا الباب، إن شاء الله تعالى. باب في أشعار الخلفاء والقضاة والفقهاء من ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه قالوا: واسمه عبد الله ابن عثمان، ويقال: عتيق لقب له قال في غزوة عبيدة بن الحارث، رواه ابن إسحاق وغيره: أمن طيف سلمى الدمائث ... أرقت، أوامر في العشيرة حادث؟؟ ترى من لؤي فرقة لا يصدها ... عن الكفر تذكير ولا بعث باعث رسول أتاهم صادق فتكذبوا ... عليه، وقالوا: لست فينا بماكث إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا ... وهروا هرير المجحرات اللواهث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فكم قد متتنا فيهم بقرابة ... وترك التقى شيء لهم غير كارث فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم ... فما طيبات الحل مثل الخبائث وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم ... فليس عذاب الله عنهم بلابث ونحن أناس من ذؤابة غالب ... لنا العز منها في الفروع الأثائث فأولى برب الراقصات عشية ... حراجيج تخدى في السريح الرثائث كأدم ظباء حول مكة عكف ... يردن حياض البئر ذات النبائث لئن لم يفيقوا عاجلاً من ضلالهم ... ولست إذا آليت قولا بحانث لتبتدرنهم غارة ذات مصدق ... تحرم أطهار النساء الطوامث تغادر قتلى تعصب الطير حولهم ... ولا يرأف الكفار رأف ابن حارث فأبلغ بني سهم لديك رسالة ... وكل كفور يبتغي الشر باحث فإن شعثوا عرضي على سوء رأيهم ... فإني من أعراضهم غير شاعث ومن شعر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة ويروى للأعور الشني: هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها فليس بآتيك منهيها ... ولا قاصر عنك مأمورها ومن شعره أيضاً وقد لبس برداً جديداً فنظر الناس إليه وقد روى لورقة بن نوفل في أبيات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ولا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان؛ إذ تجرى الرياح له ... والجن والإنس فيما بينها ترد حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوماً كما وردوا ومن شعره أيضاً رضي الله عنه: توعدني كعب ثلاثاً يعدها ... ولا شك أن القول ما قال لي كعب وما بي خوف الموت؛ إني لميت ... ولكن خوف الذنب يتبعه الذنب ومن شعر عثمان بن عفان رضي الله عنه: غنى النفس يغني النفس حتى يكفها ... وإن عضها حتى يضر بها الفقر وما عسرة فاصبر لها إن لقيتها ... بكائنة إلا سيتبعها يسر ومن شعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان مجوداً ما قاله يوم صفين يذكر همدان ونصرهم إياه: ولما رأيت الخيل ترجم بالقنا ... نواصيها حمر النحور دوامي وأعرض نقع في السماء كأنه ... عجاجة دجن ملبس بقتام ونادى ابن هند في الكلاع وحمير ... وكندة في لخم وحي جذام تيممت همدان الذين هم هم ... إذا ناب دهر جنتي وسهامي فجاوبني من خيل همدان عصبة ... فوارس من همدان غير لئام فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها ... وكانوا لدى الهيجا كشرب مدام فلو كنت بواباً على باب جنة ... لقلت لهمدان: ادخلوا بسلام وهو القائل بصفين أيضاً: لمن راية حمراء يخفق ظلها ... إذا قلت قدمها حضين تقدما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فيوردها في الصف حتى يرد بها ... حياض المنايا تقطر الموت والدما فهؤلاء الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم: ما منهم إلا من قال الشعر، وخامسهم الحسن بن علي رحمه الله، وهو القائل وقد خرج على أصحابه مختضباً رواه المبرد: نسود أعلاها، وتأبى أصولها، ... فليت الذي يسود منها هو الأصل ومن شعر معاوية بن أبي سفيان رحمة الله عليه ما رواه ابن الكلبي عن عبد الرحمن المدني، قال: لما حضرت معاوية الوفاة جعل يقول: إن تناقش يكن نقاشك يار ... ب عذاباً، لا طوق لي بالعذاب أو تجاوز فأنت رب رءوف ... عن مسيء ذنوبه كالتراب وروى في غير موضع واحد: فقدت سفاهتي، وأزحت غيي ... وفي على تحلمي اعتراض على أني أجيب إذا دعتني ... إلى حاجاتها الحدق المراض ومن قوله ايضاً، وهو لائق به، دال على صحة ناقله: إذا لم أجد بالحلم مني عليكم ... فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم!؟ خذيها هنيئاً واذكري فعل ماجد ... حباك على حرب العداوة بالسلم وأما يزيد بن معاوية فمن بعده فكثير شعرهم مشهور. ومن شعر الحسين بن علي رضي الله عنهما، وقد عاتبه أخوه الحسن رحمه الله في امرأته: لعمرك إنني لأحب داراً ... تحل بها سكينة والرباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 أخبهما وأبذل جل مالي ... وليس للائمي عندي عتاب وليس من بني عبد المطلب رجالاً ونساء من لم يقل الشعر، حاشا النبي صلى الله عليه وسلم: فمن ذلك قول حمزة بن عبد المطلب رحمه الله يذكر لقاءه أبا جهل وأصحابه في قصيده تركت أكثرها اختصاراً: عشية صاروا جاشدين وكلنا ... مراجله من غيظ أصحابه تغلي فلما تراءينا أناخوا فعقلوا ... مطايا وعقلنا مدى غرض النبل وقلنا لهم: حبل الإله نصيرنا ... وما لكم إلا الضلالة من حبل فثار أبو جهل هنالك باغياً ... فخاب، ورد الله كيد أبي جهل وما نحن إلا في ثلاثين راكباً ... وهم مائتان بعد واحدة فضل وأما العباس فكان شاعراً مغلقاً حسن التهدي: من ذلك قوله رحمه الله يوم حنين يفتخر بثبوته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا هل أتى عرسي مكري وموقفي ... بوادي حنين والأسنة تشرع وقولي إذا ما النفس جاشت لها قدى ... وهام تدهدى والسواعد تقطع وكيف رددت الخيل وهي مغيرة ... بزوراء تعطى باليدين وتمنع نصرنا رسول الله في الحرب سبعة ... وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا ومن شعر عبد الله بن عباس رضي الله عنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى ... وأعمل فكر الليل والليل عاكر وباكرني في حاجة لم يجد بها ... سواي ولا من نكبة الدهر ناصر فرجت بمالي همه من مقامه ... وزايله هم طروق مسامر وكان له فضل علي بظنه ... بي الخير؛ إني للذي ظن شاكر ومن شعر جعفر بن أبي طالب ذي الجناحين رضي الله عنه قوله يوم مؤتة وفيه قتل رحمة الله عليه: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها ... علي إذا لاقيتها ضرابها وشعر أبي سفيان بن الحارث مشهور في الجاهلية والإسلام. فأما أبو طالب ومن شاكله فلم أذكر لهم شيئاً، خلا بيتين لعبد الله بن عبد المطلب أنشدهما القاضي أبو الفضل، وهما: وأحور مخضوب البنان محجب ... دعاني فلم أعرف إلى ما دعا وجها بخلت بنفسي عن مقام يشينها ... فلست مريداً ذاك طوعاً ولا كرهاً وكانت فاطمة رضي الله عنها تقول الشعر، رويت لها أشياء كثيرة. ثم نرجع إلى الخلفاء المرضيين: قال عمر بن عبد العزيز، رواه الأوزاعي عن محمد بن كعب: أيقظان أنت اليوم أم أنت حالم؟ ... وكيف يطيق النوم حيران هائم؟ فلو كنت يقظان الغداة لحرقت ... جفونا لعينيك الدموع السواجم نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم، والردى لك لازم وتشغل فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم ومما أثبته حماد الرواية من شعره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 إنه الفؤاد عن الصبا ... وعن انقيادك للهوى فلعمر ربك إن في ... شيب المفارق والجلا لك واعظاً لو كنت تت ... عظ اتعاظ ذوي النهى حتى متى لا ترعوي؟ ... وإلى متى؟ وإلى متى؟ بلى الشباب وأنت إن ... عمرت رهن للبلى وكفى بذلك زاجراً ... للمرء عن غي، كفى ومن شعره أيضاً أنشده ابن داود القياسي في كتابه: ولولا النهى ثم التقى خشية الردى ... لعاصيت في حب الصبا كل زاجر صبا ما صبا فيما مضى ثم لا ترى ... له صبوة أخرى الليالي الغوابر ومن قول عبد الله بن الزبير قوله وقد ولي الحرمين مدة، ودعي بأمير المؤمنين ما شاء الله حتى قتل، رحمة الله عليه وقد روي لعبد الله بن الزبير بفتح الزاي وكسر الباء: لا أحسب الشر جاراً لا يفارقني ... ولا أحز على ما فاتني الودجا وما لقيت من المكروه منزلة ... إلا وثقت بأن ألقى لها فرجا ومن قوله المشهور عنه: وكم من عدو قد أراد مساءتي ... بغيب، ولو لاقيته لتندما كثير الخنا حتى إذا ما لقيته ... أصر على إثم وإن كان أقسما وحسبك من القضاة شريح بن الحارث: كان شاعراً مجوداً، وقد استقضاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتب إلى مؤدب ولده وقد وجده وقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الصلاة يلعب بجرو كلب، وأودع الأبيات رقعة وأنفذها مع ولده مختومة إلى المؤدب: ترك الصلاة لأكلب يسعى بها ... طلب الهراش مع الغواة الرجس فليأتينك غدوة بصحيفة ... كتبت له كصحيفة المتلمس فإذا هممت بضربه فبدرة ... وإذا بلغت به ثلاثاً فاحبس واعلم بأنك ما أتيت فنفسه ... مع ما يجرعني أعز الأنفس فهذا شريح، وهلم جرا إلى حيث شئت، ومن الفقهاء عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال في امرأة من هذيل قدمت المدينة ففتن بها الناس ورغبوا فيها خاطبين: أحبك حباً لو علمت ببعضه ... لجدت ولم يصعب عليك شديد وحبك يا أم الوليد مولهي ... شهيدي أبو بكر فنعم شهيد ويعلم وجدي قاسم بن محمد ... وعروة ما أخفي بكم وسعيد ويعلم ما ألقى سليمان علمه ... وخارجة يبدي بنا ويعيد متى تسألي عما أقول تخبري ... فلله عندي طارف وتليد هؤلاء الستة الذين ذكرهم: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعروة بن الزبير بن العوام، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله صاحب هذا الشعر هو سابعهم، وهم فقهاء المدينة، وأصحاب الرأي الذين هم عليهم المدار. وقد كان جماعة من أصحاب مالك بن أنس يرون الغناء بغير آلة جائزاً، وهو مذهب جماعة من أهل مكة والمدينة، والغناء حلة الشعر إن لم يلبسها طويت، ومحال أن يحرم الشعر من يحل الغناء به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وأما محمد بن إدريس الشافعي فكان من أحسن الناس افتناناً في الشعر، وهو القائل: ومتعب العيس مرتاحاً إلى بلد ... والموت يطلبه في ذلك البلد وضاحك والمنايا فوق مفرقه ... لو كان يعلم غيباً مات من كمد من كان لم يؤت علماً في بقاء غد ... ماذا تفكره في رزق بعد غد ومن قوله أيضاً في غير هذا المعنى: الجد يدني كل شيء شاسع ... والجد يفتح كل باب مغلق فإذا سمعت بأن مجدوداً حوى ... عوداً فأورق في يديه فصدق وإذا سمعت بأن محروماً أتى ... ماء ليشربه فجف فحقق وأحق خلق الله بالهم امرؤ ... ذو همة يبلى برزق ضيق ولربما عرضت لنفسي فكرة ... فأود منها أنني لم أخلق وهذا باب لو تقصيته لاحتمل كتاباً مفرداً ولكني طبقت المفصل، وذكرت بعض المشاهير من الناس. باب من رفعه الشعر، ومن وضعه إنما قيل في الشعر " إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل، مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل، وإنه أسنى مروءة الدني، وأدنى مروءة السرى " لأمر ظاهر غاب عن بعض الناس فتأوله أشد التأويل، وظنه مثلبة وهو منقبة، وذلك أن الشعر لجلالته يرفع من قدر الخامل إذا مدح به، مثل ما يضع من قدر الشريف إذا اتخذه مكسباً، كالذي يؤثر من سقوط النابغة الذبياني بامتداحه النعمان بن المنذر، وتكسبه عنده بالشعر، وقد كان أشرف بني ذبيان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 هذا، وإنما امتدح قاهر العرب، وصاحب البؤس والنعيم.. وكاشتهار عرابة الأوسي بشعر الشماخ بن ضرار، وقد بذل له في سنة شديدة وسق بعير تمراً، فقال: رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين حتى صار ذلك مثلاً سائراً، وأثراً باقياً، لا تبلى جدته، ولا تتغير بهجته، وقدح ذلك في مروءة الشماخ، وحط من قدره؛ لسقوط همته عن درجة مثله من أهل البيوتات وذوي الأقدار. فأما من صنع الشعر فصاحة ولسنا، وافتخاراً بنفسه وحسبه، وتخليداً لمآثر قومه، ولم يصنعه رغبة ولا رهبة، ولا مدحاً ولا هجاء، كما قال واحد دهرنا وسيد كتاب عصرنا أبو الحسن أحسن الله إليه وإلينا فيه: وجدت طريق البأس أسهل مسلكاً ... وأحرى بنجح من طريق المطامع فلست بمطر ما حييت أخا ندى ... ولا أنا في عرض البخيل بواقع فلا نقص عليه في ذلك، بل هو زائد في أدبه، وشهادة بفضله، كما أنه نباهة في ذكر الخامل، ورفع لقدر الساقط، وإنما فضل امرؤ القيس وهو من هو لما صنع بطبعه، وعلا بسجيته، عن غير طمع ولا جزع. حكي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: لو أن الشعراء المتقدمين ضمنهم زمان واحد ونصبت لهم راية فجروا معاً علمنا من السابق منهم، وإذ لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 يكن فالذي لم يقل لرغبة ولا لرهبة، فقيل: ومن هو؟ فقال: الكندي، قيل: ولم؟ قال: لأني رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة. وقال علي بن الجهم في مدح المتوكل: وما الشعر مما أستظل بظله ... ولا زادني قدراً، ولا حط من قدري ثم قال: ولكن إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر فذكر أنه لا يستظل بظل الشعر، أي: لا يتكسب به، وأنه لم يزده قدراً لأنه كان نابه الذكر قبل عمل الشعر، ثم قال ولا حط من قدري فأحسن الاعتذار لنفسه وللشعر، يقول: ليس الشعر ضعة في نفسه، ولا صنعته فيمن دون الخليفة، وما كفاه ذلك حتى جعل نفسه بإزاء الخليفة، بل مكافئاً له بشعره على إحسان بدأه الخليفة به، ولم يرض أن يجعل نفسه راغباً ولا مجتدياً. قال الطائي في هذا المعنى لمحمد بن عبد الملك الزيات، على ما كان فيه من الكبر والإعجاب، وهو حينئذ الوزير الأكبر: لقد زدت أوضاحي امتداداً، ولم أكن ... بهيماً ولا أرضى من الأرض مجهلا ولكن أياد صادفتني جسامها ... أغر فوافت بي أغر محجلا فطمع بنفسه إلى حيث ترى، وجعل الغرة من كسبه وهي في الوجه مشهورة والتحجيل من زيادات الممدوح، وهو في القوائم. وقد سبق إلى هذا المعنى أبو نخلة السعدي فقال يمدح مسلمة بن عبد الملك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وأحييت من ذكري، وما كان خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض وقد حكى أن امرأ القيس نفاه أبوه لما قال الشعر، وغفل أكثر الناس عن السبب، وذلك أنه كان خليعاً، ومتهتكاً، شبب بنساء أبيه، وبدأ وبهذا الشر العظيم، واشتغل بالخمر والزنا عن الملك والرياسة، فكان إليه من أبيه ما كان، ليس من جهة الشعر، لكن من جهة الغي والبطالة؛ فهذه العلة، وقد جاوزت كثيراً من الناس ومرت عليهم صفحاً. وأما تفسير القول الآخر في السري والدني؛ فإنه إذا بلغت بالدنى نفسه، وطمحت به همته إلى أن يصنع الشعر الذي هو أخو الأدب، وتجارة العرب، تكافأ به الأيادي، ويحل به صدر النادي، ويرفع صوته على من فوقه، ويزيده في القدر على ما استحقه فقد صار سرياً، على أن القائل، فإن كان المقول له فذلك أعظم مزية، وأشرف خطة ومنزلة، وإذا انحطت بالسري همته، وقصرت مروءته، إلى أن يصنع الشعر ليتكسب به المال ويكافئ به الأيادي دون غيره وهو يعلم أنه أبقى من المال، وأنفس ذخائر الرجال، وأنه إن خاطب به من فوقه فقد رضي بالضراعة، وإن خاطب به كفأه ونظيره فقد نزل عن المساواة، وإن خاطب به من دونه سقط جملة ذلك على أن يكون شعره مزحاً أو عتاباً، وأما أن يكون هجاء فأبقى لخزيه وأضل لسعيه. وسأذكر ممن رفعه أو ممن وضعه ما قال أو قيل فيه من الشعر بعض من ذكر الناس؛ لئلا أخلي الكتاب من ذلك، وإن كنت حريصاً على الإيجاز والاختصار. فممن رفعه ما قال من القدماء الحارث بن حلزة اليشكري، وكان أبرص، فأنشد الملك عمرو بن هند قصيدته: آذنتنا ببينها أسماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وبينه وبينه سبعة حجب؛ فما زال يرفعها حجاباً فحجاباً لحسن ما يسمع من شعره حتى لم يبق بينهما حجاب، ثم أدناه وقربه، وأمثاله كثير. ومن المخضرمين حسان بن ثابت رحمه الله، لم تكن له ماتة ولا سابقة في الجاهلية والإسلام إلا شعره، وقد بلغ من رضا الله عز وجل ورضا نبيه عليه الصلاة والسلام ما أورثه الجنة. ومن الفحول المتأخرين الأخطل واسمه غياث بن غوث، وكان نصرانياً من تغلب بلغت به الحال في الشعر إلى أن نادم عبد الملك بن مروان، وأركبه ظهر جرير بن عطية بن الخطفي، وهو تقي مسلم، وقيل: أمره بذلك بسبب شعر فاخره فيه بين يديه وطول لسانه، حتى قال مجاهراً: لعنة الله عليه، لا يستتر في الطعن على الدين والاستخفاف بالمسلمين: ولست بصائم رمضان طوعاً ... ولست بآكل لحم الأضاحي ولست بزاجر عنساً بكوراً ... إلى بطحاء مكة للنجاح ولست منادياً أبداً بليل ... كمثل العير " حي على الفلاح " ولكني سأشربها شمولاً ... وأسجد قبل منبلج الصباح وهذه غاية عظيمة ومنزلة غريبة حملت من المسامحة في الدين على مثل ما نسمع والملوك ملوك بزعمهم. وهجا الأنصار ليزيد بمن معاوية، لما شبب عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بعمته فاطمة بنت أبي سفيان وقيل: بل بأخته هند بنت معاوية قيل: ولولا شعره لقتل دون أقل من ذلك.. وقد رد على جرير أقبح رد، وتناول من أعراض المسلمين وأشرافهم، ما لا ينجو مع مثله علوي، فضلاً عن نصراني. ومن المحدثين أبو نواس، كان نديماً للأمين محمد بن زبيدة طول خلافته.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ومسلم بن الوليد صريع الغواني، اتصل بذي الرياستين ومات على جرجان وكان تولاها على يديه.. والبحتري، كان نديماً للمتوكل لا يكاد يفارقه، وبمحضره قتل المتوكل. وكثير ممن أكتفي بهؤلاء عن ذكره. وقد خطب أبو الطيب هذه الرتبة إلى كافور الإخشيدي، فوعده بها وأجابه إليها، ثم خافه لما رأى من تحامله وكبره، واقتضاه أبو الطيب مراراً، وعاتبه فما وجد عنده راحة.. فمن ذلك قوله يقتضيه: وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلب إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب وقوله يقتضيه أيضاً ويعاتبه من قصيدة مشهورة: ولي عند هذا الدهر حق يلطه ... وقد قل إعتاب وطال عتاب ثم قال بعد أبيات: أرى لي بقربي منك عيناً قريرة ... وإن كان قرباً بالبعاد يشاب وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجاب أقل سلامي حب ما خف عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يبغي عليه ثواب وما شئت إلا أن أذل عواذلي ... على أن رأيي في هواك صواب وأعلم قوماً خالفوني فشرقوا ... وغربت أني قد ظفرت وخابوا فهؤلاء رفعهم ما قالوه من الشعر؛ فنالوا الرتب، واتصلوا بالملوك، وليس ذلك ببدع للشاعر ولا عجيب منه. وقد كنت صنعت بين يدي سيدنا من أمر العالي زاده الله علواً: الشعر شيء حسن ... ليس به من حرج أقل ما فيه ذها ... ب الهم عن نفس الشجي يحكم في لطافة ... حل عقود الحجج كم نظرة حسنها ... في وجه عذر سمج وحرقة بردها ... عن قلب صب منضج ورحمة أوقعها ... في قلب قاس حرج وحاجة يسرها ... عند غزال غنج وشاعر مطرح ... مغلق باب الفرج قربه لسانه ... من ملك متوج فعلموا أولادكم ... عقار طب المهج وطائفة أخرى نطقوا في الشعر بألفاظ صارت لهم شهرة يلبسونها، وألقاباً يدعون بها فلا ينكرونها: منهم عائد الكلب، واسمه عبد الله بن مصعب، كان والياً على المدينة للرشيد، لقب بذلك لقوله: مالي مرضت فلم يعدني عائد ... منكم، ويمرض كلبكم فأعود؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 والممزق، واسمه شاس بن نهار، لقب بقوله لعمرو بن هند: فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي ... وإلا فأدركني ولما أمزق وقد تمثل بهذا البيت عثمان بن عفان رضي الله عنه في رسالة كتب بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولقب مسكين الدرامي واسمه ربيعة، من ولد عمرو بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن درام بقوله: أنا مسكين لمن أبصرني ... ولمن حاورني جد نطق فلما سمي مسكيناً قال: وسميت مسكيناً وكانت لجاجة ... وإني لمسكين إلى الله راغب وإني امرؤ لا أسأل الناس مالهم ... بشعري، ولا تعمى علي المكاسب وإنما هذا لمكان الشعر من قلوب العرب، وسرعة ولوجه في آذانهم، وتعلقه بأنفسهم. ومنهم من سمي بلفظة من شعره لشناعتها، مثل النابغة الذبياني واسمه زياد بن عمرو وسمي نابغة لقوله: فقد نبغت لنا منهم شئون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وأما الجعدي واسمه قيس بن عبد الله فإنما نبغ بالشعر بعد أربعين سنة فسمي نابغة لذلك. وجران العود، سمي بذلك لقوله: عمدت لعود فالتحيت جرانه ... وللكيس خير في الأمور وأنجح خذا حذراً يا خلتي فإنني ... رأيت جران العود قد كان يصلح يخاطب امرأتيه، وقد تركتاه ونشزتا عليه؛ فلزمه هذا الاسم وذهب اسمه كرهاً. كذلك أبو العيال، لا يعرف له اسم غير هذا؛ ولقوله: ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً ... من المال؛ يطرح نفسه كل مطرح ليبلغ عذراً أو يصيب رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح أمثالهم ممن ذكره المؤلفون لا يحصون كثرة، وليسوا من هذا الباب في شيء؛ لأن غلبة هذه الأسماء عليهم ليست شرفاً لهم ولا ضعة، وإنما هي من جهة الشناعة فقط، ولكن الكلام ذو شجون. ومن ههنا عظم الشعر، وتهيب أهله، خوفاً من بيت سائر تحدى به الإبل، أو لفظة شاردة يضرب بها المثل، ورجاء في مثل ذلك؛ فقد رفع كثيراً من الناس ما قيل فيهم من الشعر بعد الخمول والإطراح، حتى افتخروا بما كانوا يعيرون به ووضع جماعة من أهل السوابق والأقدار الشريفة حتى عيروا بما كانوا يفتخرون به. فمن رفعه ما قيل فيه من الشعر بعد الخمول الملحق، وذلك أن الأعشى قدم مكة وتسامح الناس به، وكانت للمحلق امرأة عاقلة وقيل: بل أم فقالت له: إن الأعشى قدم، وهو رجل مفوه، مجدود في الشعر ما مدح أحداً إلا رفعه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ولا هجا أحداً إلا وضعه وأنت رجل كما علمت فقيراً خامل الذكر ذو بنات، وعندنا لقحة نعيش بها فلو سبقت الناس إليه فدعوته إلى الضيافة ونحرت له واحتلت لك فما تشتري به شراباً يتعاطاه؛ لرجوت لك حسن العاقبة، فسبق إليه المحلق، فأنزله ونجر له، ووجد المرأة قد خبزت خبزاً وأخرجت نحياً فيه سمن وجاءت بوطب لبن، فلما أكل الأعشى وأصحابه، وكان في عصابة قيسية، قدم إليه الشراب واشتوى له من كبد الناقة، وأطعمه من أطايبها، فلما جرى فيه الشراب وأخذت منه الكأس سأله عن حاله وعياله فعرف البؤس في كلامه، وذكر البنات، فقال الأعشى: كفيت أمرهن، وأصبح بعكاظ ينشد قصيدته: أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق ورأى المحلق اجتماع الناس، فوقف يستمع، وهو لا يدري أين يريد الأعشى بقوله، إلى أن سمع: نفى الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق ترى القوم فيها شارعين، وبينهم ... مع القوم ولدان من النسل دردق لعمري قد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار باليفاع تحرق تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق رضيعي لبان ثدي أم تحالفا ... بأسحم داج عوض لا نتفرق ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه ... كما زان متن الهندواني رونق فما أتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى الملحق يهنئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جرياً يخطبون بناته؛ لمكان شعر الأعشى، فلم تمس منهن واحدة إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها ألف ضعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وكذلك بنو أنف الناقة، كانوا يفرقون من هذا الاسم، حتى إن الرجل منهم يسأل: ممن هو؟ فيقول: من بني قريع، فيتجاوز جعفراً أنف الناقة بن قريع بن عوف بن مالك ويلغي ذكره فراراً من هذا اللقب، إلى أن نقل الحطيئة واسمه جرول بن أوس أجدهم وهو بغيض بن عامر بن لؤي بن شماس بن جعفر أنف الناقة من ضيافة الزبرقان بن بدر إلى ضيافته وأحسن إليه فقال: سيري أمام فإن الأكثرين حصاً ... والأكرمين إذا ما ينسبون أباً قوم هم الأنف، والأذناب غيرهم ... ومن يساوي بأنف الناقة الذنباً؟ فصاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدون به أصواتهم في جهارة. وإنما سمي جعفر أنف الناقة لأن أباه قسم ناقة جزوراً ونسيه، فبعثته أمه ولم يبق إلا رأس الناقة، فقال له أبوه: شأنك بهذا، فأدخل أصابعه في أنف الناقة وأقبل يجره، فسمي بذلك. ومثل هاتين القصتين قصة عرابة الأوسي مع الشماخ، وقد تقدم ذكرها. وممن وضعه ما قيل فيه الشعر حنى انكسر نسبه، وسقط عن رتبته، وعيب بفضيلته بنو نمير، وكانوا جمرة من جمرات العرب، إذا سئل أحدهم: ممن الرجل؟ فخم لفظه ومد صوته وقال: من بني نمير، إلى أن صنع جرير قصيدته التي هجا بها عبيد بن حصين الراعي، فسهر لها، وطالت ليلته إلى أن قال: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا فأطفأ سراجه ونام وقال: قد والله أخزيتهم آخر الدهر، فلم يرفعوا رأساً بعدها إلا نكس بهذا البيت، حتى إن مولى لباهلة، كان يرد سوق البصرة ممتاراً فيصيح به بنو نمير: يا جواذب باهلة، فقص الخبر على مواليه، وقد ضجر من ذلك، فقالوا له: إذا نبزوك فقل لهم: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ومر بهم بعد ذلك فنبزوه، وأراد البيت فنسيه، فقال: غمض وإلا جاءك ما تكره، فكفوا عنه ولم يعرضوا له بعدها. ومرت امرأة ببعض مجالس بني نمير فأداموا النظر إليها، فقالت: قبحكم الله يا بني نمير! ما قبلتم قول الله عز وجل: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " ولا قول الشاعر " فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا وهذه القصيدة تسميها العرب الفاضحة، وقيل: سماها جرير الدماغة، تركت بني نمير ينتسبون بالبصرة إلى عامر بن صعصعة، ويتجاوزون أباهم نميراً إلى أبيه، هرباً من ذكر نمير، وفراراً مما وسم به من الفضيحة والوصمة. والربيع بن زياد، كان من ندماء النعمان بن المنذر، وكان فحاشاً عياباً بذياً سباباً لا يسلم منه أحد ممن يفد على النعمان، فرمي بلبيد وهو غلام مراهق فنافسه وقد وضع الطعام بين يدي النعمان، وتقدم الربيع وحده ليأكل معه على عادته، فقام لبيد فقال مرتجلاً: يا رب هيجا هي خير من دعة ... نحن بني أم البنين الأربعه ونحن خير عامر بن صعصعه ... المطعمون الجفنة المدعدعه والضاربون الهام تحت الخيضعه ... مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه فقال النعمان: ولمه؟ فقال: إن استه من برص ملمعه فقال النعمان: وما علينا من ذلك؟ فقال: إنه يولج فيها إصبعه يولجها حتى يواري أشجعه ... كأنما يطلب شيئاً أودعه ويروي أطمعه فرفع النعمان يده عن الطعام، وقال: ما تقول يا ربيع؟ فقال: أبيت اللعن كذب الغلام، فقال لبيد: مره فليجب، فقال النعمان: أجبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 يا ربيع، فقال: والله لما تسومني أنت من الخسف أشد علي مما عضهني به الغلام، فحجبه بعد ذلك، وسقطت منزلته، وأراد الاعتذار، فقال النعمان: قد قيل ما قيل إن حقاً وإن كذبا ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا؟؟ وبنو العجلان، كانوا يفخرون بهذا الاسم لقصة كانت لصاحبه في تعجيل قرى الأضياف، إلى أن هجاهم به النجاشي فضجروا منه، وسبوا به، واستعدوا عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالوا: يا أمير المؤمنين هجانا، فقال: وما قال؟ فأنشدوه: إذا الله عادى أهل لؤم ورقة ... فعادى بني عجلان رهط ابن مقبل فقال عمر بن الخطاب: إنما دعا عليكم ولعله لا يجاب، فقالوا: إنه قال: قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل فقال عمر رضي الله عنه: ليتني من هؤلاء، أو قال: ليت آل الخطاب كذلك، أو كلاماً يشبه هذا، قالوا: فإنه قال: ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوراد عن كل منهل فقال عمر: ذلك أقل للسكاك، يعني الزحام، قالوا: فإنه قال: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم ... وتأكل من كعب بن عوف ونهشل فقال عمر: كفى ضياعاً من تأكل الكلاب لحمه، قالوا: فإنه قال: وما سمي العجلان إلا لقولهم ... خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل فقال عمر: كلنا عبد، وخير القوم خادمهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين هجانا، فقال: ما أسمع ذلك، فقالوا: فاسأل حسان بن ثابت، فسأله فقال: ما هجاهم ولكن سلح عليهم، وكان عمر رضي الله عنه أبصر الناس بما قال النجاشي، ولكن أراد أن يدرأ الحد بالشبهات، فلما قال حسان ما قال سجن النجاشي، وقيل: إنه حده. وهذه جملة كافية، ونبذة مقنعة، فيما قصدت إليه من هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 باب من قضى له الشعر ومن قضى عليه أنشد النابغة الجعدي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدة يقول فيها: علونا السماء عفة وتكرماً ... وإنا لنبغي فوق ذلك مظهراً فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال: الجنة بك يا رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أجل إن شاء الله، فقضت له دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وسبب ذلك شعره. وأنشده حسان بن ثابت حين جاوب عنه أبا سفيان بن الحارث بقوله: هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء فقال له: جزاؤك عند الله الجنة يا حسان، فلما قال: فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء قال له: وقاك الله حر النار، فقضى له بالجنة مرتين في ساعة واحدة، وسبب ذلك شعره. ولما تنافر عامر بن الطفيل وعلقمة بن علائة أقاما عند هرم بن قطبة بن سنان سنة لا يقضي لأحدهما على الآخر، إلى أن قدم الأعشى وكانت لعامر عنده يد فقال: علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر إن تسد الحوص فلم تعدهم ... وعامر ساد بني عامر حكمتموه فقضى بينكم ... أزهر مثل القمر الباهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر فرواه الناس، وافترقوا وقد نفر عامر على علقمة بحكم الأعشى في شعره وكان في رأي هرم على قول أكثر الناس خلاف ذلك. وإلى هذا وأشباهه أشار أبو تمام الطائي بقوله في صفة الشعر: يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة ... ويقضى بما يقضي به وهو ظالم وكانت لرجل شهادة عند أبي دلامة، فدعاه إلى تبليغها عند القاضي بن أبي ليلى، فقال له: إن شهادتي لا تنفعك عنده، فقال الرجل: لا بد من شهادتك، فشهد عند القاضي وانصرف وهو يقول: إذا الناس غطوني تغطيت دونهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث فقضى القاضي على الخصم بشهادة أبي دلامة، وقبض المشهود له المال، وغرمه القاضي للمشهود عليه تحرجاً من ظلمه، ويقال: إنما شهد لطبيب عالج ولده من علة به، وأمره أن يدعي على من شاء بألف درهم، ففعل الطبيب وشهد أبو دلامة، وهذا أشبه بمجونه من الأول. وذكر العتبي أن رجلاً من أهل المدينة ادعى حقا على رجل، فدعاه إلى ابن حنطب قاضي المدينة، فقال: من يشهد بما تقول؟ فقال: زنقطة، فلما ولي قال القاضي: ماشهادته له إلا كشهادته عليه، فلما جاء زنقطة القاضي قال له: فداك أبي وأمي، أحسن والله الشاعر حيث يقول: من الحنطبيين الذين وجوههم ... دنانير مما شيف في أرض قيصرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فأقبل القاضي على الكاتب، فقال: كبير ورب السماء، ما أحسبه شهد إلا بالحق فأجز شهادته. وخاصم جرير بن الخطفي الحماني الشاعر إلى قاضي اليمامة، فقال في أبيات رجز بها: أعوذ بالله العلي القهار ... من ظلم حمان وتحويل الدار فقال الحماني مجيباً له: ما لكليب من حمى ولا دار ... غير مقام أتن وأعيار قب البطون داميات الأظفار ويروي قعس الظهور داميات الأظفار فقال جرير: مقام أتنى وأعياري لا أريد غيره، وقد اعترف به، فقال القاضي: هي لجرير، وقضى على الحماني بشعره الذي قال. وكان الفرزدق يجلس إلى الحسن البصري، فجاءه رجل فقال: يا أبا سعيد، إنا نكون في هذه البعوث والسرايا فنصيب المرأة من العدو وهي ذات زوج أفتحل لنا من قبل أن يطلقها زوجها؟ فقال الفرزدق: قد قلت أنا مثل هذا في شعري، فقال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت: وذات حليل أنكحتنا رماحنا ... حلالاً لمن يبني بها لم تطلق فقال الحسن: صدق، فحكم بظاهر قوله، وما أظن الفرزدق والله أعلم أراد الجهاد في العدو المخالف للشريعة، لكن أراد مذهب الجاهلية في السبايا. كأنه يشير إلى العزة وشدة البأس. وقيل: إن عمر بن الخطاب كان يتعجب من قول زهير: فإن الحق مقطعه ثلاث ... أداء أو نفار أو جلاء وسمي زهير قاضي الشعراء بهذا البيت، يقول: لا يقطع الحق إلا الأداء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أو النفار وهو الحكومة أو الجلاء وهو العذر الواضح ويروي يمين أو نفار وهذه الثلاث على الحقيقة هي مقاطع الحق كما قال، على أنه جاهلي، وقد وكدها الإسلام. باب شفاعات الشعراء، وتحريضهم قال عبد الكريم: عرضت قتيلة بنت النضر بن الحارث للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف، فاستوقفته وجذبت رداءه حتى انكشف منكبه، وقد كان قتل أباها، فأنشدته: يا راكباً أن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة، وأنت موفق أبلغ به ميتاً بأن قصيدة ... ما إن تزال بها الركائب تخفق مني إليه، وعبرة مسفوحة ... جادت لمائحها وأخرى تخنق فليسمعن النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق قسراً يقاد إلى المنيه متعباً ... رسف المقيد وهو عانٍ موثق أمحمد ها أنت نجل نجيبةٍ ... من قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت، وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 والنضر أقرب من قتلت وسيلة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت سمعت شعرها هذا ما قتلته. ولما قتل الحارث بن أبي شمر الغساني المنذر بن ماءٍ السماء وهو المنذر الأكبر، وماء السماء أمه أسر جماعة من أصحابه، وكان فيمن أسر شاس بن عبدة في تسعين رجلاً من بني تميم، وبلغ ذلك أخاه علقمة بن عبدة الشاعر صاحب امرئ القيس، وهو معروف بعلقمة الفحل، فقصد الحارث ممتدحاً بقصيدته المشهورة التي أولها: طحا بك قلب بالحسان طروب ... بعيد الشباب عصر خان مشيب فأنشده إياها، حتى إذا بلغ إلى قوله: إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي ... لكلكلها والقصريين وجيب إليك أبيت اللعن كان وجيفها ... بمشتبهات هولهن مهيب هداني إليك الفرقدان ولا حب ... له فوق أعلام المتان علوب فلا تحرمني نائلاً على جنايةٍ ... فإني امرؤ وسط القباب غريب وفي كل حيً قد خبطت بنعمةٍ ... فحق لشاس من نداك ذنوب فقال الحارث: نعم وأذنبة، وأطلق له شاساً أخاه، وجماعة أسرى بني تميم، ومن سأل فيه أو عرفه من غيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وكان لأمية بن حرثان ولد اسمه كلاب، هاجر إلى البصرة في خلافة عمر رضي الله عنه، فقال أمية: سأستعدي على الفاروق رباً ... له عمد الحجيج إلى بساق إن الفاروق لم يردد كلاباً ... على شيخين هامهما زواقي فكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري بإشخاص كلاب، فما شعر أمية إلا به يقرع الباب. وما زالت الشعراء قديماً تشفع عند الملوك والأمراء لأبنائها وذوي قرابتها، فيشفعون بشفاعتهم، وينالون الرتب بهم. ودخل العماني الشاعر وهو أبو العباس محمد بن ذؤيب الفقيمي على الرشيد، فأنشده أرجوزة يقول فيها: قل للإمام المقتدي بأمه ... ما قاسم دون مدى ابن أمه فقد رضيناه فقم فسمه فقال الرشيد: ما رضيت أن أسميه وأنا قاعد حتى أقوم على رجلي، فقال له: يا أمير المؤمنين، ما أردت قيام جسم لكن قيام عزم، فأمر الرشيد بإحضار القاسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ولده، ومر العماني في إنشاده يهدر، فلما فرغ قال الرشيد للقاسم: أما جائزة هذا الشيخ فعليك، وقد سألنا أن نوليك العهد، فأجبناه. وشفع الطائي للواثق عند أبيه المعتصم في أن يوليه العهد، فقال: فاشدد بهارون الخلافة؛ إنه ... سكن لوحشتها ودار قرار بفتى بني العباس والقمر الذي ... حفته أنجم يعرب ونزار كم العمومة والخئولة مجه ... سلفاً قريش فيه والأنصار هو نوء يمن منكم وسعادة ... وسراج ليل فيكم ونهار فاقمع شياطين النفاق بمهتد ... ترضى البرية هديه والباري ليسير في الآفاق سيرة رأفة ... ويسوسها بسكينة ووقار فالصين منظوم بأندلس إلى ... حيطان رومية فملك ذمار ولقد علمت بأن ذلك معصم ... ما كنت تتركه بغير سوار واستعطف مالك بن طوق لقومه بني تغلب وكانوا أفسدوا في الطرق، فخافوه واستشفعوا بأبي تمام فقال في قصيدة مشهورة يخاطب بها مالكاً: ورأيت قومك والإساءة منهم ... جرحى بظفر للزمان وناب هم صيروا تلك البروق صواعقاً ... فيهم، وذاك العفو سوط عذاب فأقل أسامة جرمها، واصفح لها ... عنه، وهب ما كان للوهاب رفدوك في يوم الكلاب، وشققوا ... فيه المزاد بجحفل كلاب وهم بعين أباغ راشوا للوغى ... سهميك عند الحارث الحراب وليالي الثرثار والحشاك قد ... جلبوا الجياد لواحق الأقراب فمضت كهولهم، ودبر أمرهم ... أحداثهم تدبير غير صواب لا رقة الحضر اللطيف غذتهم ... وتباعدوا عن فطنة الأعراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فإذا كشفتهم وجدت لديهم ... كرم النفوس وقلة الآداب لك في رسول الله أعظم أسوة ... وأجلها في سنة وكتاب أعطى المؤلفة القلوب رضاهم ... كرماً، ورد أخائذ الأحزاب فذكر أصحاب الأخبار أن هذه القصيدة وقعت من مالك أجل موقع فأجزل ثوابه عليها، وقبل شفاعته، ورد القوم إلى رتبتهم ومنزلتهم، من بعد اليأس المستحكم، والعداوة الشديدة. وكان أبو قابوس الشاعر رجلاً نصرانياً من أهل الحيرة منقطعاً إلى البرامكة، فلما أوقع الرشيد بجعفر صنع أبو قابوس أبياتاً وأنشدها الرشيد يشفع عنده للفضل بن يحيى: أمين الله هب فضل بن يحيى ... لنفسك، أيها الملك الهمام وما طلبي إليك العفو عنه ... وقد قعد الوشاة به وقاموا أرى سبب الرضا عنه قوياً ... على الله الزيادة والتمام نذرت علي فيه صيام شهر ... فإن تم الرضا وجب الصيام وهذا جعفر بالجسر تمحو ... محاسن وجهه ريح قتام أما والله لولا خوف واشٍ ... وعين للخليفة لا تنام لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام وما أبصرت قبلك يا بن يحيى ... حساماً قده السيف الحسام عقاب خليفة الرحمن فخر ... لمن بالسيف عاقبه الحمام وقد اختلط هذا الشعر بشعرين في وزنه ورويه ومعناه: أحدهما لأشجع السلمي، والآخر لسليمان أخي صريع، فالناس فيه مختلفون، وهذه صحته. فانظر إلى تجاسره على مثل هذا الأمر العظيم من الشفاعة والرثاء. واستعطف أبو الطيب سيف الدولة لبني كلاب وقد أغار عليهم فغنم الأموال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وسبى الحريم، فأتى بعضهم أبا الطيب يسأله أن يذكرهم له في شعره، ويشفع فيهم فقال في قصيدة له مشهورة يخاطبه: ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب فإنهم عبيدك حيث كانوا ... إذا تدعو لنائبة أجابوا وعين المخطئين هم، وليسوا ... بأول معشر خطئوا فتابوا وأنت حياتهم غضبت عليهم ... وهجر حياتهم لهم عقاب وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب وكم ذنب مولده دلال ... وكم بعد مولده اقتراب وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذاب وهذا من أفعال الشعراء قديم مشهور. وقد افتخر به البحتري فقال في قصيدة له طويلة: إن أبق أو أهلك فقد نلت التي ... ملأت صدور أقاربي وعداتي وغنيت ندمان الخلائف: نابها ... ذكرى، وناعمة بهم نشواتي وشفعت في الأمر الجليل إليهم ... بعد الجليل، فأنجحوا طلباتي وصنعت في العرب الصنائع عندهم ... من رفد طلاب وفك عناة وكان أبو عزة كثيراً ما يستنفر المشركين، ويحرض على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، فأسر يوم بدر، وجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشكا إليه الفقر والعيال، فرق له، وخلى سبيله بعد أن عاهده ألا يعين عليه بشعره، فأمسك عنه مدة، ثم عاد إلى حاله الأولى، فأسر يوم أحد، فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بمثل خطابه الأول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تمسح عارضيك بمكة تقول خدعت محمداً مرتين " ثم قتله صبراً، وقال: " لا يلسع المؤمن من جحر مرتين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وقال أوس بن حجر يغري النعمان بن المنذر ببني حنيفة؛ لأن شمر بن عمرو السحيمي قتل المنذر، وهو حينئذ مع الحارث بن أبي شمر الغساني، وقال ابن جنى: إنما قتل ابن النعمان: نبئت أن بني حنيفة أدخلوا ... أبياتهم تامور قلب المنذر ويروى أن بني سحيم فغزاهم النعمان، وقتل فيهم وسبى، وأحرق نخلهم، ويقال: إنما أغرى بهم عمرو بن هند. ودخل سديف بن ميمون على أبي العباس السفاح، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وابناه، وفي رواية أخرى سليمان بن مروان وولدان له، وفي رواية ثالثة إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك، فأنشده سديف: لا يغرنك ما ترى من أناس ... إن بين الضلوع داءً دويا فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا فقال سليمان: قتلتني يا شيخ قاتلك الله. ونهض أبو العباس فوضع المنديل في عنق سليمان، وقتل من ساعته. ودخل شبل بن عبد الله بن علي، وأنشده قصيدة له يقول فيها محرضاً على بني أمية، وعنده منهم ثمانون رجلاً: أقصهم أيها الخليفة واقطع ... عنك بالسيف شأفة الأرجاس دلها أظهر التودد منها ... ولها منكم كحز المواسي ولقد غاظني وغاظ سوائي ... قربها من نمارق وكراسي أنزلوها بحيث أنزلها الل ... هـ بدار الهوان والإتعاس واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيلاً بجانب المهراس والقتيل الذي بحران أمسى ... ثاوياً بين غربة وتناسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فلما سمع بذلك تنكر، وأمر بهم فقتلوا، وألقى عليهم البساط، وجلس للغذاء وإن بعضهم يسمع أنينه لم يمت بعد، حكى ذلك جماعة من المؤلفين، واختلفوا في رواية الشعر وحده؛ فأكثر الروايات موضع البيت الأول: لا تقيلن عبد شمس عثارا ... واقطعن كل رقلة وأواس ويروي وغراس وبعضها على ما في النسخة، ولا أدري كيف صحة ذلك، وعبد الله لم يكن يدعى بالخلافة، اللهم إلا أن يكون ذلك حين أراد خلع المنصور. وأكثر الناس يروي هذه الأبيات لسديف بن ميمون يخاطب أبا العباس السفاح، غير أن في الرواية الأولى: نعم شبل الهراس مولاك شبل ... لو نجا من حبائل الإفلاس وهو يشهد لما روي أولاً. وحكى غيرهم قال: دخل العبدي الشاعر على عبد الله بن علي بفلسطين، وقد دعي به، وعنده من بني أمية اثنان وثمانون رجلاً، والغمر بن يزيد بن عبد الملك جالس معه مصلاه، قال العبدي: فاستنشدني عبد الله بن علي فأنشدته قولي: وقف المتيم في رسوم ديار وهو مصغ مطرق حتى انتهيت إلى قولي: أما الدعاة إلى الجنان فهاشم ... وبنو أمية من دعاة النار وبنو أمية دوحة ملعونة ... ولهاشم في الناس عود نضار أأمي مالك من قرار فالحقي ... بالجن صاغرة بأرض وبار ولئن رحلت لترحلن ذميمة ... وكذا المقام بذلة وصغار قال: فرفع الغمر رأسه إلي، وقال: يا بن الزانية ما دعاك إلى هذا؟ وضرب عبد الله بقلنسوة كانت على رأسه الأرض، وكانت العلامة بينه وبين أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 خراسان، فوضعوا عليهم العمد حتى ماتوا، وأمر بالغمر فضربت عنقه صبراً. وكان ابن حزم أميراً على المدينة، فتحامل على الأحوص الشاعر تحاملاً شديداً، فشخص إلى الوليد بن عبد الملك، فأنشده قصيدة يمتدحه فيها، فلما بلغ إلى قوله كالذي يشتكي ابن حزم وظلمه: لا ترثين لحزمي ظفرت به ... يوماً ولو ألقي الحزمي في النار الناخسين لمروان بذي خشب ... والداخلين على عثمان في الدار فقال له الوليد: صدقت والله، لقد غفلنا عن حزم وآل حزم، ثم كتب عهداً لعثمان بن حيان المري على المدينة، وعزل ابن حزم، وأمر باستئصال أموالهم، وإسقاطهم جميعاً من الديوان. ولما وثب إبراهيم بن المهدي على المأمون اقترض من التجار مالاً كثيراً، فكان فيه لعبد الملك الزيات عشرة آلاف دينار، فلما لم يتم أمره لوى التجار أموالهم، فصنع محمد بن عبد الملك قصيدة يخاطب فيها المأمون، منها قوله: تذكر أمير المؤمنين قيامه ... بأيمانه في الهزل منه وفي الجد إذا هز أعواد المنابر باسته ... تغنى بليلى أو بمية أو هند ووالله ما من توبة نزعت به ... إليك، ولا ميل إليك، ولا ود وكيف بمن قد بايع الناس، والتقت ... ببيعته الركبان غوراً إلى نجد!؟ ومن صك تسليم الخلافة سمعه ... ينادي بها بين السماطين عن بعد وأي امرئ سمى بها قط نفسه ... ففارقها حتى يغيب في اللحد؟ وعرضها على إبراهيم وهو حينئذ خامل الذكر لم يتعلق بعد بالخدمة تعلقاً ينفع فسأله إبراهيم كتمانها، واستحلفه على ذلك، وأدى مال أبيه دون سائر التجار، ومثل ذلك كثير لو تقصي لطال به الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 باب احتماء القبائل بشعرائها كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج: فممن حمى قبيلته زياد الأعجم، وذلك أن الفرزدق هم بهجاء عبد القيس، فبلغ ذلك زياداً وهو منهم، فبعث إليه: لا تعجل وأنا مهد إليك هدية، فانتظر الفرزدق الهدية، فجاءه من عنده: فما ترك الهاجون لي إن هجوته ... مصحاً أراه في أديم الفرزدق ولا تركوا عظماً يرى تحت لحمه ... لكاسره أبقوه للمتعرق سأكسر ما أبقوا له من عظامه ... وأنكت مخ الساق منه وانتقي فأنا وما تهدي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق فلما بلغته الأبيات كف عما أراد، وقال: لا سبيل إلى هجاء هؤلاء ما عاش هذا العبد فيهم. وهجا عبد الله بن الزبعري السهمي بني قصي، فرفعوه برمته إلى عتبة بن ربيعة؛ خوفاً من هجاء الزبير بن عبد المطلب، وكان شاعراً مفلقاً شديد العارضة مقذع الهجاء، فلما وصل عبد الله إليهم أطلقه حمزة بن عبد المطلب وكساه، فقال: لعمرك ما جاءت بنكر عشيرتي ... وإن صالحت إخوانها لا ألومها فرد جناة الشر؛ إن سيوفنا ... بأيماننا مسلولة لا نشيمها فإن قصياً أهل مجد وعزة ... وأهل فعال لا يرام قديمها هم منعوا يومي عكاظ نساءنا ... كما منع الشول الهجان قرومها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وكان الزبير غائباً بالطائف، فلما وصل إلى مكة وبلغه الخبر قال: فلولا نحن لم يلبس رجال ... ثياب أعزة حتى يموتوا ثيابهم سمال أو طمار ... بها ودك كما دسم الحميت ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... لنا الحبرات والمسك الفتيت وهجا رجل من بني حرام الفرزدق، فجاء به قومه يقودونه إليه، فقال الفرزدق: ومن يك خائفاً لأذاة شعري ... فقد أمن الهجاء بنو حرام هم قادوا سفيههم وخافوا ... قلائد مثل أطواق الحمام وهجا الأحوص بن محمد الأنصاري رجلاً من الأنصار يقال له ابن بشير وكان مكثراً فاشترى هدية، ووفد بها على الفرزدق مستجيراً به، فأجاره، ثم قال: أين أنت من الأحوص بن محمد؟ فقال: هو الذي أشكو، فأطرق الفرزدق ساعة ثم قال: أليس الذي يقول: ألا قف برسم الدار فاستنطق الرسما ... فقد هاج أحزاني وذكرني نعمى قال: بلى، قال: والله لا أهجو شاعراً هذا شعره، فاشترى ابن بشير أنفس من الهدية الأولى وقدم بها على جرير، فاستجاره فأجاره، ثم قال له: ما فعل ابن عمك الأحوص بن محمد؟ قال: هو صاحبي الذي هجاني، قال: أليس القائل: تمشى بشتمي في أكاريس مالك ... يشيد به كالكلب إذ ينبح النجما قال: بلى، قال: والله لا أهجو شاعراً هذا شعره، فاشترى أكثر من الهديتين وأهداها إلى الأحوص وصالحه. ولهذا وأمثاله قال جرير لقومه يعاتبهم في قصيدة خاطب فيها أباه وجده الخطفي ممتناً عليهم بنفسه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 بأي نجاد تحمل السيف بعد ما ... قطعت القوى من محمل كان باقياً؟ بأي سنان تطعن القرن بعد ما ... نزعت سناناً من قناتك ماضياً؟ ألا لا تخافا نبوتي في ملمة ... وخافا المنايا أن تفوتكما بيا فقد كنت ناراً يصطليها عدوكم ... وحرزاً لما ألجأتم من ورائيا وباسط خير فيكم بيمينه ... وقابض شر عنكم بشماليا وإني لعف الفقر مشترك الغنى ... سريع إذا لم أرض جاري انتقاليا جريء الجنان لا أهاب من الردى ... إذا ما جعلت السيف من عن شماليا وليست لسيفي في العظام بقية ... ولا السيف أشوى وقعة من لسانيا وهذا الباب اكثر من أن يستقصى، ورغبتي في الاختصار، وإنما جئت منه ومن سواه بلمحة تدل على المراد، وتبلغ في ذلك حد الاجتهاد. باب من فأل الشعر وطيرته تفاءل حسان بن ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة فقال في كلمته المشهورة يخاطب بذلك مشركي أهل مكة ويتوعدهم: عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء يبارين الأعنة مصغيات ... على أكتافها الأسل الظماء تظل جيادنا متمطرات ... يلطمهن بالخمر النساء ورأيت من يستحسن يلطمهن من لطمت الخبزة إذا نفضت عنها الرماد، فلما كان يوم الفتح أقبل النساء يمسحن وجوه الخيل، وينفضن الغبار عنها بخمرهن، فقال قائل: لله در حسان إذ يقول، وأنشد الأبيات. وروى قوم أن الناس أمروا بالسير إلي كداء تفاؤلاً بهذا البيت ليصح؛ فكان الأمر كما قال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل، ولا يتطير، ويحب الاسم الحسن، وقال: " ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة، والظن، والحسد " قيل له: فما المخرج منهن يا رسول الله؟ قال: " إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ ". ومن مليح ما وقع في التفاؤل ما حكى محمد بن الجراح، وذلك أن أبا الشمقمق شخص مع خالد بن يزيد بن مزيد، وقد تقلد الموصل، فلما مر ببعض الدروب اندق اللواء، فاغتم خالد لذلك وتطير منه، فقال أبو الشمقمق: ما كان مندق اللواء لطيرةٍ ... تخشى، ولا سوء يكون معجلا لكن هذا العود أضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا فسري عن خالد، وكتب صاحب البريد بخبر ذلك إلى المأمون، فزاده ديار ربيعة، وأعطى خالد أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم. وبغى جماعة من الكتاب على موسى بن عبد الملك، فأمر المتوكل بحبسه، قال: فرأيت في النوم قائلاً يقول: أبشر فقد جاءت السعود ... أباد أعداءك المبيد لم يظفروا بالذي أرادوا ... بل يفعل الله ما يريد ووقف المتوكل منهم على أمر أوجب إيقاعه بهم، وأمر بإطلاقي وإعادتي إلى أشرف رتبة. ولا بد من ذكر ما يتطير منه في باب غير هذا. وقال قيس المجنون: قضاها لغيري وابتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا فما مات حتى برص، ورأى في منامه قائلاً يقول له: هذا ما تمنيت. ويقال: إن المؤمل بن أميل لما قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 شف المؤمل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمل لم يخلق له بصر نام ذات ليلة صحيحاً، فأصبح مكفوف البصر. وتطير أبو الهول على جعفر بن يحيى البرمكي، فقال: أصبحت محتاجاً إلى ضرب ... في طلب العرف من الكلب إذا شكا صب إليه الهوى ... قال له: مالي وللصب أعنى فتى يطعن في ديننا ... يشب معه خشب الصلب فكان من أمر جعفر ما كان. وكان ابن الرومي كثير الطيرة: ربما أقام المدة الطويلة لا يتصرف تطيراً بسوء ما يراه ويسمعه، حتى إن بعض إخوانه من الأمراء افتقده فأعلم بحاله في الطيرة، فبعث إليه خادماً اسمه إقبال ليتفاءل به، فلما أخذ أهبته للركوب قال للخادم: انصرف إلى مولاك فأنت ناقص، ومنكوس اسمك لا بقا.. وابن الرومي القائل: الفأل لسان الزمان، والطيرة عنوان الحدثان. وله فيه احتجاجات وشعر كثير. باب في منافع الشعر ومضاره قد أكثر الناس في هذا الفن، ولا بد مع ذلك أن آتي منه بنبذ يقتضيها ترسيم الكتاب وحق التأليف، وليست علي مطالبة، ولا قبلي حجة، في ذكر مضاره بعد منافعه أو معها؛ إذ كانت الرغبة في تحسين الحسن ليتزيد منه، وتقبيح القبيح لينتهى عنه. وقد فرط في أول الكتاب من قول عائشة رضي الله عنها وقول سواها من الصحابة ومن التابعين رحمة الله عليهم ورضوانه في الشعر ما فيه كفاية: من أنه كلام يحسن فيه ما يحسن في الكلام، ويقبح منه ما يقبح في الكلام وبقدر حسنه وقبحه يكون نفعه وضرره، والله المتعال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 حكى أبو العباس المبرد أن المأمون سمع منشداً ينشد قول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير: أأترك إن قلت دراهم خالد ... زيارته؟ إني إذاً للثيم فقال: أو قد قلت دراهم خالد؟ احملوا إليه مائتي ألف درهم، فدعا خالد بعمارة، فقال: هذا مطر من سحابك، ودفع إليه عشرين ألفاً. ووجد أبو جعفر المنصور على أحد الكتاب وأمر به ليضرب، فقال: ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبينا فخلى سبيله إعجاباً ببديهته. وحمل بعض العمال إلى يزيد بن معاوية مالاً جليلاً، فقطع عليه قسيم الغنوي فأخذه، وأمر يزيد بطلبه، فلما حصل بين يديه قال: ما حملك على الخروج علينا وأخذ مال يحمل إلينا؟ قال: إذنك يا أمير المؤمنين أعزك الله، قال: ومتى أذنت لك؟ قال: حين قلت وأنا أسمعك: اعص العواذل وارم الليل عن عرض ... بذي سبيب يقاسي ليله خببا كالسيد لم ينقب البيطار سرته ... ولم يدجه ولم يقطع له لببا حتى تصادف مالاً أو يقال فتى ... لاقى التي تشعب الفتيان فانشعبا فعصيت عواذلي، واسهرت ليلي، وأعلمت جوادي، فأصبت مالاً قال: قد سوغناكه فلا تعد. وكان جميل بن محفوظ وأبو دهمان من عمال يحيى بن خالد، فوفد عليهما مرةً أبو الشمقمق واسمه مروان بن محمد فأكرمه أبو دهمان وأساء إليه جميل، فقال: رأيت جميل الأزد قد عق أمه ... فناك أبو دهمان أم جميل وتناظرا بعد ذلك في مال بين يدي يحيى بن خالد، فاستعلى جميل على أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 دهمان في الخطاب، فقال له أبو دهمان: احفظ الصهر الذي جعله بيننا أبو الشمقمق، فضحك يحيى بن خالد حتى فحص الأرض برجليه، وترك المال الذي تشاجرا فيه. وأتى مصعب بن الزبير بأسارى من أصحاب المختار، فأمر بقتلهم بين يديه، فقام إليه أسير منهم فقال: أيها الأمير، ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ووجهك المليح الذي يستضاء به فأتعلق بك وأقول: يا رب، سل مصعباً فيم قتلني، فاستحيا مصعب وأمر بإطلاقه، فقال: أيها الأمير، اجعل ما وهبت من حياتي في خفض ودعةٍ من العيش، قال: قد أمرت لك بثلاثين ألف درهم، قال: أشهدك أيها الأمير أن شطر هذا المال لعبد الله بن قيس الرقيات، قال: ولم ذلك؟ قال: لقوله: إنما مصعب شهاب من الله تجلت عن وجهه الظلماء فضحك مصعب وقال: اقبض ما أمرنا لك به، ولابن قيس عندنا مثله، فما شعر عبد الله بن قيس إلا وقد وافاه المال. وحكى عن ابن شهاب الزهري قال: دعاني يزيد بن عبد الملك، وقد مضى شطر الليل، فأتيته فزعاً وهو على سطح، فقال: لا بأس عليك اجلس؛ فجلست واندفعت جاريته حبابة تغني: إذا رمت عنها سلوةً قال شافع ... من الحب: ميعاد السلو المقابر ستبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة حبً يوم تبلى السرائر قال: لمن هذا الشعر؟ فقلت: للأحوص، قال: ما فعل الله به؟ قلت: محبوس بدهلكٍ، فكتب من ساعته بإطلاقه، وأمر له بأربعمائة دينار، وقدم إليه فأحسن جائزته. وممن ضره الشعر وكل من عند الله عز وجل وبمشيئته ومقدوره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 علي بن العباس بن جريج الرومي: كان ملازماً لأبي الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، مخصوصاً به، فاتصل ذلك بعبيد الله وسمع هجاءه، فقال لولده أبي الحسين: أحب أن أرى ابن روميك هذا، فجمع بينهما فرأى رجلاً لسانه أطول من عقله، فأشار عليه بإبعاده، فقال: أخافه، قال: لم أرد إقصاءه ولكن بيت أبي أبي حية النميري: فقلنا لها في السر نفديك لا يرح ... صحيحاً وإلا تقتليه فألممي فحدث أبو القاسم ابن فراس بما كان من أبيه وكان ابن فراس من أشد الناس عداوة لابن الرومي فقال له: أنا أكفيكه، فسم له لوزينجة فمات، وسبب ذلك كثرة هجائه وبذاءته. ودعبل بن علي الخزاعي: كان هجاء للملوك، جسوراً على أمير المؤمنين، متحاملاً، لا يبالي ما صنع، حتى عرف بذلك، وطار اسمه فيه، فصنع على لسانه بكر بن حماد التاهرتي، وقيل: غيره ممن كان دعبل يؤذيه ويهاجيه: ملوك بني العباس في الكتب سبعة ... ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة ... كرام إذا عدوا، وثامنهم كلب وقال قوم: بل صنعها دعبل نفسه، وكان المعتصم يعرف بالثامن وبالمثمن أيضاً، فبلغه ذلك، فأمر بطلبه، ففر منه إلى بلد بالسودان بناحية المغرب وهي التي تعرف الآن بزويلة بني الخطاب فمات بها وهنالك قبره، وإلى جانبه قبر عبد الله ابن شيخنا أبي عبد الله محمد بن جعفر النحوي رحمه الله، هكذا يروى أصحابنا. وأما شعر البحتري فيشهد بخلاف هذا، وذلك أنه رثي دعبلاً وأبا تمام حبيباً الطائي فقال في أبيات هجا فيها الخثعمي الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 جدث على الأهواز يبعد دونه ... مسرى النعي، ورمة بالموصل فالذي بالموصل أبو تمام حبيب لا شك لأنه مات بها وهو يتولى البريد للحسن بن وهب، وكان يعنى به كثيراً، والآخر دعبل، ورأيت من يرويه: شلو بأعلى عقر قوف تلفه ... هوج الرياح، ورمة بالموصل والأول أعرف وأشبه بالصواب. ووالبة بن الحباب: ذكر أن الرشيد أو غيره سأل من القائل: ولها ولا ذنب لها ... حب كأطراف الرماح في القلب يجرح دائباً ... فالقلب مكلوم النواح فقال له بعض من حضر من العلماء: ذلك والبة بن الحباب يا أمير المؤمنين، وأين تذهب عن معرفته؟ والله ما رأيت أرق منه شعراً، ولا أطيب نادرة، ولا أكثر رواية، ولا أجزل معرفة بأيام العرب منه، فقال: لم يمنعني منه إلا بيتا شعر قالهما وهما: قلت لساقينا على خلوة ... أدن كذا رأسك من رأسيا ونم على وجهك لي ساعة ... إني امرؤ أنكح جلاسيا أتحب أن ينكحنا لا أم لك؟ قال: فغسلت أثوابي عرقاً من شدة الحياء. ويزيد ابن أم الحكم الثقفي: عهد له الحجاج على فارس، فأتاه يودعه، فقال له: أنشدني، وقدر أنه يمدحه، فأنشده: وأبى الذي سلب ابن كسرى راية ... بيضاء تخفق كالعقاب الطائر فاسترد العهد منه، وقال لحاجبه: إذا رده عليك فقل له: أورثك أبوك مثل هذا؟ فقال له الحاجب ذلك، فقال يزيد: قل للحجاج: وورثت جدي مجده وفعاله ... وورثت جدك أعنزاً بالطائف وبمثل هذا السبب غضب سليمان بن عبد الملك على الفرزدق، وذلك أنه استنشده لينشده فيه أو في أبيه، فأنشده مفتخراً عليه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوارذات الحقائب إذا استوضحوا ناراً يقولون: ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب فتبين غضب سليمان، وكان نصيب حاضراً فأنشده: أقول لركب قافلين رأيتهم ... قفا ذات أو شال ومولاك قارب قفوا خبروني عن سليمان؛ إنني ... لمعروفه من أهل ودان طالب فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب فقال: يا غلام، أعط نصيباً خمسمائة دينار، وألحق الفرزدق بنار أبيه، فخرج الفرزدق مغضباً يقول: وخير الشعر أكرمه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد وممن ضره الشعر وأهلكه سديف؛ فإنه طعن في دولة بني العباس بقوله لما خرج محمد بن الحسن بالمدينة على أبي جعفر المنصور في أبيات له: إنا لنأمل أن ترتد ألفتنا ... بعد التباعد والشحناء والإحن وتنقضي دولة أحكام قادتها ... فينا كأحكام قوم عابدي وثن فانهض ببيعتكم ننهض بطاعتنا ... إن الخلافة فيكم يا بني الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فكتب المنصور إلى عبد الصمد بن علي بأن يدفنه حياً، ففعل، ويقال: إن الأبيات لعبد الله بن مصعب نسبت إلى سديف وحملت عليه فقتل بسببها، وذلك أشد. وأحمق الشعراء عندي من أدخل نفسه في هذا الباب أو تعرض له، وما للشاعر والتعرض للحتوف؟ وإنما هو طالب فضل، فلم يضيع رأس ماله؟ لا سيما وإنما هو رأسه، وكل شيء يحتمل إلا الطعن في الدول، فإن دعت إلى ذلك ضرورة مجحفة فتعصب المرء لمن هو في ملكه وتحت سلطانه أصوب، وأعذر له من كل جهة وعلى كل حال، لا كما فعل سديف. وأبو الطيب لما فر ورأى الغلبة قال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار أبداً وأنت القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والطعن والضرب والقرطاس والقلم فكر راجعاً فقتل، وكان سبب ذلك هذا البيت.. وكان كافور الإخشيدي قد وعد أبا الطيب بولاية بعض أعماله، فلما رأى تعاظمه في شعره وسموه بنفسه خافه، وعوتب فيه، فقال: يا قوم، من ادعى النبوة مع محمد صلى الله عليه وسلم لا يدعي المملكة مع كافور؟! حسبكم. وزعم أبو محمد عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي أن أبا الطيب إنما سمي متنبئاً لفطنته، وقال غيره: بل قال: أنا أول من تنبأ بالشعر، وادعى النبوة في بني القصيص. والأخبار في هذا النوع كثيرة جداً، وإنما جئت بأقربها عهداً، وأشهرها في كتب المؤلفين، مما يليق بالموضع ذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 باب تعرض الشعراء كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه عالماً بالشعر، قليل التعرض لأهله: استعداه رهط تميم بن أبي بن مقبل على النجاشي لما هجاهم، فأسلم النظر في أمرهم إلى حسان بن ثابت؛ فراراً من التعرض لأحدهما، فلما حكم حسان أنفذ عمر حكمه على النجاشي كالمقلد من جهة الصناعة، ولم يكن حسان على علمه بالشعر أبصر من عمر رضي الله عنه بوجه الحكم، وإن اعتل فيه بما اعتل، وقد مضت الحكاية. وكذلك صنع في هجاء الحطيئة الزبرقان بن بدر: سأل حسان ثم قضى على الحطيئة بالسجن، وقيل: بل سجنه لمواقفته إياه وقوله: إن لكل مقام مقالاً، فقال له: أتهددني؟ امضوا به إلى السجن، فسجنه في حفرة من الأرض. وسئل أبو عبيدة: أي الرجلين أشعر: أبو نواس، أم ابن أبي عيينة؟ فقال: أنا لا أحكم بين الشعراء الأحياء، فقيل له: سبحان الله كأن هذا ما تبين لك! فقال: أنا ممن لم يتبين له هذا؟؟!! وقيل: إن أول من لقب قريشاً على شرفها، وبعد ذكرها في العرب سخينة لحساء كانت تتخذه في الجاهلية عند اشتداد الزمان خداش بن زهير حيث يقول: يا شدة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا الليل والحرم فذهب ذلك على أفواه الناس، حتى كان من التمازح به ما كان بين معاوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بن أبي سفيان وبين الأحنف بن قيس التميمي، حين قال له: ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال له: السخينة يا أمير المؤمنين، أراد معاوية قول الشاعر: إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك أن يعيش فجئ بزاد بخبز أو بلحم أو بتمر ... أو الشيء الملفف في البجاد يريد وطب اللبن، وأراد الأحنف قول خداش بن زهير يا شدة ما شددنا ... البيت وحتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك الأنصاري: أترى الله نسي قولك؟ يعني: زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب ولسير الشعر على الأفواه هذا المسير تجنب الأشراف ممازحة الشاعر خوف لفظة تسمع منه مزحاً فتعود جداً، كما قال دعبل الخزاعي: لا تعرضن بمزح لامرئ طبن ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة فرب قافية بالمزح جارية ... في محفل لم يرد إنماؤها نمت إني إذا قلت بيتاً مات قائله ... ومن يقال له والبيت لم يمت وقال رجل لابن الرومي يمازحه: ما أنت والشعر؟ لقد نلت منه حظاً جسيماً وأنت من العجم، أراك عربياً في الأصل أو مدعياً في الشعر! قال: بل أنت دعي؛ إذ كنت تنتسب عربياً ولم تحسن من ذلك شيئاً، وله يقول من أبيات: إياك يا بن بويب ... أن يستشار بويب قد تحسن الروم شعراً ... ما أحسنته العريب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وهذا مثل قول الصيني الشاعر لبعض الأعراب وقد أنشد عبد الله بن طاهر بحضرته شعراً، فقال له الأعرابي: ممن الرجل؟ فقال: من العجم، قال: ما للعجم والشعر؟ أظن عربياً نزا على أمك، قال: فمن لم يقل منكم الشعر معشر العرب فإنما نزا على أمه أعجمي!! فسكت الأعرابي. وأنشد أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فقال: وللشعراء ألسنة حداد ... على العورات موفية دليله ومن عقل الكريم إذا اتقاهم ... وداراهم مداراة جميله إذا وضعوا مكاويهم عليه ... وإن كذبوا فليس لهن حيله والأبيات لأبي الدلهان. ولأمر ما قال طرفة: رأيت القوافي تتلجن موالجاً ... تضايق عنها أن تولجها الإبر وقال امرؤ القيس: وجرح اللسان كجرح اليد. ومع ذلك كله فلا ينبغي للشاعر أن يكون شرساً، ولا حرجاً عريضاً؛ لما يدل به من طول لسانه وتوقف الناس عن مخاشنته. فهذا الفرزدق كان شاعر زمانه ورئيس قومه، لم يكن في جيله أطرف منه نادرة، ولا أغرب مدحاً، ولا أسرع جواباً: اجتاز بنسوة وهو على بغلة فهمزها فحبقت، فتضاحكن، وكان عريضاً، فقال: ما يضحككن وما حملتني أنثى قط إلا فعلت مثل هذا؟ قالت إحداهن: فما صنعت التي حملتك تسعة أشهر؟ فانصرف خجلاً. ومر به رجل فيه لين، فقال له: من أين أقبلت عمتنا؟ فقال: نفاها الأغر بن عبد العزيز، فكأن الفرزدق صب عليه الماء؛ لأنه عرض له بقول جرير فيه حين نفاه عمر بن عبد العزيز من المدينة: نفاك الأغر بن عبد العزيز ... وحقك تنفى من المسجد وكان الفرزدق مرة ينشد، والكميت صبي، فأجاد الاستماع إليه، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 له: يا بني أيسرك أني أبوك؟ قال: أما أبي فلا أرى به بدلاً، ولكن يسرني أنك أمي، فأفحمه حتى غص بريقه، وزعم قوم أن هذه الحكاية إنما وقعت مع كثير. ومر يوماً بمضرس الفقعسي، وهو غلام حديث السن، ينشد الناس شعره فحسده على ما سمعه منه، فقال له بعد كلام طويل فيه تعريض وتصريح: أدخلت أمك البصرة؟ وفهم عنه مضرس ما أراد، فقال: كلا ولكن أبي! ورجع إلى إنشاده فاستحيا الفرزدق، حكى ذلك شيخنا أبو عبد الله، وإنما أراد الفرزدق أنها إن دخلت البصرة فقد وقعت عليها فأنت ابني، قال مضرس: بل أبي وقع على أمك. ومثل هذا بعينه عرض للفرزدق مع الحطيئة؛ فإن الحطيئة قال له وقد سمعه ينشد شعراً أعجبه: أنجدت أمك؟ قال: بل أنجد أبي!! ونظم ذلك جرير، ونعاه عليه، وادعى أنه صحيح فقال: كان الحطيئة جار أمك مرة ... والله يعلم شأن ذاك الجار من ثم أنت إلى الزناء بعلة ... بأشر شيخ في جميع نزار لا تفخرن بغالب ومحمد ... وافخر بعبس كل يوم فخار وكان يزعم أن الحطيئة جاور لينة بنت قرطة فأعجبته فراودها فوقع عليها وزوجها أخوها العلاء غالباً أبا الفرزدق وقد تبين حملها فولدت الفرزدق على فراشه. واحتذى هذا الحذو سواء أبو السمط مروان الأصغر بن أبي الجنوب بن مروان أبي حفصة فقال يهجو علي بن الجهم بن بدر: لعمرك ما الجهم بن بدر بشاعرٍ ... وهذا علي بعده بصنع الشعرا ولكن أبي قد كان جاراً لأمه ... فلما تعاطى الشعر أوهمني أمرا والشاعر أولى من كف منطقه، وأقال عثرات اللسان؛ لما رزق من القدرة على الكلام، والعفو من القادر أحسن، وبه أليق " ولمن انتصر بعد ظلمه فاؤلئك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ما عليهم من سبيل؛ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، أولئك لهم عذاب أليم، ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ". باب التكسب بالشعر والأنفة منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنهاكم عن قيل وقال، وعن كثرة السؤال، وإضاعة المال، وعقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات ". وكانت العرب لا تتكسب بالشعر، وإنما يصنع أحدهم ما يصنعه فكاهة أو مكافأة عن يد لا يستطيع أداء حقها إلا بالشكر إعظاماً لها، كما قال امرؤ القيس بن حجر يمدح بني تيم رهط المعلى: أقر حشا امرئ القيس بن حجر ... بنو تيم مصابيح الظلام لأن المعلى أحسن إليه وأجاره حين طلبه المنذر بن ماء السماء، لقتله بني أبيه الذين قتل بدير مرينا، فقيل لبني تيم " مصابيح الظلام " من ذلك اليوم لبيت امرئ القيس. وقال أيضاً لسعد بن الضباب: سأجزيك الذي دافعت عني ... وما يجزيك عني غير شكري فأخبره أن شكره هو الغاية في مجازاته كما قدمت. حتى نشأ النابغة الذبياني؛ فمدح الملوك، وقبل الصلة على الشعر، وخضع للنعمان بن المنذر، وكان قادراً على الامتناع منه بمن حوله من عشيرته أو من سار إليه من ملوك غسان، فسقطت منزلته، وتكسب مالاً جسيماً، حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة وأوانيه من عطاء الملوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وتكسب زهير بن أبي سلمى بالشعر يسيراً مع هرم بن سنان. فلما جاء الأعشى جعل الشعر متجراً يتجر به نحو البلدان، وقصد حتى ملك العجم فأثابه وأجزل عطيته علماً بقدر ما يقول عند العرب، واقتداء بهم فيه، على أن شعره لم يحسن عنده حين فسر له، بل استهجنه واستخف به، لكن احتذى فعل الملوك ملوك العرب. وأكثر العلماء يقولون: إنه أول من سأل بشعره، وقد علمنا أن النابغة أسن منه وأقدم شعراً، وقد ذكر عنه من التكسب بالشعر مع النعمان بن المنذر مع ما فيه من قبح: من مجاعلة الحاجب، ودس الندماء على ذكره بين يديه، وما أشبه ذلك. وذكر أن أبا عمرو بن العلاء سئل: لم خضع النابغة للنعمان؟ فقال: رغب في عطائه وعصافيره. وأما زهير فما بلغه الطائي قط معرفة باجتداء من يمدحه، ويدلك على ذلك ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنة زهير حين سألها: ما فعلت حلل هرم بن سنان التي كساها أباك؟ قالت: أبلاها الدهر، قال: لكن ما كساه أبوك هرماً لم يبله الدهر، وقال عمر رضي الله عنه لبعض ولد هرم بن سنان: أنشدني ما قال فيكم زهير، فأنشده، فقال: لقد كان يقول فيكم فيحسن، قال: يا أمير المؤمنين إنا كنا نعطيه فنجزل، قال عمر: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم. ثم إن الحطيئة أكثر من السؤال بالشعر، وانحطاط الهمة فيه، والإلحاف، حتى مقت وذل أهله وهلم جرا، إلى أن حرم السائل وعدم المسئول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 إلا بقايا من أناس بهم ... إلى سبيل المكرمات يهتدى كالسيد أبي الحسن أحسن الله إلى الدنيا ببقائه. وأما أكثر من تقدم فالغالب على طباعهم الأنفة من السؤال بالشعر، وقلة التعرض به لما في أيدي الناس، إلا فيما لا يزرى بقدر ولا مروءة كالفلتة النادرة والمهمة العظيمة، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: نعم ما تعلمته العرب الأبيات من الشعر يقدمها الرجل أمام حاجته. ألا ترى أن لبيد بن ربيعة لما بعث إليه الوليد بن عقبة مائة من الإبل ينحرها كعادته عند هبوب الصبا، وقد أسن وأقل، وكان يطعم الناس ما هبت الصبا، قال لابنته: اشكري هذا الرجل فإني لا أجد نفسي تجيبني، ولقد أراني لا أعيا بجواب شاعر، فقالت هذه الأبيات: إذا هبت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبتها الوليدا أغر الوجه أبيض عبشمياً ... أعان على مروءته لبيدا بأمثال الهضاب كأن ركباً ... عليها من بني حام قعودا أبا وهب جزاك الله خيراً ... نحرناها وأطعمنا الثريدا فعد إن الكريم له معاد ... وظني بابن أروى أن يعودا وعرضتها عليه فقال: لقد أجدت لولا أنك استعدت، كراهية في قولها: فعد إن الكريم له معاد ويروى: لولا أنك استزدت. وقالوا: كان الشاعر في مبتدأ الأمر أرفع منزلة من الخطيب؛ لحاجتهم إلى الشعر في تخليد المآثر، وشدة العارضة، وحماية العشيرة، وتهيبهم عند شاعر غيرهم من القبائل؛ فلا يقدم عليهم خوفاً من شاعرهم على نفسه وقبيلته، فلما تكسبوا به وجعلوه طعمة وتولوا به الأعراض وتناولوها صارت الخطابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فوقه، وعلى هذا المنهاج كانوا حتى فشت فيهم الضراعة، وتطعموا أموال الناس، وجشعوا فخشعوا، واطمأنت بهم دار الذلة، إلا من وقر نفسه وقارها، وعرف لها مقدارها، حتى قبض تقي العرض مصون الوجه، ما لم يكن به اضطرار تحل به الميتة، فأما من وجد البلغة والكفاف فلا وجه لسؤاله بالشعر. فقد حكى عن ابن ميادة أنه مدح أبا جعفر المنصور بكلمته التي يقول فيها: فوجدت حين لقيت أيمن طائر ... ووليت حين وليت بالإصلاح وعفوت عن كسر الجناح ولم يكن ... لتطير ناهضة بغير جناح قوم إذا جلب الثناء إليهم ... بيع الثناء هناك بالأرباح وأتاه راعي إبله بلبن فشرب ثم مسح على بطنه وقد عزم على الرحلة فقال: سبحان الله أأفد على أمير المؤمنين وهذه الشربة تكفيني؟!! وصرف وجهه عن قصده، فلم يفد عليه، هذا على أنه ساقة الشعراء، فأنت ترى كبر نفسه، وبعد همته. على أن عبد الله بن عمر على جلالته، والحسن البصري، وعكرمة، ومالك بن أنس المدني وجملة من أهل العلم غير هؤلاء، كانوا يقبلون صلات الملوك. وقد سئل عثمان بن عفان رضي الله عنه عن مال السلطان، فقال: لحم طير زكي. والشعراء في قبولها مال الملوك أعذر من المتورعين وأصحاب الفتيا؛ لما جرت به العادة قبل الإسلام وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى أيام المنصور الذي أنف ابن ميادة أن يفد عليه. وهكذا يروى عن جميل بن عبد الله بن معمر أنه ما مدح أحداً قط إلا ذويه وقراباته، وأنه صحب الوليد بن عبد الملك في سفر، فكلفه أن يرجز به، وظن أنه يمدحه فأنشأ يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 أنا جميل في السنام من معد ... في الذروة العلياء والركن الأشد فقال له الوليد: اركب لا حملت. وزعم محمد بن سلام الجمحي أنه مدح عبد العزيز بن مروان بقوله في شعره: أبا مروان أنت فتى قريش ... وكهلهم إذا عد الكهول توليه العشيرة ما عناها ... فلا ضيق الذراع ولا بخيل كلا يوميه بالمعروف طلق ... وكل بلائه حسن جميل وعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وكان يشبه به من المولدين العباس بن الأحنف، فإنه ممن أنف عن المدح تظرفاً، وقال فيه مصعب الزبيري: العباس عمر العراق، يريد أنه لأهل العراق كعمر بن أبي ربيعة لأهل الحجاز، استرسالاً في الكلام، وأنفة عن المدح والهجاء، واشتهر بذلك، فلم يكن يكلفه إياه أحد من الملوك ولا الوزراء، وقد أخذ صلة الرشيد وغيره على حسن التغزل ولطف المقاصد في التشبيب بالنساء. وهذا باب قد احتذاه الكتاب في زماننا هذا إلا القليل، وقوم من شعراء وقتنا أنا ذاكرهم في كتاب غير هذا، إن شاء الله. وعلى كل حال فإن الأخذ من الملوك كما فعل النابغة، ومن الرؤساء الجلة كما فعل زهير؛ سهل وخفيف. فأما الحطيئة فقبح الله همته الساقطة على جلالة شعره وشرف بيته، وقد كانت الشعراء ترى الأخذ ممن دون الملوك عاراً، فضلاً عن العامة وأطراف الناس. قال ذو الرمة يهجو مروان بن أبي حفصة بذلك، ويفتخر عليه بأنه لا يقبل إلا صلة الملك الأعظم وحده، هكذا رواه عبد الكريم وأنشده ابن عبد ربه أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 عطايا أمير المؤمنين ولم تكن ... مقسمة من هؤلا وأولائكا وما نلت حتى شبت إلا عطية ... تقوم بها مصرورة في ردائكا وأنشد له أو لغيره: وما كان مالي من تراث ورثته ... ولا دية كانت، ولا كسب مأثم ولكن عطاء الله من كل رحلة ... إلى كل محجوب السرادق خضرم وقال صاحب الكتاب: والذي أعرف أن سلم بن عمرو الخاسر كتب إلى مروان بن أبي حفصة: من مبلغ مروان عني رسالة ... مغلغلة لا تنثني عن لقائكا حباني أمير المؤمنين بنفحة ... ثمانين ألفاً طأطأت من حبائكا ثمانين ألفاً نلت من صلب ماله ... ولم تك قسماً من أولى وأولائكا فأجابه مروان عن ذلك فقال: أسلم بن عمرو قد تعاطيت خطة ... تقصر عنها بعد طول عنائكا وإني لسباق إذا الخيل كلفت ... مدى مائة أو غاية فوق ذلكا فدع سابقاً إن عاودتك عجاجة ... سنابكه أوهين منك سنابكا رأيت أمرأ نال السها فحسدته ... فلم يبق إلا أن تموت بدائكا طلبت من المهدي شطر حبائه ... فقال لك المهدي لست هنالكا فما أعولت أم على ابن، ولا بكى ... على يوسف يعقوب مثل بكائكا عضضت على كفيك حتى كأنما ... رزئت الذي أعطيت من صلب مالكا حبيت بأوقار البغال، وإنما ... سراب الضحى ما تدعي من حبائكا وما نلت حتى شبت إلا عطية ... تقوم بها مصرورة في ردائكا وما عبت من قسم الملوك لشاعر ... به خص عفواً من أولى وأولائكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وأقسم لولا ابن الربيع ورفده ... لما ابتلت الدلو التي في رشائكا ومن قول مروان أيضاً: قد حبيت بألف ألف لم تكن ... إلا بكف خليفة ووزير ما زلت آنف أن أؤلف مدحة ... إلا لصاحب منبر وسرير ما ضرني حسد اللئام، ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو التقصير وقال آخر فيما يناسب هذا ويشاكله، ويشد على يد من تمذهب به أو اعتقده: وإذا لم يكن من الذل بد ... فالق بالذل إن لقيت الكبارا وافتخر بشار بن برد فقال: وإني لنهاض اليدين إلى العلا ... قروع لأبواب الهمام المتوج ويروى وإني لسوار اليدين أي: مرتفع. باب تنقل الشعر في القبائل ذكر أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي في كتاب الطبقات، وغيره من المؤلفين، أن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة، فكان منهم مهلهل بن ربيعة واسمه عدي، وقيل: امرؤ القيس وإنما سمي مهلهلاً لهلهلة شعره، أي: رقته وخفته، وقيل: لاختلافه، وقيل: بل سمي بذلك لقوله: لما توقل في الكراع شريدهم ... هلهلت أثأر جابراً أو صنبلا ويروى لما توعر في الكلاب هجينهم قال أبو سعيد الحسن بن الحسين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 السكري: يعني بقوله هجينهم امرأ القيس بن حمام الذي ذكره امرؤ القيس في شعره حيث يقول: عوجا على الطل المحيل لعلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن حمام وكان مهلهل تبعه يوم كلاب ففاته ابن حمام بعد أن تناوله مهلهل بالرمح، وقد كان ابن حمام أغار على بني تغلب مع زهير بن جناب فقتل جابراً وصنبلاً، ويروي " لأننا " بمعنى لعلنا، وهي لغة فيما زعم بعض المؤلفين، والذي كنت أعرف " لعننا " بالعين ونونين، وكذلك أعرف " ابن جذام " بذال معجمة، كذا روى الجاحظ وغيره، ويروى " خذام " بالخاء والذال المعجمتين. وكان مهلهل أول من قصد القصائد، قال الفرزدق بن غالب: ومهلهل الشعراء ذاك الأول وهو خال امرئ القيس بن حجر الكندي الشاعر، وجد عمرو بن كلثوم الشاعر أبو أمه. ومنهم المرقشان، والأكبر منهما عم الأصغر، والأصغر عم طرفة بن العبد، واسم الأكبر عوف بن سعد، وعمرو بن قميئة ابن أخيه، ويقال: إنه أخوه، واسم الأصغر عمرو بن حرملة، وقيل: ربيعة بن سفيان، وهذا أعرف. ومنهم سعد بن مالك الذي يقول: يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا ولا أدري هل هو أبو عمرو بن قميئة الشاعر والمرقش الأكبر أم لا؟؟ وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس وهو خال طرفة، واسمه جرير بن عبد المسيح والأعشى واسمه ميمون بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 قيس بن جندل وخاله المسيب بن علس واسم المسيب زهير ثم تحول الشعر في قيس فمنهم النابغتان، وزهير بن أبي سلمى، وابنه كعب لأنهم ينسبون في عبد الله بن غطفان، واسم أبا سلمى ربيعة، ولبيد، والحطيئة، والشماخ واسمه معقل بن ضرار وأخوه مزرد، واسمه جزء بن ضرار، وقيل: بل اسمه يزيد وجزء أخوهما: وكان المزرد شريراً يهجو ضيوفه، وهجا قومه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تعلم رسول الله أنا كأنما ... أفأنا بأنمار ثعالب ذي صحل تعلم رسول الله لم أر مثلهم ... أجر على الأدنى وأحرم للفضل ومنهم خداش بن زهير. ثم استقر الشعر في تميم، ومنهم كان أوس بن حجر شاعر مضر في الجاهلية، لم يتقدمه أحد منهم، حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه، وبقي شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع، وكان الأصمعي يقول: أوس أشعر من زهير، ولكن النابغة طأطأ منه، وكان زهير راوية أوس، وكان أوس زوج أم زهير. وسئل حسان بن ثابت رضي الله عنه: من أشعر الناس؟ فقال: أرجلاً أم حياً؟ قيل: بل حياً، قال: أشعر الناس حياً هذيل. قال ابن سلام الجمحي: وأشعر هذيل أبو ذؤيب غير مدافع، وحكى الجمحي قال: أخبرني عمر بن معاذ المعمري قال: في التوراة مكتوب أبو ذؤيب مؤلف زورا، وكان اسم الشاعر بالسريانية، فأخبرت بذلك بعض أصحاب العربية وهو كثير بن إسحاق فأعجب منه وقال: قد بلغني ذلك، وقال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح الشعراء لساناً وأعذبهم أهل السروات، وهن ثلاث وهي الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن: فأولها هذيل، وهي تلي السهل من تهامة، ثم بجيلة في السراة الوسطى، وقد شركتهم ثقيف في ناحية منها، ثم سراة الأزد أزد شنوءة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وهم بنو الحارث بن كعب بن الحارث بن نصر بن الأزد، وقال أبو عمرو أيضاً: أفصح الناس علياً تميم وسفلي قيس، وقال أبو زيد: أفصح الناس سافلة العالية وعالية السافلة، يعني عجز هوازن، قال: ولست أقول قالت العرب إلا ما سمعت منهم، وإلا لم أقل قالت العرب ... وأهل العالية أهل المدينة ومن حولها ومن يليها ودنا منها، ولغتهم ليست بتلك عنده. وقوم يرون تقدمة الشعر لليمن: في الجاهلية بامريء القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت، وفي المولدين بالحسن بن هانيء وأصحابه: مسلم بن الوليد، وأبي الشيص، ودعبل، وكلهم من اليمن، وفي الطبقة التي تليهم بالطائيين: حبيب والبحتري، ويختمون الشعر بأبى الطيب، وهو خاتمة الشعراء لا محالة وكان ينسب في كندة، وهي رواية ضعيفة، وإنما ولد في كندة بالكوفة فيما حكى ابن جنى، وإلا فكان غامض النسب، فيقولون: بديء الشعر بكندة يعنون امرأ القيس وختم بكندة يعنون أبا الطيب وزعم بعض المتأخرين أنه جعفي، وقوم منهم الصاحب بن عباد يقولون: بديء الشعر بملك وختم بملك، يعنون امرأ القيس وأبا فراس الحارث بن سعيد بن حمدان، وقال آخرون: بل رجع الشعر إلى ربيعة فختم بها كما بدئ بها، يريدون مهلهلا وأبا فراس، وأشعر أهل المدر بإجماع من الناس واتفاق حسان بن ثابت ... وقال أبو عمرو بن العلاء: ختم الشعر بذي الرمة، والرجز برؤية بن العجاج، وزعم يونس أن العجاج أشعر أهل الرجز والقصيد، وقال: إنما هو كلام فأجودهم كلاماً أشعرهم، والعجاج ليس في شعره شيء يستطيع أحد أن يقول: لو كان في مكانه غيره لكان أجود، وذكر أنه صنع أرجوزته: قد جبر الدين الإله فجبر فيها نحو مائتي بيت وهي موقوفة مقيدة، قال: ولو أطلقت قوافيها وساعد فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الوزن لكانت منصوبة كلها.. وقال أبو عبيدة: إنما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك، إذا حارب أو شاتم أو فاخر، حتى كان العجاج أول من أطاله وقصده، ونسب فيه، وذكر الديار، واستوقف الركاب عليها، ووصف ما فيها، وبكى على الشباب، ووصف الراحلة، كما فعلت الشعراء بالقصيد فكان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء ... وقال غيره: أول من طول الرجز الأغلب العجلي، وهو قديم، وزعم الجمحي وغيره أنه أول من رجز، ولا أظن ذلك صحيحاً؛ لأنه إنما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نجد الرجز أقدم من ذلك ... وكان أبو عبيدة يقول: افتتح الشعر بامريء القيس، وختم بابن هرمة، ولم أرى أنقد من الذي قال: أشعر الناس من أنت في شعره ... وأنشد مروان بن أبي حفصة يوماً جماعة من الشعراء، وهو يقول في واحد بعد واحد: هذا أشعر الناس، فلما كثر ذلك عليه قال: الناس أشعر الناس. باب في القدماء والمحدثين كل قديم من الشعراء فهو محدث في زمانه بالإضافة إلى من كان قبله، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: لقد أحسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته، يعني بذلك شعر جرير والفرزدق، فجعله مولداً بالإضافة إلى شعر الجاهلية والمخضرمين، وكان لا يعد الشعر إلا ما كان للمتقدمين. قال الأصمعي: جلست إلى ثماني حجج فما سمعته يحتج ببيت إسلامي، وسئل عن المولدين فقال: ما كان من حسن فقد سبقوا إليه، وما كان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قبيح فهو من عندهم، ليس النمط واحدا: ترى قطعة ديباج، وقطعة مسيح، وقطعة نطع، هذا مذهب أبي عمرو وأصحابه: كالأصمعي، وابن الأعرابي أعني أن كل واحد منهم يذهب في أهل عصره هذا المذهب، ويقدم من قبلهم وليس ذلك الشيء إلا لحاجتهم في الشعر إلى الشاهد، وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون، ثم صارت لجاجة. فأما ابن قتيبة فقال: لم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص قوماً دون قوم، بل جعل الله ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره. ومما يؤيد كلام ابن قتيبة كلام علي رضي الله عنه " لولا أن الكلام يعاد لنفد " فليس أحدنا أحق بالكلام من أحد، وإنما السبق والشرف معا في المعنى على شرائط نأتي بها فيما بعد من الكتاب إن شاء الله. وقول عنترة هل غادر الشعراء من متردم يدل على أنه يعد نفسه محدثاً، قد أدرك الشعر بعد أن فرغ الناس منه ولم يغادروا له شيئاً، وقد أتى في هذه القصيدة بما لم يسبقه إليه متقدم، ولا نازعه إياه متأخر. وعلى هذا القياس يحمل قول أبى تمام وكان إماماً في هذه الصناعة غير مدافع: يقول من تقرع أسماعه ... كم ترك الأول للآخر فنقض قولهم " ما ترك الأول للآخر شيئاً " وقال في مكان آخر فزاده بياناً وكشفاً للمراد: فلو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك في العصور الذواهب ولكنه صوب العقول: إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وإنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين: ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزينه، فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن، والقدرة ظاهرة علية وإن خشن. وسمعت القاضي أبا الفضل جعفر بن أحمد النحوي وقد سئل عن ذي الرمة وأبي تمام فأجاب بجواب يقرب معناه من هذا لم أحفظه. وقال أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع وقد ذكر أشعار المولدين: إنما تروى لعذوبة ألفاظها، ورقتها، وحلاوة معانيها، وقرب مأخذها، ولو سلك المتأخرون مسلك المتقدمين في غلبة الغريب على أشعارهم ووصف المهامة والقفار، وذكر الوحوش والحشرات ما رويت؛ لأن المتقدمين أولى بهذه المعاني، ولا سيما مع زهد الناس في الأدب في هذا العصر وما قاربه وإنما تكتب أشعارهم لقربها من الأفهام، وأن الخواص في معرفتها كالعوام، فقد صار صاحبها بمنزلة صاحب الصوت المطرب: يستميل أمة من الناس إلى استماعه وإن جهل الألحان وكسر الأوزان.. وقائل الشعر الحوشي بمنزلة المغنى الحاذق بالنغم غير المطرب الصوت: يعرض عنه إلا من عرف فضل صنعته، على أنه إذا وقف على فضل صنعته لم يصلح لمجالس اللذات، وإنما يجعل معلماً للمطربات من القينات: يقومهن بحذقه، ويستمتع بحلوقهن دون حلقه، ليسلمن من الخطأ في صناعتهن، ويطربن بحسن أصواتهن. وهذا التمثيل الذي مثله ابن وكيع من أحسن ماوقع، إلا إن أوله من قول أبي نواس: صفة الطلول بلاغة القدم ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم لا تخدعن عن التي جعلت ... سقم الصحيح وصحة السقم تصف الطلول على السماع بها ... أفذو العيان كأنت في الحكم؟؟ وإذا وصفت الشيء متعباً ... لم تخل من غلط ومن وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ولم أر في هذا النوع أحسن من فضل أتى به عبد الكريم بن إبراهيم فإنه قال: قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد فيحسن في وقت مالا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد مالا يستحسن عند أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه وكثر استعماله عند أهله، بعد أن لا تخرج من حسن الاستواء، وحد الاعتدال، وجودة الصنعة، وربما استعملت في بلد ألفاظ لا تستعمل كثيراً في غيره: كاستعمال أهل البصرة بعض كلام أهل فارس في أشعارهم، ونوادر حكاياتهم، قال: والذي أختاره أنا التجويد والتحسين الذي يختاره علماء الناس بالشعر، ويبقى غابره على الدهر، ويبعد عن الوحشي المستكره، ويرتفع عن المولد المنتحل، ويتضمن المثل السائر، والتشبيه المصيب، والاستعارة الحسنة. قال صاحب الكتاب: وأنا أرجو أن أكون باختيار هذا الفضل وإثباته ههنا داخلاً في جملة المميزين، إن شاء الله؛ فليس من أتى بلفظ محصور يعرفه طائفة من الناس دون طائفة لا يخرج من بلده ولا يتصرف من مكانه كالذي لفظه سائر في كل أرض، معروف بكل مكان، وليس التوليد والرقة أن يكون الكلام رقيقاً سفساقاً، ولا بارداً غثاً، كما ليست الجزالة والفصاحة أن يكون حوشياً خشناً ولا أعرابياً جافياً، ولكن حال بين حالين.. ولم يتقدم امرؤ القيس والنابغة والأعشى إلا بحلاوة الكلام وطلاوته، مع البعد من السخف والركاكة، على أنهم لو أغربوا لكان ذلك محمولاً عنهم؛ إذ هو طبع من طباعهم، فالمولد المحدث على هذا إذا صح كان لصاحبه الفضل البين بحسن الإتباع، ومعرفة الصواب، مع أنه أرق حوكاً، وأحسن ديباجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 باب المشاهير من الشعراء والشعراء أكثر من أن يحاط بهم عدداً، ومنهم مشاهير قد طارت أسماؤهم، وسار شعرهم، وكثر ذكرهم، حتى غلبوا على سائر من كان في أزمانهم، ولكل أحد منهم طائفة تفضله وتتعصب له، وقل ما يجتمع على واحد، إلا ما روى عن عن النبي صلى الله عليه وسلم في امرئ القيس أنه أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار يعني شعراء الجاهلية والمشركين. قال دعبل بن علي الخزاعي: ولا يقود قوماً إلا أميرهم.. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعباس بن عبد المطلب رحمه الله وقد سأله عن الشعراء: امرؤ القيس سابقهم: خسف لهم عين الشعر فافتقر عن معانٍ عورٍ أصح بصر. قال عبد الكريم: خسف لهم من الخسيف وهي البئر التي حفرت في حجارة فخرج منها ماء كثيراً، وجمعها خسف، وقوله افتقر أي: فتح، وهو من الفقير، وهو فم القناة، وقوله عن معان عور يعني أن امرأ القيس من اليمن، وأن اليمن ليست لهم فصاحة نزارٍ، فجعل لهم معاني عوراً فتح منها امرؤ القيس أصح بصر.. قال: وامرؤ القيس يماني النسب، نزاري الدار والمنشأ، وفضله علي رضي الله عنه بأن قال: رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وأنه لم يقل لرغبة ولا لرهبة. وقد قال العلماء بالشعر: إن امرأ القيس لم يتقدم الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق إلى أشياء فاستحسنها الشعراء واتبعوه فيها؛ لأنه قيل أول من لطف المعاني، واستوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيد، وقرب مأخذ الكلام؛ فقيد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه. روى الجمحي أن سائلاً سأل الفرزدق: من أشعر الناس؟ قال: ذو القروح، قال: حين يقول ماذا؟ قال: حين يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب وأما دعبل فقدمه بقوله في وصف عقاب: ويلمها من هواء الجو طالبةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب وهذا عنده أشعر بيت قالته العرب. وسئل ليبد: من أشعر الناس؟ قال: الملك الضليل، قيل: ثم من؟ قال: الشاب القتيل، قيل: ثم من؟ قال: الشيخ أبو عقيل يعني نفسه. وكان الحذاق يقولون: الفحول في الجاهلية ثلاثة، وفي الإسلام ثلاثة متشابهون: زهير والفرزدق، والنابغة والأخطل، والأعشى وجرير. وكان خلف الأحمر يقول: الأعشى أجمعهم. وقال أبو عمرو بن العلاء: مثله مثل البازي يضرب كبير الطير وصغيره. وكان أبو الخطاب الأخفش يقدمه جداً لا يقدم عليه أحداً. وحكى الأصمعي عن ابن أبي طرفة: كفاك من الشعراء أربعة: زهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب، وزاد قوم: وجرير إذا غضب. وقيل لكثير أو لنصيب: من أشعر العرب؟ فقال: امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا شرب. وكان أبو بكر رضي الله عنه يقدم النابغة؛ ويقول: هو أحسنهم شعراً، وأعذبهم بحراً، وأبعدهم قعراً. وسئل الفرزدق مرة: من أشعر العرب؟ فقال: بشر بن خازم؛ قيل له: بماذا؟ قال بقوله: ثوى في ملحد لا بد منه ... كفى بالموت نأياً واغترابا ثم سئل جرير فقال: بشر بن خازم، قال: بماذا؟ قال: بقوله: رهين بلى، وكل فتىً سيبلى ... فشقي الجيب وانتحبي انتحاباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 فاتفقا على بشر بن أبي خازم كما ترى. وقال محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب: إن أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تسمى السمط: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وطرفة. قال: وقال المفضل: من زعم أن في السبع التي تسمى السمط لأحد غير هؤلاء فقد أبطل.. فأسقط من أصحاب المعلقات عنترة، والحارث بن حلزة، وأثبت الأعشى، والنابغة. وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك لأنها اختيرت من سائر الشعر فكتبت في القباطي بماء الذهب وعلقت على الكعبة؛ فلذلك يقال: مذهبة فلان، إذا كانت أجود شعره، ذكر ذلك غير واحد من العلماء، وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة الشاعر يقول: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته. وقال الجمحي في كتابه: سأل عكرمة بن جرير أباه جريراً: من أشعر الناس؟ قال: أعن الجاهلية تسألني أم عن الإسلام؟ قال: ما أردت إلا الإسلام فإذ ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها، قال: زهير شاعرهم، قال: قلت: فالإسلام؟ قال: الفرزدق نبعة الشعر في يده، قلت: فالأخطل؟ قال: يجيد مدح الملوك ويصيب صفة الخمر، قلت: فما تركت لنفسك؟ قال: دعني فإني نحرت الشعر نحراً وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم يسأله عن أشعر الشعراء في الجاهلية وأشعر شعراء وقته، فقال: أشعر شعراء الجاهلية امرؤ القيس، وأضربهم مثلاً طرفة، وأما شعراء الوقت فالفرزدق أفخرهم، وجرير أهجاهم، والأخطل أوصفهم. وأما الحطيئة فسئل عن أشعر الناس، فقال: أبو دؤاد حيث يقول: لا أعد الإقتار عدماً، ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وهو وإن كان فحلاً قديماً وكان امرؤ القيس يتوكأ عليه ويروي شعره فلم يقل فيه أحد من النقاد مقالة الحطيئة. وسأله ابن عباس مرة أخرى، فقال: الذي يقول: ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره، ومن لا يتق الشتم يشتم وليس الذي يقول: ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث، أي الرجال المهذب؟ بدونه، ولكن الضراعة أفسدته كما أفسدت جرولاً، والله لولا الجشع لكنت أشعر الماضين، وأما الباقون فلا شك أني أشعرهم، قال ابن عباس: كذلك أنت يا أبا مليكة. وزعم ابن أبي الخطاب أن أبا عمرو كان يقول: أشعر الناس أربعة: امرؤ القيس، والنابغة، وطرفة، ومهلهل. قال: وقال المفضل: سئل الفرزدق فقال: امرؤ القيس أشعر الناس، وقال جرير: النابغة أشعر الناس، وقال الأخطل: الأعشى أشعر الناس، وقال ابن أحمر: زهير أشعر الناس، وقال ذو الرمة: لبيد أشعر الناس، وقال الكميت: عمرو بن كلثوم أشعر الناس، وهذا يدلك على اختلاف الأهواء، وقلة الاتفاق. وكان ابن أبي إسحاق وهو عالم، ناقد، ومتقدم مشهور يقول: أشعر الجاهلية مرقش، وأشعر الإسلاميين كثير، وهذا غلو مغلوط، غير أنهم مجمعون على أنه أول من أطال المدح.. وسأل عبد الملك بن مروان الأخطل: من أشعر الناس؟ فقال: العبد العجلاني، يعني تميم بن أبي بن مقبل، قال: بم ذاك؟ قال: وجدته في بطحاء الشعر والشعراء على الحرفين، قال: أعرف ذلك له كرهاً. وقيل لنصيب مرة: من أشعر العرب؟ فقال: أخو تميم، يعني علقمة بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 عبدة، وقيل: أوس بن حجر، وليس لأحد من الشعراء بعد امرئ القيس ما لزهير والنابغة والأعشى في النفوس. والذي أتت به الرواية عن يونس بن حبيب النحوي أن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس، وأن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وأن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيراً والنابغة، وكان أهل العالية لا يعدلون بالنابغة أحداً، كما أن أهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحداً. وروى ابن سلام يرفعه عن عبد الله بن عباس أنه قال: قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنشدني لأشعر شعرائكم، قلت: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير، قلت: ولم كان كذلك؟ قال: كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه، ثم قال ابن سلام على عقب هذا الكلام: قال أهل النظر: كان زهير أحصفهم شعراً، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح. قال صاحب الكتاب: وإذا قوبل آخر كلام عمر بآخر هذا الكلام تناقض قول المؤلف أعني ابن سلام لأن عمر إنما وصفه بالحذق في صناعته، والصدق في منطقه؛ لأنه لا يحسن في صناعة الشعر أن يعطى الرجل فوق حقه من المدح؛ لئلا يخرج الأمر إلى التنقص والازدراء، كما أخذ ذلك على أبي الطيب وغيره آنفاً، وقد فسد الوقت، ومات أرباب الصناعة، فما ظنك والناس ناس والزمان زمان؟ وسيرد عليك في مكانه من هذا الكتاب إن شاء الله، وقد استحسن عمر الصدق لذاته، ولما فيه من مكارم الأخلاق، والمبالغة بخلاف ما وصف، ويشهد لقول عمر رضي الله عنه في زهير أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 لا يمدح الرجل إلا بما فيه استحساناً لصدقه ما جاء به الأثر أن رجلاً قال لزهير: إني سمعتك تقول لهرم: لأنت أشجع من أسامة إذا ... دعيت نزال ولج في الذعر وأنت لا تكذب في شعرك، فكيف جعلته أشجع من الأسد؟ فقال: إني رأيته فتح مدينة وحده، وما رأيت أسداً فتحها قط!! فقد خرج لنفسه طريقاً إلى الصدق، وبعداً عن المبالغة.. والذي أعرف أنا أن البيت المتقدم ذكره لأوس بن حجر، والحكاية عنه، ومثلها عن عمران بن حطان الخارجي لما سألته امرأته كيف قلت: فهناك مجزأة بن ثو ... ر كان أشجع من أسامة وصدر بيت زهير بن أبي سلمى: ولنعم حشو الدرع أنت إذ ... دعيت نزال ولج في الذعر إلا أن تكون الأخرى رواية فلا أبعدها؛ لأن زهيراً كان يتوكأ على أوس في كثير من شعره، وهي رواية الجمحي لا أظن غير ذلك، فأما بيت زهير في هذا المعنى فهو: ولأنت أشجع حين تتجه ال ... أبطال من ليث أبي أجر وأما النابغة فقال من يحتج له: كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة، ومدحاً، وهجاء، وفخراً، وصفة. وقال بعض متقدمي العلماء: الأعشى أشعر الأربعة، قيل له: فأين الخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأ القيس بيده لواء الشعراء؟ فقال: بهذا الخبر صح للأعشى ما قلت، وذلك أنه ما من حامل لواء إلا على رأس أمير، فامرؤ القيس حامل اللواء، والأعشى الأمير. وقالت طائفة من المتعقبين: الشعراء ثلاثة: جاهلي، وإسلامي، ومولد؛ فالجاهلي امرؤ القيس، والإسلامي ذو الرمة، والمولد ابن المعتز. وهذا قول من يفضل البديع وبخاصة التشبيه على جميع فنون الشعر. وطائفة أخرى تقول: بل الثلاثة الأعشى والأخطل وأبو نواس. وهذا مذهب أصحاب الخمر وما ناسبها، ومن يقول بالتصرف وقلة التكلف. وقال قوم: بل الثلاثة مهلهل وابن أبي ربيعة وعباس بن الأحنف، وهذا قول من يؤثر الأنفة، وسهوله الكلام، والقدرة على الصنعة والتجويد في فن واحد، ولولا ذلك لكان شيخ الطبع أبو العتاهية مكان عباس. لكن أبا العتاهية تصرف. وليس في المولدين أشهر اسماً من الحسن أبي نواس، ثم حبيب والبحتري ويقال: إنهما أخملا في زمانهما خمسمائة شاعر كلهم مجيد، ثم يتبعهما في الاشتهار ابن الرومي وابن المعتز، فطار اسم ابن المعتز حتى صار كالحسن في المولدين وامرئ القيس في القدماء؛ فإن هؤلاء الثلاثة لا يكاد يجهلهم أحد من الناس، ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس. والاشتهار بالشعر أقسام وحدود، ولولا ذلك لم يكن نصر بن أحمد الخبزرزي أشهر من منصور النمري وكلثوم العتابي وأبي يعقوب الخريمي وأبي سعيد المخزومي. وفوق هؤلاء كلهم طبقة في السن أشهرهم وأشعرهم بشار بن برد، وليس يفضل على الحسن مولد سواه، وكذا روى الجاحظ وغيره من العلماء ... ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 طبقة بشار مروان بن أبي حفصة، وأبو دلامة زند بن الجون الأعرابي، وقيل: زبد، بالباء معجمة بواحدة ساكنة ومتحركة حكاه المرزباني، والسيد الحميري، وسلم الخاسر، وأبو العتاهية، وجماعة يطول بهم الشرح ليس فيهم مثله. ومن طبقة أبي نواس العباس بن الأحنف، ومسلم بن الوليد صريع الغواني، والفضل الرقاشي، وأبان اللاحقي، وأبو الشيص، والحسين بن الضحاك الخليع، ودعبل، ونظراء هؤلاء ساقتهم دعبل ليس فيهم نظير أبي نواس. وأما طبقة حبيب والبحتري وابن المعتز وابن الرومي فطبقة متداركة قد تلاحقوا، وغطوا على من سواهم، حتى نسي معهم بقية من أدرك أبا نواس كابن المعذل، وهو من فحول المحدثين وصدورهم المعدودين، غمره حبيب ذكراً واشتهاراً، وكأبي عفان أيضاً، أدرك أبا نواس، ولحق البحتري فستره، وكذلك الجماز، وللجماز يقول أبو نواس: اسقني يا بن أذين ... من سلاف الزرجون وديك الجن، وهو شاعر الشام، لم يذكر مع أبي تمام إلا مجازاً، وهو أقدم منه، وقد كان أبو تمام أخذ عنه أمثلة من شعره يحتذى عليها فسرقها، ودعبل ما أصاب مع أبي تمام طريقاً على تقدمه في السن والشهرة، ولم يذكر من أصحاب ابن الرومي وابن المعتز إلا من ذكر بسببهما في مكاتبة أو مناقضة، وأما أبو الطيب فلم يذكر معه شاعر إلا أبو فراس وحده، ولولا مكانه من السلطان لأخفاه، وكان الصنوبري والخبزرزي مقدمين عليه للسن، ثم سقطا عنه، على أن الصنوبري يسمى حبيباً الأصغر لجودة شعره، ولقيه مرة بالمصيصة أو غيرها فقال له يهزأ به: أنت صاحب بغادين؟ يريد قصيدته: شربنا في بغادين ... على تلك الميادين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 لما فيها من المجون والخلاعة، فقال له الصنوبري: أنت صاحب الطرطبة؟ يريد قصيدته: ما أنصف القوم ضبه ... وأمه الطرطبه لما فيها من الركاكة، ولكل كلام وجه وتأويل، ومن التمس عيباً وجده، وقيل: بل قال له: أنت صاحب جاخا؟ قال: نعم، قال: أنت شاعر بلدك، يريد قوله في صفة الوعل: ذاك أم أعصم كأن مدرياه ... حين عاجا على القذالين جاخا باب المقلين من الشعراء والمغلبين ولما كان المشاهير من الشعراء كما قدمت أكثر من أن يحصوا ذكرت من المقلين وأصحاب الواحدة من وسع ذكره في هذا الموضع، ونبهت على بعض المغلبين منهم؛ لما تدعو إليه حلجة التأليف، وتقتضيه عادة التصنيف، غير مفرط ولا مفرط، إن شاء الله. فمن المقلين في الشعر: طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة الفحل، وعدي بن زيد، وطرفة أفضل الناس واحدة عند العلماء، وهي المعلقة: لخوله أطلال ببرقة تمهد. وله سواها يسير؛ لأنه قتل صغيراً حول العشرين فيما روى، وأصح ما في ذلك قول أخته ترثيه: عددنا له ستاً وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيداً ضخما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فجعنا به لما رجونا إيابه ... على خير حال لا وليداً ولا قحما أنشده المبرد، والقحم: المتناهي في السن. وعبيد بن الأبرص قليل الشعر في أيدي الناس على قدم ذكره، وعظم شهرته، وطول عمره، ويقال: إنه عاش ثلاثمائة سنة، وكذلك أبو دواد، وعبيد الذي أجاب امرأ القيس عن قوله حين قتلت بنو أسد أباه حجراً: وأفلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركنه صفر الوطاب فقال له عبيد وقرعه بقسم من شعره: فلو أدركت علباء بن قيس ... قنعت من الغنيمة بالإياب لأن امرأ القيس قد كان قد قال: وقد طوقت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب وقتل عبيداً النعمان بن المنذر يوم بؤسه، وقيل: عمرو بن هند. وعلقمة ابن عبدة حاكم امرأ القيس في شعره إلى امرأته، فحكمت عليه لعلقمة، فطلقها، وتزوجها علقمة فسمي الفحل لذلك، وقيل: بل كان في قومه آخر يسمى علقمة الخصي من ربيعة الجوع. ولعلقمة الفحل ثلاث قصائد مشهورات إحداهن: ذهبت من الهجران في كل مذهب ويروي في غير مذهب وفي هذه القصيدة وقع الحكم له على امرئ القيس، والثانية قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 طحا بك قلب في الحسان طروب والثالثة قوله: هل ما علمت وما استودعت مكتوم وأما عدي بن زيد فلقربه من الريف وسكناه الحيرة في حيز النعمان بن المنذر لانت ألفاظه فحمل عليه كثير، وإلا فهو مقل، ومشهوراته أربع: قوله: أرواح مودع أم بكور؟. وقوله: أتعرف رسم الدار من أم معبد؟. وقوله: ليس شيء على المنون بباقي. وقوله: لم أر مثل الفتيان في غير ال ... أيام ينسون ما عواقبها وقال بعض العلماء وأحسبه أبا عمرو: وعدي في الشعراء مثل سهيل في النجوم: يعارضها ولا يجري معها. هؤلاء أشعارهم كثيرة في ذاتها، قليلة في أيدي الناس، ذهبت بذهاب الرواة الذين يحملونها. ومن المقلين المحكمين سلامة بن جندل، وحصين بن الحمام المري، والمتلمس، والمسيب بن علس: كل أشعارهم قليل في ذاته جيد الجملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ويروى عن أبي عبيدة أنه قال: اتفقوا على أن أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثة: المتلمس، والمسيب بن علس، وحصين بن الحمام المري، وأما أصحاب الواحدة فطرفة أولهم عند الجمحي، وهو الحكم الصواب. ومنهم عنترة، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، من أصحاب المعلقات المشهورات، وعمرو بن معدي كرب، صاحب: أمن ريحانة الداعي السميع. والأسعر بن أبي حمران الجعفي صاحب المقصورة: هل بان قلبك من سليمى فاشتفى؟. وسويد بن أبي كاهل، صاحب: بسطت رابعة الحبل لنا. والأسود بن يعفر، صاحب: نام الخلي فما أحس رقادي وله شعر كثير، إلا أنه لا ينتهي إلى قصيدته هذه. وكان امرؤ القيس مقلاً، كثير المعاني والتصرف، لا يصح له إلا نيف وعشرون شعراً بين طويل وقطعة، ولا ترى شاعراً يكاد يفلت من حبائله، وهذه زيادة في فضله وتقديمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وأما المغلبون فمنهم نابغة بني جعدة، ومعنى المغلب: الذي لا يزال مغلوباً. قال امرؤ القيس: فإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف، ولم يغلبك مثل مغلب يعني أنه إذا قدر لم يبق، فإذا قالوا: غلب فلان فهو الغالب. وقد غلب على الجعدي أوس بن مغراء القريعي، وغلبت عليه ليلى الأخيلية، قال الجمحي: وقد غلب عليه من لم يكن إليه في الشعر ولا قريباً منه: عقال بن خويلد العقيلي وكان مفحماً بكلام لا بشعر، وهجاه سوار بن أوفى القشيري، وهاجاه وفاخره الأخطل، وله يقول عبيد بن حصين الراعي يتوعده: فإني زعيم أن أقول قصيدة ... مبينة كالنقب بين المخازم خفيفة أعجاز المطي، ثقيلة ... على قربها، نزالة بالمواسم وقد علم الكافة ما صنع جرير بالأخطل والراعي جميعاً، وقيل: إن موت الجعدي كان بسبب ليلى الأخيلية: فر من بين يديها فمات في الطريق مسافراً، والأصح أنها هي التي ماتت في طلبه. قال الجمحي: كان النابغة الجعدي أقدم من الذبياني؛ لأنه أدرك المنذر بن محرق، ويشهد بذلك قوله: تذكرت والذكرى تهيج على الفتى ... ومن عادة المحزون أن يتذكرا نداماي عند المنذر بن محرق ... فأصبح منهم ظاهر الأرض مقفرا والذبياني إنما أدرك النعمان، وقال غيره: إن النابغة الذبياني شفع عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الحارث بن أبي شمر الغساني حين قتل المنذر في أسارى بني أسد فشفعه، وإياه عني علقمة بن عبدة بقوله: وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب قال الجمحي: وكان الجعدي مختلف الشعر، سئل عنه الفرزدق فقال: مثله مثل صاحب الخلقان: ترى عنده ثوب عصب، وثوب خز، وإلى جنبه شملة كساء. وكان الأصمعي يمدحه بهذا، وينسبه إلى قلة التكلف، فيقول: عنده خمار بواف، ومطرف بآلاف بواف: يعني بدرهم وثلث. ومن المغلبين الزبرقان، غلبه عمرو بن الأهتم، وغلبه المخبل السعدي، وغلبه الحطيئة، وقد أجاب الاثنين ولم يجب الحطيئة. وقال يونس بن حبيب: كان البعيث مغلباً في الشعر، غلاباً في الخطب. ومنهم تميم بن أبي بن مقبل: هجاه النجاشي فقهره وغلب عليه، حتى استعدى قومه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن من أشكاله في الشعر فيقرن به، وهاجى النجاشي عبد الرحمن بن حسان فغلبه عبد الرحمن وأفحمه. وحدثنا أبو عبد الله محمد بن جعفر، قال: هجا الأعور بن براء بني كعب، ومدح قومه بني كلاب، فأتت بنو كعب تميم بن أبي بن مقبل ينتصرون عليه به، فقال: لا أهجوهم، ولكني أقول فارووا فقد جاءكم الشعر، وقال: ولست وإن شاحنت بعض عشيرتي ... لأذكر ما الكهل الكلابي ذاكر فكم لي من أم لعبت بثديها ... كلابية عادت عليها الأواصر فأتت الأعور بن براء بنو كعب فعنفوه ورجعوا عليه، فقال: ولست بشاتم كعباً، ولكن ... على كعب وشاعرها السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ولست ببائع قوماً بقوم ... هم الأنف المقدم والسنام وكائن في المعاشر من قبيل ... أخوهم فوقهم وهم كرام فتسالما، وكان سبب ذلك إغضاء بن مقبل وإعطاؤه المقادة هرباً من الهجاء، وقوم يرون ذلك منه أنفة. ومن مغلبي المولدين على جلالته، وتقدمه بشار بن برد، فإن حماد عجرد وليس من رجاله، ولا أكفائه هجاه فأبكاه، ومثل به أشد تمثيل. وعلي بن الجهم: هاجى أبا السمط مروان بن أبي الجنوب فغلبه مروان، وهاجاه البحتري فغلب عليه أيضاً، على أن علياً أقذع منه لساناً، وأسبق إلى ما يريده من ذلك، وأقدم سناً. ومنهم حبيب: هاجى السراج وعتبة فما أتى بشيء، وهجاه ابن المعذل حين أراد وجهته فقال: أما هذا فقد كفى ناحيته، ولم يقدم عليه، على أن حبيباً أطول منه ذكراً وأبعد صوتاً في الشعر، والذي قال له: أنت بين اثنتين، تبرز للنا ... س لكلتيهما بوجه مذال لست تنفك طالباً لوصال ... من حبيب أو راغباً في نوال أي ماء لحر وجهك يبقى ... بين ذل الهوى وذل السؤال؟ ورأيت في شعر ابن المعذل في رواية المبرد أن عبد الصمد اجتمع بحبيب عند بعض بني هاشم، فكتب في رقعة هذه الأبيات المذكورة وألقاها إليه، وهاجى دعبلاً فاستطال عليه دعبل أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 باب من رغب من الشعراء عن ملاحاة غير الأكفاء منهم الزبرقان بن بدر: لما هجاه المخبل السعدي جاوبه بعتاب؛ لأنه رآه أهلاً لذلك من أجل شرف بيته وجلالته في نفسه، فلما هجاه الحطيئة لم يره مكاناً للجواب، على أنه ابن عمه وجاره في النسب لأنهما جميعاً من مضر، بل استعدى عليه عمر رضي الله عنه فأنصفه. وسحيم بن وثيل يقول للأحوص والأبيرد بن المعذر وهما شاعران مفلقان، وقال عبد الكريم: الأبيرد ابن أخي الأحوص: عذرت البزل إن هي خاطرتني ... فما بالي وبال ابني لبون! فأنت ترى هذا الاحتقار. ومثل هذا وإن لم يكن من هذا الباب بحتاً قول الفرزدق لعمر بن لجأ لما أعانه الفرزدق على جرير بشعر، وفطن له جرير، فدهش عمر ولم يجد جواباً، فقال الفرزدق حين بلغه ذلك يستضعفه ويستوهن عز وما أنت إن قرما تميمٍ تساميا ... أخا اليتيم إلا كالوشيظة في العظم فلو كنت مولى العز أوفى طلابه ... ظلمت ولكن لا بدى لك بالظلم والفرزدق قال فيه الطرماح من شعر هجا فيه بيوت بني سعد: واسأل فقيرة بالمروت هل شهدت ... شوط الحطيئة بين الكسر والنضد أو كان في غالب شعر فيشبهه ... شعر ابنه فينال الشعر من صدد جاءت به نطفة من شر ماء صرى ... سيقت إلى شر واد شق في بلد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فقال الفرزدق يتهاون بأمره ويستحقره: إن الطرماح يهجوني لأرفعه ... أيهات أيهات عيلت دونه القضب " عيلت دونه القضب أي: رفعت عنه القصائد، من قولهم: عالت الفريضة، أي: ارتفعت، والقضيب: القصيدة لأنها تقتضب. وجرير هجاه بشار بن برد بأشعار كثيرة فلم يجبه، قال بشار: ولم أهجه لأغلبه، ولكن ليجيبني فأكون من طبقته، ولو هجاني لكنت أشعر الناس. وهجا حماد عجرد بشاراً، فلم يجبه أنفة واحتقاراً، إلى أن قال فيه: له مقلة عمياء واست بصيرة ... إلى الأير من تحت الثياب تشير على وده أن الحمير تنيكه ... وأن جميع العالمين حمير فغضب وهجاه. قال الجاحظ: ما كان ينبغي لبشار أن يضاد حماد عجرد من جهة الشعر؛ لأن حماداً في الحضيض وبشاراً في العيوق، وليس مولد قروي يعدله شعر في المحدث إلا وبشار أشعر منه، ولا نعلم مولداً بعد بشار أشعر من أبي نواس. وهجا ابن الرومي البحتري، وابن الرومي من علمت، فأهدى إليه تخت متاع وكيس دراهم، وكتب إليه ليريه أن الهدية ليست تقية منه، ولكن رقة عليه، وأنه لم يحمله على ما فعل إلا الفقر والحسد المفرط: شاعر لا أهابه ... نبحتني كلابه إن من لا أعزه ... لعزيز جوابه وأبو تمام: هجاه دعبل وغيره من الأكفاء فجاوبهم، وابتدأ بعضهم، ولم يلتفت إلى مخلد بن بكار الموصلي حين قال فيه وكانت في حبيب حبسة شديدة إذا تكلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 يا نبي الله في الشع ... ر ويا عيسى بن مريم أنت من أشعر خلق ... الله ما لم تتكلم وقال فيه أشعاراً كثيرة منها: انظر إليه وإلى خبثه ... كيف تطايا وهو منشور ويحك من دلاك في نسبة ... قلبك منها الدهر مذعور إن ذكرت طاء على فرسخ ... أظلم في ناظرك النور بل رآه دون المهاجاة والجواب، ولو هجاه لشرفت حاله ونبه ذكره. وكذلك فعل المتنبي حين بلي بحماقات ابن حجاج البغدادي: سكت عنه اطراحاً واحتقاراً، ولو أجابه لما كان بحيث هو من الأنفة والكبر؛ لأنه ليس من أنداده، ولا من طبقته. ولما وصل أبو القاسم بن هانئ إلى أفريقية هجاه الشعراء، فقال: لا أجيب منهم أحداً إلا أن يهجوني علي التونسي فإني أجيبه، فلما بلغ قوله علياً قال: أما إني لو كنت ألأم الناس ما هجوته بعد أن شرفني على أصحابي وجعلني من بينهم كفئاً له. ومن الشعراء من يتزيا بالكبر، ويظهر الأنفة في الجواب عن هجاء من هو مثله أو فوقه خوفاً من الزراية على نفسه، كما وقع من جماعة أعرفهم من أهل عصرنا، وهو يتسرعون إلى أعراض السوقة والباعة، ويستفحلون على الصبيان ومن ليس من أهل الصناعة، ولو كانت لهم أنفة كما يزعمون إلا عن الأكفاء لكانوا عمن لا يحسن شيئاً بالجملة ولا يعد في الخاصة أشد تنزهاً. ومنهم من لا يهجو كفئاً ولا غيره؛ لما في الهجو من سوء الأثر، وقبح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 السمعة: كالذي يحكى عن العجاج أنه قيل له: لم لا تهجو؟ فقال: ولم أهجو؟ إن لنا أحساباً تمنعنا من أن نظلم، وأحلاما تمنعنا من أن نظلم، وهل رأيتم بانياً لا يحسن أن يهدم؟ ثم قال: أتعلمون أني أحسن أن أمدح؟ قالوا: نعم، قال: أفلا أحسن أن أجعل مكان " أصلحك الله " " قبحك الله " ومكان " حياك الله " " أخزاك الله ". وقد رد ابن قتيبة هذا القول على العجاج بأن الهجاء أيضاً بناء، وليس كل بان لضرب بانياً لغيره. ورده الجاحظ بأن من الشعراء من لا يجيد فناً من الشعر، وإن أجاد فناً غيره، كما يوجد ذلك في كل صناعة. ومعنى الجاحظ وابن قتيبة واحد، وإن اختلف اللفظان، والصواب ما قالا إلا أن يعرف من الشاعر أنف عن قدرة لا تدفع، وبعد تجربة لا تستراب، فحينئذ. وسئل نصيب عن مثل ذلك فقال: إنما الناس أحد ثلاثة: رجل لم أعرض لسؤاله فما وجه ذمه، ورجل سألته فأعطاني فالمدح أولى به من الهجاء، ورجل سألته فحرمني فأنا بالهجاء أولى منه، وهذا كلام عاقل منصف، لو أخذ به الشعراء أنفسهم لاستراحوا واستراح الناس. وقد كان في زماننا من انتحل هذا المذهب، وهو أبو محمد عبد الكريم بن إبراهيم، لم يهج أحداً قط. ومن أناشيده في كتابه المشهور، لغيره من الشعراء: ولست بهاج في القرى أهل منزل ... على زادهم أبكي وأبكي البواكيا فإما كرام موسرون أتيتهم ... فحسبي من ذو عندهم ما كفانيا وإما كرام معسرون عذرتهم ... وإما لئام فادخرت حيائيا وهذا مثل كلام نصيب في المنثور الذي تقدم، وإنما ذكرت هؤلاء لأنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 يمدحون ولا يرضون بالهجاء، وأما من لا يمدح فأحرى أن لا يهجو أحداً، على أن منهم من لم يقل قط إلا هجواً أو شبيهاً به: كيحيى بن نوفل، ذكره دعبل في طبقاته، ونجد له من أهل عصرنا نظراء عدة. باب في الشعراء والشعر طبقات الشعراء أربع: جاهلي قديم، ومخضرم، وهو الذي أدرك الجاهلية والإسلام، وإسلامي، ومحدث. ثم صار المحدثون طبقات: أولى وثانية على التدريج، وهكذا في الهبوط إلى وقتنا هذا، فليعلم المتأخر مقدار ما بقي له من الشعر فيتصفح مقدار من قبله لينظركم بين المخضرم والجاهلي، وبين الإسلامي والمخضرم، وأن المحدث الأول فضلاً عمن دونه دونهم في المنزلة، على أنه أغمض مسلكاً وأرق حاشية، فإذا رأى أنه ساقة الساقة تحفظ على نفسه، وعلم من أين يؤتى، ولم تغرره حلاوة لفظه، ولا رشاقة معناه، ففي الجاهلية والإسلام من ذهب بكل حلاوة ورشاقة، وسبق إلى كل طلاوة ولباقة. قال أبو الحسن الأخفش: يقال: ماء خضرم، إذا تناهى في الكثرة والسعة، فمنه سمي الرجل الذي شهد الجاهلية والإسلام مخضرماً، كأنه استوفى الأمرين، قال: ويقال: أذن مخضرمة، إذا كانت مقطوعة، فكأنه انقطع عن الجاهلية إلى الإسلام. وحكى ابن قتيبة عن عبد الرحمن عن عمه، قال: أسلم قوم في الجاهلية على إبل قطعوا آذانها، فسمي كل من أدرك الجاهلية والإسلام مخضرماً، وزعم أنه لا يكون مخضرماً حتى يكون إسلامه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقد أدركه كبيراً ولم يسلم، وهذا عندي خطأ؛ لأن النابغة الجعدي ولبيداً قد وقع عليهما هذا الاسم، وأما علي بن الحسين كراع فقد حكى: شاعر مخضرم بحاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 غير معجمة مأخوذ من الحضرمة، وهي الخلط؛ لأنه خلط الجاهلية بالإسلام. وأنشد بعض العلماء ولم يذكر قائله: الشعراء فاعلمن أربعه ... فشاعر لا يرتجى لمنفعه وشاعر ينشط وسط المجمعه ... وشاعر آخر لا يجري معه وشاعر يقال خمر في دعه وهكذا رويتها عن أبي محمد عبد العزيز بن أبي سهل رحمه الله، وبعض الناس يرويها على خلاف هذا. وقد قيل: لا يزال المرء مستوراً وفي مندوحة ما لم يصنع شعراً أو يؤلف كتاباً؛ لأن شعره ترجمان علمه، وتأليفه عنوان عقله. وقال الجاخظ: من صنع شعراً أو وضع كتاباً فقد استهدف؛ فإن أحسن فقد استعطف، وإن أساء فقد استقذف. قال حسان بن ثابت، وما أدراك ما هو؟: وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته: صدقا وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على المجالس إن كيساً وإن حمقا وقال محمد بن مناذر وكان إماماً: لا تقل شعراً ولا تهمم به ... وإذا ما قلت شعراً فأجد وقال شيطان الشعراء دعبل بن علي: سأقضي ببيت يحمد الناس أمره ... ويكثر من أهل الروايات حامله يموت ردي الشعر من قبل أهله ... وجيده يبقى وإن مات قائله وقالوا: الشعراء أربعة: شاعر حنذيذ، وهو الذي يجمع إلى جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره، وسئل رؤبة عن الفحولة، قال: هم الرواة؛ وشاعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 مفلق، وهو الذي لا رواية له إلا أنه مجود كالخنذيذ في شعره؛ وشاعر فقط، وهو فوق الرديء بدرجة؛ وشعرور، وهو لا شيء. قال بعض الشعراء لآخر هجاه: يا رابع الشعراء كيف هجوتني ... وزعمت أني مفحم لا أنطق وقيل: بل هم شاعر مفلق، وشاعر مطلق، وشويعر، وشعرور، والمفلق: هو الذي يأتي في شعره بالفلق، وهو العجب، وقيل: الفلق الداهية قال الأصمعي: فالشويعر مثل محمد بن حمران بن أبي حمران، سماه بذلك امرؤ القيس، ومثل عبد العزى المعروف بالشويعر، وهو الذي يقول: فنلت به ثأري، وأدركت ثورتي ... إذا ما تناسى ذحله كل غيهب وهو الضعيف عن طلب ثأره، وروى بالغين معجمة وبالعين غير معجمة. قال الجاحظ: والشويعر أيضاً صفوان بن عبد ياليل من بني سعد بن ليث، وقيل: اسمه ربيعة بن عثمان، وهو القائل: وأفلتنا أبو ليلى طفيل ... صحيح الجلد من أثر السلاح وقال بعضهم: شاعر، وشويعر، وشعرور. وقال العبدي في شاعر يدعى المفوف من بني ضبة ثم من بني حميس: ألا تنهى سراة بني خميسٍ ... شويعرها فويلية الأفاعي فسماه شويعراً، وفالية الأفاعي: دويبة فوق الخنفساء، فصغرها أيضاً تحقيراً له وزعم الحاتمي أن النابغة سئل: من أشعر الناس؟ فقال: من استجيد جيده، وأضحك رديئه، وهذا كلام يستحيل مثله عن النابغة؛ لأنه إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أضحك رديئه كان من سفلة الشعراء، إلا أن يكون ذلك في الهجاء خاصة، وقال الحطيئة: الشعر صعب وطويل سلمه ... والشعر لا يسطيعه من يظلمه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه ... زلت به إلى الحضيض قدمه يريد أن يعربه فيعجمه وإنما سمي الشاعر شاعراً؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة قيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر؛ كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن، وليس بفضل عندي مع التقصير.. ولقي رجل آخر فقال له: إن الشعراء ثلاثة: شاعر، وشويعر، وماص بظر أمه، فأيهم أنت؟ قال: أما أنا فشويعر، واختصم أنت وامرؤ القيس في الباقي. وقال بعضهم: الشعر شعران: جيد محكك، ورديء مضحك، ولا شيء أثقل من الشعر الوسط والغناء الوسط. وقد قال ابن الرومي يهجو ابن طيفور: عدمتك يا ابن أبي الطاهر ... وأطعمت ثكلك من شاعر فما أنت سخن ولا بارد ... وما بين ذين سوى الفاتر وأنت كذاك تغثي النفو ... س تغثية الفاتر الخاثر وقد يجوز أن يكون النابغة أشار فيما حكى عنه الحاتمي من الرديء المضحك إلى هذا النحو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وقيل: عمل الشعر على الحاذق به أشد من نقل الصخر، ويقال: إن الشعر كالبحر أهون ما يكون على الجاهل أهول ما يكون على العالم، وأتعب أصحابه قلباً من عرفه حق معرفته، وأهل صناعة الشعر أبصر به من العلماء بآلته من نحو وغريب ومثل وخبر وما أشبه ذلك ولو كان دونهم بدرجات، وكيف إن قاربوهم أو كانوا منهم بسبب؟ وقد كان أبو عمرو بن العلاء وأصحابه لا يجرون مع خلف الأحمر في حلبة هذه الصناعة أعني النقد ولا يشقون له غباراً، لنفاذه فيها؛ وحذقه بها، وإجادته لها وقد يميز الشعر من لا يقوله، كالبزاز يميز من الثياب ما لم ينسجه، والصيرفي يخبر من الدنانير ما لم يسبكه ولا ضربه، حتى أنه ليعرف مقدار ما فيه من الغش وغيره فينقص قيمته. وحكى أن رجلاً قال لخلف الأحمر: ما أبالي إذا سمعت شعراً استحسنته ما قلت أنت وأصحابك فيه!! فقال له: إذا أخذت درهماً تستحسنه وقال لك الصيرفي إنه رديء هل ينفعك استحسانك إياه؟. وقيل للمفضل الضبي: لم لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ قال: علمي به هو الذي يمنعني من قوله، وأنشد: وقد يقرض الشعر البكي لسانه ... وتعيي القوافي المرء وهو لبيب والشعر مزلة العقول، وذلك أن أحداً ما صنعه قط فكتمه ولو كان رديئاً، وإنما ذلك لسروره به، وإكباره إياه، وهذه زيادة في فضل الشعر، وتنبيه على قدره وحسن موقعه من كل نفس. وقال الأصمعي على تقدمه في الرواية وميزة بالشعر: أبى الشعر إلا أن يفيء رديه ... علي، ويأبى منه ما كان محكما فيا ليتني إذ لم أجد حوك وشيه ... ولم أكُ من فرسانه كنت مفحما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وقال عبد الكريم: الشعر أربعة أصناف: فشعر هو خير كله، وذلك ما كان في باب الزهد، والمواعظ الحسنة، والمثل العائد على من تمثل به بالخير، وما أشبه ذلك؛ وشعر هو ظرف كله، وذلك القول في الأوصاف، والنعوت والتشبيه، وما يفتن به من المعاني والآداب؛ وشعر هو شر كله، وذلك الهجاء، وما تسرع به الشاعر إلى أعراض الناس؛ وشعر يتكسب به، وذلك أن يحمل إلى كل سوق ما ينفق فيها، ويخاطب كل إنسان من حيث هو، ويأتي إليه من جهة فهمه. وذكر الجمحي في الشعراء المقاحم والثنيان قال: والمقحم: الذي يقتحم سناً إلى أخرى، وليس بالبازل ولا المستحكم، وأنشد لأوس بن حجر: وقد رام بحري قبل ذلك طامياً ... من الشعراء كل عود ومقحم قال: والثنيان: الواهن العاجز، وأنشد لأوس بن مغراء: ترى ثنانا إذا ما جاء بدأهم ... بدؤهم إن أتانا كان ثنيانا قال غيره: الثنيان: الذي ليس بالرئيس، بل هو دونه، وأنشدوا لنابغة بني ذبيان يخاطب يزيد بن الصعق: يصد الشاعر الثنيان عني ... صدود البكر عن قرم هجان قال الجمحي: وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات: منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، منها ما تثقفه اليد منها ما يثقفه اللسان، من ذلك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره، ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم لا تعرف جودتهما بلون ولا مس ولا طراوة ولا دنس ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف بهرجها وزائفها وستوقها ومفرغها، ومنه البصر بأنواع المتاع وضروبه وصنوفه مع تشابه لونه ومسه وذرعه واختلاف بلاده حتى يرد كل صنف منها إلى بلده الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 خرج منه، وكذلك بصر الرقيق فتوصف الجارية فيقال: ناصعة اللون، جيدة الشطب، نقية الثغر، حسنة العين والأنف، جيدة النهدين، ظريفة اللسان، واردة الشعر، فتكون بهذه الصفة بمائة دينار وبمائتي دينار، وتكون أخرى بألف دينار وألفي دينار؛ ولكن لا يجد واصفها مزيداً على هذه الصفة؛ وتوصف الدابة فيقال: خفيف العنان، لين الظهر، جيد الحافر، فتي السن، نقي من العيوب؛ فيكون بخمسين ديناراً أو نحوها، وتكون أخرى بمائتي دينار وأكثر، تكون هذه صفتها، ويقال للرجل والمرأة في القراءة والغناء: إنه لندي الحلق، حسن الصوت، طويل النفس، مصيب اللحن، ويوصف الآخر والأخرى بهذه الصفة وبينهما بون بعيد، يعرف ذلك أهل العلم به عند المعاينة والاستماع، بلا صفة ينتهي إليها ولا علم يوقف عليه، وإن كثرت المدارسة للشيء لتعين على العلم به، وكذلك الشعر يعرفه أهل العلم به. وسمعت بعض الحذاق يقول: ليس للجودة في الشعر صفة، إنما هو شيء يقع في النفس عند المميز: كالفرند في السيف، والملاحة في الوجه، وهذا راجع إلى قول الجمحي، بل هو بعينه، وإنما فيه فضل الاختصار. باب حد الشعر وبنيته الشعر يقوم بعد النية من أربعة أشياء، وهي: اللفظ، والوزن، والمعنى، والقافية، فهذا هو حد الشعر؛ لأن من الكلام موزوناً مقفى وليس بشعر؛ لعدم القصد والنية، كأشياء اتزنت من القرآن، ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وغير ذلك مما لم يطلق عليه أنه شعر، والمتزن: ما عرض على الوزن فقبله، فكأن الفعل صار له، ولهذه العلة سمي ما جرى هذا المجرى من الأفعال فعل مطاوعة، هذا هو الصحيح، وعند طائفة من أصحاب الجدل أن المنفعل والمفتعل لا فاعل لهما، نحو: شويت اللحم فهو منشوٍ ومشتوٍ، وبنيت الحائط فهو منبنٍ، ووزنت الدينار فهو متزن، وهذا محال لا يصح مثله في العقول، وهو يؤدي إلى ما لا حاجة لنا به، ومعاذ الله أن يكون مراد القوم في ذلك إلا المجاز والاتساع، وإلا فليس هذا مما يغلط فيه من رق ذهنه وصفا خاطره، وإنما جئت بهذا الفصل احتجاجاً على من زعم أن المتزن غير داخل في الموزون، وإذا لم يعرض المتزن على الوزن فيوجد موزوناً فمن أين يعلم أنه متزن؟ وكيف يقع عليه هذا الاسم؟ وقال بعض العلماء بهذا الشأن: بني الشعر على أربعة أركان، وهي: المدح، والهجاء، والنسيب، والرثاء. وقالوا: قواعد الشعر أربعة: الرغبة، والرهبة، والطرب، والغضب: فمع الرغبة يكون المدح والشكر، ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف، ومع الطرب يكون الشوق ورقة النسيب، ومع الغضب يكون الهجاء والتوعد والعتاب الموجع. وقال الرماني علي بن عيسى: أكثر ما تجري عليه أغراض الشعر خمسة: النسيب، والمدح، والهجاء، والفخر، والوصف، ويدخل التشبيه والاستعارة في باب الوصف. وقال عبد الملك بن مروان لأرطأة بن سهية: أتقول الشعر اليوم؟ فقال: والله ما أطرب، ولا أغضب، ولا أشرب، ولا أرغب، وإنما يجيء الشعر عند إحداهن. قال أبو علي البصير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 مدحت الأمير الفتح أطلب عرفه ... وهل يستزاد قائل وهو راغب فأفنى فنون الشعر وهي كثيرة ... وما فنيت آثاره والمناقب فجعل الرغبة غاية لا مزيد عليها. وقال عبد الكريم: يجمع أصناف الشعر أربعة: المديح، والهجاء، والحكمة، واللهو، ثم يتفرغ من كل صنف من ذلك فنون؛ فيكون من المديح المرائي والافتخار والشكر، ويكون من الهجاء الذم والعتاب والاستبطاء، ويكون من الحكمة الأمثال والتزهيد والمواعظ، ويكون من اللهو الغزل والطرد وصفة الخمر والمخمور. وقال قوم: الشعر كله نوعان: مدح، وهجاء؛ فإلى المدح يرجع الرثاء، والافتخار، والتشبيب، وما تعلق بذلك من محمود الوصف: كصفات الطلول والآثار، والتشبيهات الحسان، وكذلك تحسين الأخلاق: كالأمثال، والحكم، والمواعظ، والزهد في الدنيا، والقناعة، والهجاء ضد ذلك كله، غير أن العتاب حال بين حالين؛ فهو طرف لكل واحد منهما، وكذلك الإغراء ليس بمدح ولا هجاء؛ لأنك لا تغرى بإنسان فتقول: إنه حقير ولا ذليل، إلا كان عليك وعلى المغري الدرك، ولا تقصد أيضاً بمدحه الثناء عليه فيكون ذلك على وجهه. والبيت من الشعر كالبيت من الأبنية: قراره الطبع، وسمكه الرواية، ودعائمه العلم، وبابه الدربة، وساكنه المعنى، ولا خير في بيت غير مسكون، وصارت الأعاريض والقوافي كالموازين والأمثلة للأبنية، أو كالأواخي والأوتاد للأخبية، فأما ما سوى ذلك من محاسن الشعر فإنما هو زينة مستأنفة ولو لم تكن لاستغنى عنها. قال القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني صاحب كتاب الوساطة: الشعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه؛ فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز، وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان. وقال: ولست أفضل في هذه القضية بين القديم والمحدث، والجاهلي والمخضرم، والأعرابي والمولد، إلا أني أرى حاجة المحدث إلى الرواية أمس، وأجده إلى كثرة الحفظ أفقر، فإذا استكشفت عن هذه الحال وجدت سببها والعلة فيها أن المطبوع الذكي لا يمكنه تناول ألفاظ العربي إلا رواية، ولا طريق إلى الرواية إلا السمع، وملاك السمع الحفظ. قال دعبل في كتابه: من أراد المديح فبالرغبة، ومن أراد الهجاء فبالبغضاء، ومن أراد التشبيب فبالشوق والعشق، ومن أراد المعاتبة فبالاستبطاء؛ فقسم الشعر كما ترى هذه الأقسام الأربعة، وكان الرثاء عنده من باب المدح على ما قدمت، إلا أنه جعل العتاب بدلاً منه. وقال غير واحد من العلماء: الشعر ما اشتمل على المثل السائر، والاستعارة الرائعة، والتشبيه الواقع، وما سوى ذلك فإنما لقائله فضل الوزن. وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: قلت لأعرابي: من أشعر الناس؟ قال: الذي إذا قال أسرع، وإذا أسرع أبدع، وإذا تكلم أسمع، وإذا مدح رفع، وإذا هجا وضع. وسئل بعض أهل الأدب: من أشعر الناس؟ فقال: من أكرهك شعره على هجو ذويك ومدح أعاديك، يريد الذي تستحسنه فتحفظ منه ما فيه عليك وصمة، وخلاف للشهوة، وهذا ذوب قول أبي الطيب: وأسمع من ألفاظه اللغة التي ... يلذ بها سمعي ولو ضمنت شتمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أخذه من قول أبي تمام: فإن أنا لم يمدحك عني صاغراً ... عدوك فاعلم أنني غير حامد أتبعه البحتري في ذلك فقال: ليواصلنك ركب شعري سائراً ... يرويه فيك لحسنه الأعداء وقال عبد الصمد بن المعذل: الشعر كله في ثلاث لفظات، وليس كل إنسان يحسن تأليفها: فإذا مدحت قلت أنت، وإذا هجوت قلت لست، وإذا رثيت قلت كنت. وقال بعض النقاد: أصغر الشعر الرثاء؛ لأنه لا يعمل رغبة ولا رهبة. قال ابن قتيبة: قال أحمد بن يوسف الكاتب لأبي يعقوب الخريمي: أنت في مدائحك لمحمد بن منصور كاتب البرامكة أشعر منك في مراثيك له، فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن نعمل اليوم على الوفاء. قال صاحب الكتاب: ومن هذا المنثور والله أعلم سرق البصير بيته المتقدم في الفتح بن خاقان. وقيل لبعضهم: ما أحسن الشعر؟ فقال: ما أعطى القياد، وبلغ المراد. وقال أبو عبد الله وزير المهدي: خير الشعر ما فهمته العامة، ورضيته الخاصة. وسمعت بعض الشيوخ يقول: قال الحذاق: لو كانت البلاغة في التطويل ما سبق إليها أبو نواس والبحتري. وقال بعض الحذاق من المتعقبين: أشعر الناس من تخلص في مدح امرأة ورثائها. وقال ابن المعتز: قيل لمعتوه: ما أحسن الشعر؟ قال: ما لم يحجبه عن القلب شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 باب في اللفظ والمعنى اللفظ جسم، وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم: يضعف بضعفه، ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر وهجنة عليه، كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح، وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر حظ، كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح، ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ، وجريه فيه على غير الواجب، قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح، فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه، وإن كان حسن الطلاوة في السمع، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأي العين، إلا أنه لا ينتفع به ولا يفيد فائدة، وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتلاشى لم يصح له معنى؛ لأنا لا نجد روحاً في غير جسم البتة. ثم للناس فيما بعد آراء ومذاهب: منهم من يؤثر اللفظ على المعنى فيجعله غايته ووكده، وهم فرق: قوم يذهبون إلى فخامة الكلام وجزالته، على مذهب العرب من غير تصنع، كقول بشار: إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة ... ذرى منبر صلى علينا وسلما وهذا النوع أدل على القوة، وأشبه بما وقع فيه من موضع الافتخار، وكذلك ما مدح به الملوك يجب أن يكون من هذا النحت. وفرقة أصحاب جلبة وقعقعة بلا طائل معنى إلا القليل النادر: كأبي القاسم بن هانئ ومن جرى مجراه؛ فإنه يقول أول مذهبته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أصاخت فقالت: وقع أجرد شيظم ... وشامت فقالت: لمع أبيض مخذم وما ذعرت إلا لجرس حليها ... ولا رمقت إلا برى في مخدم وليس تحت هذا كله إلا الفساد، وخلاف المراد، ما الذي يفيدنا أن تكون هذه المنسوب بها ليست حليها فتوهمته بعد الإصاخة والرمق وقع فرس أو لمع سيف؟ غير أنها مغزوة في دارها، أو جاهلة بما حملته من زينتها، ولم يخف عنا مراده أنها كانت تترقبه!! فما هذا كله؟ وكانت عند أبي القاسم مع طبعه صنعة، فإذا أخذ في الحلاوة والرقة، وعمل بطبعه وعلى سجيته؛ أشبه الناس، ودخل في جملة الفضلاء؛ وإذا تكلف الفخامة، وسلك طريق الصنعة أضر بنفسه، وأتعب سامع شعره. ويقع له من الكلام المصنوع والمطبوع في الأحايين أشياء جيدة، كقوله في المطبوع يصف شجعاناً: لا يأكل السرحان شلو عقيرهم ... مما عليه من القنا المتكسر العقير ههنا منهم، أي: لم يمت لشجاعته حتى تحطم عليه من الرماح ما لا يصل معه الذئب إليه كثرة، ولو كان العقير هو الذي عقروه هم لكان البيت هجواً؛ لأنه كان يصفهم بالضعف والتكاثر على واحد. وقوله في المصنوع: وجنيتم ثمر الوقائع يانعاً ... بالنضر من ورق الحديد الأخضر فهذا كله جيد وبديع، وقد زاد فيه على قول البحتري: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 حملت حمائله القديمة بقلةً ... من عهد عاد غضة لم تذبل ويروى: من عهد تبع ومنهم من ذهب إلى سهولة اللفظ فعني بها، واغتفر له فيها الركاكة واللين المفرط: كأبي العتاهية، وعباس بن الأحنف، ومن تابعهما، وهم يرون الغاية قول أبي العتاهية: يا إخوتي إن الهوى قاتلي ... فيسروا الأكفان من عاجل ولا تلوموا في اتباع الهوى ... فإنني في شغل شاغل عيني على عتبة منهلة ... بدمعها المنسكب السائل يا من رأى قبلي قتيلاً بكى ... من شدة الوجد على القاتل بسطت كفي نحوكم سائلاً ... ماذا تردون على السائل؟ إن لم تنيلوه فقولوا له ... قولاً جميلاً بدل النائل أو كنتم العام على عسرة ... منه فمنوه إلى قابل وقد ذكر أن أبا العتاهية وأبا نواس والحسين بن الضحاك الخليع اجتمعوا يوماً، فقال أبو نواس: لينشد كل واحد قصيدة لنفسه في مراده من غير مدح ولا هجاء، فأنشد أبو العتاهية هذه القصيدة، فسلما له وامتنعا من الإنشاد بعده، وقالا له: أما مع سهولة هذه الألفاظ، وملاحة هذا القصد، وحسن هذه الإشارات؛ فلا ننشد شيئاً، وذلك في بابه من الغزل جيد أيضاً لا يفضله غيره. ومنهم من يؤثر المعنى على اللفظ فيطلب صحته، ولا يبالي حيث وقع من هجنة اللفظ وقبحه وخشونته: كابن الرومي، وأبي الطيب، ومن شاكلهما: هؤلاء المطبوعون، فأما المتصنعون فسيرد عليك ذكرهم إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وأكثر الناس على تفضيل اللفظ على المعنى، سمعت بعض الحذاق يقول: قال العلماء: اللفظ أغلى من المعنى ثمناً، وأعظم قيمة، وأعز مطلباً؛ فإن المعاني موجودة في طباع الناس، يستوي الجاهل فيها والحاذق، ولكن العمل على جودة الألفاظ، وحسن السبك، وصحة التأليف، ألا ترى أن رجلاً أراد في المدح تشبيه رجل لما أخطأ أن يشبهه في الجود بالغيث والبحر، وفي الإقدام بالأسد، وفي المضاء بالسيف، وفي العزم بالسيل، وفي الحسن بالشمس فإن لم يحسن تركيب هذه المعاني في أحسن حلاها من اللفظ الجيد الجامع للرقة والجزالة والعذوبة والطلاوة والسهولة لم يكن للمعنى قدر. وبعضهم وأظنه ابنوكيع مثل المعنى بالصورة، واللفظ بالكسوة؛ فإن لم تقابل الصورة الحسناء بما يشاكلها ويليق بها من اللباس فقد بخست حقها، وتضاءلت في عين مبصرها. وقال عبد الكريم وكان يؤثر اللفظ على المعنى كثيراً في شعره وتآليفه: الكلام الجزل أغنى عن المعاني اللطيفة من المعاني اللطيفة عن الكلام الجزل، وإنما حكاه ونقله نقلاً عمن روى عنه النحاس. ومن كلام عبد الكريم: قال بعض الحذاق: المعنى مثال، واللفظ حذو، والحذو يتبع المثال؛ فيتغير بتغيره، ويثبت بثباته. ومنه قول العباس بن حسن العلوي في صفة بليغ: معانيه قوالب لألفاظه، هكذا حكى عبد الكريم، وهو الذي يقتضيه شرط كلامه، ثم خالف في موضع آخر فقال: ألفاظه قوالب لمعانيه، وقوافيه معدة لمبانيه، والسجع يشهد بهذه الرواية الأخرى، وهي أعرف. والقالب يكون وعاء كالذي تفرغ فيه الأواني، ويعمل به اللبن والآجر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وقد يكون قدراً للوعاء كالذي يقام به اللوالك، وتصلح عليه الأخفاف، ويكون مثالاً كالذي تحذى عليه النعال، وتفصل عليه القلانس، فلهذا احتمل القالب أن يكون لفظاً مرة ومعنى مرة. وللشعراء ألفاظ معروفة، وأمثلة مألوفة، لا ينبغي للشاعر أن يعدوها، ولا أن يستعمل غيرها، كما أن الكتاب اصطلحوا على ألفاظ بأعيانها سموها الكتابية لا يتجاوزونها إلى سواها، إلا أن يريد شاعر أن يتظرف باستعمال لفظ أعجمي فيستعمله في الندرة، وعلى سبيل الخطرة، كما فعل الأعشى قديماً، وأبو نواس حديثاً، فلا بأس بذلك، والفلسفة وجر الأخبار باب آخر غير الشعر؛ فإن وقع فيه شيء منهما فبقدر، ولا يجب أن يجعلا نصب العين فيكونا متكئاً واستراحة، وإنما الشعر ما أطرب، وهز النفوس، وحرك الطباع، فهذا هو باب الشعر الذي وضع له، وبنى عليه، لا ما سواه. ومن ملح الكلام على اللفظ والمعنى ما حكاه أبو منصور عبد الملك بن إسماعيل الثعالبي، قال: البليغ من يحوك الكلام على حسب الأماني، ويخيط الألفاظ على قدود المعاني. وقال غيره: الألفاظ في الأسماع كالصور في الأبصار. وقال أبو عبادة البحتري: وكأنها والسمع معقود بها ... وجه الحبيب بدا لعين محبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 باب في المطبوع والمصنوع ومن الشعر مطبوع ومصنوع، فالمطبوع هو الأصل الذي وضع أولاً، وعليه المدار. والمصنوع وإن وقع عليه هذا الاسم فليس متكلفاً تكلف أشعار المولدين، لكن وقع فيه هذا النوع الذي سموه صنعة من غير قصد ولا تعمل، لكن بطباع القوم عفواً، فاستحسنوه ومالوا إليه بعض الميل، بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره، حتى صنع زهير الحوليات على وجه التنقيح والتثقيف: يصنع القصيدة ثم يكرر نظره فيها خوفاً من التعقب بعد أن يكون قد فرغ من عملها في ساعة أو ليلة، وربما رصد أوقات نشاطه فتباطأ عمله لذلك، والعرب لا تنظر في أعطاف شعرها بأن تجنس أو تطابق أو تقابل، فتترك لفظة للفظة، أو معنى لمعنى، كما يفعل المحدثون، ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجزالته، وبسط المعنى وإبرازه، وإتقان بنية الشعر، وإحكام عقد القوافي وتلاحم الكلام بعضه ببعض حتى عدوا من فضل صنعة الحطيئة حسن نسقه الكلام بعضه على بعض في قوله: فلا وأبيك ما ظلمت قريع ... بأن يبنوا المكارم حيث شاءوا ولا وأبيك ما ظلمت قريع ... ولا برموا لذاك ولا أساءوا بعثرة جارهم أن ينعشوها ... فيغبر حوله نعم وشاء فيبنى مجدهم ويقيم فيها ... ويمشي إن أريد به المشاء وإن الجار مثل الضيف يغدو ... لوجهته وإن طال الثواء وإني قد علقت بحبل قوم ... أعانهم على الحسب الثراء وكذلك قول أبي ذؤيب يصف حمر الوحش والصائد: فوردن والعيوق مقعد رابئ ال ... ضرباء خلف النجم لا يتتلع فكرعن في حجرات عذاب بارد ... حصب البطاح تغيب فيه الأكرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 فشربن ثم سمعن حساً دونه ... شرف الحجاب، وريب قرع يقرع فنكرنه فنفرن فامترست به ... هوجاء هادية وهادٍ جرشع فرمى فأنفذ من نحوص عائط ... سهماً فخر وريشه متصمع فبدا له أقراب هادٍ رائغاً ... عنه فعيث في الكنانة يرجع فرمى فألحق صاعدياً مطحراً ... بالكشح فاشتملت عليه الأضلع فأبدهن حتوفهن فهارب ... بدمائه أو بارك متجعجع فأنت ترى هذا النسق بالفاء كيف اطرد له، ولم ينحل عقده، ولا اختل بناؤه، ولولا ثقافة الشاعر ومراعاته إياه لما تمكن له هذا التمكن. واستطرفوا ما جاء من الصنعة نحو البيت والبيتين في القصيدة بين القصائد، يستدل بذلك على جودة شعر الرجل، وصدق حسه، وصفاء خاطره؛ فأما إذا كثر ذلك فهو عيب يشهد بخلاف الطبع، وإيثار الكلفة، وليس يتجه البتة أن يتأتى من الشاعر قصيدة كلها أو أكثرها متصنع من غير قصد؛ كالذي يأتي من أشعار حبيب والبحتري وغيرهما. وقد كانا يطلبان الصنعة ويولعان بها: فأما حبيب فيذهب إلى حزونة اللفظ، وما يملأ الأسماع منه، مع التصنيع المحكم طوعاً وكرهاً، يأتي للأشياء من بعد، ويطلبها بكلفة، ويأخذها بقوة. وأما البحتري فكان أملح صنعة، وأحسن مذهباً في الكلام، يسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ، لا يظهر عليه كلفة ولا مشقة. وما أعلم شاعراً أكمل ولا أعجب تصنيعاً من عبد الله بن المعتز؛ فإن صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر، وهو عندي ألطف أصحابه شعراً، وأكثرهم بديعاً وافتتاناً، وأقربهم قوافي وأوزاناً، ولا أرى وراءه غاية لطالبها في هذا الباب، غير أنا لا نجد المبتدئ في طلب التصنيع ومزاولة الكلام أكثر انتفاعاً منه بمطالعة شعر حبيب وشعر مسلم بن الوليد؛ لما فيهما من الفضيلة لمبتغيها، ولأنهما طرقا إلى الصنعة ومعرفتها طريقاً سابلة، وأكثرا منها في أشعارهما تكثيراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 سهلها عند الناس، وجسرهم عليها. على أن مسلماً أسهل شعراً من حبيب، وأقل تكلفاً، وهو أول من تكلف البديع من المولدين، وأخذ نفسه بالصنعة، وأكثر منها. ولم يكن في الأشعار المحدثة قبل مسلم صريع الغواني إلا النبذ اليسيرة، وهو زهير المولدين: كان يبطئ في صنعته ويجيدها. وقالوا: أول من فتق البديع من المحدثين بشار بن برد، وابن هرمة، وهو ساقة العرب وآخر من يستشهد بشعره. ثم أتبعهما مقتدياً بهما كلثوم بن عمرو العتابي، ومنصور النمري، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس. واتبع هؤلاء حبيب الطائي، والوليد البحتري، وعبد الله بن المعتز؛ فانتهى علم البديع والصنعة إليه، وختم به. وشبه قوم أبا نواس بالنابغة لما اجتمع له من الجزالة مع الرشاقة، وحسن الديباجة، والمعرفة بمدح الملوك. وأما بشار فقد شبهوه بامرئ القيس؛ لتقدمه على المولدين وأخذهم عنه، ومن كلامهم: بشار أبو المحدثين. وسمعت أبا عبد الله غير مرة يقول: إنما سمي الأعشى صناجة العرب لأنه أول من ذكر الصنج في شعره. قال: ويقال: بل سمي صناجة لقوة طبعه، وحلية شعره، يخيل لك إذا أنشدته أن آخر ينشد معك. ومثله من المولدين بشار بن برد، تنشد أقصر شعره عروضاً وألينه كلاماً فتجد له في نفسك هزة وجلبة من قوة الطبع؛ وقد أشبهه تصرفاً وضرباً في الشعر وكثرة عروض مدحاً وهجاء وافتخاراً وتطويلاً. انقضى كلام أبي عبد الله ورجعنا إلى القول في الطبع والتصنيع. ولسنا ندفع أن البيت إذا وقع مطبوعاً في غاية الجودة ثم وقع في معناه بيت مصنوع في نهاية الحسن لن تؤثر فيه الكلفة ولا ظهر عليه التعمل كان المصنوع أفضلهما، وإلا أنه إذا توالى ذلك وكثر لم يجز البتة أن يكون طبعاً واتفاقاً؛ إذ ليس ذلك في طباع البشر. وسبيل الحاذق بهذه الصناعة إذا غلب عليه حب التصنيع أن يترك للطبع مجالاً يتسع فيه، وقيل: إذا كان الشاعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 مصنعاً بان جيده من سائر شعره: كأبي تمام؛ فصار محصوراً معروفاً بأعيانه، وإذا كان الطبع غالباً عليه لم يبن جيده كل البينونة، وكان قريباً من قريب: كالبحتري ومن شاكله. وقد نص ابن الرومي في بعض تسطيراته على محمد بن أبي حكيم الشاعر حين عاب عليه قوله في الفرس من قصيدة رثى بها عبد الله بن طاهر: فله شهامة سودنيق باكر ... وحوافر حفر ورأس صنتع وذكر قول حبيب: بحوافر حفر وصلب صلب فحفل به، واعتذر له، وخرج التخاريج الحسان، وذكر أن الحافر المقعب ونحوهما أشرف في اللفظ من الحافر الأحفر، إلا أن الطائي عنده كان يطلب المعنى ولا يبالي باللفظ، حتى لو تم له المعنى بلفظة نبطية لأتى بها، والذي أراه أن ابن الرومي أبصر بحبيب وغيره منا، وأن التسليم له والرجوع إليه أحزم، غير أنني لو شئت أن أقول ولست راداً عليه، ولا معترضاً بين يديه إن المعنى الذي أراده وأشار إليه من جهة الطائي إنما هو معنى الصنعة كالتطبيق والتجنيس وما أشبههما، لا معنى الكلام الذي هو روحه، وإن اللفظ الذي ذكر أنه لا يبالي به إنما هو فصيح الكلام ومستعمله، ويدلك على صحة ما ادعيته على ابن الرومي قوله " إن الحافر الوأب والمقعب أشرف في اللفظ من الحافر الأحفر "؛ فكلامه راجع إلى ما قلته في الطائي، غير مخالف له، وإن كان في الظاهر على خلافه؛ لينساغ ذلك، إلا أن أكثر الناس على ما قال، وإنما هذا معرض للكلام، لا مخالفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وقال الجاحظ: كما لا ينبغي أن يكون اللفظ عامياً، ولا ساقطاً سوقياً؛ فكذلك لا ينبغي أن يكون وحشياً، إلا أن يكون المتكلم به بدوياً أعرابياً؛ فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقي رطانة السوقي. قال: وأنشد رجل قوماً شعراً فاستغربوه، فقال: والله ما هو بغريب، ولكنكم في الأدب غرباء. وعن غيره: أن رجلاً قال للطائي في مجلس حفل وأراد تبكيته لما أنشد: يا أبا تمام، لم لا تقول من الشعر ما يفهم؟ فقال له: وأنت لم لا تفهم من الشعر ما يقال؟ ففضحه. ويروى أن هذه الحكاية كانت مع أبي العميثل وصاحبين له خاطباه فأجابهما. وقال بعض من نظر بين أبي تمام وأبي الطيب: إنما حبيب كالقاضي العدل: يضع اللفظة موضعها، ويعطي المعنى حقه، بعد طول النظر والبحث عن البينة، أو كالفقيه الورع: يتحرى في كلامه ويتحرج خوفاً على دينه. وأبو الطيب كالملك الجبار: يأخذ ما حوله قهراً وعنوة، أو كالشجاع الجريء: يهجم على ما يريده لا يبالي ما لقي، ولا حيث وقع. وكان الأصمعي يقول: زهير والنابغة من عبيد الشعر، يريد أنهما يتكلفان إصلاحه ويشغلان به حواسهما وخواطرهما. ومن أصحابهما في التنقيح وفي التثقيف والتحكيك طفيل الغنوي. وقد قيل: إن زهيراً روى له، وكان يسمى محبراً لحسن شعره. ومنهم الحطيئة، والنمر بن تولب، وكان يسميه أبو عمرو بن العلاء الكيس. وكان بعض الحذاق بالكلام يقول: قل من الشعر ما يخدمك، ولا تقل منه ما تخدمه، وهذا هو معنى قول الأصمعي، وسأحلي هذا الباب من كلام السيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 أبي الحسن بحلية تكون له زينة فائقة، وأختمه بخاتمة تكسوه حلة رائقة؛ لأوفى بذلك بعض ما ضمنت، وأقضى به حق ما شرطت، إن شاء الله. فمن ذلك قوله بتاهرت سنة خمس وأربعمائة يتشوق إلى أهله: ولي كبد مكلومة من فراقكم ... أطامنها صبراً على ما أجنت تمنتكم شوقاً إليكم وصبوةً ... عسى الله أن يدني لها ما تمنت وعين جفاها النوم واعتارها البكى ... إذا عن ذكر القيروان استهلت فلو أن أعرابياً تذكر نجداً فحن به إلى الوطن، أو تشوق فيه إلى بعض السكن؛ ما حسبته يزيد على ما أتى به هذا المولد الحضري المتأخر العصر، وما انحط بهذا التمييز في هواي، ولا أتنفق بهذا القول عند مولاي، ولا الخديعة مما تظن به، ولا فيه، ولكن رأيت وجه الحق فعرفته، والحق لا يتلثم، وما هو في بلاغته وإيجازه إلا كما قال الأحيمر السعدي في وصيته: من القول ما يكفي المصيب قليله ... ومنه الذي لا يكتفي الدهر قائله يصد عن المعنى فيترك مانحاً ... ويذهب في التقصير منه يطاوله فلا تك مكثاراً تزيد على الذي ... عنيت به في خطب أمر تزاوله باب في الأوزان الوزن أعظم أركان حد الشعر، وأولاها به خصوصية، وهو مشتمل على القافية وجالب لها ضرورة، إلا أن تختلف القوافي فيكون ذلك عيباً في التقفية لا في الوزن، وقد لا يكون عيباً نحو المخمسات وما شاكلها. والمطبوع مستغن بطبعه عن معرفة الأوزان، وأسمائها، وعللها؛ لنبو ذوقاً عن المزاحف منها والمستكره. والضعيف الطبع محتاج إلى معرفة شيء من ذلك يعينه على ما يحاوله من هذا الشأن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وللناس في ذلك كتب مشهورة، وتواليف مفردة، وبينهم فيه اختلاف، وليس كتابي هذا بمحتمل شرح ذلك، ولا هو من شرطه؛ فراراً من التكرار والتطويل، ولكني أذكر نتفاً يحتاج إليها، ويكتفي بها من نظر من المتعلمين في هذا الكتاب، إن شاء الله. فأول من ألف الأوزان وجمع الأعاريض والضروب الخليل بن أحمد فوضع فيها كتاباً سماه العروض استخفافاً، والعروض: آخر جزء من القسم الأول من البيت، وهي مؤنثة، وتثنى وتجمع، إلا أن يكون لهذا الجنس من العلم، والضرب: آخر جزء من البيت من أي وزن كان. ثم ألف الناس بعده، واختلفوا على مقادير استنباطاتهم، حتى وصل الأمر إلى أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، فبين الأشياء وأوضحها في اختصار، وإلى مذهبه يذهب حذاق أهل الوقت، وأرباب الصناعة: فأول ما خالف فيه أن جعل الخليل الأجزاء التي يوزن بها الشعر ثمانية: منها اثنان خماسيان، وهما: فعولن، وفاعلن، وستة سباعية، وهي: مفاعيلن، وفاعلاتن، ومستفعلن، ومفاعلتن، ومتفاعلن، ومفعولات، فنقص الجوهري منها جزء مفعولات، وأقام الدليل على أنه منقول من " مستفع لن " مفروق الوتد، أي: مقدم النون على اللام؛ لأنه زعم أنه لو كان جزءاً صحيحاً لتركب من مفرده بحر كما تركب من سائر الأجزاء. يريد أنه ليس في الأوزان وزن انفرد به مفعولات، ولا تكرر في قسم منه، وعد الخليل أجناس الأوزان فجعلها خمسة عشر جنساً، على أنه لم يذكر المتدارك، وهي عنده: الطويل، والمديد، والبسيط، في دائرة؛ دائرة ثم الوافر والكامل في دائرة: ثم الهزج، والرجز، والرمل، في دائرة؛ ثم السريع، والمنسرح، والخفيف، والمضارع، والمقتضب، والمجتث، في دائرة. ثم المتقارب وحده في دائرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاج اختلاف الناس في ألقاب الشعر؛ فحكى عن الخليل شيئاً أخذت به اختصاراً وتقليداً؛ لأنه أول من وضع علم العروض وفتحه للناس، وغادرت ما سوى ذلك من قول أبي إسحاق الزجاج وغيره لا على أن فيه تقصيراً. ذكر الزجاج أن ابن دريد أخبره عن أبي حاتم عن الأخفش قال: سألت الخليل بعد أن عمل كتاب العروض: لم سميت الطويل طويلاً؟ قال: لأنه طال بتمام أجزائه، قلت: فالبسيط؟ قال: لأنه انبسط عن مدى الطويل وجاء وسطه فعلن وآخره فعلن، قلت: فالمديد؟ قال: لتمدد سباعيه حول خماسيه، قلت: فالوافر؟ قال: لوفور أجزائه وتداً بوتدٍ، قلت: فالكامل؟ قال: لأن فيه ثلاثين حركة لم تجتمع في غيره من الشعر، قلت: فالهزج؟ قال: لأنه يضطرب؛ شبه بهزج الصوت، قلت: فالرجز؟ قال: لاضطرابه كاضطراب قوائم الناقة عند القيام، قلت: فالرمل؟ قال: لأنه شبه برمل الحصير لضم بعضه إلى بعض، قلت: فالسريع؟ قال: لأنه يسرع على اللسان، قلت: فالمنسرح؟ قال: لانسراحه وسهولته، قلت: فالخفيف؟ قال: لأنه أخف السباعيات، قلت: فالمقتضب؟ قال: لأنه اقتضب من السريع، قلت: فالمضارع؟ قال: لأنه ضارع المقتضب، قلت: فالمجتث؟ قال: لأنه اجتث، أي: قطع من طويل دائرته، قلت: فالمتقارب؟ قال: لتقارب أجزائه؛ لأنها خماسية كلها يشبه بعضها بعضاً. وجعل الجوهري هذه الأجناس اثني عشر باباً، على أن فيها المتدارك: سبعة منها مفردات، وخمسة مركبات، قال: فأولها المتقارب، ثم الهزج، والطويل بينهما مركب منهما، ثم بعد الهزج الرمل، والمضارع بينهما، ثم بعد الرمل الرجز، والخفيف بينهما، ثم بعد الرجز المتدارك، والبسيط بينهما، ثم بعد المتدارك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 المديد، مركب منه ومن الرمل، قال: ثم الوافر والكامل، لم يتركب بينهما بحر لما فيهما من الفاصلة. وزعم أن الخليل إنما أراد بكثرة الألقاب الشرح والتقريب، قال: وإلا فالسريع هو من البسيط، والمنسرح والمقتضب من الرجز، والمجتث من الخفيف؛ لأن كل بيت مركب من مستفعلن فهو عنده من الرجز طال أو قصر، وكل بيت ركب من مستفعلن فاعلن فهو من البسيط طال أو قصر، وعلى هذا القياس سائر المفردات والمركبات عنده. والمتدارك الذي ذكره الجوهري مقلوب من دائرة المتقارب، وذلك أن فعولن يخلفه فاعلن ويخبن فيصير فعلن، وشعر عمرو الجني منه، وهو الذي يسميه الناس اليوم الخبب. وليس بين العلماء اختلاف في تقطيع الأجزاء، وأنه يراعى فيه اللفظ دون الخط؛ فيقابل الساكن بالساكن، والمتحرك بالمتحرك، ويظهر حرف التضعيف، وتسقط ألف الوصل ولام التعريف إذا لم تظهر في درج الكلام، وتثبت النون بدلاً من التنوين، ويعد الوصل والخروج حرفين، وهذا هو الأصل المحقق؛ لأن الأوزان إنما وقعت على الكلام، والكلام لا محالة قبل الخط؛ لأن الألف صورة هوائية لا مستقر لها، ولأن المضاعف يجعل حرفاً واحداً، ولأن التنوين شكل خفي، وليس في جميع الأوزان ساكنان في حشو بيت إلا في عروض المتقارب؛ فإن الجوهري أنشد، وأنشده المبرد قبله: ورمنا القصاص وكان التقاص ... فرضاً وحتماً على المسلمين قال الجوهري: كأنه نوى الوقوف على الجزء، وإلا فالجمع بين ساكنين لم يسمع به في حشو بيت. قال صاحب الكتاب: إلا أن سيبويه قد أنشد: كأنه بعد كلال الزاجر ... ومسحه مر عقاب كاسر بإسكان الحاء وإدغامها في الهاء والسين قبلها ساكنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وجميع أجزاء الشعر تتألف من ثلاثة أشياء: سبب، ووتد، وفاصلة؛ فالسبب نوعان: خفيف، وهو متحرك بعده ساكن، نحو: ما، وهل، وبل، ومن، وثقيل، وهو متحركان، نحو: لم، وبم، إذا سألت، وقد أنكره بعض المحدثين: والوتد أيضاً نوعان: مجموع، وهو متحركان بعدهما ساكن، نحو: رمى، وسعى، ومفروق، وهو ساكن بين متحركين، نحو: قال، وباع. والفاصلة فاصلتان: صغرى، وهي ثلاث متحركات بعدها ساكن، نحو: بلغت، وما أشبه ذلك، وكبرى، وهي أربع متحركات بعدها ساكن، نحو: بلغني، وبلغنا، وما أشبه ذلك، وهي تأتي في جزء من الشعر بعينه، وهو: فعلتن، ولا تأتي البتة بإجماع من الناس بين جزءين فتكون حرفين متحركين في آخر جزء ومثلهما في أول جزء آخر يليه، ولا يجتمع في الشعر خمس متحركات البتة. ومن الناس من جعل الشعر كله من الأوتاد والأسباب خاصة يركب بعضهما على بعض فتتركب الفواصل منهما، وبعض المتعقبين وأظنه الملقب بالحمار يسمي الفاصلتين وتداً ثلاثياً، ووتداً رباعياً، والسبب عنده نوعان: منفصل نحو من، ومتصل نحو لمن؛ فاللام عنده وحدها سبب متصل، والميم والنون سبب هو منفصل لما كان لحركة الميم نهاية وهي النون الساكنة، ولو كانت متحركة لم تكن نهاية. وأما الزحاف فهو ما يلحق أي جزء كان من الأجزاء السبعة التي جعلت موازين الشعر من نقص أو زيادة أو تقديم حرف أو تأخيره أو تسكينه، ولا يكاد يسلم منه شعر. ومن الزحاف ما هو أخف من التمام وأحسن، كالذي يستحسن في الجارية من التفاف البدن واعتدال القامة، مثال ذلك مفاعيلن في عروض الطويل التام تصير مفاعلن في جميع أبياته، وهذا هو القبض، وكل ما ذهب خامسه الساكن فهو مقبوض. وفاعلن في عروض البسيط التام وضربه يصير فعلن، وذلك هو الخبن، وكل ما ذهب ثانيه الساكن فهو مخبون. ومفاعلتن في عروض الوافر التام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وضربه حذفوا منه التاء والنون وأسكنوا اللام فصار مفاعل، فخلفه فعولن، وهذا هو القطف، وليس في الشعر مقطوف غيره. ويخف على المطبوع أبداً أن يجعل مكان مستفعلن في الخفيف مفاعلن يظهر له أحسن. ومنه أعني الزحاف ما يستحسن قليله دون كثيره، كالقبل اليسير والفلج واللثغ مثال ذلك قول خالد بن زهير الهذلي لخاله أبي ذؤيب: لعلك إما أم عمرو تبدلت ... سواك خليلاً شاتمي تستحيرها فنقص ساكناً بعد كاف سواك؛ وهو نون فعولن، وهذا هو القبض، ومن رواه " خليلاً سواك " قبض الياء من مفاعيلن، وهو أشد قليلاً. ومنه يحتمل على كره، كالفدع والوكع والكزم في بعض الحسان، ومثاله في الشعر كثير وكفاك قول امرئ القيس بن حجر: وتعرف فيه من أبيه شمائلاً ... ومن خاله، ومن يزيد، ومن حجر سماحة ذا، وبر ذا، ووفاء ذا، ... ونائل ذا: إذا صحا، وإذا سكر فهذا أجمع العلماء بالشعر أنه ما عمل في معناه مثله، إلا أنه على ما تراه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الزحاف المستكره، حكى ذلك أبو عبيدة. ومنه قبيح مردود لا تقبل النفس عليه، كقبح الخلق واختلاف الأعضاء في الناس وسوء التركيب، مثله قصيدة عبيد المشهورة: أقفر من أهله ملحوب. فإنها كادت تكون كلاماً غير موزون بعلة ولا غيرها، حتى قال بعض الناس: إنها خطبة ارتجلها فاتزن له أكثرها. وقال الأصمعي: الزحاف في الشعر كالرخصة في الفقه، لا يقدم عليها إلا فقيه. وينبغي للشاعر أن يركب مستعمل الأعاريض ووطيئها، وأن يستحلى الضروب ويأتي بألطفها موقعاً، وأخفها مستمعاً، وأن يجتنب عويصها ومستكرهها؛ فإن العويص مما يشغله، ويمسك من عنانه، ويوهن قواه، ويفت في عضده، ويخرجه عن مقصده. وقد يأتون بالخرم كثيراً وهو ذهاب أول حركة من وتد الجزء الأول من البيت وأكثر ما يقع في البيت الأول، وقد يقع قليلاً في أول عجز البيت، ولا يكون أبداً إلا في وتد، وقد أنكره الخليل لقلته فلم يجزه، وأجازه الناس، أنشده الجوهري: قدمت رجلاً فإن لم تزع ... قدمت الأخرى فنلت القرار وأنشد أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري لامرئ القيس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 لقد أنكرتني بعلبك وأهلها ... وابن جريح كان في حمص أنكرا هكذا روايته، ورواه غيره ولا بن جريح بغير خرم. فإذا اجتمع الخرم والقبض على الجزء فذلك هو الثرم، وهو قبيح. وهذان عيبان تدلك التسمية فيهما على قبحهما؛ لأن الخرم في الأنف، والثرم في الفم، وإنما كانت العرب تأتي به لأن أحدهم يتكلم بالكلام على أنه غير شعر، ثم يرى فيه رأياً فيصرفه إلى جهة الشعر؛ فمن ههنا احتمل لهم وقبح على غيرهم. ألا ترى أن بعض كتاب عبد الله بن طاهر عاب ذلك على أبي تمام في قوله: هن عوادي يوسف وصواحبه. على أنه أولى الناس بمذاهب العرب. ويأتون بالخزم بزاي معجمة وهو ضد الخزم بالراء غير المعجمة، الناقص منهما ناقص نقطة، والزائد زائد نقطة وليس الخزم عندهم بعيب؛ لأن أحدهم إنما يأتي بالحرف زائداً في أول الوزن، إذا سقط لم يفسد المعنى، ولا أخل به ولا بالوزن، وربما جاء بالحرفين والثلاثة، ولم يأتوا بأكثر من أربعة أحرف، أنشدوا عن علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى ورضي عنه: اشدد حياز يمك للموت ... فإن الموت لاقيكا ولا تجزع من الموت ... إذا حل بواديكا فزاد " اشدد " بياناً للمعنى لأنه هو المراد. قال كعب بن مالك الأنصاري يرثي عثمان بن عفان رضي الله عنه: لقد عجبت لقوم أسلموا بعد عزهم ... إمامهم للمنكرات وللغدر فزاد " لقد " على الوزن، هكذا أنشدوه. وأنشد الزجاج وزعم أصحاب الحديث أن الجن قالته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 نحن قتلنا سيد الخزر ... ج سعد بن عباده رميناه بسهمين ... فلم نخط فؤاده فزاد على الوزن " نحن " وأنشد الزجاج أيضاً: بل لم تجزعوا يا آل حرب مجزعاً. فزاد " بل " وأنشد أيضاً: يا مطر بن خارجة بن مسلم إنني ... أجفى وتغلق دوني الأبواب وإنما الوزن " مطر بن خارجة " والياء والألف زائدة.. ومما جاء فيه الخزم في أول عجز البيت وأول صدره، وهو شاذ جداً، قول طرفة: هل تذكرون إذ نقاتلكم ... إذ لا يضر معدماً عدمه فزاد في أول صدر البيت " هل " وزاد في أول العجز " إذ " والبيت من قصيدته المشهورة: أشجاك الربع أم قدمه ... أم رماد دارس حممه وقال جريبة بن الأشيم أنشده أبو حاتم عن أبي زيد الأنصاري: لقد طال إيضاعي المخدم لا أرى ... في الناس مثلي من معد يخطب حتى تأوبت البيوت عشية ... فوضعت عنه كوره تتثاءب فاللام في " لقد " زائدة، وصاحب هذا الشعر جاهلي قديم، وقالت الخنساء: أقذىً بعينك أم بالعين عوار ... أم أوحشت إذ خلت من أهلها الدار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فزادت ألف الاستفهام، ولو أسقطتها لم يضر المعنى ولا الوزن شيئاً، وروى أن أبا الحسن بن كيسان كان ينشد قول امرئ القيس: كأن ثبيراً في عرانين وبله. فما بعد ذلك بالواو فيقول: وكأن ذرى رأس المجيمر غدوة. وكأن السباع فيه غرقى عشية. معطوفاً هكذا؛ ليكون الكلام نسقاً بعضه على بعض وقال عبد الكريم بن إبراهيم: مذهبهم في الخزم أنه إذا كان البيت يتعلق بما بعده وصلوه بتلك الزيادة بحروف العطف التي تعطف الاسم على الاسم والفعل على الفعل والجملة على الجملة، وأخذ الخزم من خزامة الناقة، ومن شأنهم مد الصوت فجعلوه عوضاً من الخزم الذي يحذفونه من أول البيت. وقد قال غيره: إنما أسقطوه كأنهم يتوهمون أنه في السكتة؛ فلذلك جعلوه في الوتد المجموع؛ لأن المفروق لو أسقطوا حركته الأولى لبقي أوله ساكناً، ولا يبتدأ بالساكن، فيسقط أيضاً، والسكتة لا تحتمل عندهم إلا حرفاً واحداً؛ وهذا اعتلال مليح بين جداً. ومن التزحيف في الأوساط الإفعاد، وهو أن تذهب مثلاً نون متفاعلن أو مستفعلن في عروض الضرب الثاني من الكامل، وتسكن اللام، فيصير عروضه كضربه فعلاتن أو مفعولن، كما قال الشاعر، وهذا هو القطع عند أصحاب القوافي: أفبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجو النساء عواقب الأطهار فجاء هذا على معنى التصريع وليس به؛ فهو عيب، وأقبح منه قول الآخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 إني كبرت وإن كل كبير ... مما يضن به علي ويقتر لأنه أتى بالعروض دون الضرب بحرف، لا لتوهم تصريع ولا إشكال، وإنما نذكر مثل هذا ليجتنب إذا عرف قبحه. وجاء منه في الطويل قول النابغة الذبياني: جزى الله عبساً عبس آل بغيض ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل أنشده النحاس. قول ضباب بن سبيع بن عوف الحنظلي: لعمري لقد بر الضباب بنوه ... وبعض البنين حمة وسعال هكذا روايته بالحاء غير معجمة، وهو الصحيح، وبعضهم يرويه غمة بالغين معجمة. وزعم الجمحي أن الإقعاد لا يجوز لمولد، وقد أتى به البحتري في عروض الخفيف فقال يهجو شاعراً: ليس ينفك هاجياً مضروباً ... ألف حد ومادحاً مصفوعاً قياساً على قول الحارث بن حلزة اليشكري: أسد في اللقاء ذو أشبال ... وربيع إن شنعت غبراء وابن قتيبة يسمى هذا الزحاف إقواء، وسأذكره في أبواب القوافي إن شاء الله تعالى. ومن مهمات الزحاف أربعة أشياء: ابتداء، وهو ما كان في أول البيت مما لا يجوز مثله في الحشو: كالثلم في الطويل، والعصب الوافر، والخرم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الهزج؛ وفصل، وهو ما كان ملتزماً في نصف البيت الذي يسمى عروضاً، مثل مفاعلن في عروض الطويل، وفعلن في عروض المديد، وما جرى مجراهما، هذا هو الحقيقة، وأما ما كان من جهة التوسع والمجاز ومعنى التقريب فقد مر ذكرهما آنفاً؛ واعتماد، وهو ما كان من الزحاف الجائز في الحشو ولا مثل الجزء الذي قبل الضرب، كقول امرئ القيس: أعنى على برق أراه وميض ... يضيء حبياً في شماريخ بيص فأثبت ياء شماريخ وهي مكان النون من فعولن، وكان الأجود أن يسقطها بالقبض؛ لمكان الاعتماد؛ لأن السبب قد اعتمد على وتدين: أحدهما قبله، والآخر بعده، فقوى قوة ليست لغيره من الأسباب، فحسن الزحاف فيه، والاعتماد في المتقارب سلامة الجزء من الزحاف؛ وغاية، وهو ما كان في الضرب الذي هو جزء القافية ملتزماً مخالفاً للحشو: كالمقطوع والمقصور والمكسوف، والمقطوف، وهذه أشياء لا تكون في حشو البيت.. قالوا: وأكثر الغايات معتل؛ لأن الغاية إذا كانت فاعلاتن أو فعولن أو مفاعيلن فقد لزمها أن لا تحذف سواكن أسبابها؛ لأن آخر البيت لا يكون متحركاً، هذه حقيقة ما ذكر، وأما المجاز والاتساع فكثير ... ويتصل بالغايات أنواع أخر: فمن ذلك معرفة ما يلزمه حرف المد واللين الذي هو الردف مما لا يلزمه ذلك؛ أجمع حذاق أهل العلم من البصريين والكوفيين على أن كل وزن نقص من أتم بنائه حرف متحرك عوض حرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 المد واللين من ذلك الحرف فلم يجيء إلا مردفاً بواو أو ياء أو ألف. ولا يحتسب في ذلك بما يقع للزحاف، مثل مفعولن في الخفيف. ألا ترى أنه يعاقب فاعلاتن؟ فهو لا يوجب الردف، فإن ذهب منه أكثر من حرف متحرك أو ما يقوم مقامه، وهو حرف ساكن مع حرف آخر متحرك؛ لم يلزمه الردف، وإذا التقى ساكنان ألزموه الردف: فما سقط فألزم حرف المد فعولن المحذوف في الطويل، لم يعتدوا بالنون لما يدركها من الزحاف فكأنما ذهبت اللام فقط، ومن المديد فاعلاتن المقصور، ومن البسيط فعلن المقطوع. والفرق بين القطع والقصر أن القصر في الأسباب والقطع في الأوتاد، وهما جميعاً ذهاب ساكن من آخر الجزء وحركة متحرك قبله ملاصقة. والردف إنما يكون عوضاً مما بعده لا مما قبله. ومن الكامل فعلات المقطوع، ومن الرجز مفعولن المقطوع، ومن الرمل فاعلاتن المقصور، ومن المتقارب فعولن المقصور. ومما التقى فيه ساكنان وألزموه الردف مستفعلان المذال في البسيط، وفيه اختلاف: أما من ألزمه الردف فلالتقاء الساكنين، أقاموا المد منهما مقام الحركة؛ وأما من لم يلزمه الردف فلآنه قد تم وزيد على تمامه. والإرداف إنما يأتي عوضاً من النقصان لا من الزيادة. وفي الكامل متفاعلان المذال، وفي الرجز شاذ، أنشده أبو زهرة النحوي في كتاب العروض، وهو: كأنني فوق أقب سهوقٍ ... جأبٍ إذا عشر صاتي الإرنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وفي الرمل فاعلاتن وحدها، والقول فيها كالقول في مستفعلان المذال في البسيط، وفاعلات في السريع، وهو مذيل من البسيط عند الجوهري؛ فإما على ما عند من سواه فهو موقوف من مفعولات مطوية أي ساقطة الواو ومفعولات في مشطور السريع أيضاً، وفي منهوك المنسرح يلزمها حرف اللين؛ فعلى هذا إجماع الحذاق، إلا سيبويه فإنه رخص فيه لموافقة الوزن مردفاً وغير مردف، وأنشد قول امرئ القيس: ولقد رحلت العيس ثم زجرتها ... وهناً وقلت: عليك خير معد وقول الراجز: إن تمنع اليوم نساء يمنعن. بإسكان العين والنون. وكان الجرمي والأخفش يريان هذا غلطاً من قائله، كالسناد والإكفاء، يحكى ولا يعمل به، إلا أن أبا نواس في قوله: لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند. أخذ يقول سيبويه، وهو قليل، والقياس الأول حسن مطرد، وهو المختار. ومن أهم أمور الغايات معرفة ما ينشد الشعر مطلقاً ومقيداً. قال أبو القاسم الزجاجي وغيره من أصحاب القوافي: الشعر ثلاثة وستون ضرباً، لا يجوز إطلاق مقيد منه إلا انكسر الشعر، ما خلا ثلاثة أضرب: أحدهما في الكامل: أبني لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير وهذا هو الضرب السابع يسمى مذالاً، وإن شئت قلت: ولا الكبيرا فأطلقته وهو الضرب السادس منه يسمى المرفل، والضرب الثاني في الرمل وهو قول زيد الخيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 يا بني الصيداء ردوا فرسي ... إنما يفعل هذا بالذليل وهو الضرب الثاني منه، فإن أطلقته صار أول ضرب منه، والضرب الثالث في المتقارب، أنشد الأصمعي وأبو عبيدة: كأني ورحلي إذا زعتها ... على جمزي جازي بالرمال غير أن سيبويه أنشد فيما يجوز تقييده وإطلاقه: صفية قومي ولا تعجزي ... وبكى النساء على حمزة وهو من المتقارب: إن أطلق كان محذوفاً، وإن قيد كان أبتر. وقد أنشد أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري لعمرو بن شاس، قال: والشعر مقيد وما بيضة بات الظليم يحفها ... إلى جؤجؤ جاف بميثاء محلال بأحسن منها يوم بطن قراقر ... تخوض به بطن القطاة وقد سال لطيفة طي الكشح مضمرة الحشا ... هضيم العناق هونة غير مجبال تميل على مثل الكثيب كأنها ... نقاً كلما حركت جانبه مال هذا شيء لم يذكره العروضيون، وهو عندهم مطلق محمول على الإقواء، كما حمل قول امرئ القيس: أحنظل لو حاميتم وصبرتم ... لأثنيت خيراً صالحاً ولأرضان ثياب بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم عند المشاهد غران عوير ومن مثل العوير ورهطه ... وأسعد في ليل البلابل صفوان فقد أصبحوا والله أصفاهم به ... أبر بأيمان وأوفى بجيران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 إلا الأخفش والجرمي؛ فإنهما يرويان هذا الشعر موقوفاً، ولا يريان فيه إقواء، وهذا عند سيبويه لا بأس به. وقد صوب الناس قول الخليل في مخالفة هذا المذهب، وأنشد بعض المتعقبين أظنه البازي العروضي: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود بالتقييد على أنه من الضرب المحذوف المعتمد، قال: إلا أنه يدخله عيب لترك حرف اللين، وهو كثير جداً. وليس الابتداء والفصل والاعتماد والغاية بعلل، ولكنها مواضع العلل؛ فأقيم المضاف إليه مقام المضاف. وأما زحاف الحشو فمن أهمه معرفة المعاقبة والمراقبة: فأما المعاقبة فهي أن يتقابل سببان في جزءين، فهما يتعاقبان السقوط: يسقط ساكن أحدهما لثبوت ساكن الآخر، ويثبتان جميعاً، ولا يسقطان جميعاً، والمعاقبة بين سببي جزءين من جميع الأوزان في أربعة أنواع: المديد، والرمل، والخفيف، والمجتث، وهو عند الجوهري ضرب من الخفيف، فإذا كان السبب في أول البيت أو كان قبله وتد دخله الزحاف فهو بريء من المعاقبة؛ إذ ليس قبله ما يعاقبه، ولأن الوتد لا يعاقب السبب، فإذا زوحف ثاني الجزء لمعاقبة ما بعده فهو عجز، فإن زوحف أوله لمعاقبة ما قبله وآخره لمعاقبة ما بعده فهما طرفان، وياء مفاعيلن في الطويل والهزج يعاقب نونها، وكذلك سين مستفعلن في الكامل تعاقب فاءها. والمراقبة: أن يتقابل السببان في جزء واحد فيسقط ساكن أحدهما، ولا يسقطان جميعاً البتة، وكذلك لا يثبتان جميعاً، وهي من جميع الأوزان في المضارع والمقتضب، والجوهري يعد المقتضب من الرجز كما قدمت، فهي من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 المضارع في سببي مفاعيلن أعني الياء والنون إما أن يأتي مفاعيلن مقبوضاً أو مفاعيلن مكفوفاً، ومن المقتضب في سببي مفعولات أعني الفاء والواو إما أن تخبن فتصير مفاعيل وإما أن تطوى فتصير فاعلات، ولا يجوز أن يكون هذا ولا الذي قبله أعني المضارع سالماً البتة. والفرق بين المراقبة والمعاقبة أن سببي المعاقبة يثبتان معاً، وأن سببي المراقبة لا يثبتان معاً، وأن المعاقبة في جزءين، إلا ما كان من مفاعيلن في الطويل والهزج ومستفعلن في الكامل وأن المراقبة في جزء واحد. وسأفرد لباقي الزحاف باباً أذكره فيه مع المشطور إن شاء الله تعالى. ولست أحمل أحداً على ارتكاب الزحاف إلا ما خف منه وخفي، ولو أن الخليل رحمه الله وضع كتاب العروض ليتكلف الناس ما فيه من الزحاف ويجعله مثالاً دون أن يعلموا أنها رخصة أتت بها العرب عند الضرورة لوجب أن يتكلف ما صنعه من الشعر مزاحفاً ليدل بذلك على علمه وفضل ما نحا إليه. ولسنا نرى الزحاف الظاهر في شعر محدث، إلا القليل لمن لا يتهم كالبحتري، وما أظنه كان يتعمد ذلك، بل على سجيته؛ لأنه كان بدوياً من قرى منبج، ولذلك أعجب الناس به، وكثر الغناء في شعره؛ استطرافاً لما فيه من الحلاوة على طبع البداوة. وذكر ابن الجراح أنه من أهل قنسرين والعواصم. وقد ذكرت ما يليق ذكره بهذا الموضع ليعرفه المتعلم إن شاء غير متكلف به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 شعراً إلا ما ساعده عليه الطبع، وصح له فيه الذوق؛ ولأني وجدت تكلف العمل بالعلم في كل أمر من أمور الدين أوفق، إلا في الشعر خاصة؛ فإن عمله بالطبع دون العروض أجود؛ لما في العروض من المسامحة في الزحاف، وهو مما يهجن الشعر، ويذهب برونقه. باب القوافي القافية شريكة الوزن في الاختصاص بالشعر، ولا يسمى شعراً حتى يكون له وزن وقافية، هذا على رأي من رأى أن الشعر ما جاوز بيتاً واتفقت أوزانه وقوافيه ويستدل بأن المصرع أدخل في الشعر، وأقوى من غيره، وأما ما قد أراه فقد قدمته في باب الأوزان. واختلف الناس في القافية ما هي؟ فقال الخليل: القافية من آخر حرف في البيت إلى أول ساكن يليه من قبله، مع حركة الحرف الذي قبل الساكن، والقافية على هذا المذهب، وهو الصحيح تكون مرة بعض كلمة، ومرة كلمة، ومرة كلمتين، كقول امرئ القيس: كجلمود صخر حطه السيل من عل. فالقافية من الياء التي بعد حرف الروي في اللفظ إلى نون من مع حركة الميم، وهاتان كلمتان. وعلى وزن هذه القافية قوله: إذا جاش فيه حميه غلي مرجل. فالقافية " مرجل " وهي كلمة، وعلى وزنها قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ويلوى بأثواب العنيف المثقل. فالقافية من الثاء إلى آخر البيت، وهذا بعض كلمة. وتابعه على هذا أبو عمر الجرمي وأصحابه، وهو قول مضبوط، محقق يشهد بالعلم. وقال الأخفش: القافية آخر كلمة من البيت، واستدل على صحة ذلك بأنه لو قال لك إنسان: اكتب لي قوافي قصيدة لكتبت له كلمات، نحو: كتاب، ولعاب، وركاب، وصحاب، وما أشبه ذلك، وهو المتعارف بين الناس اليوم، أعني قول الأخفش، وكل كلمة من قوله " عل " وقوله " مرجل " وقوله " المثقل " في شعر امرئ القيس قافية بذاتها عند الأخفش، فعلى هذين القولين مدار الحذاق في معرفة القافية. ورأي الخليل عندي أصوب، وميزانه أرجح؛ لأن الأخفش إن كان إنما فر من جعله القافية بعض الكلمة دون بعضها فقد نجد من القوافي ما يكون فيها حرف الروي وحده القافية على رأيه، فإن وزن معه ما قبله فأقامهما مقام كلمة من الكلمات التي عدها قوافي كان قد شرك في القافية بعض كلمة أخرى مما قبلها، فإذا جاز أن يشترك في القافية كلمتان لم يمتنع أن تكون القافية بعض كلمة، مثال ذلك ما شاكل قول أبي الطيب: طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً ... شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي فالقافية في البيت الأول على قوله " الكذب " لولا أن الألف فيه ألف وصل نابت عنها لام " إلى " فإن قال: إن القافية في البيت الثاني " يشرق بي " رجع ضرورة إلى مذهب الخليل وأصحابه؛ لأن القافية عند في هذا البيت من الياء التي للوصل وهي ههنا ضمير المتكلم إلى شين " يشرق " مع حركة الياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 التي قبلها في أول الكلمة. وإن جعل القافية باء الخفض التي في موضع الروي وياء الضمير التي قامت مقام الوصل رجع إلى قول من جعل القافية حرف الروي وهو خلاف مذهبه، وليس بشيء؛ لأنه لو كان صحيحاً لجاز في قصيدة واحدةٍ فجر، وفجار، وفاجر، وفجور، ومنفجر، وانفجار، ومفجر، ومتفجر، ومفجور، وهذا لا يكون أبداً، إلا أن الفراء يحيى بن زياد قد نص في كتاب حروف المعجم أن القافية هي حرف الروي، واتبعه على ذلك أكثر الكوفيين: منهم أحمد بن كيسان، وغيره، وخالفه من أهل الكوفة أبو موسى الحامض، فقال: القافية ما لزم الشاعر تكراره في آخر كل بيت. وهذا كلام مختصر مليح الظاهر، إلا أنه إذا تأملته كلام الخليل بعينه لا زيادة فيه ولا نقصان. ومن الناس من جعل القافية آخر جزء من البيت: قال أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي: بعض الناس من العلماء يرى أن القافية حرفان من آخر البيت، وحكى أنهم سألوا أعرابياً وقد أنشد: بنات وطاء على خد الليل. ما القافية؟ فقال: " خد الليل ". ولا أدري كيف قال أبو القاسم هذا؟ لأن " خد الليل " كلمتان وليستا حرفين إلا اتساعاً، وهذا هو آخر جزء من البيت على قول من قاله، ولو قال قائل: إن الأعرابي إنما أراد الياء واللام من الليل على مذهب من يرى القافية حرفين من آخر البيت لكان وجهاً سائغاً؛ لأن الأعرابي لا يعرف حروف التهجي فيقول القافية الياء واللام من الليل فكرر اللفظ ليفهم عنه السائل مراده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ومنهم من جعل القافية في الجزء الآخر من البيت، وقال: لا يسمى بيتاً من الشعر ما دام قسيماً أول. ومنهم من قال: البيت كله هو القافية؛ لأنك لا تبني بيتاً على أنه من الطويل، ثم تخرج منه إلى البسيط، ولا إلى غيره من الأوزان. ومنهم من جعل القافية القصيدة كلها؛ وذلك اتساع ومجاز. وسميت القافية قافية لأنها تقفو إثر كل بيت، وقال قوم: لأنها تقفو أخواتها، والأول عندي هو الوجه؛ لأنه لو صح معنى القول الأخير لم يجز أن يسمى آخر البيت الأول قافية؛ لأنه لم يقف شيئاً، وعلى أنه يقفو أثر البيت يصح جداً، وقال أبو موسى الحامض: هي قافية بمعنى مقفوة، مثل ماء دافق بمعنى مدفوق، وعيشة راضية بمعنى مرضية، فكأن الشاعر يقفوها، أي يتبعها، وهذا قول سائغ متجه. وسأذكر مما يلزم القافية من الحروف والحركات ما لا غنى عن ذكره في هذا الموضع مجملاً مختصر البيان والإيضاح، إن شاء الله تعالى. فأقول: إن الشعر كله مطلق ومقيد؛ فالمقيد ما كان حرف الروي فيه ساكناً، وحرف الروي الذي يقع عليه الإعراب، وتبنى عليه القصيدة، فيتكرر في كل بيت وإن لم يظهر فيه الإعراب لسكونه، وليس اختلاف إعرابه عيباً كما هو في المطلق إقواء، وحركة ما قبل الروي المقيد خاصة دون المطلق على رأي الزجاج وأصحابه توجيه، وقال غيره: في المطلق والمقيد جميعاً يسمى التوجيه، ما لم يكن الشعر مردفاً، ويجوز في التوجيه التغيير؛ فيكون سناداً عند بعض العلماء، وكان الخليل يجيزه على كره من جهة الفتحة، فأما الضمة والكسرة فهما عنده متعاقبتان كالواو والياء في الردف، والفتحة كالألف، وأنشدوا: أحار بن عمرو كأني خمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وفي القصيدة: وكندة حولي جميعاً صبر. وفيها: تحرقت الأرض واليوم قر. فاختلف التوجيه: بالكسر، والضم، والفتح. وقد سمى ابن قتيبة وأبو عبيدة وغيرهما هذا العيب إجازة، إلا أن منهم من جعل الإجازة اختلاف حركة الروي فيما كان وصله هاء ساكنة خاصة، وأنشدوا: الحمد لله الذي ... يعفو ويشتد انتقامه في كرههم ورضاهم ... لا يستطيعون اهتضامه وأنشد آخرون في مثل ذلك، إلا أن منهم من أطلق الهاء: فديت من أنصفني في الهوى ... حتى إذا أحكمه مله آمن ما كنت، ومن ذا الذي ... قبلي صفا العيش له كله؟ وكان ابن الرومي يلتزم حركة ما قبل الروي في المطلق والمقيد في أكثر شعره اقتداراً: صنع ذلك في قصيدته القافية في السوداء، وفي مطولته: أبين ضلوعي جمرة تتوقد؟. قال شيخنا أبو عبد الله: الإجازة بالزاي معجمة اختلاف حركات ما قبل الروي، وهو مأخوذ من إجازة الحبل، وهو: تراكب قواه بعضها على بعض، فكأن هذا اختلفت قوى حركاته. وقد حكى ابن قتيبة عن ابن الأعرابي مثل قول أبي عبد الله، وقال: هو مأخوذ من إجازة الحبل والوتر. والمطلق نوعان: أحدهما: ما تبع حرف رويه وصل فقط. والوصل أحد أربعة أحرف: الياء، والواو، والألف، والهاء، ينفرد كل واحد منها بالقصيدة حتى تكمل؛ فمما وصله ياء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل. فبعد اللام ياء في اللفظ، لا يقوم الوزن إلا بها، ومما وصله واو: أمن المنون وريبها تتوجع. فبعد العين في اللفظ واو كذلك، ومما وصله ألف: أيتها النفس أجملي جزعاً. فبعد العين ألف ثابتة في الخط، وإنما أثبتوها دون الياء والواو لخفتها مرة وكونها عوضاً عن التنوين مرة، ومما وصله هاء: أشجاك الربع أم قدمه. وكل وصل ساكن ما خلا الهاء، فإنها تكون ساكنة ومتحركة، وسيرد عليك ذكرها إن شاء الله تعالى.. وإذا كان ما قبل الواو والياء والهاء ساكناً أو كانت مضاعفة لم تكن إلا حروف روي لا غير؛ لأن الوصل لا يكون ما قبلها ساكناً، ولعله أن المقيد لا وصل له فأما الألف فلا يكون ما قبلها ساكناً لأنها أخف من ذلك؛ وإذا انفتح ما قبل الواو والياء الساكنتين لم يكونا إلا رويا عند سيبويه، وإذا انكسر ما قبلهما أو انضم كنت فيهما بالخيار، وكذلك الألف إذا كانت أصيلة أنت فيها بالخيار. وأما الياء المشددة المكسور ما قبلها مع الياء المشددة المفتوح ما قبلها فرأي القاضي أبي الفضل جعفر بن محمد فيهما أن يكون المكسور ما قبلها ردفاً ويكون المفتوح ما قبلها إما ردفاً لما بقي فيها من المد وإما غير ردف الذهاب أكثر المد منها؛ فتكون على المذهب الأول مثل " قضينا " مع رضينا وهذا سناد، وعلى المذهب الثاني مثل إرداف بيت وترك إرداف الآخر، كقول حسان بن ثابت ولا توصه في بيت، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 قال في الآخر: ولا تعصه وهذا أيضاً سناد. وله رأي ثالث، وهو أن تكون الياءان لما أدغمت إحداهما في الأخرى صارتا بمنزلة حرف واحد، وصار التزام التشديد اختياراً من الشاعر، وإلا فترك التشديد جائز له. وهذا قول الخليل والأخفش جميعاً، وقد أنكره الجرمي وأبو سعيد السيرافي، وكل هاء تحرك ما قبلها فهي صلة، إلا أن تكون من نفس الكلمة؛ فإنك تكون فيها بالخيار: إن شئت جعلتها روياً، وإن شئت سمحت بها فصيرتها صلة والتزمت ما قبلها فجعلته روياً. وكثيراً ما يسقط الشعراء في هذا النوع، قال أبو الطيب: أنا بالوشاة إذا ذكرتك أشبه ... تأتي الندى ويذاع عنك فتكره وإذا رأيتك دون عرض عارضاً ... أيقنت أن الله يبغي نصره فغلط في التصريع لأنه التزام فيه الهاء ولولا ذلك لكان البيتان رائيين وسمح بهاء تكره فصيرها صلة وإن كانت من نفس الكلمة. وقد وقع ابن المعتز في مثل حال أبي الطيب فقال: أفنى العداة إمام ماله شبه ... ولا ترى مثله يوماً ولم تره ضارٍ إذا انقض لم تحرم مخالبه ... مستوفز لاتباع الحق منتبه ما يحسن القطر أن ينهل عارضه ... كما تتابع أيام الفتوح له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وقال أيضاً يصف كلاب الصيد في أرجوزة: إن خرطت من قدها لم ترها ... إلا وما شاءت من الصيد لها تمسكه عضاً، ولا يدمى به ... غريزة منهن أو تفقها ووقع بشار بن برد على تقدمه عليهما في مثل ذلك، فقال: الله صورها وصيرها ... لاقتك أو لم تلقها ترها نصباً لعينيك لا ترى حسناً ... إلا ذكرت لها به شبها ولا أعلم أن أحداً من العلماء تسامح في مثل هذا، بل هو عندهم عيب كالإكفاء، وروى بيت بشار نزها بالنون والزاي، جمع نزهة، ولا عيب فيه على هذا. وهاء حمزة وطلحة لا تكون إلا صلة، وإذا تحركت هاء التأنيث كنت فيها بالخيار: إن شئت التزمت ما قبلها وجعلتها كالصلة مجازاً، وإن شئت التزمتها فكانت على حقها روياً. وهذا رأيهم في كاف المخاطب مع التأسيس: إذا شاءوا جعلوها روياً فلم يلتزم ما قبلها، وإن شاءوا جعلوها مقام الصلة والتزموا ما قبلها مجازاً، وهو الأجود؛ لاختيار الشعراء إياه قديماً على اتساعهم في تركه. قال القاضي أبو الفضل: من زعم أن التاء والكاف يكونان وصلاً فإنما حمله على ذلك أنه رأى بعض الشعراء قد لزم في بعض شعره حرفاً لم يفارقه فظن ذلك الحرف روياً. وإنما لم يجز عنده كونهما صلة لأنهما ليس فيهما من مضارعة حروف المد واللين ما في الهاء. وقال من جعل التاء صلة كالهاء: إنها تجيء للتأنيث مثلها، وتكون اسماً كما تكون الهاء اسماء وتزاد كما تزاد، وتزداد الهاء، وإن الهاء تنقلب تاء في درج الكلام، وشبه الكاف بالهاء لأنها حرف إضمار مثلها، وأنها تكون اسماً للمجرور والمنصوب كالهاء. والنوع الآخر من المطلق ما كان لوصله خروج، ولا يكون ذلك الوصل إلا هاء متحركة، نحو قول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه فالسين حرف الروي، وحركتها مجرى، وإن شئت إطلاق، كلاهما يقال، والهاء وصل، وحركتها نفاذ، وبعدها في اللفظ ياء هي الخروج، ولو كانت الهاء مضمومة كان الخروج واواً، أو مفتوحة كان الخروج ألفاً. ولا يكون حرف الروي إلا في أحد ثلاثة مواضع: إما متأخراً كقول طرفة: لخولة أطلال ببرقة ثهمد. فالدال روي، وإما قبل المتأخر ملاصقاً له كقول عمرو بن كلثوم: ألا هبي بصحنك فاصبحينا. فالنون حرف الروي، أو قبل المتأخر بحرف كقول لبيد: عفت الديار محلها فمقامها. فالميم حرف الروي، وهذه المواضع المذكورة إنما هي في اللفظ لا في الخط، ولا يكون حرف الروي إذا كان بعده شيء إلا متحركاً؛ لأن المقيد لا شيء بعده، وأنشد بعضهم: شلت يداً فارية فرتها. على أن التاء حرف روي، فرد ذلك العلماء بالعلة التي ذكرتها، وقالوا: إنما التزم التاء والراء قبلها اتساعاً، وإلا فالهاء هي الروي. وكل شعر فلا بد أن يكون: مطلقاً، أو مقيداً، ثم لا بد أن يكون مردفاً أو مؤسساً، أو معرى منهما مجرداً. فالمردف نوعان: تشترك الياء والواو في أحدهما، ثم قول علقمة الفحل: طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب فالياء في مشيب مقام الواو في طروب. وتنفرد الألف بالنوع الآخر نحو قول امرئ القيس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي. لا يشركها غيرها، والحركة التي قبل الردف ياء كانت أو واواً أو ألفاً تسمى الحذو، وقد تجر الضمة واواً في اللفظ، والكسرة ياء، وذلك مع هاء الضمير، فتكون ردفاً، وإن لم تثبت في الخط، نحو قول ابن المعتز: ضمخوا عارضها بال ... مسك في خد أسيل تحت صدغين يشيرا ... ن إلى وجه جميل عندي الشوق إليه ... والتناسي عنده لي ومن المردف ما تكون حركة الحذو فيه مخالفة للردف؛ فيجعل شعراً على جهته؛ فإن دخل مع غيره كان سناداً، وذلك مثل هول وسيل يكونان في قصيدة، ولا يكون معهما سول وفيل. وقياس المردف في الوصل والخروج وغير ذلك من حروف الروي وحركته جار على ما تقدم في المجرد من الردف، إلا الحذو والتوجيه؛ فإن المقيد يختص بالتوجيه، وهو الروي، والمردف يختص بالحذو، وهو حركة ما قبل الردف، وإن كان المردف مقيداً سقط التوجيه وبقي الحذو؛ لأن الردف قد سد موضع التوجيه. وقد يلتبس بالمردف ما ليس بمردف فيجتنبه الشعراء، مثل فيهم مع منهم وهو جائز؛ لأن الهاء ليست روياً فتكون الياء ردفاً، وإنما الروي الميم، ويجتنبون منكم مع منهم وذلك جائز لا عيب فيه؛ لما قدمت آنفاً وكان ابن الرومي خاصة من بين الشعراء يلتزم ما لا يلزمه في القافية، حتى أنه لا يعاقب بين الواو والياء في أكثر شعره قدرة على الشعر واتساعاً فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 والأجود أن يكون الردف والروي جميعاً في كلمة واحدة، فإذا كانا في كلمتين فلا بأس. والمؤسس من الشعر: ما كانت فيه ألف بينها وبين حرف الروي حرف يجوز تغييره؛ فذلك الحرف يسمى الدخيل، وحركته تسمى الإشباع، ويجوز تغييرها عند الخليل، ولا يجوز عند أبي الحسن الأخفش، مثال ذلك ما أنشده أبو زكريا الفراء: نهوى الخليط وإن أقمنا بعدهم ... إن المقيم مكلف بالسائر إن المطي بنا يخدن ضحى غدٍ ... واليوم يوم لبانة وتزاور وهو جائز غير معيب، وأما القاضي أبو الفضل فرأيه أن حركة الدخيل ما دامت إشباعاً جاز فيها التغيير بالنصب والخفض والرفع؛ فإذا قيد الشعر وصار موضع الإشباع التوجيه لم يجز الفتح مع واحد منهما، واعتل في ذلك بحال المطلق غير المؤسس أن ما قبل رويه جائز تغييره، فإذا قيد لم يجز الفتح فيه إلا وحده، فهو سناد، ويشارك الضم والكسر، وهذا قول واضح البيان، ظاهر البرهان، والناس مجمعون على تغيير الدخيل حتى أن بعضهم لم يسمه لتغيره واضطرابه لكن عده فيما لا يلزم القافية فسكت عنه. وأما الإشباع فالقول فيه ما قدمت، وإذا كان ألف التأسيس في كلمة وحرف الروي في كلمة أخرى لم يعدوها تأسيساً لبعدها، إلا أن يكون حرف الروي مع مضمر متصل أو منفصل، فإن الشاعر بالخيار: إن شاء جعل الألف تأسيساً، وإن شاء لم يجعلها تأسيساً؛ فالتي لا تكون عندهم تأسيساً قول عنترة: والناذرين إذا لم ألقهما دمى. لما كان الاسم ظاهراً، وقد أنشد بعضهم في أبيات اللغز والمعاياة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أقول لعمرو حين خود رأله ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم وهي: من الوهى، وشم من الشيم للبرق.. وقول الآخر: أقول لعبد الله لما لقيته ... ونحن بوادي الروم فوق القناطر: فالقنا: جمع قناة، وطر، أمر من طار يطير، فرخص فيه لما انكسرت حركة دخيله على متعارف الشعر، وهو كلام حسن الظاهر، إلا أنه خلاف لما قال العلماء، والتي تكون تأسيساً لكونها مع المضمر قول الشاعر: تزيد حسى الكأس السفيه سفاهة ... وتترك أخلاق الكريم كما هيا وقول جرير: فردي جمال الحي ثم تحملي ... فما لك فيهم من مقام ولا ليا فهذا ضمير متصل، والذي قبله ضمير منفصل.. ومما جاءت الألف فيه غير تأسيس مع المضمر قول الشاعر، وهو من شواهد أبي الفتح عثمان بن جني النحوي: أيه جاراتك تلك الموصية ... قائلة لا تسقيا بحبليه لو كنت حبلاً لسقيتها بيه ... أو قاصراً وصلته بثوبيه فالألف في سقيتها غير تأسيس، فإذا كانت الهاء والكاف التي للمخاطب دخيلاً لم يخلط الشعراء بها غيرها اتساعاً، وإلا فهو جائز. وأنشد الجرمي لعوف ابن عطية ابن الخرع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 فإن شئتما ألقحتما ونتجتما ... وإن شئتما عيناً بعين كما هما وإن كان عقلاً فاعقلا لأخيكما ... بنات المخاض والفصال المقاحما ومن المؤسس والمردف ما يلتبس على المبتدئ فلا يميزه إلا عن كلفة وبعد فترة، فأوردت منه ما يكون له مثالاً يستدل به ويعمل عليه إن شاء الله تعالى. فمن ذلك تغيير ما قبل الكاف في القافية المؤسسة لأنه دخيل، والكاف روي، والتزامه يعد اتساعاً، فإذا كان موضع الكاف هاء صار الشعر مردفاً موصولاً ولم يجز تغيير ما قبل الهاء، لأنك لو غيرته لكنت قد غيرت حرف الروي، مثال ذلك قول كثير أو غيره: تراغت لو شك البين بزل جمالك ... ولو شئت ما فجعتني بارتحالك فالتزم اللام في القصيدة كلها أو في أكثرها؛ اتساعاً، ولو غير كما فعل ذو الرمة في قوله: أما استحلبت عينيك إلا محلة ... بجمهور حزوي أو بجرعاء مالك أناخت روايا كل دلو به بها ... وكل سماكي أجش المبارك لم يكن عيباً؛ لأن الكاف روي وصلتها الياء التي بعدها في اللفظ، والدخيل راء المبارك ولام مالك وقد التزمه كثير كأن القافية عنده لاميه مردفة، فالكاف مقام الهاء صلة على المجاز لا على الحقيقة، وقال كثير في المردف: على ابن أبي العاص دلاص حصينة ... أجاد المسدي سردها وأذالها فاللام روي، والألف التي قبلها ردف، والهاء صلة، والألف التي بعدها خروج، ولا يجوز أن يقال لهذه القافية مؤسسة؛ لأن الهاء إذا تحرك ما قبلها وليست من نفس الكلمة لم تكن إلا صلة، وإذا كانت الهاء صلة لم تكن اللام إلا روياً، ولا يجوز تغييرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وجميع ما يلحق القوافي من الحروف والحركات ستة أحرف وست حركات، فالأحرف: الروي، والردف، والتأسيس، والوصل، والخروج، والدخيل؛ والحركات: الإطلاق، والحذو، والرس، والتوجيه، والنفاذ، والإشباع، والذي يجتمع منها في قافية واحدة خمسة أحرف، وهي: التأسيس، والروي، والصلة، والخروج، والدخيل؛ وكلها يلزم تكراره بعينه إلا الدخيل، وأربع حركات، وهي: الرس، والإشباع، والإطلاق، والنفاذ، وذلك مثل قول الشاعر: يوشك من فز من منيته ... في بعض غراته يوافقها ولا يجتمع في قافية الحذو والرس، كما لا يجتمع الردف والتأسيس، وكذلك لا يجتمع أيضاً التوجيه والإشباع، فيسقط التوجيه إذا كان المؤسس مطلقاً، ويسقط الإشباع إذا كان المؤسس مقيداً. وقد أنكر الجرمي والأخفش وأصحابهما على الخليل تسمية الرس، وقالوا: لا معنى لذكر هذه الفتحة؛ لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً، وإنما احتيج إلى ذكر الحذو قبل الردف لأن الحذو قد يتغير فيكون مرة فتحة قبل ألف ومرة كسرة قبل ياء ومرة ضمة قبل واو.. ومما يجب أن يراعى في هذا الباب الإقواء، والإكفاء، والإيطاء، والسناد، والتضمين؛ فإنها من عيوب الشعر. فأما الإقواء والإكفاء فاختلف العلماء فيهما وفي اشتقاقهما.. وأما السناد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 والإيطاء فاتفقوا فيما دون اشتقاقهما. وعند أكثر العلماء: اختلاف إعراب القوافي إقواء، وهو غير جائز لمولد، وإنما يكون في الضم والكسر، ولا يكون فيه فتح، هذا قول الحامض.. وقال ابن جني: والفتح فيه قبيح جداً، إلا أن أبا عبيدة ومن قال بقوله كابن قتيبة يسمون هذا إكفاء، والإقواء عندهم: ذهاب حرف أو ما يقوم مقامه من عروض البيت، نحو قول الشاعر وهو بجير بن زهير بن أبي سلمى: كانت علالة يوم بطن حنين ... وغداة أوطاس ويوم الأبرق واشتقاقه عندهم فيما روى النحاس من أقوت الدار إذا خلت كأن البيت خلا من هذا الحرف. وقال غيره: إنما هو من أقوى الفاتل حبله إذا خالف بين قواه فجعل إحداهن قوية والأخرى ضعيفة، أو ممرة والأخرى سحيلة، أو بيضاء والأخرى سوداء، أو غليظة والأخرى دقيقة، أو انحل بعضها دون بعض أو انقطع، وهذا يسميه الخليل المقعد، وهو من باب الوزن، لا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 باب القافية، والجمهور الأول من العلماء على خلاف رأي أبي عبيدة في الإقواء. وأما الإكفاء فهو الإقواء بعينه عند جلة العلماء: كأبي عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، وهو قول أحمد بن يحيى ثعلب، وأصله من أكفأت الإناء إذا قلبته، كأنك جعلت الكسرة مع الضمة وهي ضدها، وقيل: من مخالفة الكفوة صواحبها، وهي النسيجة من نسائج الخباء تكون في مؤخره، فيقال: بيت مكفأ، تشبيهاً بالبيت المكفأ من المساكن إذ كان مشبهاً به في كل أحواله.. قال الأخفش البصري: الإكفاء القلب، وقال الزجاجي وابن دريد: كفأت الإناء إذا قلبته، وأكفأته إذا أملته، كأن الشاعر أمال فمه بالضمة فصيرها كسرة، إلا أن ابن دريد رواهما أيضاً بمعنى قلبته شاذاً، وقيل: بل من المخالفة في البناء والكلام، يقال أكفأ الباني إذا خالف في بنائه، وأكفأ الرجل في كلامه إذا خالف نظمه فأفسده، قال ذو الرمة: ودوية قفر ترى وجه ركبها ... إذا ما علوها مكفأ غير ساجع وقال المفضل الضبي: الإكفاء اختلاف الحروف في الروي، وهو قول محمد بن يزيد المبرد، وأنشد: قبحت من سالفة ومن صدغ ... كأنها كشية ضب في صقع فأتى بالعين مع الغين، واشتقاقه عنده من المماثلة بين الشيئين، كقولك فلان كفء فلان، أي: مثله، قال: ومنه كافأت الرجل، كأن الشاعر جعل حرفاً مكان حرف، والناس اليوم في الإكفاء على رأي المفضل، وهو عيب لا يجوز أيضاً لمحدث، ولا يكون إلا فيما تقارب من الحروف، وإلا فهو غلط بالجملة، هذا رأي الأخفش سعيد بن مسعدة، والخليل يسمي هذا النوع: الإجازة. قال الفراء: الإجازة في قول الخليل: أن تكون القافية طاء والأخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 دالاً، وقال أبو إسحاق النجيرمي: الإجازة بالراء لا غير وهي من الجوار، وهو الموج، قال ابن السكيت: وهو الماء الكثير، وأنشد للقطامي يذكر سفينة نوح عليه السلام: ولولا الله جار بها الجوار. قال المهلبي: ورأيته بخط الطوسي والسكري بالراء، وهو قول الكوفيين، فأما البصريون فيقولون الإجازة بالزاي، حكى ذلك ابن دريد.. وقال بعض شيوخنا: الإجازة في القوافي مشتقة من الجوار في السكنى والذمام، ألا ترى أنها فيما تقارب من الحروف، فكأن الحرف جاور الآخر ودخل في ذمامه، وقال قوم: بل هي من الجور، كأن القافية جارت، أي: خالفت القصد، وأجارها الشاعر، أي: صيرها كذلك، وعلى هذا يصح قول النجيرمي. فإذا تأملنا أقاويل العلماء وجدنا الإجازة بالزاي اختلاف التوجيه، وهو حركة، والإجازة بالراء اختلاف الروي، وهو حرف، وليس هذا من هذا في شيء، فكأن العلماء لم يختلفوا حينئذ؛ لأن التسمية اختلفت باختلاف المسمى. ومثل الإجازة الإصراف، حكاه شيخنا أبو عبد الله، قال: وهو أن تكون القافية دالاً والأخرى طاءً، والقصيدة مصرفة، ولذلك قال الشاعر: مقومة قوافيها وليست ... بمصرفة الروي ولا سناد وأما السناد فأنواع كثيرة: منها وهو المشهور أن يختلف الحذو، وهو حركة ما قبل الردف، فيدخل شرط الألف وهي الفتحة على الياء والواو كقول الفضل بن عباس اللهبي: واملئي وجهك الجميلا خموشا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ثم قال: وبنا سميت قريش قريشا. وهو كثير جائز للعرب غير جائز للمولدين، ومنها اختلاف الإشباع، كقول النابغة: يزرن ألالًا سيرهن التدافع. والقصيدة كلها إشباع، ومنها إرداف قافية وتجريد أخرى، كقول حسان بن ثابت في قافية: فأرسل حكيماً ولا توصه. وقال في أخرى: وشاور لبيباً ولا تعصه. ومنها تأسيس قافية دون أخواتها، كقول العجاج: فخندف هامة هذا العالم. وأول هذه الأرجوزة: يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي. وكلها غير مؤسسة إلا هذا البيت وحده، ويقال: إن لغته الهمز، فإذا همز لم يكن تأسيساً. ومنها اختلاف التوجيه، نحو قول امرئ القيس بن حجر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر ثم قال: تميم بن مر وأشياعها ... وكندة حولي جميعاً صبر إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تحرقت الأرض واليوم قر فما قبل الراء في البيت الأول مكسور، وفي الثاني مضموم، وفي الثالث مفتوح، وليس هذا بعيب شديد عندهم. قال الزجاجي: السناد: كل عيب يلحق القافية، ما خلا الإقواء والإكفاء والإيطاء، وهذا قول فيه بيان واختصار. وقال علي بن عيسى الرماني: السناد اختلاف ما قبل حرف الروي أو بعده على أي وجه كان الاختلاف: بحركة كان، أو بحرف.. وقال ابن جني: السناد: كل عيب يحدث قبل الروي. واشتقاق السناد من تساند القوم إذا جاءوا فرقاً لا يقودهم رئيس واحد، وقيل: بل هو من قولهم ناقة سناد إذا كانت قوية صلبة؛ لأن الياء الصلبة أقوى في النطق من الياء اللينة.. وقالوا: بل السناد الناقة المشرفة، كأن إحدى القوافي أشرفت على أخواتها. وأما الإيطاء فهو أن يتكرر لفظ القافية ومعناهما واحد، كما قال امرؤ القيس في قافية سرحة مرقب وفي قافية أخرى فوق مرقب وليس بينهما غير بيت واحد.. وكلما تباعد الإيطاء كان أخف، وكذلك إن خرج الشاعر من مدح إلى ذم، أو من نسيب إلى أحدهما، ألا ترى إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قولهم دع ذا وعد عن ذا فكأن الشاعر في شعر آخر، وأقبح من هذا الإيطاء قول تميم بن أبي بن مقبل: أو كاهتزاز رديني تداوله ... أيدي التجار فزادوا متنه لينا ويروي تذاوقه ثم قال في القصيدة غير بعيد: نازعت ألبابها لبي بمتصد ... من الأحاديث حتى زدنني لينا فكرر القافية والمعنى مع أكثر لفظ القسيم، وأشد من ذلك قول أبي ذؤيب في بنيه: سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا، ولكل جنب مصرع ثم قال في صفة الثور والكلاب: فصرعنه تحت العجاج فجنبه ... متترب، ولكل جنب مصرع فكرر ثلث البيت.. وإذا اتفق الكلمتان في القافية واختلف معناهما لم يكن إيطاء عند أحد من العلماء، إلا عند الخليل وحده، فإن يزيد عنده بمعنى الاسم ويزيد بمعنى الفعل إيطاء، وكذلك جون للأبيض والأسود، وجلل للكبير والصغير، وإذا كان أحد الاسمين نكرة والآخر معرفة لم يكن إيطاء، وكذلك ضرب للواحد وضربا للاثنين، ولم تضرب للمذكر ولم تضربي للمؤنث، ومن غلام ومن غلامي مضافاً، كل هذا ليس بإيطاء.. وأما اختلاف الحروف على الاسم كقولك لزيد وبزيد وعلى الفعل كقولك أضرب ويضرب وتضرب في مخاطبة المذكر والحكاية عن المؤنث؛ فكل ذلك إيطاء.. والإيطاء جائز للمولدين، إلا عند الجمحي وحده؛ فإنه قال: قد علموا أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 عيب وقال الفراء: إنما يواطئ الشاعر من عي، وإذا كرر الشاعر قافية للتصريع في البيت الثاني لم يكن عيباً، نحو قول امرئ القيس: خليلي مرا بي على أم جندب. ثم قال في البيت الثاني لدى أم جندب واشتقاقه من الموافقة، قال الله عز وجل: " ليواطئوا عدة ما حرم الله " أي: ليوافقوا.. وقال قوم: بل الإيطاء من الوطء، كأن الشاعر أوطأ القافية عقب أختها، كما قال توبة يخاطب بعل ليلى الأخيلية: لعلك يا تيساً نزا في مريرة ... تعاقب ليلى أن تراني أزورها علي دماء البدن إن كان بعلها ... يرى لي ذنباً غير أني أزورها والتضمين: أن تتعلق القافية أو لفظة مما قبلها بما بعدها، كقول النابغة الذبياني: وهم وردوا الجفار على تميم ... وهم أصحاب يوم عكاظ، إني شهدت لهم مواطن صالحات ... وثقت لهم بحسن الظن مني وكلما كانت اللفظة المتعلقة بالبيت الثاني بعيدة من القافية كان أسهل عيباً من التضمين، ويقرب من قول النابغة قول كعب بن زهير: ديار التي بتت حبالي وصرمت ... وكنت إذا ما الحبل من خلة صرم فزعت إلى وجناء حرف كأنما ... بأقرابها قار إذا جلدها استحم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وأخف من هذا قول إبراهيم بن هرمة: إما تريني شاحباً مبتذلاً ... كالسيف يخلق جفنه فيضيع فلرب لذة ليلة قد نلتها ... وحرامها بحلالها مدفوع وليس منه قول متمم بن نويرة: لعمري وما دهري بتأبين هالك ... ولا جزعاً مما أصاب فأوجعا لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتىً غير مبطان العشيات أروعا وربما حالت بين بيتي التضمين أبيات كثيرة بقدر ما يتسع الكلام وينبسط الشاعر في المعاني، ولا يضره ذلك إذا أجاد. ويجمع القوافي كلها خمسة ألقاب: المتكاوس، وهو: أربع حركات بين ساكنين، وله جزء واحد وهو فعلتن، والفراء لا يعده؛ لأنه عنده من المتدارك؛ لأن فعلتن إنما هي مستفعلن مزاحف السببين؛ والمتراكب، وهو ثلاث متحركات بين ساكنين، ولها جزءان مفاعلتن وفعلن؛ والمتدارك، وهو: حركتان بين ساكنين، وهو نحو مفاعلن ومتفاعلن ومستفعلن وفاعلن؛ والمتواتر وهو: ما توالى فيه متحرك بين ساكنين، نحو مفاعيلن وفاعلاتن وفعلاتن ومفعولن؛ والمترادف، وهو: ما اجتمع في آخره ساكنان نحو فاعلان ومتفاعلان ومستفعلان، وما أشبه ذلك. ولا يجتمع نوعان من هذه الأنواع في قصيدة، إلا في جنس من السريع؛ فإن المتواتر يجتمع فيه مع المتراكب، إذا كان الشعر مقيداً كقول المرقش في بيت: وأطراف الأكف عنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وفي بيت آخر: قد قلت فيه غير ما تعلم. باب التقفية والتصريع هذا باب يشكل على كثير من الناس علمه، ويلحقه عيب سماه قدامة التجميع، كأنه من الجمع بين رويين وقافيتين، ورأيت من يقول: التخميع بالخاء كأنه من الخمع في الرجل، وسأذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى. فأما التصريع فهو ما كانت عروض البيت فيه تابعة لضربه: تنقص بنقصه، وتزيد بزيادته، نحو قول امرئ القيس في الزيادة: قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان ... ورسم عفت آياته منذ أزمان وهي في سائر القصيدة مفاعلن، وقال في النقصان: لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبورٍ في عسيب يماني فالضرب فعولن، والعروض مثله لمكان التصريع، وهي في سائر القصيدة مفاعلن كالأولى؛ فكل ما جرى هذا المجرى في سائر الأوزان فهو مصرع. والتقفية: أن يتساوى الجزءان من غير نقص ولا زيادة، فلا يتبع العروض الضرب في شيء إلا في السجع خاصة، مثال ذلك قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل فهم جميعاً مفاعلن، إلا أن العروض مقفى مثل الضرب، فكل ما لم يختلف عروض بيته الأول مع سائر عروض أبيات القصيدة إلا في السجع فقط فهو مقفى. واشتقاق التصريع من مصراعي الباب، ولذلك قيل لنصف البيت مصراع كأنه باب القصيدة ومدخلها، وقيل: بل هو من الصرعين، وهما طرفا النهار، قال أبو إسحاق الزجاج: الأول من طلوع الشمس إلى استواء النهار، والآخر من ميل الشمس عن كبد السماء إلى وقت غروبها. قال شيخنا أبو عبد الله: وهما العصران. وقال قوم: الصرع المثل، وسبب التصريع مبادرة الشاعر القافية ليعلم في أول وهلة أنه أخذ في كلام موزون غير منثور، ولذلك وقع في أول الشعر، وربما صرع الشاعر في غير الابتداء، وذلك إذا خرج من قصة إلى قصة أو من وصف شيء إلى وصف شيء آخر فيأتي حينئذ بالتصريع إخباراً بذلك وتنبيهاً عليه، وقد كثر استعمالهم هذا حتى صرعوا في غير موضع تصريع، وهو دليل على قوة الطبع، وكثرة المادة، إلا أنه إذا كثر في القصيدة دل على التكلف، إلا من المتقدمين، قال امرؤ القيس: تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا عليك بأن تنتظر؟ أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر وشاقك بين الخليط الشطر ... وفيمن أقام من الحي هر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فوالى بين ثلاثة أبيات مصرعة في القصيدة، وقد يجعلون أولها: أحار بن عمرو كأني خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر وقال عنترة العبسي: أعياك رسم الدار لم يتكلم ... حتى تكلم كالأصم الأعجم ثم قال بعد بيت واحد: هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم؟ يا دار عبلة بالجواء تكلمي ... وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي فصرع البيت الأول والثالث والرابع. وقولنا في شعر امرئ القيس وعنترة وغيرهما مما يستأنف مصرع إنما هو مجاز وجرى على عادة الناس؛ لئلا يخرج عن المتعارف، وإلا فقد بينت ذلك أولاً. ومن الناس من لم يصرع أول شعره قلة اكتراث بالشعر، ثم يصرع بعد ذلك، كما صنع الأخطل إذ يقول أول قصيدة: حلت صبيرة أمواه العداد وقد ... كانت تحل وأدنى دارها نكد وأقفر اليوم ممن حله الثمد ... فالشعبتان فذاك الأبلق الفرد فصرع البيت الثاني دون الأول.. وقال ذو الرمة أول قصيدة: أداراً بحزوى هجت للعين عبرة ... فماء الهوى يرفض أو يترقرق ثم قال بعد عدة أبيات: أمن مية اعتاد الخيال المؤرق؟ ... نعم؛ إنها مما على النأي تطرق وكان الفرزدق قليلاً ما يصرع أو يلقي بالاً بالشعر، كقوله: ألم تر أني يوم جو سويقة ... بكيت فنادتني هنيدة ماليا فجاء بمثل هذه القصيدة الجليلة غير مصرعة. وكذلك قوله يرد على جرير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 تكاثر يربوع عليك ومالك ... على آل يربوع فما لك مسرح وأكثر شعر ذو الرمة غير مصرع الأوائل، وهو مذهب الكثير من الفحول وإن لم يعد فيهم لقلة تصرفه، إلا أنهم جعلوا التصريع في مهمات القصائد فيما يتأهبون له من الشعر، فدل ذلك على فضل التصريع. وقد قال أبو تمام وهو قدوة: وتقفو إلى الجدوى بجدوى، وإنما ... يروقك بيت الشعر حين يصرع فضرب به المثل كما ترى. والتصريع يقع فيه من الإقواء والإكفاء والإيطاء والسناد والتضمين ما يقع في القافية: فمن الإقواء ما أنشده الزجاجي، وهو قول بعضهم: ما بال عينك منها الماء مهراق ... سحاً فلا غارب منها ولا راقي ومن الإكفاء قول حسان بن ثابت، وأنشده الجاحظ: ولست بخير من أبيك وخالكا ... ولست بخير من معاظلة الكلب ومن الإيطاء قول عبد الله بن المعتز: يا سائلاً كيف حالي ... أنت العليم بحالي ومن السناد قول إسماعيل بن القاسم أبا العتاهية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ويلي على الأظعان ولوا ... عني بعتبة فاستقلوا ومن التضمين قول البحتري: عذيري فيك من لاح إذا ما ... شكوت الحب قطعني ملاما ومن ابتداء القصائد التجميع، وهو: أن يكون القسيم الأول متهيئاً للتصريع بقافية ما، فيأتي تمام البيت بقافية على خلافها كقول جميل: يابثن إنك قد ملكت فأسجحي ... وخذي بحظك من كريم واصل فتهيأت القافية على الحاء، ثم صرفها إلى اللام. ومثله قول حميد بن ثور الهلالي: سل الربع أنىّ يممت أم سالم؟ ... وهل عادة للربع أن يتكلما؟!! فتهيأت له قافية مؤسسة لو شاء، ثم أتت في آخر البيت غير مؤسسة، ويروى أم أسلما فخرج عن التجميع. ومن أشد التجميع قول النابغة الذبياني: جزى الله عبساً عبس آل بغيضٍ ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل وإنما التجميع فيما شابه الإطلاق، أو قارب ذلك، كقول جميل فيما تقدم وقول حميد، وهو الإكفاء والسناد وفي القوافي، إلا أنه دونهما في الكراهية جداً.. وإذا لم يصرع الشاعر قصيدته كان كالمتسور الداخل من غير باب. والمداخل من الأبيات: ما كان قسيمه متصلاً بالآخر، غير منفصل منه، قد جمعتهما كلمة واحدة، وهو المدمج أيضاً، وأكثر ما يقع ذلك في عروض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الخفيف، وهو حيث وقع من الأعاريض دليل على القوة، إلا أنه في غير الخفيف مستثقل عند المطبوعين، وقد يستخفونه في الأعاريض القصار: كالهزج ومربوع الرمل وما أشبه ذلك. ومن الشعر غير المصرع ما لا يجوز أن يظن تجميعاً، وذلك نحو قول ذي الرمة واسمه غيلان بن عقبة: أأن ترسمت من خرقاء منزلة ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم لأن القافية من عروض البيت غير متمكنة، ولا مستعمل مثلها، وإن كان استعمالها جائزاً لو وقع. ومن الشعر نوع غريب يسمونه القواديسي، تشبيهاً بقواديس السانية؛ لارتفاع بعض قوافيه في جهة وانخفاضه في الجهة الأخرى، فأول من رأيته جاء به طلحة بن عبيد الله العوني في قوله من قصيدة له مشهورة طويلة: كم للدمى الأبكار بال ... خبتين من منازل بمهجتي للوجد من ... تذكارها منازل معاهد رعيلها ... مثعنجر الهواطل لما نأى ساكنها ... فأدمعي هواطل وهو مربوع الرجز تعمد فيه الإقواء وأوطأ في أكثره قصداً كما فعل في البيتين الأولين من هذه. ومن الشعر جنس كله مصرع، إلا أنه مختلف الأنواع، وأنا منبه عليها إن شاء الله تعالى. فمن ذلك الشعر المسمط، وهو: أن يبتدئ الشاعر ببيت مصرع، ثم يأتي بأربعة أقسمة على غير قافيته، ثم يعيد قسيماً واحداً من جنس ما ابتدأ به، وهكذا إلى آخر القصيدة، مثال ذلك قول امرئ القيس، وقيل إنها منحولة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 توهمت من هند معالم أطلال ... غفاهن طول الدهر في الزمن الخالي مرابع من هند خلت ومصايف ... يصيح بمغناها صدى وعوازف وغيرها هوج الرياح العواصف ... وكل مسف ثم آخر رادف بأسحم من نوء السماكين هطال وهكذا يأتي بأربعة أقسمة على أي قافية شاء، ثم يكرر قسيماً على قافية اللام، وربما كان المسمط بأقل من أربعة أقسمة كما قال أحدهم: خيال هاج لي شجنا ... فبت مكابداً حزنا عميد القلب مرتهنا ... بذكر اللهو والطرب سبتني ظبية عطل ... كأن رضابها عسل ينوء بخصرها كفل ... ثقيل روادف الحقب وربما جاءوا بأوله أبياتاً خمسة على شرطهم في الأقسمة، وهو المتعارف، أو أربعة، ثم يأتون بعد ذلك بأربعة أقسمة، كما قال خالد القناص، أنشده الزجاجي أبو القاسم: لقد نكرت عيني منازل جيران ... كأسطار رق ناهج خلق فاني توهمتها من بعد عشرين حجة ... فما أستبين الدار إلا بعرفان فقلت لها: حييت يا دار جيرتي ... أبيني لنا أنىّ تبدد إخواني وأي بلاد بعد ربعك حالفوا ... فإن فؤادي عند ظبية جيراني فجاء بأربعة أبيات كما ترى، ثم قال بعدها: رما نطقت واستعجمت حين كلمت ... وما رجعت قولاً وما إن ترمرمت وكان شفائي عندها لو تكلمت ... إلي ولو كانت أشارت وسلمت ولكنها ضنت علي بتبيان وهكذا إلى آخرها، وقد جاء هذا الشاعر في قصيدته بخمسة أقسمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 مرة واحدة، ولم يعاودها، ولو عاودها لم يضره، وكذلك لو نقص، إلا أن الاعتدال أحسن. والقافية التي تكرر في التسميط تسمى عمود القصيدة، واشتقاقه من السمط، وهو: أن تجمع عدة سلوك في ياقوتة أو خرزة ما، ثم تنظم كل سلك منها على حدته باللؤلؤ يسيراً، ثم تجمع السلوك كلها في زبرجدة أو شبهها أو نحو ذلك، ثم تنظم أيضاً كل سلك على حدته وتصنع به كما صنعت أولاً إلى أن يتم السمط، هذا هو المتعارف عند أهل الوقت. وقال أبو القاسم الزجاجي: إنما سمي بهذا الاسم تشبيهاً بسمط اللؤلؤ، وهو سلكه الذي يضمه ويجمعه مع تفرق حبه، وكذلك هذا الشعر لما كان متفرق القوافي متعقباً بقافية تضمه وترده إلى البيت الأول الذي بنيت عليه في القصيدة صار كأنه سمط مؤلف من أشياء مفترقة. ونوع آخر يسمى مخمساً، وهو: أن يؤتى بخمسة أقسمة على قافية، ثم بخمسة أخرى في وزنها على قافية غيرها كذلك، إلى أن يفرغ من القصيدة، هذا هو الأصل، وأكثروا من هذا الفن حتى أتوا به مصراعين مصراعين فقط، وهو المزدوج، إلا أن وزنه كله واحد وإن اختلفت القوافي، كذات الأمثال، وذات الحلل، وما شاكلهما، ولا يكون أقل من مصراعين، وكل مشطور أو منهوك فهو بيت، وإن قيل مصرع فعلي المجاز، وما سوى ذلك مما لم يأت مثله عن العرب فهو مصاريع ليس ببيت، ولم أجدهم يستعملون في هذه المخمسات إلا الرجز خاصة؛ لأنه وطئ سهل المراجعة، فأما المسمطات فقد جاءت في أوزان كثيرة مختلفة كما قدمت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ونوعان من الرجز وهما: المشطور، والمنهوك فأما المشطور فما بني على شطر بيت، نحو قول أبي النجم العجلي: الحمد لله الوهوب المجزل ... أعطى فلم يبخل ولم يبخل وأما المنهمك فهو ما بني على ثلث بيت، ونهك بذهاب ثلثيه، أي: أضعف وهذا مثل قول أبي نواس: وبلدة فيها زور ... صعراء تخطى في صعر فأشبه بهما مشطور السريع ومنهوك المنسرح، وسيأتيان فيما بعد إن شاء الله تعالى.. وأنشد الزجاجي وزناً مشطراً محير الفصول لا أشك أنه مولد محدث، وهو: سقى طللاً بحزوى ... هزيم الودق أحوى عهدنا فيه أروى ... زماناً ثم أقوى وأروى لا كنود ... ولا فيها صدود لها طرف صيود ... ومبتسم برود لأن شط المزار ... بها ونأت ديار فقلبي مستطار ... وليس له قرار ستدنيها ذمول ... جلنفعة ذلول إذا عرضت هجول ... تقصر ما يطول وهذا وزن ملتبس: يجوز أن يكون مقطوعاً من مربع الوافر، ويجوز أن يكون من المضارع مقبوضاً مكفوفاً، ذكره الجوهري.. وأنشد لبعض المحدثين: أشاقك طيف مامه ... بمكة أم حمامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 أشاقك: مفاعل، وحقه في أصل الوزن مفاعيلن. وقد رأيت جماعة يركبون المخمسات والمسمطات ويكثرون منها، ولم أر متقدماً حاذقاً صنع شيئاً منها؛ لأنها دالة على عجز الشاعر، وقلة قوافيه، وضيق عطنه، ما خلا امرأ القيس في القصيدة التي نسبت إليه وما أصححها له، وبشار بن برد، قد كان يصنع المخمسات والمزدوجات عبثاً واستهانة بالشعر، وبشر بن المعتمر؛ فقد أنشد الجاحظ له أول مزدوجة، وصنع ابن المعتز قصيدة في ذم الصبوح، وقصيدة في سيرة المعتضد ركب فيها هذا الطريق؛ لما تقتضيه الألفاظ المختلفة الضرورية، ولمراده من التوسع في الكلام، والتملح بأنواع السجع. وهذا الجنس موقوف على ابن وكيع والأمير تميم بن المعز، ومن ناسب طبعهما من أهل الفراغ وأصحاب الرخص، وقد يقع لبعض الشعراء البيتان والثلاثة لها قافية واحدة يجعلونها معاياة فيتلاقفها العروضيون، كالأبيات التي تروى لابن دريد وسترد في مكانها من سوى هذا الباب، إن شاء الله تعالى. باب في الرجز والقصيد قد خص الناس باسم الرجز المشطور والمنهوك وما جرى مجراهما، وباسم القصيد ما طالت أبياته، وليس كذلك؛ لأن الرجز ثلاثة أنواع غير المشطور والمنهوك والمقطع: فأما الأول منها فنحو أرجوزة عبدة بن الطبيب: باكرني بسحرة عواذلي ... وعذلهن خبل من الخبل يلمنني في حاجة ذكرتها ... في عصر أزمان ودهر قد نسل والنوع الثاني نحو قول الآخر: القلب منها مستريح سالم ... والقلب مني جاهد مجهود والنوع الثالث قول الآخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 قد هاج قلبي منزل ... من أم عمرو مقفر فهذه داخلة في القصيد، وليس يمتنع أيضاً أن يسمى ما كثرت بيوته من مشطور الرجز ومنهوكه قصيدة؛ لأن اشتقاق القصيد من " قصدت إلى الشيء " كأن الشاعر قصد إلى عملها على تلك الهيئة، والرجز مقصود أيضاً إلى عمله كذلك. ومن المقصد ما ليس برجز وهم يسمونه رجزاً لتصريع جميع أبياته؛ وذلك هو مشطور السريع، نحو قول الشاعر أنشدناه أبو عبد الله محمد بن جعفر النحوي عن أبي علي الحسين بن إبراهيم الآمدي، عن ابن دريد، عن أبي حاتم السجستاني، عن أبي زيد الأنصاري: هل تعرف الدار بأعلى ذي القور ... غيرها نأج الرياح والمور ودرست غير رماد مكفور ... مكتئب اللون مريح ممطور وغير نؤى كبقايا الدعثور ... أزمان عيناء سرور المسرور عيناء حوراء من العين الحور وأنشد أبو عبد الله لابن المعتز: ومقلة قد بات يبكيها ... فيض نجيع من مآقيها وكلها طول تمنيها ... بأنجم الليل تراعيها ومهجة قد كاد يفنيها ... طول سقام ثابت فيها وبرؤها في كف مبليها ... كما ابتلاها فهو يشفيها ليس لها من حبها ناصر ... من ذا على الأحباب يعديها وهذا عند الجوهري من البسيط، والذي أنشد أبو عبد الله على قول الجوهري هو من الرجز، وجعل الجزء الآخر مستفع لن مفروق فيه الوتد، فأسكن اللام؛ لأن آخر البيت لا يكون متحركاً، فخلفه مفعولات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وأما المنهوك المنسرح صبراً بني عبد الدار فهو عند الجوهري من الرجز، ومثله ويلم سعد سعداً إلا أنه أقصد منه. فعلى كل حال تسمى الأرجوزة قصيدة طالت أبياتها أو قصرت، ولا تسمى القصيدة أرجوزة إلا أن تكون من أحد أنواع الرجز التي ذكرت، ولو كانت مصرعة الشطور كالذي قدمته؛ فالقصيد يطلق على كل الرجز، وليس الرجز مطلقاً على كل قصيد أشبه الرجز بالشطر. قال النحاس: القريض عند أهل اللغة العربية الشعر الذي ليس برجز، يكون مشتقاً من قرض الشيء أي: قطعه، كأنه قطع جنساً، وقال أبو إسحاق: وهو مشتق من القرض، أي: القطع والتفرقة بين الأشياء، كأنه ترك الرجز وقطعه من شعره. وكان أقصر ما صنعه القدماء من الرجز ما كان على جزأين، نحو قول دريد بن الصمة يوم هوازن: يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع حتى صنع بعض المتعقبين وأظنه علي بن يحيى، أو يحيى، بن علي المنجم أرجوزة على جزء واحد، وهي: طيف ألم بذي سلم ... بعد العتم يطوي الأكم جاد بفم وملتزم ... فيه هضم إذا يضم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ويقال: إن أول من ابتدع ذلك سلم الخاسر، يقول في قصيدة مدح بها موسى الهادي: موسى المطر غيث بكر ... ثم انهمر ألوى المرر كم اعتسر ثم ايتسر ... وكم قدر ثم غفر عدل السير باقي الأثر ... خير وشر نفع وضر خير البشر فرع مضر ... بدر بدر والمفتخر لمن غبر والجوهري يسمي هذا النوع المقطع. وقد رأى قوم أن مشطور الرجز ليس بشعر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت بكسر التاء، ورواية أخرى بسكونها وتحريك الياء بالفتح قبلها وليس هذا دليلاً، وإنما الدليل في قول النبي صلى الله عليه وسلم عدم القصد والنية؛ لأنه لم يقصد به الشعر ولا نواه؛ فلذلك لا يعد شعراً وإن كان كلاماً متزناً، وإلا فالرجاز شعراء عند العرب وفي متعارف اللسان، إلا أن الليث روى أنهم لما ردوا على الخليل قوله " إن المشطور ليس بشعر " قال: لأحتجن عليهم بحجة إن لم يقروا بها كفروا، قال: فعجبنا من قوله حتى سمعنا حجته.. وقد رواه قوم دميت بإسكان الياء والتاء جميعاً ولا يكون حينئذ موزوناً. والراجز قلما يقصد؛ فإن جمعهما كان نهاية نحو أبي النجم؛ فإنه كان يقصد، وأما غيلان فإنه كان راجزاً ثم صار إلى التقصيد، وسئل عن ذلك فقال: رأيتني لا أقع من هذين الرجلين على شيء، يعني العجاج وابنه رؤبة، وكان جرير والفرزدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 يرجزان، وكذلك عمر بن لجأ كان راجزاً مقصداً، ومثله حميد الأرقط، والعماني أيضاً، وأقلهم رجزاً الفرزدق. وليس يمتنع الرجز على المقصد امتناع القصيد على الراجز، ألا ترى أن كل مقصد يستطيع أن يرجز وإن صعب عليه بعض الصعوبة، وليس كل راجز يستطيع أن يقصد، واسم الشاعر وإن عم المقصد والراجز فهو بالمقصد أعلق، وعليه أوقع، فقيل لهذا شاعر، ولذلك راجز، كأنه ليس بشاعر، كما يقال خطيب أو مرسل أو نحو ذلك. باب في القطع والطول حدثنا الشيخ أبو عبد الله عبد العزيز بن أبي سهل رحمه الله تعالى، قال: سئل أبو عمرو بن العلاء: هل كانت العرب تطيل؟ فقال: نعم ليسمع منها، قيل: فهل كانت توجز؟ قال: نعم ليحفظ عنها. قال: وقال الخليل بن أحمد: يطول الكلام ويكثر ليفهم، ويوجز ويختصر ليحفظ؛ وتستحب الإطالة عند الإعذار، والإنذار، والترهيب، والترغيب، والإصلاح بين القبائل، كما فعل زهير، والحارث بن حلزة، ومن شاكلهما، وإلا فالقطع أطير في بعض المواضع، والطوال للمواقف المشهورات.. ويحكى أن الفرزدق لما وقع بينه وبين جرير ما وقع وحكم بينهما قال بعض الحكام: الفرزدق أشعر؛ لأنه أقواهما أسر كلام، وأجراهما في أساليب الشعر، وأقدرهما على تطويل، وأحسنهما قطعاً، فقدم بالقطع كما ترى. وقال بعض العلماء: يحتاج الشاعر إلى القطع حاجته إلى الطوال، بل هو عند المحاضرات والمنازعات والتمثل والملح أحوج إليها منه إلى الطوال. وقال أحد المجودين، وهو محمد بن حازم الباهلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 أبى لي أن أطيل المدح قصدي ... إلى المعنى وعلمي بالصواب وإيجازي بمختصرٍ قصيرٍ ... حذفت به الطويل من الجواب وقيل لابن الزبعري: إنك تقصر أشعارك، فقال: لأن القصار أولج في المسامع، وأجول في المحافل، وقال مرة أخرى: يكفيك من الشعر غرة لائحة، وسبة فاضحة.. وقيل للجماز: لم لا تطيل الشعر؟ فقال: لحذفي الفضول. وقال له بعض المحدثين وقد أنشده بيتين: ما تزيد على البيت والبيتين؟ فقال: أردت أن أنشدك مذارعة، وهو القائل: أقول بيتاً واحداً وأكتفي ... بذكره من دون أبيات وقيل مثل ذلك لعقيل بن علفة، فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. وقال الجاحظ: قيل لأبي المهوس: لم لا تطيل الهجاء؟ فقال: لم أجد المثل السائر إلا بيتاً واحداً. وهجا محمد بن عبد الملك الزيات أحمد بن أبي دؤاد بتسعين بيتاً، فقال ابن أبي دؤاد يخاطبه: أحسن من تسعين بيتاً سدىً ... جمعك معناهن في بيت ما أحوج الملك إلى مطرة ... تغسل عنه وضر الزيت غير أن المطيل من الشعراء أهيب في النفوس من الموجز وإن أجاد، على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 أن للموجز من فضل الاختصار ما ينكره المطيل، ولكن إذا كان صاحب القصائد دون صاحب القطع بدرجة أو نحوها وكان صاحب القطع لا يقدر على التطويل إن حاوله بتةً سوي بينهما؛ لفضل غير المجهود على المجهود، فإنا لا نشك أن المطول إن شاء جرد من قصيدته قطعة أبيات جيدة، ولا يقدر الآخر أن يمد من أبياته التي هي قطعة قصيدة. ولام قوم الكميت على الإطالة فقال: أنا على الإقصار أقدر، هكذا جاءت الدواية، ولا تكاد ترى مقطعاً إلا عاجزاً عن التطويل، والمقصد أيضاً قد يعجز عن الاختصار، ولكن الغالب والأكثر أن يكون قادراً على ما حاوله من ذلك وبالعجز رمى الكميت. وكان عبد الكريم بهذه الصفة، لا يكاد يصنع مقطوعاً، ولا أظن في جميع أشعاره خمس قطع أو نحوها. وكان أبو تمام على جلالته وتقدمه مقصراً في القطع عن رتبة القصائد.. والمشهورون بجودة القطع من المولدين: بشار بن برد، وعباس بن الأحنف، والحسن بن الضحاك، وأبو نواس، وأبو علي البصير، وعلي بن الجهم، وابن المعذل، والجماز، وابن المعتز. وكانوا يقولون في زمان منصور الفقيه وهو قريب من عصرنا هذا: إياكم ومنصوراً إذا رمح بالزوج، وكان ربما هجا بالبيت الواحد. ووصف عبد الكريم أبا الطيب؛ فزعم أنه أحسن الناس مقاطيع، ولو قال مقاطع بلا ياء قلنا صدقت ولم نخالفه. وقيل: إذا بلغت الأبيات سبعة فهي قصيدة، ولهذا كان الإيطاء بعد سبعة غير معيب عند أحد من الناس ... ومن الناس من لا يعد القصيدة إلا ما بلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 العشرة وجاوزها ولو ببيت واحد.. ويستحسنون أن تكون القصيدة وتراً، وأن يتجاوز بها العقد، أو توقف دونه؛ كل ذلك ليدلوا على قلة الكلفة، وإلقاء البال بالشعر. وزعم الرواة أن الشعر كله إنما كان رجزاً وقطعاً، وأنه إنما قصد على عهد هاشم بن عبد مناف، وكان أول من قصده مهلهل وامرؤ القيس، وبينهما وبين مجيء الإسلام مائة ونيف وخمسون سنة. وذكر ذلك الجمحي وغيره. وأول من طول الرجز وجعله كالقصيد الأغلب العجلي شيئاً يسيراً، وكان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى العجاج بعد فافتن فيه؛ فالأغلب العجلي والعجاج في الرجز كامرئ القيس ومهلهل في القصيد. والشاعر إذا قطع وقصد ورجز فهو الكامل؛ وقد جمع ذلك كله الفرزدق، ومن المحدثين أبو نواس، وكان ابن الرومي يقصد فيجيد، ويطيل فيأتي بكل إحسان، وربما تجاوز حتى يسرف، وخير الأمور أوساطها.. وهو القائل: وإذا امرؤ مدح امرأ لنواله ... فأطال فيه فقد أراد هجاءه لو لم يقدر فيه بعد المستقى ... عند الورود لما أطال رشاءه 26 باب في البديهة والارتجال البديهة عند كثير من الموسومين بعلم هذه الصناعة في بلدنا أو من أهل عصرنا هي الارتجال، وليست به؛ لأن البديهة فيها الفكرة والتأيد، والارتجال ما كان انهماراً وتدفقاً لا يتوقف فيه قائله: كالذي صنع الفرزدق وقد دفع إليه سليمان بن عبد الملك أسيراً من الروم ليقتله، فدس إليه بعض بني عبس سيفاً كهاماً فنبا حين ضرب به، فضحك سليمان، فقال الفرزدق ارتجالاً في مقامه ذلك يعتذر لنفسه، ويعير بني عبس بنبو سيف ورقاء بن زهير عن رأس خالد بن جعفر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فإن يك سيف خان أو قدر أبى ... لتأخير نفس حينها غير شاهد فسيف بني عبس وقد ضربوا به ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ... ويقطعن أحياناً مناط القلائد ولو شئت قط السيف ما بين أنفه ... إلى علقٍ دون الشراسيف جاسد ثم جلس وهو يقول: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم وكالذي يروى عن أبي الخطاب عمرو بن عامر السعدي المعروف بأبي الأسد، وقد أنشد موسى الهادي شعراً مدحه به يقول فيه: يا خير من عقدت كفاه حجزته ... وخير من قلدته أمرها مضر فقال له موسى: إلا من يا بائس؟ فقال واصلاً كلامه ولم يقطعه: إلا النبي رسول الله؛ إن له ... فخراً، وأنت بذاك الفخر تفتخر ففطن موسى ومن بحضرته أن البيت مستدرك، ونظروا في الصحيفة فلم يجدوه؛ فضاعف صلته. وأعظم ارتجال وقع قصيدة الحارث بن حلزة بين يدي عمر بن هند؛ فإنه يقال: أتى بها كالخطبة، وكذلك قصيدة عبيد بن الأبرص، وقيل: أفضل البديهة بديهة أمن، وردت في موضع خوف، فما ظنك بالارتجال وهو أسرع من البديهة؟. وكان أبو نواس قوي البديهة والارتجال، لا يكاد ينقطع ولا يروي إلا فلتة، روى أن الخصيب قال له مرة يمازحه وهما بالمسجد الجامع: أنت غير مدافع في الشعر، ولكنك لا تخطب! فقام من فوره يقول مرتجلاً: منحتكم يا أهل مصر نصيحتي ... ألا فخذوا من ناصحٍ بنصيب رماكم أمير المؤمنين بحية ... أكولٍ لحيات البلاد شروب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فإن يك باقي سحر فرعون فيكم ... فإن عصا موسى بكف خصيب ثم التفت إليه وقال: والله لا يأتي بمثلها خطيب مصقع فكيف رأيت؟ فاعتذر إليه وحلف إن كنت إلا مازحاً. وسمعت جماعة من العلماء يقولون: كان مسلم بن الوليد نظير أبي نواس، وفوقه عند قوم من أهل زمانه في أشياء، إلا أن أبا نواس قهره بالبديهة والارتجال، مع تقبض كان في مسلم وإظهار توفر وتصنع، وكان صاحب روية وفكرة لا يبتده ولا يرتجل. وكان أبو العتاهية فيما يقال أقدر الناس على ارتجال وبديهة؛ لقرب مأخذه، وسهولة طريقته، اجتمع عدة من الشعراء فيهم أبو نواس؛ فشرب أحدهم ماء، ثم قال: أجيزوا: د الماء وطابا فكلهم تلعثم، حتى طلع أبو العتاهية، فقال: فيم أنتم؟ فأنشدوه، فقال وما تروى: حبذا الماء شرابا فأتى بالقسيم رسلاً شبيهاً بصاحبه، وذلك هو الذي أعوز القوم لا وزن الكلام. وصحب رفقة فسمع زقاء الديوك، فقال لرفيقه: هل رأيت الصبح لاحا؟ قال: نعم، قال: وسمعت الديك صاحا. قال: نعم، قال: إنما بكى على المغ ... تر بالدنيا وناحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فاستيقظ رفيقه للكلام أنه شعر فرواه؛ فما جرى هذا المجرى فهو ارنجال. وأما البديهة فبعد أن يفكر الشاعر يسيراً ويكتب سريعاً إن حضرت آلة، إلا أنه غير بطيء ولا متراخ، فإن أطال حتى يفرط أو قام من مجلسه لم يعد بديهاً. وقالوا: اجتمع الشعراء بباب الرشيد، فأذن لهم، فقال: من يجيز هذا القسيم وله حكمه؟ فقالوا: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: الملك لله وحده فقال الجماز: وللخليفة بعده وللمحب إذا ما ... حبيبه بات عنده فقال: أحسنت، وأتيت على ما في نفسي، وأمر له بعشرة آلاف درهم. ومن عجيب ما روي في البديهة حكاية أبي تمام حين أنشد أحمد بن المعتصم بحضرة أبي يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي وهو فيلسوف العرب: إقدام عمرو، في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس فقال له الكندي: ما صنعت شيئاً، شبهت ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين بصعاليك العرب! ومن هؤلاء الذين ذكرت؟ وما قدرهم؟ فأطرق أبو تمام يسيراً، وقال: لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس فهذا أيضاً وما شاكله هو البديهة، وإن أعجب ما كان البديهة من أبي تمام؛ لأنه رجل متصنع، لا يحب أن يكون هذا في طبعه. وقد قيل: إن الكندي لما خرج أبو تمام قال: هذا الفتى قليل العمر؛ لأنه ينحت من قلبه، وسيموت قريباً، فكان كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وقد كان أبو الطيب كثير البديهة والارتجال، إلا أن شعره فيهما نازل عن طبقته جداً، وهو لعمري في سعة من العذر؛ إذ كانت البديهة كما قال فيها ابن الرومي: نار الروية نار جد منضجة ... وللبديهة نار ذات تلويح وقد يفضلها قوم لسرعتها ... لكنها سرعة تمضي مع الريح وقال عبد الله بن المعتز: والقول بعد الفكر يؤمن زيغه ... شتان بين روية وبديه ومن الشعراء من شعره في رويته وبديهته سواء عند الأمن والخوف؛ لقدرته، وسكون جأشه وقوة غريزته: كهدبة بن الخشرم العذري، وطرفة بن العبد البكري، ومرة بن محكان السعدي؛ إذ يقول وقد أمر مصعب بن الزبير رجلاً من بني أسد بقتله: بني أسد إن تقتلوني تحاربوا ... تميماً، إذا الحرب العوان اشمعلت ولست وإن كانت إلى حبيبة ... بباك على الدنيا إذا ما تولت وهذا شعر لو روي فيه صاحبه حولاً كاملاً على أمن ودعة وفرط شهوة أو شدة حمية لما أتى فوق هذا. وكذلك عبد يغوث بن صلاءة؛ إذ يقول في كلمة طويلة: أقول وقد شدوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا فيا راكباً إما عرضت فبلغن ... نداماي من نجران أن لا تلاقيا وكانوا قد شدوا لسانه خوفاً من الهجاء، فعاهدهم فأطلقوه لينوح على نفسه، فصنع هذه القصيدة، وعرض عليهم في فدائه ألف ناقة، فأبوا إلا قتله، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فإن تقتلوني تقتلوني بخيركم ... وإن تطلقوني تحربوني بماليا وهذه شهامة عظيمة وشدة. ومن قول طرفة بن العبد لما أيقن بالموت: أبا منذر كانت غروراً صحيفتي ... ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض وأين هؤلاء من عبيد بن الأبرص وهو شيخ الصناعة، ومقدم في السن على الجماعة إذ يقول له النعمان يوم بؤسه: أنشدني، فقال: حال الجريض دون القريض، قال: أنشدني قولك: أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب فقال: لا، ولكن: أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد فبلغت به حال الجزع إلى مثل هذا القول، على أن في بيت طرفة بعض الضراعة ... وممن وجد نفسه عند إحاطة الموت به تميم بن جميل؛ فإنه القائل بين يدي المعتصم وقد قدم السيف والنطع لقتله: أرى الموت بين النطع والسيف كامناً ... يلاحظني من حيث ما أتلفت وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... وأي امرئ مما قضى الله يفلت وأي امرئ يدلي بعذر وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 يعز على الأوس بن تغلب موقف ... يسل علي السيف فيه وأسكت وما حزني أني أموت وأنني ... لأعلم أن الموت شيء مؤقت ولكن خلفي صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتت كأني أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا فإن عشت عاشوا خافضين بنعمة ... أذود الردى عنهم وإن مت موتوا فكم قائل: لا أبعد الله داره ... وآخر جذلان يسر ويشمت فعفا عنه المعتصم وأحسن إليه، وقلده عملاً. وعلي بن الجهم هو القائل وقد صلب عرياناً: لم ينصبوا بالشاذياخ عشية ال ... اثنين مغلولاً ولا مجهولا نصبوا بحمد الله ملء عيونهم ... حسناً، وملء قلوبهم تبجيلا ما ضره أن بز عنه لباسه ... فالسيف أهول ما يرى مسلولا وهذا من جزل الكلام، لا سيما في مثل ذلك المقام، وكان علي من الفضلاء علماً بالشعر وصناعة له. حكي عن علي بن يحيى أنه قال: كنت عند المتوكل إذ أتاه رسول برأس إسحاق بن إسماعيل، فقام علي بن الجهم يخطر بين يديه ويقول: أهلاً وسهلاً بك من رسول ... جئت بما يشفي من الغليل برأس إسحاق بن إسماعيل قال المتوكل: قوموا التقطوا هذا الجوهر لا يضيع. والشاعر الحاذق المبرز إذا صنع على البديهة قنع منه بالعفو اللين، والنزر التافه؛ لما فيها من المشقة، وهو في الارتجال أعذر. واشتقاق البديهة من بده بمعنى بدأ، أبدلت الهمزة هاء كما أبدلت في أشياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 كثيرة لقربها منها؛ فقد قالوا مدح ومده، ولهنك تفعل كذا بمعنى لأنك، ومثل ذلك كثير. والارتجال: مأخوذ من السهولة والانصباب، ومنه قيل: شعر رجل، إذا كان سبطاً مسترسلاً غير جعد، وقيل: هو من ارتجال البئر وهو أن تنزلها برجليك من غير حبل. باب في آداب الشاعر من حكم الشاعر أن يكون حلو الشمائل، حسن الأخلاق، طلق الوجه، بعيد الغور، مأمون الجانب، سهل الناحية، وطيء الأكناف، فإن ذلك مما يحببه إلى الناس، ويزينه في عيونهم، ويقربه من قلوبهم، وليكن مع ذلك شريف النفس، لطيف الحس، عزوف الهمة، نظيف البزة، أنفاً؛ لتهابه العامة، ويدخل في جملة الخاصة، فلا تمجه أبصارهم، سمح اليدين، وإلا فهو كما قال ابن أبي فنن واسمه أحمد: وإن أحق الناس باللوم شاعر ... يلوم على البخل الرجال ويبخل وإلى هذا المعنى ذهب الطائي بقوله: أألوم من بخلت يداه وأغتدي ... للبخل ترباً؟ ساء ذاك صنيعا!! والشاعر مأخوذ بكل علم، مطلوب بكل مكرمة؛ لاتساع الشعر واحتماله كل ما حمل: من نحو، ولغة، وفقه، وخبر، وحساب، وفريضة، واحتياج أكثر هذه العلوم إلى شهادته، وهو مكتف بذاته، مستغن عما سواه؛ ولأنه قيد للأخبار، وتجديد للآثار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وصاحبه الذي يذم ويحمد ويهجو ويمدح، ويعرف ما يأتي الناس من محاسن الأشياء وما يذرونه، فهو على نفسه شاهد، وبحجته مأخوذ. وليأخذ نفسه بحفظ الشعر والخبر، ومعرفة النسب، وأيام العرب؛ ليستعمل بعض ذلك فيما يريده من ذكر الآثار، وضرب الأمثال، وليعلق بنفسه بعض أنفاسهم ويقوى بقوة طباعهم، فقد وجدنا الشاعر من المطبوعين المتقدمين يفضل أصحابه برواية الشعر، ومعرفة الأخبار، والتلمذة بمن فوقه من الشعراء، فيقولون: فلان شاعر راوية، يريدون أنه إذا كان راوية عرف المقاصد، وسهل عليه مأخذ الكلام، ولم يضق به المذهب، وإذا كان مطبوعاً لا علم له ولا رواية ضل واهتدى من حيث لا يعلم، وربما طلب المعنى فلم يصل إليه وهو ماثل بين يديه؛ لضعف آلته: كالمقعد يجد في نفسه القوة على النهوض فلا تعينه الآلة. وقد سئل رؤبة بن العجاج عن الفحل من الشعراء، فقال: هو الراوية، يريد أنه إذا روى استفحل. قال يونس بن حبيب: وإنما ذلك لأنه يجمع إلى جيد شعره معرفة جيد غيره، فلا يحمل نفسه إلا على بصيرة، وقال رؤبة في صفة شاعر: لقد خشيت أن تكون ساحراً ... راوية مرا ومرا شاعراً فاستعظم حاله حتى قرنها بالسحر. وقال الأصمعي: لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلاً حتى يروي أشعار العرب، ويسمع الأخبار، ويعرف المعاني، وتدور في مسامعه الألفاظ. وأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ذلك أنه يعلم العروض؛ ليكون ميزاناً له على قوله؛ والنحو؛ ليصلح به لسانه وليقيم به إعرابه؛ والنسب وأيام الناس؛ ليستعين بذلك على معرفة المناقب والمثالب وذكرها بمدح أو ذم. وقد كان الفرزدق على فضله في هذه الصناعة يروي للحطيئة كثيراً، وكان الحطيئة راوية زهير، وكان زهير راوية أوس بن حجر وطفيل الغنوي جميعاً، وكان امرؤ القيس راوية أبي دؤاد الإيادي: مع فضل تحيزه، وقوة غريزة، ولا بد بعد ذلك أن يلوذ به في شعره، ويتوكأ عليه كثيراً، وقد نزل أعشى بني قيس بن ثعلبة بين يدي النابغة الذبياني بسوق عكاظ وأنشده فقدمه، وأنشده حسان بن ثابت، ولبيد بن ربيعة؛ فما عابهم ذلك، ولا غض منهم، وكان كثير راوية جميل ومفضلاً له: إذا استنشد لنفسه بدأ بجميل، ثم أنشد ما يراد منه، ولم يكن بدون جرير والفرزدق، بل يقدم عليهما عند جميع أهل الحجاز، وكان أبو حية النميري واسمه الهيثم بن الربيع، وهو من أحسن الناس شعراً، وأنظفهم كلاماً مؤتماً بالفرزدق، آخذاً عنه، كثير التعصب له والرواية عنه. ولا يستغني المولد عن تصفح أشعار المولدين؛ لما فيها من حلاوة اللفظ، وقرب المأخذ، وإشارات الملح، ووجوه البديع الذي مثله في شعر المتقدمين قليل، وإن كانوا هم فتحوا بابه، وفتقوا جلبابه، وللمتعقب زيادات وافتنان، لا على أن تكون عمدة الشاعر مطالعة ما ذكرته آخر كلامي هذا دون ما قدمته؛ فإنه متى فعل ذلك لم يكن فيه من المتانة وفضل القوة ما يبلغ به طاقة من تبع جادته، وإذا أعانته فصاحة المتقدم وحلاوة المتأخر اشتد ساعده، وبعد مرماه، فلم يقع دون الغرض؛ وعسى أن يكون أرشق سهاماً، وأحسن موقعاً، ممن لو عول عليه من المحدثين لقصر عنه، ووقع دونه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وليجعل طلبه أولاً للسلامة، فإذا صحت له طلب التجويد حينئذ، وليرغب في الحلاوة والطلاوة رغبته في الجزالة والفخامة، وليجتنب السوقي القريب، والحوشي الغريب، حتى يكون شعره حالاً بين حالين كما قال بعض الشعراء: عليك بأوساط الأمور؛ فإنها ... نجاة، ولا تركب ذلولا ولا صعبا فأول ما يحتاج إليه الشاعر بعد الجد الذي هو الغاية، وفيه وحده الكفاية حسن التأتي والسياسة، وعلم مقاصد القول؛ فإن نسب ذل وخضع، وإن مدح أطرى وأسمع، وإن هجا أخل وأوجع، وإن فخر خب ووضع، وإن عاتب خفض ورفع، وإن استعطف حن ورجع، ولكن غايته معرفة أغراض المخاطب كائناً من كان؛ ليدخل إليه من بابه، ويداخله في ثيابه، فذلك هو سر صناعة الشعر ومغزاه الذي به تفاوت الناس وبه تفاضلوا.. وقد قيل: لكل مقام مقال وشعر الشاعر لنفسه وفي مراده وأمور ذاته من مزح، وغزل، ومكاتبة، ومجون، وخمرية، وما أشبه ذلك غير شعره في قصائد الحفل التي يقوم بها بين السماطين: يقبل منه في تلك الطرائق عفو كلامه، وما لم يتكلف له بالاً، ولا ألقي به، ولا يقبل منه في هذه إلا ما طان محككاً، معاوداً فيه النظر، جيداً، لا غث فيه، ولا ساقط، ولا قلق؛ وشعره للأمير والقائد غير شعره للوزير والكاتب، ومخاطبته للقضاة والفقهاء بخلاف ما تقدم من هذه الأنواع.. وسيأتي هذا في موضعه من هذا الكتاب مفصلاً، إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 والمتأخر من الشعراء في الزمان لا يضره تأخره إذا أجاد، كما لا ينفع المتقدم تقدمه إذا قصر، وإن كان له فضل السبق فعليه درك التقصير، كما أن للمتأخر فضل الإجادة أو الزيادة، ولا يكون الشاعر حاذقاً مجوداً حتى يتفقد شعره، ويعيد فيه نظره، فيسقط رديه، ويثبت جيده، ويكون سمحاً بالركيك منه، مطرحاً له، راغباً عنه؛ فإن بيتاً جيداً يقاوم ألفي رديء. وقال امرؤ القيس وهو أول من زعموا أنه أختبر له وعلم به أنه يكون أفضل الشعراء والمقدم عليهم: أذود القوافي عني ذياداً ... ذياد غلام جريء جرادا فلما كثرن وعنينه ... تخير منهن شتى جيادا فأعزل مرجانها جانباً ... وآخذ من درها المستجادا هكذا في أكثر النسخ، وفي بعضها " حراد " بالحاء مكسورة غير معجمة، و " شتى جيادا " بالشين معجمة مفتوحة غير منونة التاء. فإذا كان أشعر الشعراء يصنع هذا ويحكيه عن نفسه، فكيف ينبغي لغيره أن يصنع؟ وزعم ابن الكلبي أنه امرؤ القيس بن بكر بن امرئ القيس بن الحارث بن معاوية الكندي، وروي " سفي " في موضع " جريء " والسفي: السفيه والخفيف أيضاً، وإليه يرجع اشتقاقه، وزعم غير ابن الكلبي أن الأبيات لامرئ القيس بن عابس الكندي. ويقال: إن أبا نواس كان يفعل هذا الفعل؛ فينفي الدني ويبقي الجيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وليلتمس له من الكلام ما سهل، ومن القصد ما عدل، ومن المعنى ما كان واضحاً جلياً يعرف بدياً، فقد قال بعض المتقدمين: شر الشعر ما سئل عن معناه، وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المحكك، أخذ في ذلك بمذهب زهير، وأوس، وطفيل. ولا يجوز للشاعر كما يجوز لغيره أن يكون معجباً بنفسه، مثنياً على شعره، وإن كان جيداً في ذاته، حسناً عند سماعه، فكيف إن كان دون ما يظن؟ كقوم أفردوا لذلك أنفسهم، وأفنوا فيه أعمارهم وما يحصلون على طائل، وقد قال الله عز وجل: " فلا تزكوا أنفسكم " اللهم إلا أن يريد الشاعر ترغيب الممدوح أو ترهيبه فيثني على نفسه، ويذكر فضل قصيدته؛ فقد جعلوه مجازاً مسامحاً فيه: كالذي يعرض لكثير من الشعراء في أشعارهم من مدح قصائدهم، على أن أبا تمام يقول: ويسيء بالإحسان ظناً لا كمن ... يأتيك وهو بشعره مفتون وإن كان أوصف الناس لقصيده، وأكثرهم ولوعاً بذلك، وهذا ما دام شعراً كان محمولاً على ما قدمناه، وإنما المكروه المعيب أن يكون ذلك منثوراً أو تأليفاً مسطوراً: كالذي فعل الناشئ أبو العباس في أشياء من شعره ذكرها في كتابه الموسوم بتفضيل الشعر؛ فشكرها، ونوه بها، ونبه عليها، وفضلها على أشعار الفحول: مثل جرير وغيره، منها قول جرير: إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا وزعم بعد إقامة ما حسبه برهاناً أن قوله: لا شيء أعجب من عينيك؛ إنهما ... لا يضعفان القوى إلا إذا ضعفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 خير منه، وأسلم من الاعتراض، وأكثر اختصاراً. ويجب على الشاعر أن يتواضع لمن دونه، ويعرف حق من فوقه من الشعراء؛ فإن امرأ القيس وكان شديد الظنة في شعره، كثير المنازعة لأهله، مدلاً فيه بنفسه، واثقاً بقدرته لقي التوأم اليشكري، واسمه الحارث بن قتادة، فقال له: إن كنت شاعراً كما تقول فملط لي أنصاف ما أقول فأجزها، قال: نعم، فقال امرؤ القيس: أحار ترى بريقاً هب وهناً فقال التوأم: كنار مجوس تستعر استعاراً فقال امرؤ القيس: أرقت له ونام أبو شريح فقال التوأم: إذا ما قلت قد هدأ استطارا فقال امرؤ القيس: كأن هزيمه بوراء غيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فقال التوأم: عشار وإله لاقت عشارا فقال امرؤ القيس: فلما أن علا كنفي أضاخ فقال التوأم: وهت أعجاز ريقه فحارا فقال امرؤ القيس: فلم يترك بذات السر ظبياً وقال التوأم: ولم يترك بجهلتها حمارا فلما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في ذلك الحرس أي: العصر من يماتنه أي: يقاومه ويطاوله آلى ألا ينازع الشعر أحداً آخر الدهر، وروى ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء، ولو نظر بين الكلامين لوجد التوأم أشعر في شعرهما هذا؛ لأن امرأ القيس مبتدئ ما شاء، وهو في فسحة مما أراد، والتوأم محكوم عليه بأول البيت، مضطر في القافية التي عليها مدارهما جميعاً، ومن ههنا والله أعلم عرف امرؤ القيس من حق المماتنة ما عرف، ونازع أيضاً علقمة بن عبدة فكان من غلبة علقمة عليه ما كان.. وأما جرير فهجاه شاعر يقال له: البردخت، فقال: ما اسمه؟ قيل له: البردخت، فقال: وما معنى البردخت؟ قالوا له: الفارغ، فقال: إذاً والله لا أشغله بنفسي أبداً، وسالمه، هذا وهو جرير الذي غلب شياطين الشعراء، وسكن شقاشق الفحول.. وأما عقبة بن رؤبة بن العجاج فإنه أنشد عقبة بن سلم بحضرة بشار أرجوزة، فقال: كيف ترى يا أبا معاذ؟ فأثنى بشار كما يجب لمثله أن يفعل، وأظهر الاستحسان، فلم يعرف له عقبة حقه، ولا شكر له فعله، بل قال له: هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 طراز لا تحسنه، فقال له بشار: ألمثلي يقال هذا الكلام؟ أنا والله أرجز منك ومن أبيك ومن جدك، ثم غدا على عقبة بن سلم بأرجوزته التي أولها: يا طلل الحي بذات الصمد ... بالله خبر كيف كنت بعدي فضح بها ابن رؤبة فضيحة ظاهرة كان غنياً عنها.. وكان في البحتري إعجاب شديد، إذ أنشد يقول: ما لكم لا تعجبون؟ أما حسن ما تسمعون؟ فأنشد المتوكل يوماً قصيدته التي أولها: عن أي ثغر تبتسم ... وبأي طرف تحتكم؟ وأبو العباس الصيمري حاضر، فلما رأى إعجابه قام حذاءه فقال: من أي سلح تلتقم؟ ... وبأي كف تلتطم؟ ذقن الوليد البحتري ... أبي عبادة في الرحم فولى البحتري وهو غضبان، فقال: وعلمت أنك تنهزم فضحك المتوكل حتى فحص برجليه، وأعطى الصيمري جائزة سنية. باب عمل الشعر وشحذ القريحة لا بد للشاعر وإن كان فحلاً، حاذقاً، مبرزاً، مقدماً من فترة تعرض له في بعض الأوقات: إما لشغل يسير، أو موت قريحة، أو نبو طبع في تلك الساعة أو ذلك الحين. وقد كان الفرزدق وهو فحل مضر في زمانه يقول: تمر علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون علي من عمل بيت من الشعر. فإذا تمادى ذلك على الشاعر قيل: أصفى وأفصى، كما يقال: أفصت الدجاجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 إذا انقطع بيضها، وكذلك يقال له: أجبل، كما يقال لحافر البئر إذا بلغ جبلاً تحت الأرض لا يعمل فيه شيء: أجبل، ومثل أجبل: أكدى، إلا أنهم خصوا به العطاء، وذلك أن يصادف حافر البئر كدية فلا يزيد شيئاً على ما حفر، ويقال: أفحم الشاعر على أفعل، قالوا: وهو من فحم الصبي إذا انقطع صوته من شدة البكاء، فإن ساء لفظه وفسدت معانيه قيل له: أهتر فهو مهتر. وقد قيل في الذبياني: إنه إنما كان شعره نظيفاً من العيوب لأنه قاله كبيراً، ومات عن قرب، ولم يهتر.. وأكثر ما جاء الإهتار في صفة الكبير الذي يختلط كلامه وقولهم في شعر النابغة إنه قاله وهو كبير يدل على أنه بهذا سمي نابغة كما عند أكثر الناس، لا لقوله: فقد نبغت لنا منهم شئون. كما تقدم من قول بعضهم. ويقال: أخلى الشاعر، كما يقال أخلى الرامي، إذا لم يصب معنى. حكي عن البحتري أنه قال: فاوضت ابن الجهم علياً في الشعر، وذكر أشجع السلمي فقال: إنه كان يخلى، فلم أفهمها عنه، وأنفت أن أسأله عنها، فلما انصرفت فكرت فيها، ونظرت في شعر أشجع، فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة ليس فيها بيت رائع. ثم إن للناس فيما بعد ضروباً مختلفة: يستدعون بها الشعر، فتشحذ القرائح وتنبه الخواطر، وتلين عريكة الكلام، وتسهل طريق المعنى: كل امرئ على تركيب طبعه، واطراد عادته، وسيأتي ذلك في أقاويل العلماء بما أرجو أن تكون فيه هداية إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 قال بكر بن النطاح الحنفي: الشعر مثل عين الماء: إن تركتها اندفنت، وإن استهتنتها هتنت، وليس مراد بكر أن تستهتن بالعمل وحده؛ لأنا نجد الشاعر تكل قريحته مع كثرة العمل مراراً، وتنزف مادته، وتنفد معانيه، فإذا أجم طبعه أياماً وربما زماناً طويلاً ثم صنع الشعر جاء بكل آبدة، وانهمر في كل قافية شاردة، وانفتح له من المعاني والألفاظ ما لو رامه من قبل لاستغلق عليه، وأبهم دونه، لكن بالمذاكرة مرة؛ فإنها تقدح زناد الخاطر، وتفجر عيون المعاني، وتوقظ أبصار الفطنة، وبمطالعة الأشعار كرة؛ فإنها تبعث الجد، وتولد الشهوة. وسئل ذو الرمة: كيف تعمل إذا انقفل دونك الشعر؟ فقال: كيف ينقفل دوني وعندي مفتاحه؟ قيل له: وعنه سألناك، ما هو؟ قال: الخلوة بذكر الأحباب، فهذا لأنه عاشق، ولعمري إنه إذا انفتح للشعر نسيب القصيدة فقد ولج من الباب، ووضع رجله في الركاب، على أن ذا الرمة لم يكن كثير المدح والهجاء، وإنما كان واصف أطلال، ونادب أظعان، وهو الذي أخرجه من طبقة الفحول. وقيل لكثير: كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المحيلة؛ والرياض المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع إلى أحسنه. وقال الأصمعي: ما استدعي شارد بمثل الماء الجاري، والشرف العالي، والمكان الخالي وقيل: الحالي، يعني الرياض وحدثني بعض أصحابنا من أهل المهدية وقد مررنا بموضع بها يعرف بالكدية هو أشرفها أرضاً وهواء قال: جئت هذا الموضع مرة فإذا عبد الكريم على سطح برج هنالك قد كشف الدنيا، فقلت: أبا محمد؟ قال: نعم، قلت: ما تصنع ههنا؟ قال: ألقح خاطري، وأجلو ناظري، قلت: فهل نتج لك شيء؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 قال: ما تقر به عيني وعينك إن شاء الله تعالى، وأنشدني شعراً يدخل مسام القلوب رقة، قلت: هذا اختبار منك اخترعته، قال: بل برأي الأصمعي. وقالوا: كان جرير إذا أراد أن يؤبد قصيدة صنعها ليلاً: يشعل سراجه ويعتزل، وربما على السطح وحده فاضطجع وغطى رأسه رغبة في الخلوة بنفسه. يحكي أنه صنع ذلك في قصيدته التي أخزى بها بني نمير، وقد تقدم ذكرها. وروى أن الفرزدق كان إذا صعبت عليه صنعة الشعر ركب ناقته، وطاف خالياً منفرداً وحده في شعاب الجبال وبطون الأودية والأماكن الخربة الخالية، فيعطيه الكلام قياده. حكى ذلك عن نفسه في قصيدته الفائية: عزفت بأعشاش وما كدت تعزف وذكر أن فتى من الأنصار بحضرة كثير أو غيره فاخره بأبيات حسان بن ثابت: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما فأنظره سنة فمضى حنقاً، وطالت ليلته ولم يصنع شيئاً، فلما كان قرب الصباح أتى جبلاً بالمدينة يقال له ذباب، فنادى: أخاكم يا بني لبني، صاحبكم، صاحبكم، صاحبكم، وتوسد ذراع ناقته، فانثالت عليه القوافي انثيالاً، وجاء بالقصيدة بكرة وقد أعجزت الشعراء وبهرتهم طولاً وحسناً وجودة. وقيل لأبي نواس: كيف عملك حين تريد أن تصنع الشعر؟ قال أشرب حتى إذا كنت أطيب ما أكون نفساً بين الصاحي والسكران صنعت وقد داخلني النشاط وهزتني الأريحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 قال ابن قتيبة: وللشاعر أوقات يسرع فيها أتيه، ويسمح فيها أبيه: منها أول الليل قبل تغشي الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في الحبس والمسير، ولهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل المترسل. وحكى عن أبي تمام وقد سأله البحتري عن أوقات صنعة الشعر قريب من هذا لا أحفظه نصاً، ولا أشك أن ابن قتيبة به اقتدى، إن كان مما رواه. ومما يجمع الفكرة من طريق الفلسفة استلقاء الرجل على ظهره، وعلى كل حال فليس يفتح مقفل بحار الخواطر مثل مباكرة العمل بالأسحار عند الهبوب من النوم؛ لكون النفس مجتمعة لم يتفرق حسها في أسباب اللهو أو المعيشة أو غير ذلك مما يعييها، وإذ هي مستريحة جديدة كأنما أنشئت نشأة أخرى؛ ولأن السحر ألطف، وأرق نسيماً هواءً، وأعدل ميزاناً بين الليل والنهار، وإنما لم يكن العشي كالسحر وهو عديله في التوسط بين طرفي الليل والنهار لدخول الظلمة فيه على الضياء بضد دخول الضياء في السحر على الظلمة، ولأن النفس فيه كالة مريضة من تعب النهار وتصرفها فيه، ومحتاجة إلى قوتها من النوم متشوقة نحوه؛ فالسحر أحسن لمن أراد أن يصنع، وأما لمن أراد الحفظ والدراسة وما أشبه ذلك فالليل، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: " إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلا " وهذا الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الذي لا مطعن فيه، ولا اعتراض عليه، وعلى قراءة من قرأ وطاء يكون معناه أثقل على فاعله، وإذا كان كذلك كان أكثر أجراً، فهذا يشهد لنا أن العمل أول الليل يصعب؛ لأن النوم يغلب والجسم يكل. وكان أبو تمام يكره نفسه على العمل حتى يظهر ذلك في شعره.. حكى ذلك عنه بعض أصحابه، قال: استأذنت عليه وكان لا يستتر عني فأذن لي فدخلت فإذا هو في بيت مصهرج قد غسل بالماء، يتقلب يميناً وشمالاً، فقلت: لقد بلغ بك الحر مبلغاً شديداً، قال: لا، ولكن غيره، ومكث كذلك ساعة ثم قام كأنما أطلق من عقال، قال: الآن وردت، ثم استمد وكتب شيئاً لا أعرفه، ثم قال: أتدري ما كنت فيه مذ الآن؟ قلت: كلا، قال: قول أبي نواس: كالدهر في شراسة وليان أردت معناه فشمس علي حتى أمكن الله منه فصنعت. شرست، بل لنت، بل قانيت ذاك بذا ... فأنت لا شك فيك السهل والجبل ولعمري لو سكت هذا الحاكي لنم هذا البيت بما كان داخل البيت؛ لأن الكلفة فيه ظاهرة، والتعمل بين، على أن مثل حكاية أبي تمام وأشد منها قد وقعت لمن لا يتهم، وهو جرير: صنع الفرزدق شعراً يقول فيه: فإني أنا الموت الذي هو ذاهب ... بنفسك، فانظر كيف أنت محاوله وحلف بالطلاق أن جريراً لا يغلبه فيه، فكان جرير يتمرغ في الرمضاء ويقول: أنا أبو حزرة، حتى قال: أنا الدهر يفنى الموت والدهر خالد ... فجئني بمثل الدهر شيئاً يطاوله وكان أبو تمام ينصب القافية للبيت؛ ليعلق الأعجاز بالصدور، وذلك هو التصدير في الشعر، ولا يأتي به كثيراً إلا شاعر متصنع كحبيب ونظرائه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 والصواب أن لا يصنع الشاعر بيتاً لا يعرف قافيته، غير أني لا أجد ذلك في طبعي جملة، ولا أقدر عليه، بل أصنع القسيم الأول على ما أريده، ثم ألتمس في نفسي ما يليق به من القوافي بعد ذلك، فأبني عليه القسيم الثاني: أفعل ذلك فيه كما يفعل من يبني البيت كله على القافية، ولم أر ذلك بمخل علي، ولا يزيحني عن مرادي، ولا يغير علي شيئاً من لفظ القسيم الأول، إلا في الندرة التي لا يعتد بها أو على جهة التنقيح المفرط. وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحه كالمتعجب من شعره، فقال: كيف تقول الشعر؟ قال: أنظر في ذلك ثم أقول، قال: فعليك بالمشركين ولم يكن أعد شيئاً، فأنشد أبياتاً منها: فخبروني، أثمان العباء متى ... كنتم بطاريق أو دانت لكم مضر؟؟ فعرف الكراهية في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، لما جعل قومه أثمان العباء، فقال: نجالد الناس عن عرض ونأسرهم ... فينا النبي وفينا تنزل السور وقد علمتم بأنا ليس يغلبنا ... حي من الناس إن عزوا، وإن كثروا ينتهي إلى أن يقول في النبي صلى الله عليه وسلم: فثبت الله ما أعطاك من حسن ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال: " وإياك فثبت الله يا بن رواحة ". ومن الشعراء من يسبق إليه بيت واثنان، وخاطره في غيرهما: يجب أن يكونا بعد ذلك بأبيات، أو قبله بأبيات، وذلك لقوة طبعه، وانبعاث مادته، ومنهم من ينصب قافية بعينها لبيت بعينه من الشعر مثل أن تكون ثالثة أو رابعة أو نحو ذلك لا يعدو بها ذلك الموضع إلا انحل عنه نظم أبياته، وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 عيب في الصنعة شديد، ونقص بين؛ لأنه أعني الشاعر يصير محصوراً على شيء واحد بعينه، مضيقاً عليه، وداخلاً تحت حكم القافية. وكانوا يقولون: ليكن الشعر تحت حكمك، ولا تكن تحت حكمه. ومنهم من إذا أخذ في صنعة الشعر كتب من القوافي ما يصلح لذلك الوزن الذي هو فيه، ثم أخذ مستعملها، وشريفها، ومساعد معانيه، وما وافقها، وأطرح ما سوى ذلك، إلا أنه لا بد أن يجمعها ليكرر فيها نظره، ويعيد عليها تخيره في حين العمل، هذا الذي عليه حذاق القوم. ومن الشعراء من إذا جاءه البيت عفواً أثبته، ثم رجع إليه فنقحه، وصفاه من كدره، وذلك أسرع له، وأخف عليه، وأصح لنظره، وأرخى لباله.. وآخر لا يثبت البيت إلا بعد إحكامه في نفسه، وتثقيفه من جميع جهاته، وذلك أشرف للهمة، وأدل على القدرة، وأظهر للكلفة، وأبعد من السرقة. وسألت شيخاً من شيوخ هذه الصناعة فقلت: ما يعين على الشعر؟ قال: زهرة البستان، وراحة الحمام. وقيل: إن الطعام الطيب، والشراب الطيب، وسماع الغناء، ما يرق الطبع، ويصفي المزاج، ويعين على الشعر. ولما أرادت قريش معارضة القرآن عكف فصحاؤهم الذين تعاطوا ذلك على لباب البر وسلاف الخمر ولحوم الضأن والخلوة إلى أن بلغوا مجهودهم. فلما سمعوا قول الله عز وجل " وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي، وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجودي، وقيل بعداً للقوم الظالمين " يئسوا مما طمعوا فيه، وعلموا أنه ليس بكلام مخلوق. وقيل: مقود الشعر الغناء به، وذكر عن أبي الطيب أن متشرفاً تشرف عليه وهو يصنع قصيدته التي أولها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 جللاً كما بي فليك التبريح. وهو يتغنى ويصنع، فإذا توقف بعض التوقف رجع بالإنشاد من أول القصيدة إلى حيث انتهى منها. وقال بعضهم: من أراد أن يقول الشعر فليعشق فإنه يرق، وليرو فإنه يدل، وليطمع فإنه يصنع. وقالوا: الحيلة لكلال القريحة انتظار الحمام، وتصيد ساعات النشاط، وهذا عندي أنجع الأقوال، وبه أقول، وإليه أذهب.. وقال بكر بن عبد الله المزني: لا تكدوا القلوب ولا تهملوها، وخير الفكر ما كان في عقب الحمام، ومن أكره بصره عشي، واشحذوا القلوب بالذاكرة ولا تيأسوا من إصابة الحكمة إذا منحتم ببعض الاستغلاق، فإن من أدمن قرع الباب وصل. وقال الخليع: من لم يأت شعره من الوحدة فليس بشاعر، قالوا: يريد الخلوة، وربما أراد الغربة، كما قال ديك الجن: ما أصفى شاعر مغترب قط. ومما لا يسع تركه في هذا الموضع صحيفة كتبها بشر بن المعتمر، ذكر فيها البلاغة، ودل على مظان الكلام والفصاحة، يقول فيها: خذ من نفسك ساعة فراغك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قلبك تلك الساعة أكرم جوهراً، وأشرف حساً، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمجاهدة، وبالتكلف والمعاندة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولاً قصداً، أو خفيفاً على اللسان سهلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 كما خرج من ينبوعه، ونجم من معدنه. وإياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك، ومن أراغ معنى كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً؛ فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن يصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله أسوأ حالاً منك من قبل أن تلتمس إظهارهما، وترهن نفسك في ملابستهما وقضاء حقهما، وكن في إحدى ثلاث منازل: فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقاً عذباً، وفخماً سهلاً، ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً: إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما للعامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة. وإنما مدار الشرف مع الصواب وإحراز المنفعة، ومع موافقة الحال، ومع ما يجب لكل مقام من المقال، وكذلك اللفظ العامي والخاصي، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك في نفسك على أن تفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء؛ فأنت البليغ التام. فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك ولا تسمح لك عند أول نظرك في أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها ولم تصل إلى قرارها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها نافرة عن موضعها؛ فلا تكرهها على اغتصاب مكانها، والنزول في غير أوطانها؛ فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بترك ذلك أحد؛ فإن أنت تكلفتها ولم تكن حاذقاً مطبوعاً، ولا محكماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 لشأنك، بصيراً بما عليك ولك؛ عابك من أنت أقل منه عيباً، ورأى من هو دونك أنه فوقك. فإن أنت ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع؛ فلا تعجل، ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك؛ فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن كانت هناك طبيعة، أو جريت في الصناعة على عرق، فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل، ومن غير طول إهمال؛ فالمنزلة الثالثة أن تتحول عن هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفها عليك؛ فإنك لم تشتهه ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسب، والشيء لا يحن إلا إلى ما شاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في صفات، وإلا أن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع الشهوة والمحبة. وقال بعض أهل الأدب: حسب الشاعر عوناً على صناعته أن يجمع خاطره، بعد أن يخلي قلبه من فضول الأشغال، ويدع الامتلاء من الطعام والشراب، ثم يأخذ فيما يريده. وأفضل ما استعان به الشاعر فضل غنى أو فرط طمع. والفقر آفة الشعر، وإنما ذلك لأن الشاعر إذا صنع القصيدة وهو في غنى وسعة نقحها وأنعم النظر فيها على مهل، فإذا كان مع ذلك طمع قوي انبعاثها من ينبوعها، وجاءت الرغبة بها في نهايتها محكمة، وإذا كان فقيراً مضطراً رضي بعفو كلامه، وأخذ ما أمكنه من نتيجة خاطره، ولم يتسع في بلوغ مراده ولا بلوغ مجهود نيته؛ لما يحفزه من الحاجة والضرورة، فجاء دون عادته في سائر أشعاره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وربما قصر عمن هو دونه بكثير، ومنهم من تحمي الحاجة خاطره، وتبعث قريحته؛ فيجود، فإذا أوسع أنف، وصعب عليه عمل الأبيات اليسيرة فضلاً عن الكثيرة، وللعادة في هذه الأشياء فعل عظيم، وهي طبيعة خامسة كما قيل فيها. باب في المقاطع والمطالع اختلف أهل المعرفة في المقاطع والمطالع: فقال بعضهم: هي الفصول والوصول بعينها، فالمقاطع: أواخر الفصول، والمطالع: أوائل الوصول، وهذا القول هو الظاهر من فحوى الكلام، والفصل: آخر جزء من القسيم الأول كما قدمت، وهي العروض أيضاً، والوصل: أول جزء يليه من القسيم الثاني. وقال غيرهم: المقاطع: منقطع الأبيات، وهي القوافي، والمطالع: أوائل الأبيات وقال قدامة بن جعفر في بعض تآليفه وقد ذكر الترصيع: هو أن يتوخى تصيير مقاطع الأجزاء في البيت على سجع، أو شبيه به، أو من جنس واحد في التصريف، فأشار بهذه العبارة إلى أن المقاطع أواخر أجزاء البيت كما ترى.. وقد نجد من الشعر المرصع ما يكون سجعه في غير مقاطع الأجزاء، نحو قول أم معدان الأعرابية في مرثية لها: فعل الجميل وتفريج الجليل وإع ... طاء الجزيل الذي لم يعطه أحد فالسجع في هذا البيت اللام المطردة في ثلاثة أمكنة منه، وآخر الأجزاء التي هي المقاطع على شريطة الياء التي قبل اللام، اللهم إلا أن يجعل السجع هو الياء الملتزمة فحينئذ، على أنا لا نعلم حرف السجع يكون إلا متأخراً في مثل هذا المكان، ومثل هذا في أنواع الأعاريض كثير. ومن الناس من يزعم أن المطلع والمقطع أول القصيدة وآخرها، وليس ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 بشيء؛ لأنا نجد في كلام جهابذة النقاد إذا وصفوا قصيدة قالوا: حسنة المقاطع، جيدة المطالع، ولا يقولون المقطع والمطلع، وفي هذا دليل واضح؛ لأن القصيدة إنما لها أول واحد، وآخر واحد، ولا يكون لها أوائل وأواخر، إلا على ما قدمت من ذكر الأبيات والأقسمة وانتهائها. وسألت الشيخ أبا عبد الله محمد بن إبراهيم بن السمين عن هذا، فقال: المقاطع أواخر الأبيات، والمطالع أوائلها، قال: ومعنى قولهم حسن المقاطع جيد المطالع أن يكون مقطع البيت وهو القافية متمكناً غير قلق ولا متعلق بغيره، فهذا هو حسنه، والمطلع وهو أول البيت جودته أن يكون دالاً على ما بعده كالتصدير وما شاكله. وروى الجاحظ أن شبيب بن شيبة كان يقول: الناس موكلون بتفضيل جودة الابتداء وبمدح صاحبه، وأنا موكل بتفضيل جودة المقطع وبمدح صاحبه، وحظ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة أرفع من حظ سائر البيت أو القصيدة، وحكاية الجاحظ هذه تدل على أن المقطع آخر البيت أو القصيدة، وهو بالبيت أليق؛ لذكر حظ القافية. وحكى أيضاً عن صديق له أنه قال للعتابي: ما البلاغة؟ فقال: كل كلام أفهمك صاحبه حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ، قال: قلت: قد عرفت الإعادة والحبسة، وما الاستعانة؟ قال: أما تراه إذا تحدث قال عند مقاطع كلامه: يا هناه اسمع مني، واستمع إلي، وافهم، وألست تفهم؟ هذا كله عي وفساد. قال صاحب الكتاب: وهذا القول من العتابي يدل على أن المقاطع أواخر الفصول. ومثله ما حكاه الجاحظ أيضاً عن المأمون أنه قال لسعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 بن سلم: والله إنك لتصغي لحديثي، وتقف عند مقاطع كلامي. وإذا جعل المقطع والمطلع مصدرين بمعنى القطع والطلوع كانت الطاء واللام مفتوحتين، وإذا أريد موضع القطع والطلوع كسرت اللام خاصة، وهو مسموع على غير قياس. باب المبدأ والخروج والنهاية قيل لبعض الحذاق بصناعة الشعر: لقد طار اسمك واشتهر، فقال: لأنني أقللت الحز، وطبقت المفصل، وأصبت مقاتل الكلام، وقرطست نكت الأغراض بحسن الفواتح والخواتم ولطف الخروج إلى المدح والهجاء، وقد صدق، لأن حسن الافتتاح داعية الانشراح، ومطية النجاح، ولطافة الخروج إلى المديح، سبب ارتياح الممدوح، وخاتمة الكلام أبقى في السمع، وألصق بالنفس؛ لقرب العهد بها؛ فإن حسنت حسن، وإن قبحت قبح، والأعمال بخواتيمها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وبعد، فإن الشعر قفل أوله مفتاحه، وينبغي للشاعر أن يجود ابتداء شعره؛ فإنه أول ما يقرع السمع، وبه يستدل على ما عنده من أول وهلة، وليجتنب " ألا " و " خليلي " و " قد " فلا يستكثر منها في ابتدائه؛ فإنها من علامات الضعف والتكلان، إلا للقدماء الذين جروا على عرق، وعملوا على شاكلة، وليجعله حلواً سهلاً، وفخماً جزلاً، فقد اختار الناس كثيراً من الابتداءات أذكر منها ههنا ما أمكن ليستدل به، نحو قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل. وهو عندهم أفضل ابتداء صنعه شاعر؛ لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد، وقوله: ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي. ومثله قول القطامي واسمه عمير بن شييم التغلبي: إنا محيوك فاسلم أيها الطلل. وكقول النابغة: كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب وقوله: كتمتك ليلاً بالجمومين ساهراً ... وهمين هماً مستكناً وظاهراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وهذا بعض ما اختير للقدماء.. ومما اختير لهم في الرثاء قول أوس بن حجر: أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا ومما اختير للمحدثين قول بشار بن برد: أبي طلل بالجزع أن يتكلما. وهو عندهم أفضل ابتداء صنعه محدث، وقول أبي نواس: لمن دمن تزداد طيب نسيم ... على طول ما أقوت وحسن رسوم وقوله: رسم الكرى بين الجفون محيل ... عفى عليه بكى عليك طويل وقوله: أعطتك ريحانها العقار ... وحان من ليلنا انسفار وقوله: دع عنك لومي فإن اللوم إغراءٌ ... وداوني بالتي كانت هي الداء وما أشبه ذلك مما لو تقصيته لطال وكثر.. وليرغب عن التعقيد في الابتداء؛ فإنه أول العي، ودليل الفهة، فقد حكى أن دعبل بن علي الخزاعي ورد حمص فقصد دار عبد السلام بن رغبان ديك الجن، فكتم نفسه عنه خوفاً من قوارصه ومشارته، فقال: ما له يستتر وهو أشعر الجن والإنس؟ أليس هو الذي يقول؟: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 بها غير معذول فداو خمارها ... وصل بعشيات الغبوق ابتكارها ونل من عظيم الردف كل عظيمة ... إذا ذكرت خاف الحفيظان نارها فظهر إليه، واعتذر له، وأحسن نزله، ثم تناشدا فأنشد ديك الجن ابتداء قصيدة: كأنها ما كأنه خلل ال ... خلة وقف الهلوك إذ بغما فقال له دعبل: أمسك، فوالله ما ظننتك تتم البيت إلا وقد غشي عليك، أو تشكيت فكيك، ولكأنك في جهنم تخاطب الزبانية، أو قد تخبطك الشيطان من المس، وإنما أراد الديك أن يهول عليه، ويقرع سمعه، عسى أن يروعه ويردعه، فسمع منه ما كره أن يسمعه، ولعمري ما ظلمه دعبل، ولقد أبعد مسافة الكلام، وخالف العادة، وهذا بيت قبيح من جهات: منها إضمار ما لم يذكر قبل، ولا جرت العادة بمثله فيعذر، ولا كثر استعماله فيشتهر، مع إحالة تشبيه على تشبيه، وثقل تجانسه الذي هو حشو فارغ، ولو طرح من البيت لكان أحزم، واستدعى قافيته لا لشيء إلا لفساد المعنى واستحالة التشبيه، ما الذي يريد ب " بغامه " في تشبيهه الوقف وهو السوار ولم كان وقف الهلوك خاصة؟ ومعنى البيت أن عشيقته كأنها في جيدها وعينها الغزال الذي كأنه بين نبات الخلة سوار الجارية الحسنة المشي المتهالكة فيه وقيل: الهلوك البغي الفاجرة فما هذا كله؟ وأي شيء تحته؟ ومثله قول محمد بن عبد الملك الزيات يصف ناقته أول قصيدة مدح بها الحسن بن سهل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 كأنها حين تناءى خطوها ... أخنس مطوى الشوى يرعى القلل فالعيب الأول في مخالفة العادة لازم له، ومع ذلك قوله " حين تناءى خطوها " مقصر بها، وهو يقدر أن يقول " حين تدانى خطوها " وخالف جميع الشعراء بذلك؛ لأنهم إنما يصفون الناقة بالظليم والحمار والثور بعد الكلال غلواً في الوصف ومبالغة، هذا هو الجيد، فإن لم يفعلوا لم يذكروا أنها بذلت جهدها، واستفرغت جميع ما عندها، بل يدعون التأويل محتملاً للزيادة، ثم قال " يرعى القلل " والثور لا يرعى قلل الجبال، وإنما ذلك الوعل؛ فإنه لا يسهل، والثور في السهول والدماث ومواضع الرمال، إلا أن يريد قلل النبات أي أعاليه، فربما أن تكون القلل نبتاً بعينه أو مكاناً فقد يمكن، وما سمعت بهما. ومن الشعراء من يقطع المصراع الثاني من الأول إذا ابتدأ شعراً، وأكثر ما يقع ذلك في النسيب، كأنه يدل بذلك على وله وشدة حال، كقول أبي الطيب: جللاً كما بي فليك التبريح ... أغذاء ذا الرشا الأغن الشيح؟ فهذا اعتذار من اعتذر له، ولو وقع مثل هذا في الرثاء والتفجع لكان موضعه أيضاً، وكذلك عند العظائم من الأمور والنوازل الشديدة. وليحترس مما تناله فيه بادرة، أو يقع عليه مطعن؛ فإن أبا تمام امتدح أبا دلف بحضرة من كان يكرهه، فافتتح ينشد قصيدته المشهورة: على مثلها من أربع وملاعب وكانت فيه حبسة شديدة فقال الرجل: " لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " فدهش أبو تمام حتى تبين ذلك عليه، على أنه غير مأخوذ بما قيل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ولا هو مما يدخل عليه عيباً، ولا يلزمه ذنباً على الحقيقة، إلا أن الحوطة والتحفظ من خجلة البادرة أفضل وأهيب، والتفريط أرذل وأخذل. ودخل جرير على عبد الملك بن مروان فابتدأ ينشده: أتصحو أم فؤادك غير صاحٍ فقال له عبد الملك: " بل فؤادك يا بن الفاعلة " كأنه استثقل هذه المواجهة وإلا فقد علم أن الشاعر إنما خاطب نفسه. ومن هذه الجهة بعينها عابوا على أبي الطيب قوله لكافور أول لقائه مبتدئاً، وإن كان إنما يخاطب نفسه لا كافوراً: كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا فالعيب من باب التأدب للملوك، وحسن السياسة لازم لأبي الطيب في هذا الابتداء، لا سيما وهذا النوع أعني جودة الابتداء من أجل محاسن أبي الطيب، وأشرف مآثر شعره إذا ذكر الشعر. ودخل ذو الرمة على عبد الملك بن مروان، فاستنشده شيئاً من شعره، فأنشده قصيدته: ما بال عينك منها الماء ينسكب وكانت بعين عبد الملك ريشة وهي تدمع أبداً، فتوهم أنه خاطبه أو عرض به، فقال: وما سؤالك عن هذا يا جاهل؟!! فمقته وأمر بإخراجه. وكذلك فعل ابنه هشام بأبي النجم وقد أنشده في أرجوزة: والشمس قد كادت ولما تفعل ... كأنها في الأفق عين الأحول وكان هشام أحول، فأمر به فحجب عنه مدة، وقد كان قبل ذلك من خاصته: يسمر عنده، ويمازحه. وإنما يؤتى الشاعر في هذه الأشياء؛ إما من غفلة في الطبع وغلظ، أو من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 استغراق في الصنعة وشغل هاجس بالعمل يذهب مع حسن القول أين ذهب. والفطن الحاذق يختار للأوقات ما يشاكلها، وينظر في أحوال المخاطبين؛ فيقصد محابهم، ويميل إلى شهواتهم وإن خالفت شهوته، ويتفقد ما يكرهون سماعه فيجتنب ذكره.. ألا ترى أن بعض الملوك قال لأحد الشعراء وقد أورد بيتاً ذكر فيه: " لو خلد أحد بكرم لكنت مخلداً بكرمك " وقال كلاما نحو هذا، فقال الملك: إن الموت حق، وإن لنا منه نصيباً، غير أن الملوك تكره ذكر ما ينكد عيشها، وينغص لذتها، فلا تأتنا بشيء مما نكره ذكره.. ومن المشهور أن النعمان بن المنذر رأى شجرة ظليلة ملتفة الأغصان، في مرج حسن كثير الشقائق، وكان معجباً بها، وإليه أضيفت " شقائق النعمان " فنزل وأمر بالطعام والشراب فأحضر، وجلس للذته، فقال له عدي بن زيد العبادي وكان كاتبه: أتعرف أبيت اللعن ما تقول هذه الشجرة؟ فقال: وما تقول؟ قال: تقول: رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال عطف الدهر عليهم فتووا ... وكذاك الدهر حال بعد حال من رآنا فليوطن نفسه ... إنما الدنيا على قرب زوال كأنه قصد موعظته، فتنغص عليه ما كان فيه، وأمر بالطعام والشراب فرفعا من بين يديه، وارتحل من فوره، ولم ينتفع بنفسه بقية يومه وليلته، وكانا جميعاً نصرانيين؛ فهذا شأن الملوك قديماً وحديثاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ومن هذه الجهة أكثر الناس من الدعاء لهم بطول العمر، حتى بلغوا بهم ما لا يمكن، فقالوا: عش أبداً، واسلم مدى الدهر، وابق بقاء الزمان، ودم مدة الأيام. واعترض النقاد في ذلك واختلفوا بحسب ما ينتحل كل واحد منهم في قول أبي نواس للأمين: يا أمين الله عش أبدأ ... دم على الأيام والزمن أنت تبقى والفناء لنا ... فإذا أفنيتنا فكن وفي كثير من مثله. وإذا خرج الكلام عن حد الإمكان فإنما يراد به بلوغ الغاية لا غير ذلك. ومن قبيح ما وقع لأبي نواس الذي أساء فيه أدبه، وخالف فيه مذهبه؛ أن بعض بني برمك بنى داراً استفرغ فيها مجهوده، وانتقل اليها، فصنع أبو نواس في ذلك الحين أو قريباً منه قصيدة يمدحه بها يقول أولها: أربع البلى، إن الخشوع لباد ... عليك، وإني لم أخنك ودادي وختمها أو كاد بقوله: سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين وغادي فتطير منها البرمكي، واشمأز حتى كلح وظهرت الوجمة عليه، ثم قال: نعيت إلينا أنفسنا يا أبا نواس، فما كانت إلا مديدة حتى أوقع بهم الرشيد وصحت الطيرة.. وزعم قوم أن أبا نواس قصد التشاؤم لهم لشيء كان في نفسه من جعفر، ولا أظن ذلك صحيحاً؛ لأن القصيدة من جيد شعره الذي لا أشك أنه يحتفل له، اللهم إلا أن يصنع ذلك حيلة منه، وستراً على ما قصد إليه بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وللشعراء مذاهب في افتتاح القصائد بالنسيب؛ لما فيه من عطف القلوب، واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل، والميل إلى اللهو والنساء، وإن ذلك استدراج إلى ما بعده. ومقاصد الناس تختلف: فطريق أهل البادية ذكر الرحيل والانتقال، وتوقع البين، والإشفاق منه، وصفة الطلول والحمول، والتشوق بحنين الإبل ولمع البروق ومر النسيم، وذكر المياه التي يلتقون عليها والرياض التي يحلون بها من خزامى، وأقحوان، وبهار، وحنوة، وظيان، وعرار، وما أشبهها من زهر البرية الذي تعرفه العرب. وتنبته الصحاري والجبال وما يلوح لهم من النيران في الناحية التي بها أحبابهم، ولا يعدون النساء إذا تغزلوا ونسبوا، فإذا وقع مثل قول طرفة: وفي الحي أحوى ينفض المردشادن ... مظاهر سمطى لؤلؤ وزبرجد فإنما هو كناية بالغزل عن المرأة. وأهل الحاضرة يأتي أكثر تغزلهم في ذكر الصدود، والهجران، والواشين، والرقباء، ومنعة الحرس والأبواب، وفي ذكر الشراب والندامى، والورد والنسرين والنيلوفر، وما شاكل ذلك من النواوير البلدية، والرياحين البستانية، وفي تشبيه التفاح والتحية به، ودس الكتب، وما شاكل ذلك مما هم به منفردون.. وقد ذكروا الغلمان تصريحاً، ويذكرون النساء أيضاً: منهم من سلك في ذلك مسلك الشعراء اقتداء بهم، واتباعاً لما ألفته طباع الناس معهم، كما يذكر أحدهم الإبل، ويصف المفاوز على العادة المعتادة، ولعله لم يركب جملاً قط، ولا رأى ما وراء الجبانة، ومنهم من يكون قوله في النساء اعتقاداً منه، وإن ذكر فجرياً على عادة المحدثين وسلوكاً لطريقتهم؛ لئلا يخرج عن سلك أصحابه، ويدخل في غير سلكه وبابه، أو كناية بالشخص عن الشخص لرقته، أو حب رشاقته.. وهذا مما لا يطلب عليه شاهد لكثرته، إلا أني أتلمح في هذا المكان بقول أبي نواس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 علي عين وأذن من مذكرة ... موصولة بهوى اللوطي والغزل كلاهما نحوها سام بهمته ... على اختلافهما في موضع العمل والعادة أن يذكر الشاعر ما قطع من المفاوز، وما أنضى من الركاب، وما تجشم من هول الليل وسهره، وطول النهار وهجيره، وقلة الماء وغؤوره، ثم يخرج إلى مدح المقصود؛ ليوجب عليه حق القصد، وذمام القاصد، ويستحق منه المكافأة. وكانوا قديماً أصحاب خيام: ينتقلون من موضع إلى آخر؛ فلذلك أول ما تبدأ أشعارهم بذكر الديار، فتلك ديارهم، وليست كأبنية الحاضرة؛ فلا معنى لذكر الحضري الديار إلا مجازاً؛ لأن الحاضرة لا تنسفها الرياح، ولا يمحوها المطر، إلا أن يكون ذلك بعد زمان طويل لا يمكن أن يعيشه أحد من أهل الجيل، وأحسب ما استعمله المولدون المحدثون ما ناسب قول علي بن العباس الرومي: سقى الله قصراً بالرصافة شاقني ... بأعلاه قصري الدلال رصافي أشار بقنيان من الدر قمعت ... يواقيت حمراً فاستباح عفافي وكانت دوابهم الإبل لكثرتها، وعدم غيرها، ولصبرها على التعب وقلة الماء والعلف فلهذا أيضاً حضوها بالذكر دون غيرها ولم يكن أحدهم يرضى بالكذب فيصف ما ليس عنده كما يفعل المحدثون؛ ألا ترى أن امرأ القيس لما كان ملكاً كيف ذكر خيل البريد والفرانق يعني البريد على أنه لم يستغن عن ذكر الإبل للعادة التي جرت على ألسنتهم، فقال يصف رحيله إلى قيصر ملك الروم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 إذا قلت روحنا أرن فرانق ... على جلعد واهي الأباجل أبترا على كل مقصوص الذنابي معاود ... بريد السري بالليل من خيل بربرا إذا زعته من جانبيه كليهما ... مشى الهيدبي في دفه ثم فرفرا أقب كسرحان الغضا متمطر ... ترى الماء من أعطافه قد تحدرا وكانت الخيل البربرية تهلب أذنابها كالبغال؛ لتدخل مداخلها في خدمة البريد، وليعلم أنها للملك. وقال الفرزدق: راحت بمسلمة البغال عشية ... فأرعى فزارة لا هناك المرتع لما كان الذي راحت به البغال أميراً يذكر رحيله وقد عزل. وقال ابن ميادة في ابن هبيرة لما كان أميراً أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 جاءت به معتجراً ببرده ... سفواء تردى بنسيج وحده تقدح قيس كلها بزنده إلا أن منهم من خالف هذا كله فوصف أنه قصد الممدوح راجلاً: إما إخباراً بالصدق، وإما تعاطي صعلكة ورجلة.. قال أبو نواس للفضل بن يحيى بن خالد: إليك أبا العباس من بين من مشى ... عليها امتطينا الحضرمي الملسنا قلائص لم تعرف حنيناً على طلاً ... ولم تدر ما قرع الفنيق ولا الهنا فذكر أن قلائصهم التي امتطوها إليه نعالهم، فأخرجه كما ترى مخرج اللغز، وأتبعه أبو الطيب فقال: لا ناقتي تحمل الرديف، ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها شراكها كورها، ومثفرها ... زمامها، والشسوع مقودها وقال كرة أخرى في مثل ذلك يتشكى: وحبيت من خوص الركاب بأسود ... من دارش فغدوت أمشي راكبا وقال أيضاً يتصعلك ويتفقر: ومهمه جبته على قدمي ... تعجز عنه العرامس الذلل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 بصارمي مرتد، بمخبرتي ... مجتزئ؛ بالظلام مشتمل ولو شاء قائل أن يقول: إن أبا نواس لم يرد ما ذهب إليه أبو الطيب، لكن أراد أنه معه في بلدة واحدة قصده في حاجته محتذياً نعليه؛ لكان ذلك أظهر وجهاً، ما لم يكن الحضرمي من الجلود مخصوصاً به المسافر دون الحاضر، وظاهر الكلام أن مقصد الشاعرين واحد. وقد ذكر أبو الطيب الخيل أيضاً في كثير من شعره، وكان يؤثرها على الإبل؛ لما يقوم في نفسه من التهيب بذكر الخيل، وتعاطي الشجاعة، فقال يذكر قدومه إلى مصر على خوف من سيف الدولة: ويوم كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشمس أيان تغرب وعيني إلى أذني أغر كأنه ... من الليل باق بين عينيه كوكب له فضلة عن جسمه في إهابه ... تجيء على صدر رحيب وتذهب شققت به الظلماء أدني عنانه ... فيطغى، وأرخيه مراراً فيلعب وأصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عنه مثل حين أركب وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضاءها فالحسن عنك مغيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وليس في زماننا هذا ولا من شرط بلدنا خاصة شيء من هذا كله، إلا ما لا يعد قلة؛ فالواجب اجتنابه، إلا ما كان حقيقة، لا سيما إذا كان المادح من سكان بلد الممدوح: يراه في أكثر أوقاته، فما أقبح ذكر الناقة والفلاة حينئذ!. وقد قلت أنا وإن لم أدخل في جملة من تقدم، ولا بلغت خطته من قصيدة اعتذرت بها إلى مولانا خلد الله أيامه من طول غيبة غبتها عن الديوان: إليك يخاض البحر فعماً كأنه ... بأمواجه جيش إلى البر زاحف ويبعث خلف النجح كل منيفة ... تريك يداها كيف تطوى التنائف من الموجفات اللاء يقذفن بالحصى ... ويرمى بهن المهمه المتقاذف يطير اللغام الجعد عنها كأنه ... من القطن أو ثلج الشتاء ندائف وقد نازعت فضل الزمام ابن نكبة ... هو السيف لا ما أخلصته المشارف فكيف تراني لو أعنت على الغنى ... بجد، وإني للغنى لمشارف وقد قرب الله المسافة بيننا ... وأنجزني الوعد الزمان المساوف ولولا شقائي لم أغب عنك ساعة ... ولا رام صرفي عن جنابك صارف ولكنني أخطأت رشدي فلم أصب ... وقد يخطئ الرشد الفتى وهو عارف فذكرت قرب المسافة بيني وبينه حوطة وإخباراً أن خوض البحر وجوب الفلاة من صفة غيري من القصاد والغرباء والمنتجعين من الأمصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ومن قصيدة صنعتها بديهة بالمهدية ساعة وصول إليه أدام الله عزه عن اقتراح بعض شعراء وقتنا هذا: وذيال له رجل طحون ... لما نزلت به، ويد زجوج يطير بأربع لا عيب فيها ... لظهران الصفا منها عجيج خرجت به عن الأوهام سبقا ... وقل له عن الوهم الخروج إلى الملك المعز أبي تميم ... أمر بمن سواه فلا أعيج ومن أخرى في معنى التفقر والرحلة: وماء بعيد الغور كالنجم في الدجى ... وردت طروقاً أو وردت مهجرا على قدم أخت الجناح وأخمص ... يخال حصى المعزاء جمراً مسعرا فريداً من الأصحاب صلتاً من الكسا ... كما أسلم الغمد الحسام المذكرا ومن الشعراء من لا يجعل لكلامه بسطاً من النسيب، بل يهجم على ما يريده مكافحة، ويتناوله مصافحة، وذلك عندهم هو: الوثب، والبتر، والقطع، والكسع، والاقتضاب، كل ذلك يقال.. والقصيدة إذا كانت على تلك الحال بتراء كالخطبة البتراء والقطعاء، وهي التي لا يبتدئ فيها بحمد الله عز وجل على عادتهم في الخطب. قال أبو الطيب: إذا كان مدح فالنسيب المقدم ... أكل فصيح قال شعراً متيم؟ فأنكر النسيب، وزعموا أن أول من فتح هذا الباب وفتق هذا المعنى أبو نواس بقوله: لا تبك ليلى، ولا تطرب إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالورد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وقوله وهو عند الحاتمي فيما روى عن بعض أشياخه أفضل ابتداء صنعه شاعر من القدماء والمحدثين: صفة الطلول بلاغة القدم ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم ولما سجنه الخليفة على اشتهاره بالخمر، وأخذ عليه أن لا يذكرها في شعره قال: أعر شعرك الأطلال والمنزل القفرا ... فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا دعاني إلى نعت الطلول مسلط ... تضيق ذراعي أن أرد له أمرا فسمعاً أمير المؤمنين وطاعة ... وإن كنت قد جشمتني مركباً وعرا فجاهر بأن وصفه الأطلال والقفر إنما هو من خشية الإمام، وإلا فهو عنده فراغ وجهل، وكان شعوبي اللسان، فما أدري ما وراء ذلك، وإن في اللسان وكثرة ولعه بالشيء لشاهداً عدلاً لا ترد شهادته. وقد قال أبو تمام: لسان المرء من خدم الفؤاد. ومن عيوب هذا الباب أن يكون النسيب كثيراً والمدح قليلاً، كما يصنع بعض أهل زماننا هذا، وسنبين وجه الحكم والصواب من هذا في باب المدح إن شاء الله تعالى. ومن الشعراء من لا يجيد الابتداء، ولا يتكلف له، ثم يجيد باقي القصيدة وأكثرهم فعلاً لذلك البحتري: كان يصنع الابتداء سهلاً، ويأتي به عفواً، وكلما تمادى قوي كلامه، وله من جيد الابتداء كثير؛ لكثرة شعره، والغالب عليه ما قدمت، غير أن القاضي الجرجاني فضله بجودة الاستهلال وهو الابتداء على أبي تمام وأبي الطيب، وفضلهما عليه بالخروج والخاتمة، ولست أرى لذلك وجهاً، إلا كثرة شعره كما قدمت؛ فإنه لو حاسبهما ابتداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 جيداً بابتداء مالأربى عليهما وقصرا عن عذره.. فأما الحاتمي فإنه يغض من أبي عبادة غضاً شديداً، ويجور عليه جوراً بيناً لا يقبل منه ولا يسلم إليه. وكان أبو تمام فخم الابتداء، له روعة، وعليه أبهة، كقوله: الحق أبلج والسيوف عوار ... فحذار من أسد العرين حذار وقوله: السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب وقوله: أصغى إلى البين مغتراً فلا جرما وقوله: يا ربع لو ربعوا على ابن هموم والغالب عليه نحت اللفظ، وجهارة الابتداء.. وكان أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي يفضل ابتداءات البحتري جداً، وهو الذي وضع كتاب الموازنة والترجيح بين الطائيين، ونوه فيه بالبحتري أعظم تنويه.. ومن جيد ابتداءاته قوله: عارضننا أصلاً فقلنا الربرب ... حتى أضاء الأقحوان الأشنب وقوله: ما على الركب من وقوف الركاب ... في مغاني الصبا ورسم التصابي؟؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وقوله: ضمان على عينيك أني لا أسلو وقوله: ترى عنده علم بشجوى وأدمعي ... وأني متى أسمع بذكراه أجزع؟ وأما الخروج فهو عندهم شبيه بالاستطراد، وليس به؛ لأن الخروج إنما هو أن تخرج من نسيب إلى مدح أو غيره بلطف تحيل، ثم تتمادى فيما خرجت إليه كقول حبيب في المدح: صب الفراق علينا، صب من كثب ... عليه إسحاق يوم الروع منتقما سيف الإمام الذي سمته هيبته ... لما تخرم أهل الأرض مخترما ثم تمادى في المدح إلى آخر القصيدة. وكقول أبي عبادة البحتري: سيقت رباك بكل نوء عاجل ... من وبله حقاً لها معلوما ولو أنني أعطيت فيهن المنى ... لقيتهن بكف إبراهيما وأكثر الناس استعمالاً لهذا الفن أبو الطيب؛ فإنه ما يكاد يفلت له، ولا يشذ عنه، حتى ربما قبح سقوطه فيه، نحو قوله: ها فانظري أو فظني بي تري حرقاً ... من لم يذق طرفاً منها فقد وألا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلا فقد تمنى أن يكون له الأمير قواداً، وليس هذا من قول أبي نواس: سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هوانا؛ لعل الفضل يجمع بيننا في شيء؛ لأن أبا نواس قال " يجمع بيننا " ثم اتبع ذلك ذكر المال والسخاء به، فقال: أمير رأيت المال في نعمائه ... مهيناً ذليل النفس بالضيم موقنا فكأنه أشار إلى أن جمعه بينهما بالمال خاصة: يفضل عليه، ويجزل عطيته، فيتزوجها أو يتسرى بها، وأبو الطيب قال: " يشفع " والشفاعة رغبة وسؤال، ثم أتبع بيته بما هو مقو لمعناه في القيادة فقال: أيقنت أن سعيداً طالب بدمي ... لما بصرت به بالرمح معتقلا فدل على أنه يشفع، فإن أجيب إلى مساعدة أبي الطيب فذاك، وإلا رجع إلى القهر.. والذي يشاكل قول أبي نواس قوله: أحب التي في البدر منها مشابه ... وأشكو إلى من لا يصاب له شكل فلفظة الشكوى تحمل عنه كما حملن عن أبي نواس ومما سقط فيه وإن كان مليح المظهر قوله يخاطب امرأة نسب بها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 لو أن فناخسر صبحكم ... وبرزت وحدك عاقه الغزل وتفرقت عنه كتائبه ... إن الملاح خوادع قتل ما كنت فاعلة وضيفكم ... ملك الملوك وشأنك البخل أتمنعين قرى فتفتضحي ... أم تبذلين له الذي يسل بل لا يحل بحيث حل به ... بخل ولا جور ولا وجل فحتم على فناخسرو بأن الغزل يعوقه، ولأن كتائبه تتفرق عنه، وجعله يسأل هذه المرأة، وتشكك هل تمنعه أم تبذل له، ثم أوجب أن البخل لا يحل بحيث حل؛ فأوقعه تحت الزنى أو قارب ذلك، ولعل هذا كان اقتراحاً من فناخسرو؛ وإلا فما يجب أن يقابل من هو ملك الملوك بمثل هذا، وما أسرع ما انحط أبو الطيب: بينا هو يسأل الأمير أن يشفع له إلى عشيقته صار يشفع للأمير عندها.. والاستطراد: أن يبني الشاعر كلاماً كثيراً على لفظة من غير ذلك النوع، يقطع عليها الكلام، وهي مراده دون جميع ما تقدم، ويعود إلى كلامه الأول، وكأنما عثر بتلك اللفظة عن غير قصد ولا اعتقاد نية، وجل ما يأتي تشبيهاً، وسيرد عليك في بابه مبيناً إن شاء الله تعالى.. ومن الناس من يسمي الخروج تخلصاً وتوسلاً، وينشدون أبياتاً منها: إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه ... فليس به بأس ولو كان من جرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ولو أن جرماً أطعموا شحم جفرة ... لبانوا بطاناً يضرطون من الشحم وأولى الشعر أن يسمى تخلصاً ما تخلص فيه الشاعر من معنى إلى معنى، ثم عاد إلى الأول وأخذ في غيره. ثم رجع إلى ما كان فيه. كقول النابغة الذبياني آخر قصيدة اعتذر بها إلى النعمان بن المنذر: وكفكفت مني عبرة فرددتها ... إلى النحر منها مستهل ودامع على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع؟!! ثم تخلص إلى الاعتذار فقال: ولكن هما دون ذلك شاغل ... مكان الشغاف تبتغيه الأصابع وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكس فالضواجع ثم وصف حاله عندما سمع من ذلك فقال: فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع يسهد في ليل التمام سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طوراً، وطوراً تراجع فوصف الحية والسليم الذي شبه به نفسه ما شاء، ثم تخلص إلى الاعتذار الذي كان فيه فقال: أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع ويروى وخبرت خير الناس أنك لمتني ثم اطرد له ما شاء من تخلص إلى تخلص، حتى انقضت القصيدة وهو مع ما أشرت إليه غير خاف إن شاء الله تعالى. وقد يقع من هذا النوع شيء يعترض في وسط النسيب من مدح من يريد الشاعر مدحه بتلك القصيدة، ثم يعود بعد ذلك إلى ما كان فيه من النسيب، ثم يرجع إلى المدح، كما فعل أبو تمام وإن أتى بمدحه الذي تمادى فيه منقطعاً، وذلك قوله في وسط النسيب من قصيدة له مشهورة: ظلمتك ظالمة البريء ظلوم ... والظلم من ذي قدرة مذموم زعمت هواك عفا الغداة كما عفت ... منها طلول باللوى ورسوم لا، والذي هو عالم أن النوى ... أجل وأن أبا الحسين كريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت ... نفسي على ألف سواك تحوم ثم قال بعد ذلك: لمحمد بن الهيثم بن شبابة ... مجد إلى جنب السماك مقيم ويسمى هذا النوع الإلمام. وكانت العرب لا تذهب هذا المذهب في الخروج إلى المدح، بل يقولون عند فراغهم من نعت الإبل وذكر القفار وما هم بسبيله: دع ذا وعد عن ذا ويأخذون فيما يريدون أو يأتون بأن المشددة ابتداء للكلام الذي يقصدونه، فإذا لم يكن خروج الشاعر إلى المدح متصلاً بما قبله ولا منفصلاً بقوله دع ذا وعد عن ذا ونحو ذلك سمي طفراً وانقطاعاً.. وكان البحتري كثيراً ما يأتي به نحو قوله: لولا الرجاء لمت من ألم الهوى ... لكن قلبي بالرجاء موكل إن الرعية لم تزل في سيرة ... عمرية مذ ساسها المتوكل ولربما قالوا بعد صفة الناقة والمفازة " إلى فلان قصدت " و " حتى نزلت بفناء فلان " وما شاكل ذلك. وأما الانتهاء فهو قاعدة القصيدة، وآخر ما يبقى منها في الأسماع، وسبيله أن يكون محكماً: لا تمكن الزيادة عليه، ولا يأتي بعده أحسن منه، وإذا كان أول الشعر مفتاحاً له وجب أن يكون الآخر قفلاً عليه. وقد أربى أبو الطيب على كل شاعر في جودة فصول هذا الباب الثلاثة، إلا أنه ربما عقد أوائل الأشعار ثقة بنفسه، وإعراباً عن الناس، كقوله أول قصيدة: وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ... بأن تسعد والدمع أشفاه ساجمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فإن هذا يحتاج الأصمعي إلى أن يفسر معناه. ويقع له في الخروج ما كان تركه أولى به، وأشعر له، وإنما أدخله فيه حب الإغراب في باب التوليد، حتى جاء بالغث البارد، والبشع المتكلف، نحو قوله: أحبك أو يقولوا جر نمل ... ثبيراً، وابن إبراهيم ريعا فهذا من البشاعة والشناعة بحيث لا يخفى على أحد، وما أظنه سرق هذا المعنى الشريف إلا من كذبة كذبها أبو العباس الصيمري عن لسان رجل زعم أنه قال: رأيت رجلاً نام ويده غمرة فجره النمل ثلاثة فراسخ، فقد جعل أبو الطيب مكان الرجل جبلاً، وإن أعلمنا الإغراق في مراده ولفظه.. قال: أعز مكان في الدنا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب وبحر أبو المسك الخضم الذي له ... على كل بحرٍ زخرة وعباب يريد وخير بحر أبو المسك، وهذه غاية التصنع والتكلف. ومن العرب من يختم القصيدة فيقطعها والنفس بها متعلقة، وفيها راغبة مشتهية، ويبقى الكلام مبتوراً كأنه لم يتعمد جعله خاتمة: كل ذلك رغبة في أخذ العفو، وإسقاط الكلفة، ألا ترى معلقة امرئ القيس كيف ختمها بقوله يصف السيل عن شدة المطر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 كأن السباع فيه غرقى غدية ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل فلم يجعل لها قاعدة كما فعل غيره من أصحاب المعلقات، وهي أفضلها. وقد كره الحذاق من الشعراء ختم القصيدة بالدعاء لأنه من عمل أهل الضعف، إلا للملوك؛ فإنهم يشتهون ذلك كما قدمت، ما لم يكن من جنس قول أبي الطيب يذكر الخيل لسيف الدولة: فلا هجمت بها إلا على ظفرٍ ... ولا وصلت بها إلا إلى أمل فإن هذا شبيه ما ذكر عن بغيض: كان يصابح الأمير فيقول: لا صبح الله الأمير بعافية، ويسكت ثم يقول: إلا مساه بأكثر منها، ويماسيه فيقول: لا مسى الله الأمير بنعمة، ويسكت ثم يقول: إلا وصبحه بأتم منها، أو نحو هذا، فلا يدعو له حتى يدعو عليه؛ ومثل هذا قبيح، لا سيما عن مثل أبي الطيب. باب البلاغة تكلم رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " كم دون لسانك من حجاب؟ فقال: شفتاي، وأسناني، فقال له: " إن الله يكره الانبعاق في الكلام، فنضر الله وجه رجل أوجز في كلامه واقتصر على حاجته ". وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: فيم الجمال؟ فقال: " في اللسان " يريد البيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وقال أصحاب المنطق: حد الإنسان: الحي الناطق؛ فمن كان في المنطق أعلى رتبة كان بالإنسانية أولى. وقالوا: الروح عماد الجسم، والعلم عماد الروح، والبيان عماد العلم. وسئل بعض البلغاء: ما البلاغة؟ فقال: قليل يفهم، وكثير لا يسأم. وقال آخر: البلاغة إجاعة اللفظ، وإشباع المعنى. وسئل آخر فقال: معان كثيرة، في ألفاظ قليلة. وقيل لأحدهم ما البلاغة؟ فقال: إصابة المعنى وحسن الإيجاز. وسئل بعض الأعراب: من أبلغ الناس؟ فقال: أسهلهم لفظاً، وأحسنهم بديهيةً.. وسأل الحجاج ابن القبعثري: ما أوجز الكلام؟ فقال: ألا تبطئ، ولا تخطئ، وكذلك قال صحار العبدي لمعاوية بن أبي سفيان. وقال خلف الأحمر: البلاغة كلمة تكشف عن البقية. وقال المفضل الضبي: قلت لأعرابي: ما البلاغة عندكم؟ فقال: الإيجاز من غير عجز، والإطناب من غير خطل. وكتب جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي إلى عمرو بن مسعدة: إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيراً، وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عياً. وأنشد المبرد في صفة خطيب: طبيب بداء فنون الكلا ... م لم يعي يوماً ولم يهذر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فإن هو أطنب في خطبة ... قضى للمطيل على المنزر وإن هو أوجز في خطبة ... قضى للمقل على المكثر قال أبو الحسن علي بن عيسى الرماني: أصل البلاغة الطبع، ولها مع ذلك آلات تعين عليها، وتوصل للقوة فيها، وتكون ميزاناً لها، وفاصلة بينها وبين غيرها، وهي ثمانية أضرب: الإيجاز، والاستعارة، والتشبيه، والبيان، والنظم، والتصرف، والمشاكلة، والمثل، وسيرد كل واحد منها بمكانه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وقال معاوية لعمرو بن العاص: من أبلغ الناس؟ فقال: من اقتصر على الإيجاز، وتنكب الفضول. وسئل ابن المقفع: ما البلاغة؟ فقال: اسم لمعان تجري في وجوه عدة كثيرة: فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون شعراً، ومنها ما يكون سجعاً، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون جواباً، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون خطباً، ومنها ما يكون رسائل؛ فعامة هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة. قال صاحب الكتاب: فهذا ابن المقفع جعل من السكوت بلاغة رغبة في الإيجاز وقال بعض الكلبيين: واعلم بأن من السكوت إبانة ... ومن التكلم ما يكون خبالا وقلت أنا في مثل ذلك: وأخرق أكال للحم صديقه ... وليس لجاري ريقه بمسيغ سكت له ضناً بعرضي فلم أحب ... ورب جواب في السكوت بليغ وقلت أيضاً ولم أذكر بلاغة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 أيها الموحي إلينا ... نفثة الصل الصموت ما سكتنا عنك عياً ... رب نطق في السكوت لك بيت في البيوت ... مثل بيت العنكبوت إن يهن وهناً ففيه ... حيلتا سكنى وقوت وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ فقال: إبلاغ المتكلم حاجته بحسن إفهام السامع، ولذلك سميت بلاغة. وقال آخر: البلاغة أن تفهم المخاطب بقدر فهمه، من غير تعب عليك. وقال آخر: البلاغة معرفة الفصل من الوصل. وقيل: البلاغة حسن العبارة، مع صحة الدلالة. وقيل: البلاغة أن يكون أول كلامك يدل على آخره، وآخره يرتبط بأوله. وقيل: البلاغة القوة على البيان، مع حسن النظام. ومن قول السيد أبي الحسن أدام الله عزه في صفة كاتب بالبلاغة وحسن الخط: فضل الأنام بفضل علم واسعٍ ... وعلا مقالهم بفصل المنطق وحكى لنا وشي الرياض وقد وشت ... أقلامه بالنقش بطن المهرق فبلغ ما أراد من الوصف في اختصار وقلة تكلف. ونحو ذلك قوله أيضاً: إذا مشقت يمناك في الطرس أسطراً ... حكيت بها وشي الملاء المعضد يروق مجيد الخط حسن حروفها ... ويعجب منها بالمقال المسدد وهذا الشعر كالأول في الجزء وإصابة المفصل، وإن أبا الحسن لكما قال سميه أبو الطيب خاتم الشعراء: عليم بأسرار الديانات واللغى ... له خطرات تفضح الناس والكتبا بلى كما قال ولي نعمته، وشاكر منته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 إني لأعجب كيف يحسن عقده ... شعر من الأشعار مع إحسانه ما ذاك إلا أنه در النهى ... يفد التجار به على دهقانه أستغفر الله لا أجحد أبا الطيب حقه، ولا أنكر فضله، وقد قال: ملك منشد القريض لديه ... يضع الثوب في يدي بزاز ثم نرجع إلى وصف البلاغة، بعد ما أفضينا ووشحنا هذا الباب من ذكر السيد، فنقول: وقالوا: البلاغة ضد العي، والعي: العجز عن البيان. وقيل: لا يكون الكلام يستوجب اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك. وسأل عامر بن الظرب العدواني حمامة بن رافع الدوسي بين يدي بعض ملوك حمير فقال: من أبلغ الناس؟ قال: من حلى المعنى المزيز باللفظ الوجيز، وطبق المفصل قبل التحريز. قيل لأرسطاطاليس: ما البلاغة؟ قال: حسن الاستعارة. وقال الخليل: البلاغة ما قرب طرفاه، وبعد منتهاه. وقيل لخالد بن صفوان: ما البلاغة؟ قال: إصابة المعنى، والقصد إلى الحجة وقيل لإبراهيم الإمام: ما البلاغة؟ قال: الجزالة، والإطالة، وهذا مذهب جماعة من الناس جلة، وبه كان ابن العميد يقول في منثوره. وقيل لبعض الجلة: ما البلاغة؟ فقال: تقصير الطويل، وتطويل القصير، يعني بذلك القدرة على الكلام. وقال أبو العيناء: من اجتزأ بالقليل عن الكثير، وقرب البعيد إذا شاء، وبعد القريب، وأخفى الظاهر، وأظهر الخفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وقال البحتري يمدح محمد بن عبد الملك الزيات حين استوزر، ويصف بلاغته: ومعاون لو فضلتها القوافي ... هجنت شعر جرولٍ ولبيد حزن مستعمل الكلام اختياراً ... ووتجنبن ظلمة التعقيد وركبن اللفظ القريب فأدرك ... ن به غاية المراد البعيد والبيت الأول من هذه القطعة يشهد بفضل الشعر على النثر. وحكى الجاحظ عن الإمام إبراهيم بن محمد قوله: كفى من حظ البلاغة ألا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع. ثم قال الجاحظ: أما أنا فأستحسن هذا القول جداً. ومن كلام ابن المعتز: البلاغة بلوغ المعنى، ولما يطل سفر الكلام. وقال ابن الأعرابي: البلاغة التقرب من البغية، ودلالة قليل على كثير. وقال بعض المحدثين: البلاغة إهداء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ. ومن كلام أبي منصور عبد الملك بن إسماعيل الثعالبي، قال: قال بعضهم: البلاغة ما صعب على التعاطي وسهل على الفطنة. وقال: خير الكلام ما قل ودل، وجل ولم يمل. وقال: أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقل مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه. قال: وقيل: البليغ من يجتني من الألفاظ نوارها، ومن المعاني ثمارهاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وهذا الذي حكاه الثعالبي مما يدلك على حذق أبي الطيب في قوله لابن العميد: قطف الرجال القول قبل نباته ... وقطفت أنت القول لما نورا وكان يمكنه أن يقول لما أثمر لكن ذهب إلى ما قدمت، وإن ما اقتدى بقول أبي تمام: ويجف نوار الكلام، وقلما ... يلفى بقاء الغرس بعد الماء وكان بعضهم يقول: تلخيص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق في غير أهل البادية نقص، والخروج مما بنى عليه الكلام إسهاب. وقال العتابي: قيم الكلام العقل، وزينته الصواب، وحليته الإعراب، ورائضة اللسان، وجسمه القريحة، وروحه المعاني.. وقال عبد الله بن محمد بن جميل المعروف بالباحث: البلاغة الفهم والإفهام وكشف المعاني بالكلام، ومعرفة الإعراب، والاتساع في اللفظ، والسداد في النظم، والمعرفة بالقصد، والبيان في الأداء وصواب الإشارة، وإيضاح الدلالة، والمعرفة بالقول، والاكتفاء بالاختصار عن الإكثار، وإمضاء العزم على حكومة الاختيار. قال: وكل هذه الأبواب محتاج بعضها إلى بعض، كحاجة بعض أعضاء البدن إلى بعض، لا غنى لفضيلة أحدها عن الآخر؛ فمن أحاط معرفة بهذه الخصال فقد كمل كل كمال، ومن شذ عنه بعضها لم يبعد من النقص بما اجتمع فيه منها. قال: والبلاغة تخير اللفظ في حسن الإهام. وسئل الكندي عن البلاغة، فقال: ركنها اللفظ، وهو على ثلاثة أنواع: فنوع لا تعرفه العامة ولا تتكلم به، ونوع تعرفة وتتكلم به، ونوع تعرفة ولا تتكلم به، وهو أحمدها. ومن كتاب عبد الكريم قالوا: حسن البلاغة أن يصور الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قال: ومنهم من يعيب ذلك المعنى، ويعده إسهابا، وآخره يعده نفاقاً. قال: ومر غيلان بن خرشة الضبي مع عبد الله بن عامر بنهر أم عبد الله الذي يشق البصرة فقال عبد الله بن عامر: ما أصلح هذا النهر لأهل هذا المصر!! فقال غيلان: أجل والله أيها الأمير: يتعلم فيه العوم صبيانهم. ويكون لسقياهم، ومسيل مياههم، ويأتيهم بميرتهم.. قال: ثم مر غيلان يساير زياد على ذلك النهر وقد كان عادي ابن عامر. فقال له: ما أضر هذا النهر لأهل هذا المصر!! فقال غيلان: أجل والله أيها الأمير: تندى منه دورهم، ويغرق فيه صبيانهم، ومن أجله يكثر بعوضهم؛ فكره الناس من البيان مثل هذا، انقضى كلام عبد كريم. والذي أراه أنا أن هذا النوع من البيان غير معيب بأنه نفاق؛ لأنه لم يجعل الباطل حقاً على الحقيقة، ولا الحق باطل، وإن ما وصف محاسن شيء مرة، ثم وصف مساويه مرة أخرى: كما فعل عمرو بن الأهتم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله عن الزبرقان بن بدر، فأثنى خيراً فقال: مانع بحوزته، مطاع في أنديته ويروى في أذينه فلم يرض الزبرقان بذلك، وقال: أما إنه قد علم أكثر مما قال، ولكن حسدني لشرفي وفي روايةٍ أخرى حسدني مكاني منك، يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه عمرو شراً، وقال: أما لئن قال ما قال لقد علمته ضيق الصدر، زمر المروة، أحمق الأب، لئيم الخال، حديث الغنى، ثم قال: والله يا رسول الله ما كذبت عليه في الأولى، وقد صدقت في الآخرة، ولكن أرضاني فقلت بالرضا، وأسخطني فقلت بالسخط، فقال رسول الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً قال أبو عبيد القاسم بن سلام: وكأن المعنى والله أعلم أنه يبلغ من بيانه أن يمدح الإنسان فيصدق فيه حتى يصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 القلوب إلى قوله، ثم يذمه فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله الآخر، فكأنه سحر السامعين بذلك. وقال الجاحظ: العربي يعاف البذاء، ويهجو به غيره، فإذا ابتلى به فخر به، ولكنه لا يفخر به لنفسه من جهة ما هجا به صاحبه. ودخل أبو العيناء على المتوكل، فقال له: بلغني عنك بذاء، قال: إن يكن البذاء صفة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فقد زكي الله وذم فقال: " نعم العبد إنه أواب " وقال: " هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم " فذمه حتى قذفه، وأما أن أكون كالعقرب التي تلسع النبي والذمى فقد أعاد الله عبدك من ذلك، وقد قال الشاعر: إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقاً ... ولم أشتم الجبس اللئيم المذمما ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشق لي الله المسامع وألفما؟ قال الجاحظ: قال ثمامة بن أشرس: قلت لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ قال: أن يكون اللفظ يحيط بمعناك، ويخبر عن مغزاك، ويخرجه من الشركة، ولا يستعين عليه بالكثرة، والذي لا بد منه أن يكون سليماً من التكلف، بعيداً من الصنعة، برياً من التعقيد، غنياً عن التأويل قال الجاحظ: وهذا هو تأويل قول الأصمعي: البليغ من طبق المفصل، وأغناك عن المفسر. قال أبو عبيدة: البليغ: البلغ، بفتح الباء، وقال غيره: البلغ: الذي يبلغ ما يريد من قول وفعل، والبلغ: الذي لا يبالي ما قال وما قيل فيه، كذلك قال أبو زيد، وحكى ابن دريد كلام بلغ وبليغ، وقال ابن الأعرابي: يقال بلغ وبلغ، ولا شك أن ابن الأعرابي قال: إنما هو في الأهوج الذي لا يبالي حيث وقع من القول. وقد تكرر في هذا الباب من أقاويل العلماء مالم يخف عني، ولا غفلته، لكن اغتفرت ذلك لاختلاف العبارات، ومدار هذا الباب كله على أن بلاغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وضع الكلام موضعه من طول أو إيجاز، مع حسن العبارة، ومن جيد ما حفظته قول بعضهم: البلاغة شد الكلام معانيه وإن قصر، وحسن التأليف وإن طال. باب الإيجاز الإيجاز عند الرماني على ضربين: مطابق لفظه لمعناه: لا يزيد عليه، ولا ينقص عنه، كقولك: " سل أهل القرية "، ومنه ما فيه حذف للاستغناء عنه في ذلك الموضع، كقول الله عز وجل: " واسأل القرية " وعبر عن الإيجاز بأن قال: هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف، ونعم ما قال، إلا أن هذا الباب متسع جداً، ولكل نوع منه تسمية سماها أهل هذه الصناعة.. فأما الضرب الأول مما ذكر أبو الحسن فهم يسمونه المساواة. ومن بعض ما أنشدوا في ذلك قول الشاعر: يا أيها المتحلي غير شيمته ... إن التخلق يأتي دونه الخلق ولا يواتيك فيما ناب من حدث ... إلا أخو ثقة، فانظر بمن تثق فهذا شعر لا يزيد لفظه على معناه، ولا معناه على لفظه شيئاً.. ومثله قول أبى العتاهية ورواه بعضهم للحطيئة، وهذا شرف عظيم لأبي العتاهية إن كان الشعر له، ولا أشك فيه: الحمد لله إني في جوار فتى ... حامي الحقيقة نفاع وضرار لا يرفع الطرف إلا عند مكرمة ... من الحياء، ولا يغضي على عار وأنشد عبد الكريم في اعتدال الوزن: إنما الذلفاء همي ... فليدعني من يلوم أحسن الناس جميعاً ... حين تمشي وتقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أصل الحبل لترضى ... وهي للحبل صروم ثم قال: عندهم أنه ليس في هذا الشعر فضلة عن إقامة الوزن، وهذه الأبيات وأشكالها داخلة في باب حسن النظم عند غير عبد الكريم. والضرب الثاني مما ذكر الرماني وهو قول الله عز وجل " واسأل القرية " يسمونه الاكتفاء، وهو داخل في باب المجاز؛ وفي الشعر القديم والمحدث منه كثير، يحذفون بعض الكلام لدلالة الباقي على الذاهب: من ذلك قول الله عز وجل: " ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى " كأنه قال: لكان هذا القرآن. ومثله قولهم: لو رأيت علياً بين الصفين، أي: لرأيت أمرا عظيماً، وإنما كان هذا معدوداً من أنواع البلاغة لأن نفس السامع تتسع في الظن والحساب، وكل معلوم فهو هين؛ لكونه محصوراً، وقال امرؤ القيس: فلو أنها نفس تموت سوية ... ولكنها نفس تساقط أنفساً كأنه قال: لهان الأمر، ولكنها نفس تموت موتات، ونحو هذا، ومن الحذف قول الله عز وجل: " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " أي: فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟. ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم قوله للمهاجرين وقد شكروا عنده الأنصار: " أليس قد عرفتم ذلك لهم؟ " قالوا: بلى، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 " فإن ذلك " يريد فإن ذلك مكافأة لهم. وروى أبو عبيدة أن سفيان الثوري قال: جاء رجل من قريش إلى عمر بن عبد العزيز يكلمه في حاجة له، فجعل يحث بقرابته، فقال عمر: " فإن ذلك " ثم ذكر حاجته، فقال: " لعل ذلك ".. وقال الطرماح يوماً للفرزدق: يا أبا فراس، أنت القائل: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول أعز مما ذا وأطول مما ذا؟ وأذن المؤذن، فقال له الفرزدق: يا لكع ألا تسمع ما يقول المؤذن " الله أكبر " أكبر مما ذا أعظم مما ذا؟؟ فانقطع الطرماح انقطاعاً فاضحاً وزعم بعض العلماء أن معنى قول الفرزدق عزيز طويل، ولكنه بناه على أفعل مثل أبيض وأحمر وما شاكلها، فجعله لازماً لما في ذلك من الفخامة في اللفظ والاستظهار في المعنى. ومن الإيجاز قول الأعرابي في صفة الذئب: أطلس يخفي شخصه غباره ... في شدقه شفرته وناره فقوله في الشفرة والنار إيجاز مليح. وقال آخر في صفة سهم صادر: غادر داء ونجا صحيحاً وقال آخر في صفة ناقة: خرقاء إلا أنها صناع وقال أبو نواس يصف جنين ناقة مخدجاً: ميت النسا حي الشعر وقال ابن المعتز يصف بازياً: مبارك إذا رأى فقد رزق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ومن الإيجاز البديع قول الله عز وجل: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي، وغيض الماء، واستوت على الجودي، وقيل: بعداً للقوم الظالمين " وقله تعالى: " خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين " فكل كلمة من هذه الكلمات في مقام كلام كثير، وهي على ماترى من الإحكام والإيجاز، ومثل ذلك قوله تعالى: " يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدو، فاحذرهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون " وقوله تعالى: " وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها " وقوله: " إن تتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس " وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: " إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع " وقال: " كفى بالسلامة داء " ومثل هذا كثير في كلامه صلى الله عليه وسلم، ومن أولى منه بالفصاحة وأحق بالإيجاز؟ وقد فقال: " أعطيت جوامع الكلم " فأما قوله عليه الصلاة والسلام: " كفى بالسيف شا " يريد " شاهداً فقد حكاه قوم من أصحاب الكتب: أحدهم عبد الكريم، والذي أرى أن هذا ليس مما ذكروا في شيء؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قطع الكلمة وأمسك عن تمامها لئلا تصير حكماً، ودليل ذلك أنه قال: " لولا أن يتتابع فيه الغيران والسكران " فهذا وجه الكلمة والله أعلم، لا كما قال علقمة بن عبدة: كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدم بسبا الكتان ملثوم يريد " بسبائب الكتان " فحذف اضطراراً؛ لأن الوزن لا يستقيم له إلا بعد الحذف، وكذلك قول لبيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 درس المنا بمتالع قأبان يريد " المنازل " فحذف للضرورة أيضاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير متكلف ولا مضطر. فأما سائر العرب فالحذف في كلامهم كثير؛ لحب الاستخفاف، وتارة للضرورة، وسيرد عليك في باب الرخص، إن شاء الله تعالى. باب البيان قال أبو الحسن الرماني في البيان: هو إحضار المعنى للنفس بسرعة إدراك، وقيل ذلك لئلا يلتبس بالدلالة؛ لأنها إحضار المعنى للنفس وإن كان بإبطاء. وقال: البيان: الكشف عن المعنى حتى تدركه النفس من غير عقلة، وإنما قيل ذلك لأنه قد يأتي التعقيد في الكلام الذي يدل، ولا يستحق اسم البيان. قال صاحب الكتاب: وقد مر بي في باب البلاغة قول غيلان بن خرشة في صفة نهر أم عبد الله مادحاً وذاماً، وهو من جيد البيان عندهم، وكذلك قول عمرو بن الأهتم في الزبرقان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحراً " وقال مثل ذلك للعلاء بن الحصين وقد سأله: هل تروي من الشعر شيئاً؟ فأنشد: حي ذوى الأضغان تسب عقولهم ... تحيتك الحسنى وقد يرقع النعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فإن دحسوا بالكره فاعف تكرما ... وإن خنسوا عنك الحديث فلا تسل فإن الذي يؤذيك سماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر لحكماً " وروى " لحكمة ". ومن البيان الموجز الذي لا يقرن به شيء من الكلام قول الله تعالى: " ولكم في القصاص حياة " وقوله في الإعراب عن صفته: " قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد " فبين تعالى أنه واحد لا ثاني معه، وأنه صمد لا جوف له وقيل: الصمد السيد الذي يصمد إليه في الأمور كلها، ولا يعدل عنه، وقيل: العالي المرتفع وأنه غير والد ولا مولود، وأنه لا شبه له ولا مثل وقيل: إن الكفو ههنا الصاحبة تعالى الله وإنما نزلت هذه السورة لما سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: صف لنا ربك وانسبه فقد وصف نفسه في التوراة ونسبها، فأكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال: لو سألتموني أن أصف لكم الشمس لم أقدر على ذلك، فبينما هو كذلك إذ هبط عليه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد " قل هو الله أحد " السورة. ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم قوله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم " و " المرء كثير بأخيه " فهذا كلام في نهاية البيان والإيجاز. وقال أبو بكر رضي الله عنه في بعض مقاماته: " وليت أموركم ولست بخيركم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم " فقد بلغ بهذه الألفاظ الموجزة غاية البيان. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بعض خطبه: " أيها الناس، إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه " وروى ذلك المبرد عن العتبي، وذكر الأخفش عن علي بن سليمان هذه الخطبة فقال: الصحيح عندي أنها لأبي بكر.. ومن كلام عمر رضي الله عنه: " كفى بالمرء غياً أن تكون فيه خلة من ثلاث: أن يعيب شيئاً ثم يأتي مثله، أو يبدو له من أخيه ما يخفى عليه من نفسه، أو يؤذي جليسه فيما لا يعنيه ". وكتب عثمان بن عفان إلى علي بن أبي طالب رحمة الله عليهما لما أحيط به " أما بعد فإنه قد جاوز الماء الزبى، وبلغ الحزام الطبيين، وتجاوز الأمر بي قدره، وطمع في من لا يدفع عن نفسه. فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي ... وإلا فأدركني ولما أمزق " البيت الذي قد تضمنته الرسالة من شعر الممزق العبدي، يقوله لعمرو بن هند في قصيدة مشهورة، وبه سمي الممزق، واسمه شاس بن نهار. وخاطب عثمان علياً يعاتبه وهو مطرق، فقال له: ما بالك لا تقول؟ فقال علي: إن قلت لم أقل إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا ما تحب، قال المبرد: تأويل ذلك: إن قلت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به علي، فلدغك عتابي، وعقدي ألا أفعل وإن كنت عاتباً إلا ما تحب. وهذا قليل من كثير يستدل به عليه، ولو تقصيت ما وقع من ألفاظ التابعين، وما تقدمت به شعراء الجاهلية والإسلام؛ لأفنيت العمر دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ذلك، وقد استفرغ أبو عثمان الجاحظ وهو علامة وقته الجهد وصنع كتاباً لا يبلغ جودة وفضلاً، ثم ما ادعى إحاطة بهذا الفن لكثرته وأن كلام الناس لا يحيط به إلا الله عز وجل. باب النظم قال أبو عثمان الجاحظ: أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغاً واحداً، وسبك سبكاً واحداً؛ فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان. وإذا كان الكلام على هذا الأسلوب الذي ذكره الجاحظ لذ سماعه، وخف محتمله، وقرب فهمه، وعذب النطق به، وحلي في فم سامعه، فإذا كان متنافراً متبايناً عسر حفظه، وثقل على اللسان النطق به، ومجته المسامع فلم يستقر فيها منه شيء. وأنشد الجاحظ قال: أنشدني أبو العاصي قال: أنشدني خلف: وبعض قريض القوم أبناء علةٍ ... يكد لسان الناطق المتحفظ وأنشد عنه أبي البيداء الرياحي: وشعرٍ كبعر الكبش فرق بينه ... لسان دعي في القريض دخيل واستحسن أن يكون البيت بأسره كأنه لفظة واحدة لخفته وسهولته، واللفظة كأنها حرف واحد، وأنشد قول الثقفي: من كان ذ عضدٍ يدرك ظلامة ... إن الذليل الذي ليست له عضد تنبو يداه إذا ما قل ناصره ... ويأنف الضيم إن أثرى له عدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 والناس مختلفو الرأي في مزاوجة الألفاظ: منهم من يجعل الكلمة وأختها، وأكثر ما يقع ذلك في ألفاظ الكتاب، وبه كان يقول البحتري في أكثر أشعاره، من ذلك قوله: تطيب بمسراها البلاد إذا سرت ... فيفغم رياها ويصفو نسيمها ففي القسيم الآخر تناسب ظاهر.. وكذلك قوله: ضاق صدري بما أج ... ن وقلبي بما أجد وقوله أيضاً في مدح المتوكل: لقد اصطفى رب السما ... ء له الخلائق والشيم ومنهم من يقابل لفظتين بلفظتين، ويقع في الكلام حينئذ تفرقة وقلة تكلف: فمن المتناسب قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بعض كلامه " أين من سعى واجتهد، وجمع وعدد، وزخرف ونجد، وبنى وشيد " فأتبع كل لفظة ما يشاكلها، وقرنها بما يشبهها. ومن الفرق المنفصل قول امرئ القيس: كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال ولم أسبإ الزق الروي، ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال وكان قد ورد على سيف الدولة رجل بغدادي يعرف بالمنتخب، ولا يكاد يسلم منه أحد من القدماء والمحدثين، ولا يذكر شعر بحضرته إلا عابه، وظهر على صاحبه بالحجة الواضحة، فأنشد يوماً هذين البيتين، فقال: قد خالف فيهما وأفسد، لو قال: كأني لم أركب جواداً، ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال ولم أسبإ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال لكان قد جمع بين الشيء وشكله؛ فذكر الجواد والكر في بيت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وذكر النساء والخمر في بيت، فالتبس الأمر بين يدي سيف الدولة، وسلموا له ما قال، فقال رجل ممن حضر: ولا كرامة لهذا الرأي، والله أصدق منك حيث يقول: " إن لا ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " فأتى بالجوع مع العري ولم يأت به مع الظمأ، فسر سيف الدولة، وأجازه بصلة حسنة. قال صاحب الكتاب: قول امرئ القيس أصوب، ومعناه أعر وأغرب؛ لأن اللذة التي ذكرها إنما هي الصيد، هكذا قال العلماء، ثم حكى عن شبابه وغشيانه النساء: فجمع في البيت معنيين، ولو نظمه على ما قال المعترض لنقص فائدة عظيمة، وفضيلة شريفة تدل على السلطان، وكذلك البيت الثاني: لو نظمه على ما قال لكان ذكر اللذة حشواً لا فائدة فيه؛ لأن الزق لا يسبأ إلا للذة، فإن جعل الفتوة كما جعلناها فيما تقدم الصيد قلنا: في ذكر الزق الروي كفاية ولكن امرأ القيس وصف نفسه بالفتوة والشجاعة بعد أن وصفها بالتملك والرفاهة. وأما احتجاج الآخر بقول الله عز وجل فليس من هذا في شيء؛ لأنه أجرى الخطاب على مستعمل العادة، وفيه مع ذلك تناسب؛ لأن العادة أن يقال: جائع عريان، ولم يستعمل في هذا الموضع عطشان ولا ظمآن، وقوله تعالى: " تظمأ " و " تضحى " متناسب؛ لأن الضاحي هو الذي لا يستره شيء عن الشمس، والظمأ من شأن من كانت هذه حاله. وقال الجاحظ: في القرآن معان لا تكاد تفترق، من مثل: الصلاة والزكاة، والخوف والجوع، والجنة والنار، والرغبة والرهبة، والمهاجرين والأنصار، والجن والإنس، والسمع والبصر. ومن الشعراء من يضع كل لفظة موضعها لا يعدوه؛ فيكون كلامه ظاهراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 غير مشكل، وسهلاً غير متكلف، ومنهم من يقدم ويؤخر: إما لضرورة وزن، أو قافية وهو أعذر، وإما ليدل على أنه يعلم تصريف الكلام، ويقدر على تعقيده، وهذا هو العي بعينه، وكذلك استعمال الغرائب والشذوذ التي يقل مثلها في الكلام، فقد عيب على من لا تعلق به التهمة نحو قول الفرزدق: على حالة لو أن في البحر حاتماً ... على جوده ما جاد بالماء حاتم فخفض حاتماً على البدل من الهاء التي في " جوده " حتى رأى قوم من العلماء أن الإقواء في هذا الموضع خير من سلامة الإعراب مع الكلفة، وكذلك قوله: نفلق هاماً لم تنله أكفنا ... بأسيافنا هام الملوك القماقم أراد: نفلق بأسيافنا هام الملوك القماقم، ثم نبه وقرر فقال: هاماً لم تنله أكفنا، يريد أي قوم لم نملكهم ونقهرهم، وهذا عند الصدور المذكورين بالعلم تكلف وتعمل، لا تعرفه العرب المطبوعون، وكذلك: إن الفرزدق صخرة عادية ... طالت فليس تنالها الأوعالا نصب الأوعال بطالت، ويروي " عزت ". وأكثر شعر أبي الطيب من هذه العلامة، ومما لا بأس به قول الخنساء: فنعم الفتى في غداة الهياج ... إذا ما الرماح نجيعاً روينا فقدمت " نجيعاً " على " روينا " مبادرة للخبر بالري من أي شيء هو، وكذلك قول أبي السفاح بكير بن معدان اليربوعي: نهنهته عنك فلم ينهه ... بالسيف إلا جلدات وجاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 أراد نهنهته عنك بالسيف، أو أراد فلم ينهه إلا جلدات وجاع بالسيف، وكلاهما فيه تقديم وتأخير. ورأيت من علماء بلدنا من لا يحكم للشاعر بالتقدم، ولا يقضى له بالعلم، إلا أن يكون في شعره التقديم والتأخير، وأنا أستثقل ذلك من جهة ما قدمت، وأكثر ما تجده في أشعار النحويين. ومن الشعر ما تتقارب حروفه أو تتكرر فتثقل على اللسان، نحو قول ابن بشر: لم يضرها والحمد لله شيء ... وانثنت نحو عزف نفس ذهول فإن القسيم الآخر من هذا البيت ثقيل؛ لقرب الحاء من العين، وقرب الزاي من السين. وقال آخر: وقبر حرب في مكان قفرٍ ... وليس قرب قبر حرب قبر فتكررت الألفاظ، وترددت الحروف، حتى صار ألقية يختبر به الناس، ولا يقدر أحد أن ينشده ثلاث مرات إلا عثر لسشانه فيه وغلط. وقال كعب بن زهير: تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول فجمع بين الضاد والذال والظاء، وهي متقاربة متشاكلة. ومن حسن النظم أن يكون الكلام غير مثبج، والتثبيج: جنس من المعاظلة ترد في بابها إن شاء الله تعالى. ومن الناس من يستحسن الشعر مبنياً بعضه على بعض، وأنا أستحسن أن يكون كل بيت قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما نعده، وما سوى ذلك فهو عندي تقصير، إلا في مواضع معروفة، مثل الحكايات وما شاكلها، فإن بناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد، ولم أستحن الأول على أن فيه بعداً وتنافراً، إلا أنه إن كان كذلك فهو الذي كرهت من التثبيح. باب المخترع والبديع المخترع من الشعر هو: ما لم يسبق إليه قائله، ولا عمل أحد من الشعراء قبله نظيره أو ما يقرب منه، كقول امرئ القيس: سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال فإنه أول من طرق هذا المعنى وابتكره، وسلم الشعراء إليه، فلم ينازعه أحد إياه، وقوله: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي وله اختراعات كثيرة يضيق عنها الموضع، وهو أول الناس اختراعاً في الشعر، وأكثرهم توليداً. ومن الاختراع قول طرفة: ولولا ثلاث هن من لذة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد وكري إذا نادى المضاف محنباً ... كسيد الغضاذي الطخية المتورد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنةٍ تحت الطراف المعمد وقوله يصف السفينة في جريها: يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم الترب المفائل باليد وله أيضاً اختراعات أكثرها من هذه القصيدة. وقال نابغة بني ذبيان: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد وقوله أيضاً من الاختراعات: لو أنها عرضت لأشمط راهبٍ ... عبد الإله صرورةٍ متعبد لرنا لرؤيتها وحسن حديثها ... ولخاله رشداً وإن لم يرشد وما زالت الشعراء تخترع إلى عصرنا هذا وتولد، غير أن ذلك قليل في الوقت والتوليد: أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدمه، أو يزيد فيه زيادة؛ فلذلك يسمى التوليد، وليس باختراع؛ لما فيه من الاقتداء بغيره، ولا يقال له أيضاً سرقة إذا كان ليس آخذاً على وجهه، مثال ذلك قول امرئ القيس: سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال فقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة،، وقيل: وضاح اليمن: فاسقط علينا كسقوط النوى ... ليلة لا ناهٍ ولا زاجر فولد معنى مليحاً اقتدى فيه بمعنى امرئ القيس دون أن يشركه في شيء من لفظه، أو ينحو نحوه إلا في المحصول، وهو لطف الوصول إلى حاجته في خفية. وأما الذي فيه زيادة فكقول جرير يصف الخيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 يخرجن من مستطير النقع داميةً ... كأن آذانها أطراف أقلام فقال عدي بن الرقاع يصف قرن الغزال: تزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها فولد بعد ذكر القلم إصابته مداد الدواة بما يقتضيه المعنى؛ إذ كان القرن أسود. وقال العماني الراجز بين يدي الرشيد يصف الفرس: تخال أذنيه إذا تشوفا ... قادمةً أو قلما محرفا فولد ذكر التحريف في القلم، وهو زيادة صفة. ومن التوليد قول أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان: لكل قبيلة ثبج وصلب ... وأنت الرأس أول كل هاد فقال نصيب لمولاه عمر بن عبد العزيز: فأنت رأس قريش وابن سيدها ... والرأس فيه يكون السمع والبصر فولد هذا الشرح وإن كان مجملاً في قول أمية بن أبي الصلت ... ثم أتى علي بن جبلة فقال يمدح حميد بن الحميد: فالناس جسم، وإمام الهدى ... رأس، وأنت العين في الرأس فأوقع ذكر العين على مشبه معين، ولم يفعل نصيب كذلك، لكن أتى بالسمع والبصر على جهة التعظيم؛ لأن من ولد عمر ولي عهد، ففي قول علي بن جبلة زيادة.. وجاء ابن الرومي فقال: عين الأمير هي الوزي ... ر، وأنت ناظرها البصير فرتب أيضاً ترتيباً فيه زيادة، فهذا مجرى القول في التوليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وأكثر المولدين اختراعاً وتوليداً فيما يقول الحذاق أبو تمام، وابن الرومي. والفرق بين الاختراع والإبداع وإن كان معناهما في العربية واحداً أن الاختراع: خلق المعاني التي لم يسبق إليها، والإتيان بما لم يكن منها قط، والإبداع إتيان الشاعر بالمعنى المستظرف، والذي لم تجر العادة بمثله، ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع وإن كثر وتكرر، فصار الاختراع للمعنى والإبداع للفظ؛ فإذا تم للشاعر أن يأتي بمعنى مخترع في لفظ بديع فقد استولى على الأمد، وحاز قصب السبق. واشتقاق الاختراع من التليين يقال: " بيت خرع " إذا كان ليناً، والخروع فعول منه، فكأن الشاعر سهل طريقة هذا المعنى ولينه حتى أبرزه. وأما البديع فهو الجديد، وأصله في الحبال، وذلك أن يفتل جديداً ليس من قوى حبل نقضت ثم فتلت فتلاً آخر. وأنشدوا للشماخ بن ضرار: أطار عقيقه عنه نسالا ... وأدمج دمج ذي شطر بديع والبديع ضروب كثيرة، وأنواع مختلفة، أنا أذكر منها ما وسعته القدرة وساعدت فيه الفكرة، إن شاء الله تعالى، على أن ابن المعتز وهو من جمع البديع، وألف فيه كتاباً لم يعده إلا خمسة أبواب: الاستعارة أولها، ثم التجنيس، ثم المطابقة، ثم رد الأعجاز على الصدور، ثم المذهب الكلامي، وعد ما سوى هذه الخمسة أنواع محاسن، وأباح أن يسميها من شاء ذلك بديعاً، وخالفه من بعده في أشياء منها يقع التنبيه عليها والاختيار فيها حيثما وقعت من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى. باب المجاز العرب كثيراً ما تستعمل المجاز، وتعده من مفاخر كلامها؛ فإنه دليل الفصاحة، ورأس البلاغة، وبه بانت لغتها عن سائر اللغات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ومعنى المجاز طريق القول ومأخذه، وهو مصدر جزت مجازاً كما تقول " قمت مقاماً "، وقلت مقالاً " حكى ذلك الحاتمي، ومن كلام عبد الله بن مسلم بن قتيبة في المجاز قال: لو كان المجاز كذباً لكان أكثر كلامنا باطلاً؛ لأنا نقول: نبت البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجبل، ورخص السعر، ونقول: كان هذا الفعل منك في وقت كذا، والفعل لم يكن وإنما يكون، وتقول: كان الله، وكان بمعنى حدث، والله قبل كل شيء، وقال في قول الله عز وجل: " فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه " لو قلنا لمنكر هذا كيف تقول في جدار رأيته على شفا انهيار؟ لم يجد بداً من أن يقول: يهم أن ينقض، أو يكاد، أو يقارب، فإن فعل فقد جعله فاعلاً، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى في شيء من ألسنة العجم إلا بمثل هذه الألفاظ. والمجاز في كثير من الكلام أبلغ من الحقيقة، وأحسن موقعاً في القلوب والأسماع، وما عدا الحقائق من جميع الألفاظ ثم لم يكن محالاً محضاً فهو مجاز؛ لاحتماله وجوه التأويل، فصار التشبيه والاستعارة وغيرهما من محاسن الكلام داخلة تحت المجاز، إلا أنهم خصوا به أعني اسم المجاز باباً بعينه؛ وذلك أن يسمى الشيء باسم ما قاربه أو كان منه سبب، كما قال جرير ابن عطية: إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا أراد المطر لقربه من السماء، ويجوز أن تريد بالسماء السحاب؛ لأن كل ما أظلك فهو سماء، وقال " سقط " يريد سقوط المطر الذي فيه، وقال " رعيناه " والمطر لا يرعى، ولكن أراد النبت الذي يكون عنه؛ فهذا كله مجاز، وكذلك قول العتابي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 يا ليلة لي بجوارين ساهرةً ... حتى تكلم في الصبح العصافير فجعل الليلة ساهرة على المجاز، وإنما يسهر فيها، وجعل للعصافير كلاماً، ولا كلام لها على الحقيقة. ومثله قول الله عز وجل إخباراً عن سليمان صلى الله على سيدنا محمد وعليه: " يا أيها الناس علمنا منطق الطير " وإنما الحيوان الناطق الإنس والجن والملائكة، فأما الطير فلا، ولكنه مجاز مليح واتساع، وهذا أكثر من أن يحصره أحد، ومثله في كتاب الله عز وجل كثير، من ذلك قوله تعالى: " واسأل القرية " ومثله " وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم " يعني حبه، ومنه: " فتبارك الله أحسن الخالقين " وهو الخالق حقاً وغيره خالق مجازاً، وقوله: والله خير الماكرين وإنما سمي ذلك مكراً لكونه مجازاة عن مكر، وكذلك قوله: " فبشرهم بعذاب أليم " والعذاب لا يبشر به، وإنما هو أنه مكان البشارة. ومن أناشيد هذا الباب قول الفرزدق: والشيب ينهض في الشباب كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار وقال يعقوب بن السكيت: العرب تقول: بأرض بني فلان شجر قد صاح؛ إذا طال، وأنشدوا للعجاج: كالكرم إذ نادى من الكافور قال ابن قتيبة: لما تبين الشجر بطوله ودل على نفسه جعله كأنه صائح؛ لأن الصائح يدل على نفسه بصوته. وأنشد غيره قول سويد بن كراع في نحو هذا: رعى غير مذعور بهن، وراقه ... لعاع تهاداه الدكادك واعد يقال: نبات واعد، إذا أقبل كأنه قد وعد بالتمام، وكذلك إذا نور أيضاً قيل: قد وعد. ومن المجاز عندهم قول الشاعر وغيره: فعلت ذاك والزمان غر، والزمان غلام، وما أشبه ذلك، وهو يريد نفسه ليس الزمان، ولا أرى ذلك مستقيماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 بل عندي الصواب ونفس الاستعارة أن يبقى الكلام على ظاهره مجازاً؛ لأنا نجد في هذا النوع ما لا ينساغ فيه التأويل، كقول بعضهم: سألتني عن أناس هلكوا ... شرب الدهر عليهم وأكل فليس معناه شربت وأكلت عليهم؛ لأنه إنما يعني بعد العهد لا السلو وقلة الوفاء. وقال أبو الطيب: أفنت مودتها الليالي بعدنا ... ومشى عليها الدهر وهو مقيد فإنما أراد الدهر حقيقة. وقال الصنوبري: كان عيشي بهم أنيقاً فولى ... وزماني فيهم غلاماً فشاخا فليس مراده كنت فيهم غلاماً فشخت، ولكل موضع ما يليق به من الكلام ويصح فيه من المعنى. وأما كون التشبيه داخلاً تحت المجاز فلأن المتشابهين في أكثر الأشياء إنما يتشابهان بالمقاربة على المسامحة والإصلاح، لا على الحقيقة، وهذا يبين في بابه إن شاء الله تعالى. وكذلك الكناية في مثل قوله عز وجل إخبارا عن عيسى ومريم عليهما السلام: " كانا يأكلان الطعام " كناية عما يكون عنه من حاجة الإنسان، وقوله تعالى حكاية عن آدم وحواء صلى الله عليهما: " فلما تغشاها " كناية عن الجماع، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " العين وكاء السه " وقوله لحادٍ كان يحدو به " إياك والقوارير " كناية عن النساء لضعف عزائمهن، إلى أكثر من هذا. باب الاستعارة الاستعارة أفضل المجاز، وأول أبواب البديع، وليس في حلي الشعر أعجب منها، وهي من محاسن الكلام إذا وقعت موقعها، ونزلت موضعها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 والناس مختلفون فيها: منهم من يستعير للشيء ما ليس منه ولا إليه، كقول لبيد: وغداة ريح قد وزعت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فاستعار للفجر ملاءة، وأخرج لفظة مخرج التشبيه.. وكان أبو عمرو بن العلاء لا يرى أن لأحد مثل هذه العبارة، ويقول: ألا ترى كيف صير له ملاءة، ولا ملاءة له، إنما استعار له هذه اللفظة؟ وبعض المتعقبين يرى ما كان من نوع بيت ذي الرمة ناقص الاستعارة؛ إذ كان محمولاً على التشبيه، ويفضل عليه ما كان من نوع بيت لبيد، وهذا عندي خطأ؛ لأنهم إنما يستحسنون الاستعارة القريبة، وعلى ذلك مضى جلة العلماء، وبه أتت النصوص عنهم، وإذا استعير للشيء ما يقرب منه ويليق به كان أولى مما ليس منه في شيء، ولو كان البعيد أحسن استعارة من القريب لما استهجنوا قول أبي نواس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصيح فأي شيء أبعد استعارة من صوت المال؟ فكيف حتى بح من الشكوى والصياح مع ما أن له صوتاً حين يوزن أو يوضع؟ ولم يرده أبو نواس فيما أقدر؛ لأن معناه لا يتركب على لفظه إلا بعيداً، وكذلك قول بشار: وجدت رقاب الوصل أسياف هجرها ... وقدت لرجل البين نعلين من خدي فما أهجن " رجل البين " وأقبح استعارتها!! ولو كانت الفصاحة بأسرها فيها، وكذلك " رقاب الوصل: ولا مثل قول ابن المعتز وهو أنقد النقاد: كل وقت يبول زب السحاب فهذا أردأ من كل رديء، وأمقت من كل مقيت. قال القاضي الجرجاني: الاستعارة ما اكتفى فيها بالاسم المستعار عن الأصلي، ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها، وملاكها بقرب التشبيه، ومناسبة المستعار للمستعار له، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى يوجد بينهما منافرة، ولا يتبين في أحدهما إعراض عن الآخر. وقال قوم آخرون منهم أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع: خير الاستعارة ما بعد، وعلم في أول وهلة أنه مستعار، فلم يدخله لبس، وعاب على أبي الطيب قوله: وقد مدت الخيل العتاق عيونها ... إلى وقت تبديل الركاب من النعل إذ كانت الخيل لها عيون في الحقيقة، ورجح عليه قول أبي تمام: ساس الأمور سياسة ابن تجارب ... رمقته عين الملك وهو جنين إذ كان الملك لا عين له في الحقيقة. وقال أبو الفتح عثمان بن جني: الاستعارة لا تكون إلا للمبالغة، وإلا فهي حقيقة، قاله في شرح بيت أبي الطيب: فتىً يملأ الأفعال رأياً وحكمةً ... وبادرةً أحيان يرضى ويغضب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وكلام ابن جني أيضاً حسن في موضعه؛ لأن الشيء إذا أعطى وصف نفسه لم يسم استعارة، فإذا أعطى وصف غيره سمي استعارة، إلا أنه لا يجب للشاعر أن يبعد الاستعارة جداً حتى ينافر، ولا يقربها كثيراً حتى يحقق، ولكن خير الأمور أوساطها.. قال كثير يمدح عمر بن عبد العزيز واستعار حتى حقق: وقد لبست لبس الهلوك ثيابها ... وأبدت لك الدنيا بكف ومعصم وترمق أحياناً بعينٍ مريضةٍ ... وتبسم عن مثل الجمان المنظم وحسبك أنه وصف العين التي استعار بالمرض، وشبه المبسم بالجمان، وهذا إفراط غير جيد ههنا. قال أبو الحسن الرماني: الاستعارة استعمال العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة، وذكر قول الحجاج " إني أرى رءوساً قد أينعت وحان قطافها ". وقد يأتي القدماء من الاستعارات بأشياء يتجنبها المحدثون، ويستهجنونها، ويعافون أمثالها ظرفاً ولطافة، وإن لم تكن فاسدة ولا مستحيلة؛ فمنها قول امرئ القيس: وهر تصيد قلوب الرجال ... وأفلت منها ابن عمرو حجر فكان لفظة هر استعارة الصيد معها مضحكة هجينة، ولو أن أباه حجراً من فارات بيته ما أسف على إفلاته منها هذا الأسف، وأين هذه الاستعارة من استعارة زهير حين قال يمدح: ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا لا على أن امرأ القيس أتى بالخطأ على جبهته، ولكن للكلام قرائن تحسنه، وقرائن تقبحه، كذكر الصيد في هذين البيتين. ولعل معترضاً يقول: العرب لا تعرف إلا الحقائق، ولا تلتفت إلى كلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 السفلة، فقد قدمت هذا في أول كلامي، وعرفت أنه لا يلزم، ولكن يرغب عنه في الواجب، ألا ترى أن بعض الوزراء وقيل: بل هو المأمون غير المسلحة واستهجنها لما فيها فقال: قولوا المصلحة، وليس ذلك لعلة إلا موافقة كلام السفلة. وقال الرماني: الاستعارة الحسنة ما أوجب بلاغة، ببيان لا تنوب منابه الحقيقة، كقول امرئ القيس: قيد الأوابد واسترذل قول بعض المولدين: اسفري لي النقاب يا ضرة الشمس بأن قال: أتراه ظن أن الضرة لا تكون إلا حسنة؟! وإلا فأي وجه لاختياره هذه الاستعارة. ومثل قول امرئ القيس المتقدم ذكره في القبح قول مسلم بن الوليد: وليلةٍ خلست للعين من سنةٍ ... هتكت فيها الصبا عن بيضة الحجل فاستعار للحجل يعني الكلل بيضة، كما استعارها امرؤ القيس للخدر في قوله: وبيضة خدر لا يرام خباؤها وكلاهما يعني المرأة، فاتفق لمسلم سوء الاشتراك في اللفظ؛ لأن بيضة الحجل من الطير تشاركها، وهي لعمري حسنة المنظر كما عرفت.. وقال في موضع آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 رمت السلو وناجاني الضمير به ... فاستعطفتني على بيضاتها الحجل فما الذي أعجبه من هذه الاستعارة قبحها الله!!؟ ولو قال " الكلل " لتخلص وأبدع فكان تبعاً لامرئ القيس في جودة هذه الاستعارة.. وقال حبيب على بصره بهذا النوع: والله مفتاح باب المعقل الأشب فجعل الله تعالى اسمه مفتاحاً، وأي طائل في هذه الاستعارة مع ما فيها من البشاعة والشناعة!!؟ وإن كنا نعلم أنما أراد أمر الله وقضاءه. واعترض بعض الناس على قول أبي تمام: وللجود باب في الأنام ولم تزل ... مذ كنت مفتاحاً لذاك الباب بحضرة بعض أصحابنا، وقال: أتى إلى ممدوحه فجعله مفتاحاً، فهلا قال كما قال ابن الرومي: قبل أنامله فلسن أناملا ... لكنهن مفاتح الأرزاق فقال له الآخر: عجبت منك تعيب أن يجعل ممدوحه مفتاحاً وقد جعل ربه كذلك، وأنشد البيت المتقدم عجزه. وقال في ممدوح ذكر أنه يعطيه مرة ويشفع له أخرى إلى أن يعطيه: فإذا ما أردت كنت رشاء ... وإذا ما أردت كنت قليبا فجعله مرة حبلاً ومرة بئراً.. وقال الآخر هو أبو تمام: ضاحي المحيا للهجير وللقنا ... تحت العجاج تخاله محراثا فلعنة الله على المحراث ههنا، ما أقبحه وأركه!!! وأين هذا كله من قوله المليح البديع: أو ما رأت بردى من نسج الصبا ... ورأت خضاب الله وهو خضابي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وإن كان إنما أخذه من قول الله عز وجل: " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة " قالوا: يريد الختان، وقيل: الفطرة. والاستعارة إنما هي من اتساعهم في الكلام اقتداراً ودالة، ليس ضرورة؛ لأن ألفاظ العرب أكثر من معانيهم، وليس ذلك في لغة أحد من الأمم غيرهم، فإنما استعاروا مجازاً واتساعاً. ألا ترى أن للشيء عندهم أسماء كثيرة وهو يستعيرون له مع ذلك؟ على أنا نجد أيضا اللفظة الواحدة يعبر بها عن معان كثيرة، نحو " العين " التي تكون جارحة، وتكون الماء، وتكون الميزان، وتكون المطر الدائم الغزير، وتكون نفس الشيء وذاته، وتكون الدينار، وما أشبه ذلك كثير، وليس هذا من ضيق اللفظ عليهم، ولكنه مع الرغبة في الاختصار، والثقة بفهم بعضهم عن بعض. ألا ترى أن كل واحد من هذه التي ذكرنا له اسم غير العين أو أسماء كثيرة؟ ومما اختاره ابن الأعرابي وغيره قول أرطاة بن سهية: فقلت لها يا أم بيضاء إنني ... هريق شبابي واستشن أديمي فقال هريق شبابي لما في الشباب من الرونق والطراوة التي هي كالماء، ثم قال استشن أديمي لأن الشن هو القربة اليابسة؛ فكأن أديمه صار شناً لما هريق ماء شبابه؛ فصحت له الاستعارة من كل وجه ولم تبعد. ومثل ذلك في الجودة ما اختاره ثعلب وفضله جماعة مما قبله، وهو قول طفيل الغنوي: فوضعت رحلي فوق ناجية ... يقتات شحم سنامها الرحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 فجعل شحم سنامها قوتاً للرحل، وهذه استعارة كما تراها كأنها الحقيقة لتمكنها وقربها، وقد تناولها جماعة منهم كلثوم بن عمرو العتابي: قال في قصيدة يعتذر فيها إلى الرشيد: ومن فوق أكوار المهاري لبانة ... أحل لها أكل الذرى والغوارب ثم أتى أبو تمام وعول على العتابي وزاد المعنى زيادة لطيفة بينة فقال: وقد أكلوا منها الغوارب بالسرى ... فصاحت لها أشباحهم كالغوارب وكان ابن المعتز يفضل ذا الرمة كثيراً، ويقدمه بحسن الاستعارة والتشبيه، لا سيما بقوله: فلما رأيت الليل والشمس حية ... حياة الذي يقضي حشاشه نازع لأن قوله والشمس حية من بديع الكلام والاستعارة، وباقي البيت من عجيب التشبيه. واختار الحاتمي في باب الاستعارة في وصف سحائب وأظنه لابن ميادة، واسمه الرماح بن أبرد من بني مرة، وميادة أمه: إذا ما هبطنا القاع قد مات بقله ... بكينا به حتى يعيش هشيم ورواه قوم لأبي كبير، وابن ميادة أولى به وأشبه. والاستعارة كثيرة في كتاب الله عز وجل وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم: من ذلك قوله تعالى: " لما طغى الماء " وقوله: " فلما سكت عن موسى الغضب " وقوله: " وسمعوا لها شهيقاً وهي تفور، تكاد تميز من الغيظ "، فالشهيق والغيظ استعارتان، وقوله تعالى: " يا أرض ابلغي ماءك " وكثير من هذا لو تقصى لطال جداً. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الدنيا حلوة خضرة " وقوله لحالب حلب ناقة: " دع داعي اللبن " يعني بقية من اللبن في الحلب، وقوله: " تمسحوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 بالأرض فإنها بكم برة ". قال أبو عبيد: يريد أنها منها خلقهم، ومنها معادهم وهي بعد الموت: كفاتهم وقوله: " رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي " فغسل الحوبة استعارة مليحة. ومن أناشيد هذا الباب وهو فيما زعم ابن وكيع استعارة وقعت قول امرئ القيس يصف الليل: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بجوزه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل فاستعار لليل سدولاً يرخيها، وهو الستور، وصلباً يتمطى به، وأعجازاً يردفها، وكلكلاً ينوء به، وقال حسان بن ثابت يذكر قتلة عثمان رحمة الله عليه: ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا فالاستعارة قوله عنوان السجود به وقد أخذه من قول الله تعالى: " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " وقال جميل العذري: أكلما بان حي لا تلائمهم ... ولا يبالون أن يشتاق من فجعوا علقتني بهوى منهم، فقد جعلت ... من الفراق حصاة القلب تنصدع البديع " حصاة القلب ". ومن كلام المولدين قول أبي التواس: بصحن خد لم يغض ماؤه ... ولم تخضعه أعين الناس البديع كل البديع عجز البيت. وقال أيضاً: فإذا بدا اقتادت محاسنه ... قسراً إليه أعنة الحدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 البديع " أعنة الحدق " وقوله: " اقتادت ". وقال أبو الطيب: ضممت جناحيهم على القلب ضمة ... تموت الخوافي تحتها والقوادم أراد بالجناحين ميمنة العسكر وميسرته، وبالقلب موضع الملك، والخوافي والقوادم السيوف والرماح، وهذا تصنيع بديع، كله حسن الاستعارات.. وقال: صدمتهم بخميس أنت غرته ... وسمهريته في وجهه شمم وهذا كالأول جودة.. وقال السري والموصلي: يشق جيوب الورد في شجراته ... نسيم متى ينظر إلى الماء يبرد فالبديع قوله: " متى ينظر ". باب التمثيل ومن ضروب الاستعارة التمثيل، وهو الممائلة عند بعضهم، وذلك أن تمثل شيئاً بشيء فيه إشارة، نحو قول امرؤ القيس وهو أول من ابتكره، ولم يأت أملح منه: وما ذرفت عيناك إلا لتقذحي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل فمثل عينيها بسهمي الميسر يعني المعلى، وله سبعة أنصباء، والرقيب، وله ثلاثة أنصباء فصار جميع أعشار قلبه للسهمين الذين مثل بهما عينيها، ومثل قلبه بأعشار الجزور؛ فتمت له جهات الاستعارة والتمثيل. وقال حريث بن زيد الخيل: أبانا بقتلانا من القوم عصبة ... كراماً، ولم نأكل بهم حشف النخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فمثل خساس الناس بحشف النخل، ويجوز أن يريد أخذ الدية فيكون حينئذ حذقاً أو إشارة.. وقال الأخطل لنابغة بني جعدة: لقد جاز أبو ليلى بقحم ... ومنتكث عن التقريب وان إذا هبط الخبار كبا لفيه ... وخر على الجحافل والجران وإنما عيره بالكبر، وإنما هو شاب حديث السن.. وقال بعض الرواة: إنما تهاجيا في مسابقة فرسين، وهو غلط عند الحذاق. ومن التمثيل أيضاً قوله: فنحن أخ لم تلق في الناس مثلنا ... أخاً حين شاب الدهر وابيض حاجبه ومعنى التمثيل اختصار قولك مثل كذا وكذا كذا وكذا ... وقال أبو خراش في قصيدة رثى بها زهير بن عجردة، وقد قتله جميل بن معمر يوم حنين مأسوراً: فليس كعهد الدار يا أم مالكٍ ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل يقول: نحن من عهد الإسلام في مثل السلاسل، وإلا فكنا نقتل قاتله، وهو من قول الله عز وجل في بني إسرائيل " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " يريد بذلك الفرائض المانعة لهم من أشياء رخص فيها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى نحو ذلك ذهب عمرو بن معدي كرب حين خفقه عمر رضي الله عنه بالدرة، فقال له: الحمى أضرعتني لك، يعني الدين، وإن كان مثل قديماً إنما هو الحمى أضرعتني للنوم. ومن جيد التمثيل قول ضباعة بنت قرط ترثي زوجها هشام بن المغيرة المخزومي: إن أبا عثمان لم أنسه ... وإن صمتاً عن بكاه لحوب تفاقدوا من معشر! ما لهم ... أي ذنوب صوبوا في القليب؟ ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم في التمثيل قوله: " الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة " وقوله: " ظهر المؤمن مشجبه، وخزانته بطنه، وراحلته رجله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وذخيرته ربه " وقوله: " المؤمن في الدنيا ضيف، وما في يديه عارية، والضيف مرتحل، والعارية مؤداة، ونعم الصهر القبر ". ومن مليح أناشيد التمثيل قول ابن مقبل: إني أقيد بالمأثور راحلتي ... ولا أبالي وإن كنا على سفر فقوله أقيد بالمأثور تمثيل بديع، والمأثور هو السيف الذي فيه أثر، وهو الفرند، وقوله ولا أبالي حشو مليح، أفاد مبالغة عجيبة، وقوله إن كنا على سفر زيادة في المبالغة، وهذا النوع يسمى إيغالاً، وبعضهم يسميه التبليغ، وهو يرد في مكانه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. ومما اختاره عبد الكريم وقدمه قول ابن أبي ربيعة: أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يلتقيان!!؟ هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني يعني الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر، وكانت نهاية في الحسن والكمال، وسهيل بن عبد الرحمن بن عوف، وكان غاية في القبح والدمامة. فمثل بينهما وبين سمييهما، ولم يرد إلا بعد ما بينهما وتفاوته خاصة، لا أن سهيلاً اليماني قبيح ولا دميم، ولا أدري هل هذا الرأي موافق لرأي عبد الكريم أم لا؟ وحسبك أن الشاعر لم ينكر إلا التقاءهما. وقال أبو الطيب وذكر نزاراً: فأقرحت المقاود ذفرييها ... وصعر خدها هذا العذار ووصف رمحاً فقال، وهو مليح متمكن جداً: يغادر كل ملتفت إليه ... ولبته لثعلبه وجار وقال يخاطب سيف الدولة: بنو كعب وما أثرت فيهم ... يد لم يدمها إلا السوار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 بها من قطعها ألم ونقص ... وفيها من جلالتها افتخار والتمثيل والاستعارة من التشبيه، إلا أنهما بغير أداته، وعلى غير أسلوبه، والمثل المضروب في الشعر نحو قول طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود راجع إلى ما ذكرته؛ لأن معناه ستبدي لك الأيام كما أبدت لغيرك ويأتيك بالأخبار من لم تزود كما جرت عادة الزمان.. وتسمية المثل دالة على ما قلته؛ لأن المثل والمثل والشبيه والنظير، وقيل: إنما سمي مثلاً لأنه مائل لخاطر الإنسان أبداً، يتأسى به، ويعظ ويأمر ويزجر، والماثل: الشاخص المنتصب، من قولهم " طلل ماثل " أي: شاخص، فإذا قيل " رسم مائل " فهو الدارس، والماثل من الأضداد.. وقال مجاهد في قول الله عز وجل " وقد خلت من قبلهم المثلات ": هي الأمثال. وقال قتادة: هي العقوبات. وقال قوم: إنما معنى المثل المثال الذي يحذى عليه، كأنه جعله مقياساً لغيره، وهو راجع إلى ما قدمت. وقال بعضهم: في المثل ثلاث خلال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وقد يكون المثل بمعنى الصفة، من ذلك قول الله تعالى: " مثل الجنة التي وعد المتقون " أي: صفة الجنة، وقوله: " وله المثل الأعلى في السموات والأرض " أي: الصفة العليا، وهي قولنا " لا إله إلا الله " وقوله تعالى: " ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه " أي: صفتهم. باب المثل السائر المثل السائر في كلام العرب كثير نظماً ونثراً، وأفضله أوجزه، وأحكمه أصدقه، وقولهم " مثل شرود وشارد " أي سائر لا يرد كالجمل الصعب الشارد الذي لا يكاد يعرض له ولا يرد. وزعم قوم أن الشرود ما لم يكن له نظير كالشاذ والنادر، فأما قول أبي تمام وكان إمام الصنعة ورئيسها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس حين عيب عليه قوله في ابن المعتصم: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس فإنه يشهد للقول الأول؛ لأن المثل بعمرو وحاتم مضروب قديماً، وليس بمثل لا نظير له كما زعم الآخر. وقد تأتي الأمثال الطوال محكمة إذا تولاها الفصحاء من الناس، فأما ما كان منها في القرآن فقد ضمن الإعجاز، قال الله عز وجل: " كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت " وقال: " ومثله كمثل الكلب: إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث " وقال: " كمثل الحمار يحمل أسفاراً " فهذه أمثال قصار.. وقال: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها " ومن الأمثال الطوال قوله تعالى: " ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط " الآية " وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون " الآية " ومريم ابنة عمران " الآية، وقال: " فمثله كمثل صفوانٍ عليه تراب " الآية، وقال: " والذين كفروا بربهم أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً " الآية، ثم قال: " أو كظلمات في بحر لجى " الآية.. ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم في الأمثال قوله: " كل الصيد في جوف الفرا " قاله لأبي سفيان بن حرب حين أسلم، وقوله: " مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تميلها الريح مرة هكذا ومرة هكذا، ومثل المنافق مثل الأرزة المجذية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 على الأرض حتى يكون انجعافها مرة " وقوله حين ذكر الدنيا وزينتها فقال: " وإن مما تنبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم " وقوله: " وإياكم وخضر الدمن " قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: " المرأة الحسناء في المنبت السوء " والأناشيد في هذا الباب كثيرة: فمنها ما فيه مثل واحد، ومنها ما فيه مثلان، ومنها ما فيه ثلاثة أمثال، ومنها ما فيه أربعة أمثال، وهو قليل جداً، وكل نوع من هذه الأنواع فيه احتياج واستغناء. والمثل إنما وزن في الشعر ليكود أشرد له، وأخف للنطق به، فمتى لم يتزن كان الإتيان به قريباً من تركه.. وقد حكى الحاتمي أشياء لا أدري كيف وجهها، وزعم أن حماداً الراوية سئل: بأي شيء فضل النابغة؟ فقال: إن النابغة إن تمثلت ببيت من شعره اكتفيت به، مثل قوله: حلفت فلم أتلاك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب بل لو تمثلت بنصف بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله ليس وراء الله للمرء مذهب بل لو تمثلت بربع بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله أي الرجال المهذب؟ ولا أعرف كيف يحمل حماد هذا ربع بيت وفيه زيادة سببين وهما أربعة أحرف؟ إلا أن يريد التقريب، فهذا من الاحتياج الذي ذكرته؛ لأنه لا يتمثل به على أنه شعر إلا احتاج إلى ما قبله واستغنى ما قبله عنه، ألا ترى أنه لو قال ولست بمستبق أخاً لا تلمه أنه يكون مثلاً كافياً، ثم لا يتعلق قوله على شعث بشيء من المثل الثاني وإن بقي موزوناً، فإذا رده على الصدر تعلق به وبقي المثل الثاني مكسوراً. ومثله قول القطامي، واسمه عمير بن شييم التغلبي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 والناس من يلق خيراً قائلون له ... ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل فقوله ولأم المخطئ الهبل مثل، إلا أنه غير موزون حتى يتصل بقوله ما يشتهي وذلك من تمام المثل الأول الذي في صدر البيت، وهذا كله احتياج ومما لا احتياج فيه قول امرئ القيس: الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل ففي كل قسيم من هذين مثل قائم بنفسه، غير محتاج إلى صاحبه.. وكذلك قول الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس وقال عبيد بن الأبرص الأسدي: الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد ومما فيه مثل واحد قول عنترة العبسي: نبئت عمراً غير شاكر نعمتي ... والكفر مخبثة لنفس المنعم فجاء بالمثل غير محتاج إلى ما قبله.. وقال أبو ذؤيب: تركوا هوي وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا، ولكل جنب مصرع فإن بدأت بالقسيم الثاني كان مثلاً سائراً، وإن أسقطت جزأ منه بقي المثل سائراً غير موزون، إلا أن يكون في المرفوع من الأمثال مصمت يأتي في البيت بأسره كقول الأول: وإنك لن ترى طرداً لحر ... كإلصاق به طرف الهوان وقول أبي نواس: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق ومما فيه ثلاثة أمثال قول زهير: وفي الحلم إذعان، وفي العفو دربة، ... وفي الصدق منجاة من الشر فاصدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 فأتى بكل مثل في ربع بيت، ثم جعل الربع الآخر زيادة في شرح معنى ما قبله. وكذلك قول النابغة الذبياني: الرفق يمن، والأناة سلامة ... فاستأن في رفق تلاق نجاحا فجاء بثلاثة أمثال إلا أنها مداخلة لم تسلم سلامة ما قبلها من كلام زهير. وقال ابن عبد القدوس: كل آت لا بد آت، وذو الجه ... ل معنى، والغم والحزن فضل فأتى بثلاثة أمثال مداخلة الوزن أيضاً، وكان قول ضابئ بن الحارث: وفي الشك تفريط، وفي الحزم قوة، ... ويخطئ في الحدس الفتى ويصيب أحسن تعديلاً في القسمة؛ لأن شطره الأول مشتمل على مثلين، وشطره الثاني مشتمل على مثل قائم بنفسه. وقال عبد الله بن المعتز: والعيش هر، والموت مر ... مستكره، والمنى ضلال والحرص ذل، والبخل فقد ... وآفة النائل المطال ففي البيت الأول ثلاثة أمثال في أحدها احتياج، وفي البيت الثاني ثلاثة أمثال لا احتاج فيها على حذو ما أتى به ضابئ، ولم أر بيتاً فيه أربعة أمثال كل واحد منها قائم بنفسه إلا قليلاً، أنشد الأصمعي: فالهم فضل، وطول العيش منقطع، ... والرزق آتٍ، وروح الله منتظر وقال أبو الطيب وحكم عليه الوزن أيضاً: والمرء يأمل، والحياة شهية، ... والشيب أوقر، والشبيبة أنزق فأتى بمثلين في كل قسيم، وصنعت أنا: كل إلى أجلٍ، والدهر ذو دول ... والحرص مخيبة، والرزق مقسوم وأقل من ذلك ما كان فيه خمسة أمثال، ولا أعرف منه في حفظي إلا بيتاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 واحداً للقزاز السناط في بسط قصيدة مدح بها الأمير تميم بن المعز معد، وهو قوله: خاطر تفد، وارتد تجد، واكرم تسد ... وانقد تقد، واصغر تعد الأكبرا وأما ما فيه ستة فإني صنعت: خذ العفو، وأب الضيم، واجتنب الأذى ... وأغض تسد، وارفق تنل، واسخ تحمد ومن الأمثال أيضاً كلمات سارت على وجه الدهر: كقولهم " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " يضرب مثلاً للذي رؤيته دون السماع به، وفي كل ما جرى هذا المجرى، وكذلك قولهم: " على أهلها جنت براقش " يضرب مثلاً للرجل يهلك قومه بسببه. وأما قولهم في تفسير ما يقع في الشعر من جنس قول الحطيئة: شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا هو مثل؛ فإنما ذلك مجاز، أرادوا التمثيل. وهذه الأشياء في الشعر إنما هي نبذ تستحسن، ونكت تستظرف، مع القلة، وفي الندرة، فأما إذا كثرت فهي دالة على الكلفة، فلا يجب للشعر أن يكون مثلاً كله وحكمة كشعر صالح بن عبد القدوس؛ فقد قعد به عن أصحابه وهو يقدمهم في الصناعة لإكثاره من ذلك، وما نص عليه العلماء في كتبهم، وكذلك لا يجب أن يكون استعارة وبديعاً كشعر أبي تمام؛ فقد رأيت ما صنع به ابن المعتز، وكيف قال فيه ابن قتيبة، وما ألف عليه المتعقبون كالجرجاني وأبي القاسم بن بشر الآمدي وغيرهما، وإنما هرب الحذاق عن هذه الأشياء؛ لما تدعو إليه من التكلف لا سيما إن كان في الطبع أيسر شيء من الضعف والتخلف. وأشد ما تكلفه الشاعر صعوبة التشبيه؛ لما يحتاج إليه من شاهد العقل واقتضاء العيان. ولا ينبغي للشعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 أن يكون أيضاً خالياً مغسولاً من هذه الحلي فارغاً ككثير من شعر أشجع وأشباهه من هؤلاء المطبوعين جملة، مع أنه لا بد لكل شاعر من طريقة تغلب عليه فينقاد إليها طبعه، ويسهل عليه تناولها: كأبي نواس في الخمر، وأبي تمام في التصنيع، والبحتري في الطيف، وابن المعتز في التشبيه، وديك الجن في المراثي، والصنوبري في ذكر النور والطير، وأبي الطيب في الأمثال وذم الزمان وأهله. وأما ابن الرومي فأولى الناس باسم شاعر؛ لكثرة اختراعه، وحسن افتتانه، وقد غلب عليه الهجاء حتى شهر به؛ فصار يقال: أهجى من ابن الرومي، ومن أكثر من شيء عرف به، وليس هجاء ابن الرومي بأجود من مدحه ولا أكثر. ولكن قليل الشر كثير. باب التشبيه التشبيه: صفة الشيء بما قاربه وشاكله، ومن جهة واحدة أو جهات كثيرة لا من جميع جهاته؛ لأنه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه، ألا ترى أن قولهم " خذ كالورد " إنما أرادوا حمرة أوراق الورد وطراوتها، لا ما سوى ذلك من صفرة وسطه وخضرة كمائمه، وكذلك قولهم " فلان كالبحر، أو كالليث " إنما يريدون كالبحر سماحة وعلماً، وكالليث شجاعة وقرما، وليس يريدون ملوحة البحر وزعوقته، ولا شتامة الليث وزهوقته؛ فوقوع التشبيه إنما هو أبداً على الأعراض لا على الجواهر؛ لأن الجواهر في الأصل كلها واحد، اختلفت أنواعها أو اتفقت؛ فقد يشبهون الشيء بسميه ونظيره من غير جنسه، كقولهم " عين كعين المهاة، وجيد كجيد الريم " فاسم العين واقع على هذه الجارحة من الإنسان والمهاة، واسم الجيد واقع على هذا العضو من الإنسان والريم، والكاف للمقاربة، وإنما يريدون أن هذه العين لكثرة سوادها قاربت أن تكون سوداء كلها كعين المهاة، وأن هذا الجيد لانتصابه وطوله كجيد الريم، ألا ترى أن الأصمعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 سئل عن الحور فقال: أن تكون العين سوداء كلها كعيون الظباء والبقر، ولا حور في الإنسان، هذا أحد أقوال الأصمعي في الحور، ويدلك على أن التشبيه إنما هو هو بالمقاربة كما قلنا. والتشبيه والاستعارة جميعاً يخرجان الأغمض إلى الأوضح، ويقربان البعيد، كما شرط الرماني في كتابه، وهما عنده في باب الاختصار. قال: واعلم أن التشبيه على ضربين: تشبيه حسن، وتشبيه قبيح، فالتشبيه الحسن هو الذي يخرج الأغمض إلى الأوضح فيفيد بياناً، والتشبيه القبيح ما كان على خلاف ذلك، قال: وشرح ذلك أن ما تقع عليه الحاسة أوضح في الجملة مما لا تقع عليه الحاسة، والمشاهد أوضح من الغائب؛ فالأول في العقل أوضح من الثاني، والثالث أوضح من الرابع، وما يدركه الإنسان من نفسه أوضح مما يعرفه من غيره، والقريب أوضح من البعيد في الجملة، وما قد ألف أوضح مما يؤلف، ثم عاب على بعض شعراء عصره: صدغه ضد خده مثل ما الوع ... د إذا ما اعتبرت ضد الوعيد من قبل أنه شبه الأوضح بالأغمض، وما تقع عليه الحاسة بما لا تقع عليه، وكذلك قوله: له غرة كلون وصالٍ ... فوقها طرة كلون صدود وقال في موضع آخر: التشبيه على ضربين والأصل واحد: فأحدهما التقدير، والآخر التحقيق؛ فالذي يأتي على التقدير التشبيه من وجه واحد دون وجه، والذي يأتي على التحقيق التشبيه على الإطلاق، وهو التشبيه بالنفس، مثل تشبيه الغراب بالغراب، وحجر الذهب بحجر الذهب إذا كان مثله سواء، وحمرة شقائق بحمرة الشقائق. قال صاحب الكتاب: أما ما شرط في التشبيه فهو الحق الذي لا يدفع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 لا أنه قد حمل على الشاعر فيما أخذ عليه؛ إذ كان قصد الشاعر أن يشبه ما يقوم في النفس دليله بأكثر مما هو عليه في الحقيقة، كأنه أراد المبالغة، ولعله يقول أو يقول المحتج له: معرفة النفس والمعقول أعظم من إدراك الحاسة، لا سيما قد جاء مثل هذا القرآن وفي الشعر الفصيح: قال الله عز وجل: " طلعها رءوس الشياطين " فقال قوم: إن شجرة الزقوم وهي أيضاً الأستن لها صورة منكرة وثمرة قبيحة يقال لها: رؤوس الشياطين، وقال قوم: الشياطين الحيات في غير هذا المكان، والأجود الأعرف أنه شبه بما لا يشك أنه منكر قبيح؛ لما جعل الله عز وجل في قلوب الإنس من بشاعة صور الجن والشياطين، وإن لم يروها عياناً، فخوفنا تعالى بما أعد للعقوبة، وشبهه بما نخاف أن نراه، وقال امرؤ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال فشبه نصال النبل بأنياب الأغوال لما في النفس منها. وعلى هذا التأويل قال أبو تمام وفيه عكس: وأحسن من نور يفتحه الندى ... بياض العطايا في سواد المطالب وقال أعرابي قديم: يزملون حديث الضغن بينهم ... والضغن أسود أو في وجهه كلف فوصفه بما يتصور ويقوم في النفس، كأنه يقول: لو كان صورة لكان هكذا، وقال بعض المولدين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وتدبر عيناً في صحيفة فضة ... كسواد يأس في بياض رجاء فاليأس على الحقيقة غير أسود؛ لأنه لا يدرك بالعيان، لكن صورته في المعقول وتمثيله كذلك مجازاً، والرجاء أيضاً على هذا التقدير في البياض. وقد يقول المحتج الأول: إن هذا داخل في باب الاستطراد، كأن الشاعر لم يقصد الإخبار عن الغرة والطرة وشبههما، لكن عن الوصال والصدود، وعكس التشبيه ثقة بأن ما أشبه شيئاً من جهة فقد أشبهه الآخر من تلك الجهة. فأما قول ابن المعتز يصف شرب حمار: وأقبل نحو الماء يشتل صفوه ... كما أغمدت أيدي الصياقل منصلا فإنه بديع، يشبه فيه انسياب الماء في شدقيه إلى حلقه بمنصل يغمد، وهذا تشبيه مليح يدرك بالحس، ويتمثل في المعقول، وكرر هذا التشبيه فقال يذكر إبل سفر: وأغمدن في الأعناق أسياف لجةٍ ... مصقلةً تفرى بهن المفاوز وزعم قدامة أن أفضل التشبيه ما وقع بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما، حتى يدنى بهما إلى حال الاتحاد، وأنشد في ذلك وهو عنده أفضل التشبيه كافةً: له أيطلا ظبي، وساقا نعامةٍ ... وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل وهذا تشبيه أعضاء بأعضاء هي هي بعينها، وأفعال بأفعال هي هي أيضاً بعينها، إلا أنها من حيوان مختلف كما قدمت، والأمر كما قال في قرب التشبيه، إلا أن فضل الشاعر فيه غير كبير حينئذ؛ لأنه كتشبيه نفس الشيء المشبه الذي ذكره الرماني في تشبيه الحقيقة، وإنما حسن التشبيه أن يقرب بين البعيدين حتى تصير بينهما مناسبة واشتراك، كما قال الأشجعي: كأن أزيز الكير إرزام شخبها ... إذا امتاحها في محلب الحي ماتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 فشبه ضرع العنز بالسكير، وصوت الحلب بأزيزه، فقرب بين الأشياء البعيدة بتشبيهه حتى تناسبت، ولو كان الوجه ما قال قدامة لكان الصواب أن يشبه الأشجعي ضرع عنزة بضرع بقرة، أو خلف ناقة؛ لأنه إنما أراد كبره وكثرة ما فيه من اللبن، وكان يعدل عن ذكر الكير وأزيزه الذي دل به على أعظم ما يكون من صفة كبر الضرع وكثرة لبنه. وسبيل التشبيه إذ كانت فائدته إنما هي تقريب المشبه من فهم السامع، وإيضاحه له أن تشبه الأدون بالأعلى إذا أردت مدحه، وتشبه الأعلى بالأدون إذا أردت ذمه، فتقول في المدح: تراب كالمسك، وحصى كالياقوت، وما أشبه ذلك، فإذا أردت الذم قلت: مسك كالسك أو التراب، وياقوت كالزجاج أو كالحصى؛ لأن المراد في التشبيه ما قدمته من تقريب الصفة وإفهام السامع، وإن كان ما شابه الشيء من جهة فقد شابهه الآخر منها، إلا أن المتعارف وموضوع التشبيه ما ذكرت. وأصل التشبيه مع دخول الكاف وأمثالها أو كأن وما شاكلها كلها شيء بشيء في بيت واحد، إلى أن صنع امرؤ القيس في صفة عقاب: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي فشبه شيئين بشيئين في بيت واحد، واتبعه الشعراء في ذلك؛ فقال لبيد ابن ربيعة: وجلا السيول عن الضلول كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها فشبه الطلول بالزبر والسيول بالأقلام، بل زاد فشبه جلاء هذه عن هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 بتجديد تلك لتلك. وحكى عن بشار أنه قال: ما قر بي القرار مذ سمعت قول امرئ القيس كأن قلوب الطير رطباً ويابساً حتى صنعت: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه فإن كان مراده الترتيب فصدق، ولم يقع بعد بيت امرئ القيس في ترتيبه كبيته، وإن كان المراد تشبيهين في بيت فقد قال الطرماح في صفة ثور وحشي: يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد وهذا نهاية في الجودة. وأما قول من قال في بيت الحارث بن حلزة: وحسبت وقع سيوفنا برءوسهم ... وقع السحابة بالطراف المشرج إن فيه تشبيهين من جهة الكثرة والحس أو السرعة والحس؛ فمحتمل، إلا أن الشاعر لم يصرح إلا بالوقع خاصة، يريد بذلك الحس وحده ظاهر الأمر ولذلك خص الطراف؛ لكونه من الأدم، فصوت القطر عليه أشد منه على غيره من سائر البيوت. وقال بشار أيضاً: خلقنا سماء فوقهم بنجومها ... سيوفاً ونقعاً يقبض الطرف أقسما وقال فشبه شيئين مختلفين بشيئين من جنس واحد: من كل مشتهرٍ في كف مشتهرٍ ... كأن غرته والسيف نجمان وربما شبهوا شيئاً بشيئين كقول القطامي: فهن كالحلل الموشى ظاهرها ... أو كالكتاب الذي قد مسه البلل وربما شبهوا بثلاثة أشياء كما قال البحتري: كأنما يبسم عن لؤلؤٍ ... منظم، أو بردٍ، أو أقاح فقول الشاعر " أو " زيادة تشبيه وإن لم يصح من جميع المشبه بها إلا شيء واحد من جهة الحكم في " أو ". ومن الناس من يرويه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 كأنما يبسم عن لؤلؤٍ ... أو فضة، أو بردٍ، أو أقاح وهي زعموا رواية أكثر أهل الأندلس والمغرب؛ فيكون حينئذ الثغر مشبهاً بأربعة أشياء، وقد تقدم أبو تمام فقال: وثناياك إنها إغريض ... ولآل توم وبرق وميض فشبهها بثلاثة أشياء حقيقة؛ لأن حكم الواو غير حكم " أو " لا سيما وقد أتى التشبيه بغير كاف ولا شيء من أخوتها، فجاء كأنه إيجاب وتحقيق. وكثر تشبيههم شيئين بشيئين حتى لم يصر عجباً، وقد جاءوا بتشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء في بيت واحد: بالكاف؛ وبغير كاف؛ فقال مرقش: النشر مسك، والوجوه دنا ... نير، وأطراف الأكف عنم وقال ابن الرومي: كأن تلك الدموع قطر ندى ... يقطر من نرجس على ورد وقال أيضاً ويدخل في باب قول مرقش: إن أقبلت فالبدر لاح، وإن مشت ... فالغصن ماد، وإن رنت فالريم وقال ابن المعتز: بدر وليل وغصن ... وجه وشعر وقد خمر ودر وورد ... ريق وثغر وخد وقال صاحب الكتاب: كأن ثناياه أقاحٍ، وخده ... شقيق، وعينيه بقية نرجس وقال أيضاً على جهة التفسير: بكؤوس حكين من شف قلبي ... شفة لم تذق وثغراً وريقا يريد حافة الكأس والحباب والخمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ثم أتوا بتشبيه أربعة بأربعة: بالكاف أيضاً، وبغير كاف، فقال امرؤ القيس وهو أول من فتح هذا الباب: له أيطلا ظبي، وساقا نعامةٍ ... وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل فجاء بتشبيه إضافة كما ترى حتى جعله تحقيقاً لولا مفهوم الخطاب. بدت قمراً، ومالت خوط بان، ... وفاحت عنبراً، ورنت غزالا فجاء بالتشبيه على إسقاط الكاف. وقال أيضاً: ترنو إلي بعين الظبي مجهشةً ... وتمسح الطل فوق الورد بالعنم فشبه في القسيم الأول عينها بعين الظبي، وشبه في القسيم الآخر ثلاثة بثلاثة، وقد تقدم أبو نواس فقال: يبكي فيذري الدر من نرجس ... ويلطم الورد بعناب وهذا مليح جداً. سئل ابن مناذر: من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول: يا قمراً أبصرت في مأتمٍ ... يندب شجواً بين أتراب يبكي فيذري الدر من نرجس ... ويلطم الورد بعناب هذا أشعر الجن والأنس. وقد جاء بالشعر على سجيته أعني أبا نواس وشاهد ذلك ظاهر في لفظه، وإلا فهو قادر أن يجعل مكان الدر الطل حتى يتناسب الكلام، لكنه لم يكن يؤثر التصنيع ولا يراه فضيلة؛ لما فيه من الكلفة ومن الناس من يرويه كذلك، ومنهم من يرويه فيذري الدر من جفنة ومما شبه أربعة بأربعة مع الكاف قول ابن حاجب وهو عبد العزيز وزير القادر بالله أبي العباس النعمان: ثغر وخد ونهد واختضاب يدٍ ... كالطلع والورد والرمان والبلح وقال صاحب الكتاب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 بفرع ووجه وقدٍ وردفٍ ... كليلٍ وبدرٍ وغصنٍ وحقفٍ ومما وقع فيه تشبيه خمسة بخمسة قول أبي الفرج الوأواء، وأتى به بغير آلة تشبيه: فأسبلت لؤلؤاً من نرجس وسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبرد وقال أبو الفتح البستي شاعر مصر في وقتنا هذا يصف شمعة: قد شابهتني في لونٍ وفي قضفٍ ... وفي احتراق وفي دمع وفي سهر فقوله قد شابهتني أظهر مقدرة من المجيء بالكاف؛ لأنهم إنما استصعبوا ذلك مع الكاف وأخوتها من جهة ضيق الكلام بها، فهذا الذي أتى به البستي أشد ضيقاً، ألا ترى أنه لو قال: " كأنها أنا " لكان هو الصواب ويكون قد أتى بكأن وضميرين بعدها فضلاً عن الكاف. ومنهم من يأتي بالتشبيه الواحد بغير كاف كقول امرئ القيس: سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال وقوله أيضاً: إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفضل يريد كسمو حباب الماء، وكتعرض أثناء الوشاح. وأبدع من هذا عندهم وأغرب قول المنخل اليشكري: دافعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير وإنما براعته عندهم لما لم يكن قبله فعل من لفظه. ومن مليح التشبيه قول أبي كبير الهذلي: فالطعن شغشغة، والضرب هيقعة ... ضرب المعول تحت الديمة العضدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وللقسي أزاميل وغمغمة ... حس الجنوب تسوق الماء والبردا فالأول من نوع بيتي امرئ القيس، والثاني من نوع بيت المنخل، وأنا أستحسن هذين البيتين جداً. وقد يقع التشبيه بين الضدين والمختلفين: كقولك " العسل في حلاوته كالصبر في مرارته، أو كالخل في حموضته ". قال أبو الحسن الرماني: وهذا الضرب من التشبيه لا يقال إلا بتقييد وتفسير ومن هذا النوع الذي ذكره الرماني قول ابن المهدي للمأمون يعتذر: لئن جحدتك معروفاً مننت به ... إني لفي اللؤم أحظى منك بالكرم وكذلك قول أبي نواس: أصبح الحسن منك يا أحسن الأم ... ة يحكي سماجة ابن حبيش يريد أن هذا غاية كما أن ذاك غاية. قال الجرجاني: التشبيه والتمثيل يقع مرة بالصورة والصفة، وأخرى بالحالة والطريقة، اعتذر بذلك عن قول أبي الطيب: بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه إنه إنما أراد وقوفاً خارجاً عن المتعارف. وأنشد: رب نيل أمد من نفس العا ... شق طولاً قطعته بانتحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 فهذا والله هو النقد العجيب الذي غفل الناس عنه، بل عموا وصموا. والبيت لمحمد بن عبد الملك الزيات، ويروي لماني الموسوس. ومثله قول أبي تمام: ومسافة كمسافة الهجر ارتقى ... في صدر باقي الحب والبرحاء وأنشد الرماني لذي الرمة: كأنه كوكب في إثر عفريت ... مسوم في سواد الليل منقضب ثم قال: قد اجتمع الثور والكوكب في السرعة إلا أن انقضاض الكوكب أسرع، واستدل بهذا على جودة التشبيه. وأنا أرى أن فيه دركاً على الشاعر، وإغفالاً من الشيخ المفسر، وذلك أن الثور مطلوب، والكوكب طالب، فشبهه به في السرعة والبياض، ولو شبهه بالعفريت وشبه الكلب وراءه بالكوكب لكان أحسن وأوضح، لكنه لم يتمكن له المعنى الذي أراده من فوت الثور الذي شبه به راحلته؛ وأما ما أغفله الشيخ فإن الشاعر إنما رغب في تشبيه الثور بالكوكب، واحتمل عكس التشبيه: بأن جعل المطلوب طالباً لبياضه فإن الثور لهق لا محالة؛ وأما السرعة التي زعم فإن العفريت لو وصفه به وشبهه بسرعته لما كان مقصراً، ولا متوسطاً، بل فوق ذلك. ومن التشبيهات عقم لم يسبق أصحابها إليها، ولا تعدى أحد بعدهم عليها، واشتقاقها فيما ذكر من الريح العقيم، وهي التي لا تلقح شجرة ولا تنتج ثمرة، نحو قول عنترة العبسي يصف ذباب الروض: وخلا الذباب بها فليس بارحٍ ... غرداً كفعل الشارب المترنم هزجاً يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم وقوله أيضاً في صفة الغراب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 خرق الجناح كأن لحي رأسه ... جلمان بالأخبار هش مولع وقال الحطيئة يصف لغام ناقته: ترى بين لحييها إذا ما ترغمت ... لغاماً كبيت العنكبوت الممدد وقال الشماخ يصف آثار ريش نعامة: كأنما منثني أقماع ما مرطت ... من العفاء بليتيها الثآليل وقول عدي بن الرقاع يصف قرن ظبي: تزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها وقول الراعي يصف جعد الرأس: جدلاً أسك كأن فروة رأسه ... بذرت فأنبت جانباها فلفلا وقول بشر بن أبي خازم يصف عروق الأرطى وقد كشفها ثور: يثير ويبدي عن عروقٍ كأنها ... أعنة خراز تخط وتنشر وقول الطرماح في صفة الظليم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 مجتاب شملة برجد لسراته ... قدداً، وأسلم ما سواه البرجد وقول ذي الرمة في صفة الليل: وليل كجلباب العروس قطعته ... بأربعةٍ والشخص في العين واحد وقول مضرس بن ربعي في صفة رأس النعامة: سكاء عارية الأخادع رأسها ... مثل المدق وأنفها كالمسرد وقال النابغة في صفة النسور: تراهن خلف القوم خزراً عيونها ... جلوس الشيوخ في ثياب المرانب وهذا التشبيه عندهم عقيم، إلا أني أقول: إنه من قول طرفة يصف عقاباً: وعجزاء دفت بالجناح كأنها ... مع الصبح شيخ في بجاد مقنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وينظر أيضاً إلى قول امرئ القيس قبله: كأن ثبيراً في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل وقال عبد الله بن الزبير الأسدي في تشبيه رأس القطاة: تقلب للإصغاء رأساً كأنها ... يتيمة جوز أغبرتها المكاسر وفي الشعر من هذا صدر جيد، وفي القرآن تشبيه كثير كقوله تعالى: " والقمر قدرناها منازل حتى عاد كالعرجون القديم " وقوله تعالى: " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيمة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً " وقوله: " إذا غشيهم موج كالظلل " وقوله: " كأنهم جراد منتشر " ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم: " الناس كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية " وقال: " الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " وكثير من هذا يطول تقصيه. وقد أتت القدماء بتشبيهات رغب المولدون إلا القليل عن مثلها استبشاعاً لها، وإن كانت بديعة في ذاتها، مثل قول امرئ القيس: وتعطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل فالبنانة لا محالة شبيهة بالأسروعة، وهي دودة تكون في الرمل، وتسمى جماعتها بنات النقا، وإياها عنى ذو الرمة بقوله: خراعيب أمثال كأن بنانها ... بنات النقا تخفى مراراً وتظهر فهي كأحسن البنان: ليناً، وبياضاً، وطولاً، واستواءً، ودقة، وحمرة رأس، كأنه ظفر قد أصابه الحناء، وربما كان رأسها أسود، إلا أن نفس الحضري المولد إذا سمعت قول أبي نواس في صفة الكأس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 تعاطيكها كف كأن بنانها إذا اعترضتها العين صف مداري أو قول علي بن العباس الرومي: سقى الله قصراً بالرصافة شاقني ... بأعلاه قصري الدلال رصافي أشار بقضبان من الدر قمعت ... يواقيت حمراً فاستباح عفافي وقول عبد الله بن المعتز: أشرن على خوف بأغصان فضة ... مقومة أثمارهن عقيق كان ذلك أحب إليها من تشبيه البنان بالدود في بيت امرئ القيس، وإن كان تشبيهه أشد إصابة. وفي قول الطائي أبي تمام: بسطت إليك بنانة أسروعا ... تصف الفراق ومقلة ينبوعا وقرب هذا عنده وهو مدح من قول حسان في الهجو: وأمك سوداء نوبية ... كأن أناملها الحنظب إذ كانا جميعاً من خشاش الأرض. فأما قول امرئ القيس أو مساويك إسحل فجار مجرى غيره من تشبيهاتهم؛ لأنهم يصفونها بالعنم والأقلام وما أشبه ذلك، والبنان قريب الشبه من أعواد المساويك: في القدر، والاستواء، والإملاس، إلا أن الأول على كراهته أشبه بها، والإسحل: شجر المخيطا. وقد استبشع قوم قول الآخر يصف روضاً كان شقائق النعمان فيه ... ثياب قد روين من الدماء فهذا وإن كان تشبيهاً مصيباً فإن فيه بشاعة ذكر الدماء، ولو قال من العصفر مثلاً أو ما شاكله لكان أوقع في النفس وأقرب إلى الأنس. وكذلك صفتهم الخمر في حبابها بسلخ الشجاع وما جرى هذا المجرى من التشبيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 فإنه وإن كان مصيباً لعين الشبه فإنه غير طيب في النفس، ولا مستقر على القلب، ومن ذلك قول أبي عون الكاتب: تلاعبها كف المزاج محبة ... لها، وليجري ذات بينهما الأنس فتزبد من تيه عليها كأنها ... غريرة خدر قد تخبطها المس فلو أن في هذا كل بديع لكان مقيتاً بشعاً، ومن ذا يطيب له أن يشرب شيئاً يشبه بزبد المصروع وقد تخبطه الشيطان من المس؟! وكأني أرى بعض من لا يحسن إلا الاعتراض بلا حجة قد نعى على هذا المذهب، وقال: رد على امرئ القيس، ولم أفعل، ولكني بينت أن طريق العرب القدماء كثير من الشعر قد خولفت إلى ما هو أليق بالوقت وأشكل بأهله. وقد عاب الأصمعي بين يدي الرشيد قول النابغة: نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العود على أنه تشبيه لا يلحق، ولا يشق غبار صاحبه، ولم يجد فيه المطعن إلا بذكر السقيم؛ فإنه رغب عن تشبيه المحبوبة به، وفضل عليه قول عدي بن الرقاع العاملي: وكأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم وأجرى الناس هذا المجرى قول صريع الغواني على أنه لم يقع لأحد مثله، وهو: فلطت بأيديها ثمار نحورها ... كأيدي الأسارى أثقلتها الجوامع فهذا تشبيه مصيب جداً، إلا أنهم عابوه بما بينت، وإنما أشار إلى قول النابغة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 ويخططن بالعيدان في كل منزل ... ويخبأن رمان الثدي النواهد ومثله قول أبي محجن الثقفي في وصف قينة: وترفع الصوت أحياناً وتخفضه ... كما يطن ذباب الروضة الغرد فأي قينة تحب أن تشبه بالذباب؟ وقد سرق بيت عنترة وقلبه فأفسده. باب الإشارة والأشارة من غرائب الشعر وملحه، وبلاغة عجيبة، تدل على بعد المرمى وفرط المقدرة، وليس يأتي بها إلا الشاعر المبرز، والحاذق الماهر، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة، واختصار وتلويح يعرف مجملاً ومعناه بعيد من ظاهر لفظه؛ فمن ذلك قول زهير: فإني لو لقيتك واتجهنا ... لكان لكل منكرة كفاء فقد أشار له بقبح ما كان يصنع لو لقيه، هذا عند قدامة أفضل بيت في الإشارة.. وقول الآخر: جعلت يدي وشاحاً له ... وبعض الفوارس لا يعتنق وهذا النوع من الشعر هو الوحي عندهم.. وأنشد الحاتمي عن علي بن هارون عن أبيه، عن حماد، عن أبيه إسحاق بن إبراهيم الموصلي: جعلنا السيف بين الخد منه ... وبين سواد لمته عذارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 فأشار إلى هيئة الضربة التي أصابه بها دون ذكرها إشارة لطيفة دلت على كيفيتها، وإنما وصف أنهم ضربوا عنقه، ويروي بين الجيد ومثله قول الآخر: ويوم يبيل النساء الدماء ... جعلت رداءك فيه خمارا يريد بالرداء الحسام كما قال متمم بن نويرة: لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا وقوله إنه جعله خماراً أي قنعت به الفرسان، وأشار بقوله يبيل النساء الدماء إلى وضع الحوامل من شدة الفزع. ومما جاء في الإشارة على معنى التشبيه قول الراجز يصف لبناً ممذوقاً وجاء بمذق هل رأيت الذئب قط فإنما أشار إلى تشبيه لونه؛ لأن الماء غلب عليه فصار كلون الذئب. ومن أنواع الإشارة التفخيم فكقول الله تعالى: " القارعة ما القارعة " وقد قال كعب بن سعد الغنوي: أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ... ولا ورع عند اللقاء هيوب وأما الإيماء فكقول الله عز وجل: " فغشيهم من اليم ما غشيهم " فأومأ إليه وترك التفسير معه.. وقال كثير: تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وخلفت ما خلفت بين الجوانح فقوله وخلفت ما خلفت إيماء مليح.. ومثله قول ابن ذريح: أقول إذا نفسي من الوجد أصعدت ... بها زفرة تعتادني هي ما هيا ومن أنواع التعريض: كقول كعب بن زهير لرسول الله صلى الله عليه وسلم: في فتية من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا فعرض بعمر بن الخطاب وقيل: بأبي بكر رضي الله عنهما، وقيل: برسول الله صلى الله عليه وسلم تعريض مدح، ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل فقيل: إنه عرض في هذا البيت بالأنصار، فغضبت الأنصار، وقال المهاجرون: لم تمدحنا إذ ذممتهم، حتى صرح بمدحهم في أبيات يقول فيها: من سره كرم الحياة فلا يزل ... في مقنب من صالحي الأنصار ومن مليح التعريض قول أيمن بن خريم الأسدي لبشر بن مروان يمدحه ويعرض بكلف كان بوجه أخيه عبد العزيز حين نفاه من مصر على يدي نصيب الشاعر مولاه: كأن التاج تاج بني هرقل ... جلوه لأعظم الأعياد عيداً يصافح خد بشر حين يمسي ... إذا الظلماء باشرت الخدودا فهذا من خفي التعريض؛ لأنه أوهم السامع أنه إنما أراد المبالغة بذكر الظلماء لا سيما وقد قال حين يمسي وإنما أراد الكلف، هكذا حكت الرواة. ومن أفضل التعريض مما يجل عن جميع الكلام قول الله عز وجل: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " أي: الذي كان يقال له هذا أو يقوله، وهو أبو جهل؛ لأنه قال: ما بين جبليها يعني مكة أعز مني ولا أكرم، وقيل: بل ذلك على معنى الاستهزاء به. ومن أنواعها التلويح، كقول المجنون قيس بن معاذ العامري: لقد كنت أعلو حب ليلى فلم يزل ... بي النقض والإبرام حتى علانيا فلوح بالصحة والكتمان ثم بالسقم والاشتهار تلويحاً عجيباً، وإياه قصد أبو الطيب بعد أن قلبه ظهراً لبطن فقال: كتمت حبك حتى منك تكرمة ... ثم استوى فيك إسراري وإعلاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 لأنه زاد حتى فاض عن جسدي ... فصار سقمي به في جسم كتماني إلا أنه أخفاه وعقده كما ترى، حتى صار أحجية يتلاقاها الناس. ومن أجود ما وقع في هذا النوع قول النابغة يصف طول الليل: تقاعس حتى قلت: ليس بمنقضً ... وليس الذي يرعى النجوم بآيب " الذي يرعى النجوم " يريد به الصبح، أقامه مقام الراعي الذي يغدو فيذهب بالإبل والماشية؛ فيكون حينئذ تلويحه هذا عجباً في الجودة، وأما من قال: إن الذي يرعى النجوم إنما هو الشاعر الذي شكا السهر وطول الليل؛ فليس على شيء. وزعم قوم أم الآيب لا يكون إلا بالليل خاصة، ذكره عبد الكريم. ومن أنواع الإشارات الكناية والتمثيل، كما قال ابن مقبل وكان جافياً في الدين: يبكي أهل الجاهلية وهو مسلم، فقيل له مرة في ذلك فقال: وما لي لا أبكي الديار وأهلها ... وقد رادها رواد عك وحميرا وجاء قطا الأحباب من كل جانب ... فوقع في أعطاننا ثم طيرا فكنى عما أحدثه الإسلام ومثل كما ترى. ومن أنواعها الرمز: كقول أحد القدماء يصف امرأة قتل زوجها وسبيت: عقلت لها من زوجها عدد الحصى ... مع الصبح أو مع جنح كل أصيل يريد أني لم أعطها عقلاً ولا قوداً بزوجها، إلا الهم الذي يدعوها إلى عد الحصى، وأصله من قول امرئ القيس: ظللت ردائي فوق رأسي قاعداً ... أعد الحصى ما تنقضي عبراتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ومن مليح الرمز قول أبي نواس يصف كؤوساً ممزوجة فيها صور منقوشة: قرارتها كسرى، وفي جنباتها ... مها تدريها بالقسي الفوارس فللخمر ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس يقول: إن خد الخمر من صور هذه الفوارس التي في الكؤوس إلى التراقي والنحور، وزبد الماء فيها مزاجاً، فانتهى الشراب إلى فوق رءوسها، ويجوز أن يكون انتهاء الحباب إلى ذلك الموضع لما مزجت فأزبدت، والأول أملح، وفائدته معرفة حدها صرفاً من معرفة حدها ممزوجة، وهذا عندهم مما سبق إليه أبو نواس، وأرى والله أعلم إنما تحلق على المعنى من قول امرئ القيس: فلما استطابوا صب في الصحن نصفه ... ووافى بماء غير طرقٍ ولا كدر ويروي " ووافوا وإياه أردت، ويروى " استظلوا " من الظل مكان " استطابوا " جعل الماء والشراب قسمين لقوة الشراب، فتسلق الحسن عليه، وأخفاه بما شغل به الكلام من ذكر الصورة المنقوشة في الكؤوس، إلا أنها سرقة ظريفة مليحة، ولم يكن أبو نواس يرضى أن يتعلق بمن دون امرئ القيس وأصحابه. وأصل الرمز الكلام الخفي الذي لا يكاد يفهم، ثم استعمل حتى صار الإشارة وقال الفراء: الرمز بالشفتين خاصة. ومن الإشارات اللمحة، كقول أبي نواس يصف يوماً مطيراً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وشمسه حرة مخدرة ... ليس لها في سمائها نور فقوله " حرة " يدل على ما أراد في باقي البيت؛ إذ كان من شأن الحرة الخفر والحياء، ولذلك جعلها مخدرة، وشأن القيان والمملوكات التبذل والتبرج، وأما زعم من زعم أن قوله " حرة " إنما يريد خلوصها كما تقول: هذا العلق من حر المتاع؛ فخطأ؛ لأن الشاعر قد قال: " ليس لها في سمائها نور " فأي خلوص هناك؟ وكذلك قول حسان ويكون أيضاً تتبيعاً: أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل يريد أنهم ملوك ذوو حاضرة ومستقر عز، ليسوا أصحاب رحلة وانتجاع. ومن أخفى الإشارات وأبعدها اللغز، وهو: أن يكون للكلام ظاهر عجب لا يمكن، وباطن ممكن غير عجب، كقول ذي الرمة يصف عين الإنسان: وأصغر من قعب الوليد ترى به ... بيوتاً مبناة وأودية قفرا فالباء في به للإلصاق كما تقول " لمسته بيدي " أي: ألصقتها به وجعلتها آلة اللمس، والسامع يتوهمها بمعنى في، وذلك ممتنع لا يكون، والأول حسن غير ممتنع ومثله قول أبي المقدام: وغلام رأيته صار كلباً ... ثم من بعد ذاك صار غزالا فقوله صار إنما هو بمعنى عطف وما أشبهه من قول الله عز وجل: " فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك "، ومستقبله يصور، وقد قيل " يصير " وهي لغة قليلة، وليس صار التي هي من أخوات كان مستقبلها يصير فقط ومعناها استقر بعد تحول. واشتقاق اللغز من ألغز اليربوع ولغز، إذا حفر لنفسه مستقيماً ثم أخذ يمنة ويسرة، يوري بذلك ويعمى على طالبه. ومن الإشارات اللحن، وهو كلام يعرفه المخاطب بفحواه، وإن كان على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 غير وجهه، قال الله تعالى: " ولتعرفنهم في لحن القول " وإلى هذا ذهب الحذاق في تفسير قول الشاعر: منطق صائب وتلحن أحيا ... ناً، وخير الحديث ما كان لحنا ويسميه الناس في وقتنا هذا المحاجاة لدلالة الحجا عليه. وذلك نحو قول الشاعر يحذر قومه: خلوا على الناقة الحمراء أرحلكم ... والبازل الأصهب المعقول فاصطنعوا إن الذئاب قد اخضرت براثنها ... والناس كلهم بكر إذا شبعوا أراد " بالناقة الحمراء " الدهناء، و " بالجمل الأصهب " الصمان، " وبالذئاب " الأعداء، يقول: قد اخضرت أقدامهم من المشي في الكلأ والخصب، والناس كلهم إذا شبعوا طلبوا الغزو فصاروا عدواً لكم كما أن بكر بن وائل عدوكم.. ومثل ذلك قول مهلهل لما غدره عبداه وقد كبرت سنه وشق عليهما ما يكلفهما من الغارات وطلب الثارات، فأراد قتله، فقال: أوصيكما أن ترويا عني بيت شعر، قالا: وما هو؟ قال: من مبلغ الحيين أن مهلهلاً ... لله دركما ودر أبيكما فلما زعما أنه مات قيل لهما: هل أوصى بشيء؟ قالا: نعم، وأنشدا البيت المتقدم، فقالت ابنته: عليكم بالعبدين فإنما قال أبي: من مبلغ الحيين أن مهلهلاً ... أمسى قتيلاً بالفلاة مجندلا لله دركما ودر أبيكما ... لا يبرح العبدان حتى يقتلا فاستقروا العبدين أنهما قتلاه، ورويت هذه الحكاية لمرقش. وسبيل المحاجاة أن تكون كالتعريض والكناية، وكل لغز داخل في الأحاجي، وقد حاجى شيخنا أبو عبد الله بعض تلاميذه فقال له: أحاجيك عباد كزينب في الورى ... ولم تؤت إلا من حميم وصاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 فأجابه التلميذ بأن قال: سأكتم حتى ما تحس مدامعي ... بما انهل من دموع سواكب فكان معكوس قول أبي عبد الله " عباد كزينب " سرك ذائع، فقال الآخر " سأكتم " فأجابه على الظاهر إجابة حسنة، ومعكوس سأكتم " منك أتيت " فكأنه قابل به قول الشيخ " ولم تؤت إلا من صديق وصاحب " وهذا كله مليح. ومنها التعمية، وهذا مثل للطير وما شاكله، كقول أبي نواس: واسم عليه خبن للصفا وما أشبهه، وهو معنى مشهور. ومن الإشارات مصحوبة، وهي عند أكثرهم معيبة كأنها حشو واستعانة على الكلام، نحو قول أبي نواس: قال إبراهيم بالما ... ل كذا غرباً وشرقا ولم يأت بها أبو نواس حشواً، ولكن شطارة وعبثاً بالكلام، وإن شئت قلت بياناً وتثقيفاً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: " وكيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس، وقد مرجت عهودهم وأمانتهم، واختلفوا فكانوا هكذا؟ وشبك بين أصابع يديه "، ولا أحد أفصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبعد كلاماً منه من الحشو والتكلف. وقالوا: مبلغ الإشارة أبلغ من مبلغ الصوت، فهذا باب تتقدم الإشارة فيه الصوت، وقيل: حسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان، جاء بذلك الرماني نصاً، وقاله الجاحظ من قبل، وأخذ على بعض الشعراء في قوله: أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... إشارة مذعور ولم تتكلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فأيقنت أن الطرف قال: مرحباً ... وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيم إذ كان هذا كله مما لا تحمله إشارة خائف مذعور. ولما أقام معاوية الخطباء لبيعة يزيد قام رجل من ذي الكلاع فقال: هذا أمير المؤمنين، وأشار بيده إلى معاوية، فإن مات فهذا، وأشار إلى يزيد، فمن أبى فهذا، وأشار إلى السيف، ثم قال: معاوية الخليفة لا تمارى ... فإن يهلك فسائسنا يزيد فمن غلب الشقاء عليه جهلاً ... تحكم في مفارقه الحديد وقد جاء أبو نواس بإشارات أخر لم تجر العادة بمثلها، وذلك أن الأمين بن زبيدة قال له مرة: هل تصنع شعراً لا قافية له؟ قال: نعم، وصنع من فوره ارتجالاً: ولقد قلت للمليحة قولي ... من بعيد لمن يحبك: " إشارة قبلة " فأشارت بمعصم ثم قالت ... من بعيد خلاف قولي: " " لا لا " فتنفست ساعة ثم إني ... قلت للبغل عند ذلك: " " امش " فتعجب جميع من حضر المجلس من اهتدائه وحسن تأتيه، وأعطاه الأمين صلة شريفة. ومن إشارات الحذف، نحو قول نعيم بن أوس يخاطب امرأته: إن شئت أشرفنا جميعاً فدعا ... الله كل جهده فأسمعا بالخير خيراً وإن شرا فاا ... ولا أريد الشر إلا أن تاا كذا رواه أبو زيد الأنصاري، وساعده من المتأخرين علي بن سليمان الأخفش، وقال: لأن الرجز يدل عليه، إلا أن رواية النحويين " وإن شراً فا " و " إلا أن تا " قالوا: يريد إن شراً فشر، وإلا أن تشائي.. وأنشدوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ثم تنادوا بعد تلك الضوضا ... منهم بهات وهل ويا يا نادى منادٍ منهم ألاتا ... قالوا جميعاً كلهم بلى فا وأنشد الفراء: قلت لها قومي فقالت: قا ف يريد قد قمت. ومن أنواعها التورية كقول علية بنت المهدي في طل الخادم: أيا سرحة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى ظل إليك سبيل متى يشتفى من ليس يرجى خروجه ... وليس لمن يهوى إليه دخول؟ فورت بظل عن طل، وقد كانت تجد به، فمنعه الرشيد من دخول القصر، ونهاها عن ذكره، فسمعها مرة تقرأ: " فإن لم يصبها وابل " فما نهى عنه أمير المؤمنين، أي فطل فقال: ولا كل هذا. وأما التورية في أشعار العرب فإنما هي كناية: بشجرة، أو شاة، أو بيضة، أو ناقة، أو مهرة، أو ما شاكل ذلك كقول المسيب بن علس: دعا شجر الأرض داعيهم ... لينصره السدر والأثأب فكنى بالشجر عن الناس، وهم يقولون في لكلام المنثور: جاء فلان بالشوك والشجر، إذا جاء بجيش عظيم. وكان عمر رضي الله عنه أو غيره من الخلفاء قد حظر على الشعراء ذكر النساء، فقال حميد بن ثور الهلالي: تجرم أهلوها لأن كنت مشعراً ... جنوناً بها، يا طول هذا التجرم وما لي من ذنب إليهم علمته ... سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي بلى فاسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي ... ثلاث تحيات وإن لم تكلم وقال أيضاً في مثل ذلك: أبى الله إلا أن سرحة مالكٍ ... على كل أفنان العضاة تروق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فيا طيب رياها، ويا برد ظلها ... إذا حان من شمس النهار شروق فهل أنا إن عللت نفسي بسرحة ... من السرح مسدود علي طريق؟ حمى ظلها شكس الخليقة خائف ... عليها غرام الطائفين شفيق يريد بذلك بعلها أو ذا محرمها فلا الظل من برد الضحى مستطيعه ... ولا الفيء منها في العشي نذوق وقال عنترة العبسي: يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم وإنما ذكر امرأة أبيه، وكان يهواها، وقيل: بل كانت جاريته؛ فلذلك حرمها على نفسه، وكذلك قوله: والشاة ممكنة لمن هو مرتمي والعرب تجعل المهاة شاة؛ لأنها عندهم ضائنة الظباء، ولذلك يسمونها نعجة، وعلى هذا المتعارف في الكناية جاء قول الله عز وجل في إخباره عن خصم داود عليه السلام: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " كناية بالنعجة عن المرأة، وقال امرؤ القيس: وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهوٍ بها غير معجل كناية بالبيضة عن المرأة.. وروى ابن قتيبة أن رجلاً كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ألا أبلغ أبا حفصٍ رسولاً ... فدى لك من أخي ثقة إزاري قلائصنا هداك الله، إنا ... شغلنا عنكم زمن الحصار فما قلص وجدن معقلاتٍ ... قفا سلعٍ بمختلف النجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 يعقلهن جعد شيظمي ... وبئس معقل الذود الظؤار وإنما كنى بالقلص وهي النوق الشواب عن النساء، وعرض برجل يقال له جعدة كان يخالف إلى المغيبات من النساء، ففهم عمر ما أراد، وجلد جعدة ونفاه. ومن الكناية اشتقاق الكنية؛ لأنك تكني عن الرجل بالأبوة، فتقول: أبو فلان، باسم ابنه، أو ما تعورف في مثله، أو ما اختار لنفسه؛ تعظيماً له وتفخيماً، وتقول ذلك للصبي على جهة التفاؤل بأن يعيش ويكون له ولد. قال المبرد وغيره: الكناية على ثلاثة أوجه: هذا الذي ذكرته آنفاً أحدها، والثاني: التعمية والتغطية التي تقدم شرحها، والثالث: الرغبة عن اللفظ الخسيس كقول الله عز وجل: " وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا " فإنها فيما ذكر كناية عن الفروج. ومثله في القرآن وفي كلام الفصحاء كثير. باب التتبيع ومن أنواع الإشارة التتبيع، وقوم يسمونه التجاوز، وهو: أن يريد الشاعر ذكر الشيء فيتجاوزه، ويذكر ما يتبعه في الصفة وينوب عنه في الدلالة عليه، وأول من أشار إلى ذلك امرؤ القيس يصف امرأة: ويضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل فقوله " ويضحى فتيت المسك " تتبيع، وقوله " نؤوم الضحى " تتبيع ثان، وقوله " لم تنتطق عن تفضل " تتبيع ثالث، وإنما أراد أن يصفها بالترفه، والنعمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وقلة الامتهان في الخدمة، وأنها شريفة مكفية المؤونة، فجاء بما يتبع الصفة ويدل عليها أفضل دلالة.. ونظيره قول الأخطل يصف نساء: لا يصطلين دخان النار شاتيةً ... إلا بعود يلنجوجٍ على فحم فذكر أنهن ذوات تملك وشرف حال. وأين من هذا القول النابغة في معناه وقصده: ليست من السود أعقاباً إذا انصرفت ... ولا تبيع بجنبي نخلة البرما كأنها إن لم تكن سوداء العقبين بياعة للبرم كانت في نهاية الحسن والشرف والدعة. وقال النابغة وأراد أن يصف طول العنق وتمام الخلقة فيها فذكر القرط؛ إذ كان مما يتبع وصف العنق، ولم يسبقه إلى ذلك أحد من الشعراء: إذا ارتعثت خاف الجبان رعاثها ... ومن يتعلق حيث علق يفرق فجعل رعاثها يخاف ويفرق، وعذره ببعد مسقطه، فتناول هذا المعنى عمر بن أبي ربيعة فأوضحه بقوله: بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها، وإما عبد شمس وهاشم وتبعه ذو الرمة فزاد المعنى وضوحاً بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 والقرط في حرة الذفرى معلقه ... تباعد الحبل منه فهو يضطرب وقال طفيل الغنوي يصف فرساً، ويروى لغيره: هريت قصير عذير اللجام ... أسيل طويل عذار الرسن فلو ترك الهرت والأسالة لكان من هذا الباب، ولكنه الآن لم يقصد التتبيع، وإنما جاء به كالتوكيد لما قبله، هذه رواية ابن قتيبة، وأما رواية النحاس عن شيوخه عن الأصمعي فإنها: وأحوى قصير عذار اللجام ... وهو طويل عذار الرسن وهذا تتبيع لا شك فيه. وأما قول الأخطل: أسيلة مجرى الدمع، أما وشاحها ... فجار، وأما الحجل منها فما يجري ففيه التتبيع في ثلاثة مواضع، وهي صفة الخد بالسهولة، وصفة الخصر بالرقة، والساق بالغلط. ومثله قول الأعشى: صفر الوشاح، وملء الدرع، خرعبة ... إذا تأتي يكاد الخصر ينخزل فقوله " صفر الوشاح " دال على رقة الخصر، " وملء الدرع " دال على تمام الخلق من طول وسمن وامتلاء صدر وعجيزة، وكل ما وقع من قولهم: طويل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 النجاد، وكثير الرماد، وما يشاكلهما فهو من هذا الباب. وقالت ليلى الأخيلية: ومخرق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيماً أرادت أنه يجذب ويتعلق به للحاجات لجوده وسؤدده وكثرة الناس حوله، وقيل: إنما ذلك لعظم مناكبه، وهم يحمدون ذلك. ومن عجيب ما وقع في هذا الباب من التجاوز قول أوس بن حجر: حتى يلف نخيلهم وبيوتهم ... لهب كناصية الحصان الأشقر أراد الحرب التي هي المقصود بالصفة، هكذا الرواية الصحيحة، وبهذا التفسير فسره جلة العلماء وهم الأكثر، وقال آخرون: بل إنما أغراه بإحراق النخل والبيوت ففعل، ولا يكون على هذا الرأي الآخر من هذا الباب. ومن التجاوز قول رؤبة بن العجاج يصف حوافر الخيل: سوى مساجيهن تقطيط الحقق أراد أن يشبهها بالمساحي فجعلها أنفسها مساحي، يريد العظم. ومثله قول ابن دريد: يدير إعليطين في ملمومة ... إلى لموحين بألحاظ اللأى أراد أن يشبه أذن الفرس بالإعليط وهو وعاء ثمر المرخ فجعل الأذن نفسها إعليطاً، كما فعل رؤبة في المساحي، ومثله كثير. ومما يدخل في باب التجاوز قول النابغة: تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وإنما أراد السلوقي مع ما فيه من الجسد وما تحت لابسه زعموا من السرج والفرس، فعدا عن الجميع، وجاء بما يتبعه، ويستغني به عن ذكره، إذ كانت لا تقد السلوقي إلا أن تقد ما فيه، ولا تنتهي إلى الصفاح على ما فسروا من أنه يريد الفارس بأداته إلا بعد أن تأتي على السرج والفرس، على أن من الناس من رد يوقدن على الخيل.. وإلى مثل هذا الإفراط ذهب النمر بن تولب في صفة السيف الذي شبه به نفسه فقال: تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي وروى الحذاق " القينين والهادي " وهو واضح في المعنى. ومن التتبيع قول زهير: وملجمنا ما إن ينال قذاله ... ولا قدماه الأرض إلا أنامله فأشار إلى طول عنقه وقوائمه بذكر تطاول الملجم إشارة عجيبة، وتبعه ابن مقبل فقال: تمطيت أخليه اللجام فبذني ... وشخصي يسامي شخصه وهو طائله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وإنما تناول زهير هذا المعنى من أبي دؤاد الإيادي، ويروي بن ثعلبة الأسدي حيث يقول: لا يكاد الطويل يبلغ منه ... حيث يثني على المقص العذار وأنا أقول: إن بيت الذبياني في الرعاث مأخوذ من قول عبيد بن الأبرص: ماطوا الرعاث بنهد لو يزل به ... لاندق دون تلاقي اللبة القرط وقال ابن دريد وأتى ببديع مليح: قريب ما بين القطاة والمطا ... بعيد ما بين القذال والصلا فدل هذا على قصر الظهر وطول العنق.. وقال بعض الشعراء فملح وظرف: فما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل أشار إلى كثرة غشيان الضيوف، حتى إن الكلب مما أنس جبن أن ينبح فضلاً عما سوى ذلك، وهزال فصيله دال على أن الألبان مبذولة للضيفان، فقل ما بقي له منها. وقد قال امرؤ القيس: سمان الكلاب عجاف الفصال فعجف الفصال للعسلة التي قدمت، وسمن الكلاب لكثرة ما ينحرون ويذبحون. ومن أعجب التتبيع قوله: أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر يقول: أنزلوا نجداً الذي من نباته المرخ أم الغور الذي من نباته العشر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وإن الأعراب يعملون خيامهم من نبات الأرض التي ينزلونها، فإذا رحلوا تركوه واستأنفوا غيره من شجر البلد الذي ينزلون به، هكذا شرح العلماء هذا البيت المتقدم، ولا أرى الأعراب تذكر ذلك كثيراً في أشعارها، وإنما يتعاورون ذكر الوتد، اللهم إلا أن تكون الأعمدة وما شاكلها تنتخب وتحمل وإنما المطرح ما جعل فوقها وسد به خصاصها فدفع الحر والبرد فنعم، ولا شك أن هذا هو الصحيح، ويدل عليه قول جرير يذكر منزلاً: فلا عهد إلا أن تذكر أو ترى ... ثماماً حوالي منصب الخيم باليا فذكر الثمام مطرحاً، وقال أبو دواد: عهدت لها منزلاً دائراً ... وآلا على الماء يحملن آلا فالآل الأول: أعمدة الأخبية، والآل الثاني: الشخص الذي يرتفع عند اشتداد الحر، هكذا فسروه، منهم قدامة، والذي قال الحذاق: يعني أعمدة تحمل أعمدة مثلها ذكره أبو حنيفة، وقوله " على الماء " يعني الماء العد الذي هو المحضر يرجعون إليه بعد تبديهم وانقطاع ماء السماء، وقد أخبرك الشاعر على القول الأول أنهم يحملون أعمدة الأخبية والبيوت. ومن أحسن ما وقع في هذا الباب من التتبيع قول حسان بن ثابت: أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل فقوله " حول قبر أبيهم " تتبيع مليح، أشار به إلى أنهم ملوك مقيمون لا يخافون فينتقلون من مكان إلى مكان، وأنهم في مستقر عز وأرض خصب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 لا تجدب، أراد الشام، وأن ذلك دأبهم من القدم، فهو حول قبر أبيهم، وهذا كما قال ابن مقبل: نحن المقيمون لم تبرح ظعائننا ... لا نستجير، ومن يخلل بنا يجر ومن هذا الباب أيضاً قول عنترة بن شداد العبسي: بطل كأن ثيابه في سرحة ... يحذي نعال السبت ليس بتوأم أراد أنه ملك؛ لأن نعال السبت لا يحتذيها عندهم إلا كل شريف، يدلك على ذلك قول عتيبة بن مرداس المعروف بابن فسوة يذكر آل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصيدة لام فيها عبد الله بن عباس وشكر الحسن بن علي عليهما السلام وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما: إلى نفر لا يخصفون نعالهم ... ولا يلبسون السبت ما لم يخصر ومن التتبيع قول الحطيئة: لعمرك ما قراد بني كليب ... إذا نزع القراد بمستطاع وذلك أن الفحل إذا منع الخطام نزعوا من قردانه شيئاً فلذ ذلك، وسكن إليه، ولان لصاحبه حتى يلقى الخطام في رأسه، فزعم الحطيئة أن هؤلاء لا يخدعون عن عزهم وإبائهم فيقدر عليهم. وأما قول ذي الإصبع العدواني واسمه حرثان بن الحارث: يا عمرو، إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني فيجوز أن يكون أراد أضربك على الرأس الذي تصيح منه الهامة اسقوني على زعم الأعراب، فيكون من هذا الباب، ويجوز أن يكون مراده أضربك فلا يؤخذ بثأرك وتكون حيث ههنا مثلها في قول زهير: لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم فيخرج عن هذا الباب.. وإلى نحو التأويل الأول قصد أبو الطيب بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 فيا بن الطاعنين بكل لدن ... مواضع يشتكي البطل السعالا أراد الصدر، أو النحر.. وبيت البحتري في صفة الذئب، ويروى لعمارة بن عقيل: فأوجرته أخرى فأظللت ريشها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد خير من بيت أبي الطيب وأجمع للصفة، وقوله " أظللت " بمعنى صبرت ويروى بالضاد. باب التجنيس التجنيس ضروب كثيرة: منها المماثلة، وهي: أن تكون اللفظة واحدة باختلاف المعنى، نحو قول زياد الأعجم، وقيل: الصلتان العبدي يرثي المغيرة ابن المهلب: فانع المغيرة للمغيرة إذ بدت ... شعواء مشعلة كنبح النابح فالمغيرة الأولى: رجلن والمغيرة الثانية: الفرس، وهو ثانية الخيل التي تغير. وقال صاحب الكتاب: قال الله تعالى: " وأسلمت مع سليمان " وقال تعالى: " ثم انصرفوا صرف الله قلوبكم " وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم " سليم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله ورسوله " وإن كان من غير هذا الباب.. وأنشد سيبويه: أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 البلدة الأولى: صدر الناقة، والثانية: المكان من الأرض. ومثله ما أنشده ثعلب: وثنية جاوزتها بثينة ... حرف يعارضها ثني أدهم فالثنية الأولى: عقبة، والثانية: ناقة، والثني الأدهم: الظل، استعار له هذا الاسم.. ويروى " حبيب أدهم ". ومثله أنشده أبو عمرو بن العلاء: عود على عود على عود خلق وقال: الأول الشيخ، والثاني: الجمل المسن، والثالث: الطريق القويم قد ذلل بكثرة الوطء عليه. ويجري هذا المجرى قول الأودي: وأقطع الهوجل مستأنساً ... بهوجل عيرانة عيطموس أنشده قدامة على أنه طباق، وسائر الناس يخالفونه في هذا المذهب، وقد جاء رد الأخفش علي بن سليمان عليه في ذلك وإنكاره على رأي الخليل والأصمعي في كتاب حلية المحاضرة للحاتمي. وعلى القول الأول قال أبو نواس في ابن الربيع: عباس عباس إذا حضر الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع وقال أبو تمام: ليالينا بالرقمتين وأهلنا ... سقى العهد منك العهد والعهد والعهد فالعهد الأول المسقي: هو الوقت، والعهد الثاني: هو الحفاظ، من قولهم " فلان ماله عهد " والعهد الثالث: الوصية من قولهم " عهد فلان إلى فلان، وعهدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 إليه " أي: وصاني وصيته، والعهد الرابع: المطر، وجمعه عهاد، وقيل: أراد مطراً بعد مطر بعد مطر، وفسر ذلك بقوله: سحاب متى يسحب على النبت ذيله ... فلا رجل ينبو عليه ولا جعد واستثقل قوم هذا التجنيس، وحق لهم. ومن مليح هذا النوع قول ابن الرومي: للسود في السود آثار تركن بها ... لمعاً من البيض تثني أعين البيض فالسود الأول: الليالي، والسود الآخر: شعرات الرأس واللحية، " و " والبيض الأول: الشيبات، والبيض الآخر: النساء.. وزعم الحاتمي أن أفضل تجنيس وقع لمحدث قول عبد الله بن طاهر: وإني للثغر المخيف لكاليء ... وللثغر يجري ظلمه لرشوف فهذا وما شاكله التجنيس المحقق، والجرجاني يسميه المستوفي. ويقرب منه وليس محضاً قول ابن الرومي: له نائل ما زال طالب طالب ... ومرتاد مرتاد وخاطب خاطب أدخل الترديد، والترديد: نوع من المجانسة يفرد له باب إن شاء الله تعالى. والتجنيس المحقق: ما اتفقت فيه الحروف دون الوزن، رجع إلى الاشتقاق أو لم يرجع، نحو قول أحد بني عبس: وذلكم أن ذل الجار حالفكم ... وأن أنفسكم لا يعرف الأنفا فاتفقت الأنف مع الأنف في جميع حرفها دون البناء، ورجعا إلى أصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 واحد، هذا عند قدامة أفضل تجنيس وقع، ومثله في الاشتقاق قول جرير والجرجاني يسميه التجنيس المطلق، قال: وهو أشهر أوصافه: وما زال معقولاً عقال من الندى ... وما زال محبوسا عن الخير حابس وقال جرير أيضاً، وفيه المضارعة والمماثلة والاشتقاق، وأنشده ابن المعتز: تقاعس حتى فاته المجد فقعس ... وأعيا بنو أعيا وضل المضلل وقال خلف بن خليفة الأقطع: فإن يشغلونا عن أذان فاننا ... شغلنا وليداً عن غناء الولائد يعني الوليد بن زياد بن عبد الملك. وقال أبو تمام فأحكم المجانسة بالاشتقاق: بحوافر حفر وصلب صلب ... وأشاعر شعر وخلق أخلق فجنس بثلاث لفظات. ومثله قول البحتري: صدق الغراب، لقد رأيت شموسهم ... بالأمس تغرب عن جوانب غرب ويقرب من هذا النوع قول ذي الرمة واسترجعت هامها الهيم الشعاميم فالهيم والهام قريبان في اللفظ بعيدان في الاشتقاق، وربما جعلهما بعض الناس من أصل واحد، وكذلك قوله: كأن البرى والعاج عيجت متونها ... على عشر نهى به السيل أبطح قال ابن المعتز " نهى به السيل " أي: بلغ به إليه فهو أنعم له وأكثر لدونةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وأنا أقول: معناه ترك به السيل نهياً، وهو الغدير، وذلك أتم لما أراد ابن المعتز، اللهم إلا أن يكون معناه جعل نهايته هناك فإنه أتم وأجود، أي: لم يجد منصرفاً فأقام. وقال البحتري: وذكرنيك والذكرى عناء ... مشابه منك بينه الشكول نسيم الروض في ريح شمالٍ ... وصوب المزن في راح شمول وقال أبو تمام: مليتك الأحساب، أي حياة ... وحيا أزمةٍ وحية واد ويقرب من هذا النوع نوع يسمونه المضارعة، وهو على ضروب كثيرة: منها أن تزيد الحروف وتنقص، نحو قول أبي تمام والجرجاني يسميه التجنيس الناقص: يمدون من أيدٍ عواص عواصم وهما سواء لولا الميم الزائدة. وكذلك قوله قواض قواضب سواء لولا الباء، ومع ذلك فإن الباء والميم أختان. ومثله قول البحتري: فيا لك من حزم وعزم طواهما ... جديد البلى تحت الصفا والصفائح ومنها أن تتقدم الحروف وتتأخر، كقول الطائي: بيض الصفائح لا سود الصحائف، في ... متونهن جلاء الشك والريب فقوله " الصفائح، لا سود الصحائف " هو الذي أردت. وقال البحتري: شواجر أرماح تقطع بينهم ... شواجر أرحامٍ ملوم قطوعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ومثله قول أبي الطيب: ممنعة منعمة رداح ... يكلف لفظها الطير الوقوعا وحكى ابن دريد أن أعرابياً شتم رجلاً فقال: لمج أمه، فقدم إلى السلطان فقال: إنما قلت: ملج أمه، فدرأ عنه.. قال أبو بكر: لمجها: أتاها، وملجها: رضعها. وأصل المضارعة أن تتقارب مخارج الحروف، وفي كلام العرب منه كثير غير متكلف، والمحدثون إنما تكلفوه؛ فمن المعجز قول الله عز وجل: " وهم ينهون عنه وينأون عنه " وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل سمعه وهو ينشد على سبيل الافتخار وقيل: بل سأله عن نسبه فقال: إني امرؤ حميري حين تنسبني ... لا من ربيعة آبائي ولا مضر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ذلك والله ألأم لجدك، وأضرع لخدك، وأفل لحدك، وأقل لعدك، وأبعد لك عن الله ورسوله " وقوله عليه الصلاة والسلام: " نعوذ بالله من الأيمة والعيمة والغيمة والكزم والقزم " الأيمة: الخلو من النساء، والعيمة: شهوة اللبن، والغيمة: العطش، والكزم: قصر اللبان خلقة أو من بخل، ويقال: الكزم شدة الأكل، والقزم: شهوة اللحم. وهذا النوع يسميه الرماني المشاكلة، وهي عنده ضروب: هذا أحدها، وهي المشاكلة في اللفظ خاصة، وأما المشاكلة في المعنى فننبه عليها في أماكنها إن شاء الله تعالى.. وقال ابن هرمة: وأطعن للقرن يوم الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل وقال أبو تمام: رب خفضٍ تحت الثرى وغناء ... من عناء ونضرةٍ من شحوب وأبعد من هذا قليلاً قول ساعدة بن جؤية الهذلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 رأى شخص مسعود بن بشر بكفه ... حديد حديث بالوقيعة معتد ومن المضارعة بالتصحيف ونقص الحروف قول بعضهم: فإن حلوا فليس لهم مقر ... وإن رحلوا فليس لهم مفر وقال البحتري يمدح المعتز بالله: ولم يكن المعتز بالله إن سرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه فجاء بتصحيف مستوف. وقال: ما بعيني هذا الغزال الغرير ... من فتون مستجلب من فتور وقال غيره وأظنه قابوس بن وشمكير: إن المكارم في المكا ... ره والغنائم في المغارم وقال بعض العلماء: ربما أسفر السفر عن الظفر، وتعذر في الوطن قضاء الوطر. وقال آخر: خلف الوعد خلق الوغد. وقال ابن المعتز: لئن نزهت سمعك عن كلامي ... لقد نزهت في خديك طرفي له وجه به يصبى ويضني ... ومبتسم به يشقي ويشفي وقال آخر أيضاً في مثل ذلك، وفيه تغيير كثير بتصحيف: فمن داع ومن راعٍ ... ومن مطرٍ ومن مطرق وكل خاشع الطرف ... لديه خاضع المنطق أعني بالتغيير ضاد " خاضع " ليست مناسبة لشين خاشع فيكون تصحيفاً، وإنما التصحيف فيما تناسب من الخط، ومن هذا قوله " داع " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 و " راع " لبعد ما بينهما في اللفظ والهجاء. ومن الإسقاط الذي لا يظهر إلا في الخط قول شمس المعالي قابوس بن وشمكير: ومن يسر فوق الأرض يطلب غاية ... من المجد نسري فوق جمجمة النسر ومن يختلف في العالمين نجاره ... فإنا من العلياء نجري على نجر فياء الوصل في النسر جانست به نسري وصار لقاء النون كسرة الهاء من جمجمة كالتنوين في الهاء، وكذلك صلة نجر جانست به نجري فإذا صرت إلى الخط زالت المجانسة. وقد أحدث المولدون تجانساً منفصلاً يظهر أيضاً في الخط كقول أبي تمام: رفدوك في يوم الكلاب وشققوا ... فيه المزاد بجحفل كاللاب الكاف للتشبيه، واللاب: جمع لابة، وهي الحرة ذات الحجارة السود.. هذا أصح الروايتين، وأما قوله بجحفل كلاب أي كأن به كلباً فليس بشيء، وإنما القول ما قدمناه، وليس بتجانس صحيح على ما شرطه المتقدمون، ولكنه استظرف فأدخل في هذا الباب تملحاً.. وأكثر من يستعمله: الميكالي، وقابوس، وأبو الفتح البستي، وأصحابهم؛ فمن ذلك قوله: عارضاه بما جنى عارضاه ... أو دعاني أمت بما أودعاني فقوله " أو دعاني " إنما هي أو التي للعطف، نسق بها " دعاني " وهو أمر الاثنين من دع على قوله " عارضاه " الذي في أول البيت، وقوله " أودعاني " الذي في القافية فعل ماض من اثنين، تقول في الواحد " أودع يودع " من الوديعة. وقال أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له وربما صنعوا مثل هذا في القوافي فتأتي كالإيطاء وليس بإبطاء إلا في اللفظ مجازاً، ولا بتجنيس إلا كذلك.. قال عمر بن علي المطوعي: أمير كله كرم سعدنا ... بأخذ المجد منه واقتباسه يحاكي النيل حين يسأم نيلاً ... ويحكي باسلاً في وقت باسه أراد أن يناسب فجاء القافيتان كما نرى في اللفظ، وليس بينهما في الخط إلا مجاورة الحروف، وهذا أسهل معنى لمن حاوله، وأقرب شيء ممن تناوله، من أبواب الفراغ وقلة الفائدة، وهو مما لا شك في تكلفه، وقد أكثر منه هؤلاء الساقة المتعقبون في نثرهم ونظمهم حتى بردوا، بل تدركوا، فأين هذا العمل من قول القائل، وهو أبو فراس: سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله وما السلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشمول زهتني بل شمائله ألوي بصبري أصداغ لوين له ... وغل صدري ما تحوي غلائله فما كان من التجنيس هكذا فهو الجيد المستحسن، وما ظهرت فيه الكلفة فلا فائدة فيه. وقد يجيئ التجنيس على غير قصد كقول أبي الحسن في مقطعاته التي ترد فيما بعد: ما ترى الساقي كشمس طلعت ... تحمل المريخ في برج الحمل فبهذا التجنيس تم المعنى وظهر حسنه؛ إذ كان برج الحمل بيت المريخ وموضع شرف الشمس، فصار بعض الكلام مرتبطاً ببعضه، ومظهراً لخفي محاسنه، وحصل التجنيس فضلة على المعنى؛ لأنه لو قال في موضع الحمل " النطح " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 أو الكبش " لكان كلاماً مستقيماً؛ فهذا التجنيس كما ترى من غير تكلف ولا قصد، ولكن الأكثر أن يكون التجنيس مقصوداً إليه، مأخوذاً منه ما سامحت فيه القريحة، وأعان عليه الطبع.. وقد يعد قوم من المضارعة ما ناسب اللفظ في الخط فقط، كقوله تعالى: " وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً " وهي مضارعة بعيدة لا يجب أن يعد مثلها.. واختلف الناس في قول الأعشى: إن تسد الحوص فلم تعدهم ... وعامر ساد بني عامر فقال الجرجاني علي بن عبد العزيز القاضي: هو مجانسة؛ لأن أحدهما رجل، والآخر قبيلة، وقال غيره: بل معناهما واحد، وأنا على خلاف رأي الجرجاني لأن الشاعر قال بني عامر وأضاف بني إليه، ولو قال ساد عامراً يعني القبيلة لكان تجنيساً غير مدفوع. قال الجرجاني: وأراه يعني بيت الأعشى يخالف قول الآخر: قتلنا به خير الضبيعات كلها ... ضبيعة قيس لا ضبيعة أضحما لأن كلتيهما قبيلتان، فكأنه جمع بين رجلين متفقي الاسم، انتهى كلامه، وهو يشهد بما قلته في بيت الأعشى إذا حققه من له ميز وتدبير.. وقد ذكروا تجنيساً مضافاً، أنشده جماعة من المتعقبين منهم الجرجاني: أيا قمر التمام أعنت ظلماً ... علي تطول الليل التمام فهذا عندهم وما جرى مجراه إذا اتصل كان تجنيساً، وإذا انفصل لم يكن تجنيساً، وإنما كان يتمكن ما أراد لو أن الشاعر ذكر الليل وأضافه فقال " ليل التمام " كما قال " قمر التمام " والرماني سمى هذا النوع مزواجاً، ومثله عنده قول الآخر: حمتني مياه الوفر منها مواردي ... فلا تحمياني ورد ماء العناقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ومن المزاوجة عندهم قول الله تعالى: " يخادعون الله وهو خادعهم " وقوله: " من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " وقوله: " إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم " وكل هذه استعارات ومجاز؛ لأن المراد المجازاة فزاوج بين اللفظين. وكان الأصمعي يدفع قول العامة " هذا مجانس لهذا " إذا كان من شكله، يقول: ليس بعربي خالص، حكى ذلك ابن جني.. فأما ابن المعتز فقال وهو أول من نحا هذا النحو وجمعه والمجانسة: أن تشبه اللفظة اللفظة في تأليف حروفها على السبيل الذي ألف الأصمعي كتاب الأجناس عليها، قال: والجنس أصل لكل شبء: تتفرع منه أنواعه، وتعود كلها إليه، وكالإنسان وهو جنس وأنواعه عربي ورومي وزنجي، وأشباه ذلك، ولم تكن القدماء تعرف هذا اللقب أعني التجنيس يدلك على ذلك ما حكى عن رؤبة بن العجاج وأبيه، وذلك أنه قال له يوماً: أنا أشعر منك، قال: وكيف تكون أشعر مني وأنا علمتك عطف الرجز؟ قال: وما عطف الرجز؟ قال عاصم يا عاصم لو اعتصم قال: يا أبت، أنا شاعر ابن شاعر، وأنت شاعر ابن معجم، فغلبه، فأنت ترى كيف سماه عطفاً، ولم يسمه تجانساً، اللهم إلا أن يذهب بالعطف إلى معنى الالتفات فنعم. ومن أناشيد هذا الباب قول الشنفرى واسمه عامر بن عمرو الأزدي: وبتنا كأن البيت حجر فوقنا ... بريحانة ريحت عشاء وظلت وقال علي بن محمد بن نصر بن بسام: فاشرب على الورد من وردية عتقت ... كأنها خد ريم ريم فامتنعا وقال الفرزدق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ألم يأته أني تخلل ناقتي ... بنعمان أطراف الأراك النواعم وحقيقة المجانسة عند الرماني المناسبة بمعنى الأصل، نحو قول أبي تمام: في حده الحد بين الجد واللعب قال: لأن معناهما جميعاً أبلغ، وأما قولك قرب واقترب، والطلوع والمطلع، وما شاكل هذا؛ فهو عنده من تصرف اللفظ، ولا يعده تجنيساً، ومن تصرف المعنى عنده قولك: عين الميزان، وعين الإنسان، وعين الماء، ونحو ذلك.. ومن التصرف في اللفظ والمعنى جميعاً قولك: الضرب والمضاربة والاستضراب، وما أشبه ذلك، كل هذه الأنواع عنده من باب التصرف. وما أكثر ما يستعمل هذا النوع بعض شعراء وقتنا المذكورين، ويظن أنه قد أتى بشيء من غرائب التجنيس. وأما قول دعبل في امرأته سلمى: أحبك حباً لو تضمنه سلمى ... سميك ذاك الشاهق الرأس فقد جنس من غير جنس؛ لأن قوله سميك دال على مراده. ومثله قول آخر: ضيعتي مثل اسمها العا ... م وداري مسترمه أنشده الرماني.. وقال الآخر، وهو أبو تمام: إذ لا صدوق ولا كنود اسماهما ... كالمعنيين ولا النوار نوارا المراد صدر البيت لا عجزه. وإذا دخل التجنيس نفي عد طباقاً، وكذلك الطباق يصير بالنفي تجنيساً، وسأفرد لهما باباً إن شاء الله تعالى فيما بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 باب الترديد . باب الترديد وهو أن يأتي الشاعر بلفظة متعلقة بمعنى، ثم يردها بعينها متعلقة بمعنى آخر في البيت نفسه، أو في قسيم منه، وذلك نحو قول زهير: من يلق يوماً على علاته هرماً ... يلق السماحة منه والندى خلقاً فعلق يلق بهرم، ثم علقها بالسماحة. وكذلك قوله أيضاً: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم فردد أسباب على ما بينت. ولبعض الحجازيين: ومن لامني فيهم حبيب وصاحب ... فرد بغيظٍ صاحب وحميم وقال مجنون بني عامر: قضاها لغيري وابتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا وقال أبو تمام: خفت دموعك في إثر القطين لدن ... خفت من الكثب القضبان والكثب الترديد في خفت ولو جعلت الكثيب ترديداً لجاز.. وقال ابن المعتز: لو شئت لا شئت خليت السلو له ... وكان لا كان منكم في معافاتي وقال أيضاً في مثل ذلك: أتعذلني في يوسفٍ وهو من ترى ... ويوسف أضناني ويوسف يوسف ولبعضهم وأظنه الصنوبري: أنت عذري إذا رأوك، ولكن ... كيف عذري إذا رأوك تخون الترديد في قوله " إذا رأوك ".. وقال أبو الطيب وأحسن ما شاء: أمير أمير عليه الندى ... جواد بخيل بأن لا يجودا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الترديد في أول البيت، وهذا نوع في أشعار المحدثين أكثر منه في أشعار القدماء جداً. والعلماء بالشعر مجمعون على تقديم أبي حية النميري وتسليم فضيلة هذا الباب إليه في قوله: ألا حي من أجل الحبيب المغانيا ... لبسن البلى مما لبسن اللياليا إذا ما تقاضى المرء يوماً وليلة ... تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا والترديد الذي انفرد فيه بالإحسان عندهم قوله لبسن البلى مما لبسن اللياليا وكذلك قوله إذا ما تقاضى المرء يوماً وليلة ثم قال: تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا لأن الهاء كناية عن المرء، وإن اختلف اللفظ. ويلحق بهذا قول أبي نواس: لو مسها حجر مسته سراء وقول الحسين بن الضحاك الخليع: لقد ملأت عيني بغير محاسن ... ملأن فؤادي لوعةً وهموما لقرب ما بين اللفظتين، وكذلك قول الطائي: راح إذا ما الراح كان مطيها ... كانت مطايا الشوق في الأحشاء ردد مطيها ومطايا الشوق. وعلى هذا يحمل قول الجحاف بن حكيم، وقيل: العباس بن مرداس: تعرض للسيوف بكل ثغر ... وجوهاً لا تعرض للطسام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وحمل قوم قول امرئ القيس فثوباً لبست وثوباً أجر على أنه تكرار لا ترديد فيه، وهذا هو الخطأ البين، وأي ترديد يكون أحسن من هذا؟ وقد أفاد الثاني غير إفادة الأول حسب ما شرطوا. ومثله قول بعض الأعراب في مدح هارون الرشيد: جهير الكلام جهير العطاس ... جهير الرواء جهير النغم ومن أملح ما سمعته قول ابن العميد: فإن كان مسخوطاً فقل شعر كاتب ... وإن كان مرضياً فقل شعر كاتب وهو داخل عندي في باب الترديد؛ إذ كان قوله عند السخط شعر كاتب إنما معناه التقصير به، وبسط العذر له؛ إذ ليس الشعر من صناعته كما حكى ابن النحاس أنهم يقولون " نحو كتابي " إذا لم يكن مجوداً، وقوله عند الرضا شعر كاتب إنما معناه التعظيم له، وبلوغ النهاية في الظرف والملاحة؛ لمعرفة الكتاب باختيار الألفاظ وطرق البلاغات، فقد ضاد وطابق في المعنى، وإن كان اللفظ تجنيساً مردداً. وسمع أبو الطيب باستحسان هذا النوع فجعله نصب عينيه حتى مقته وزهد فيه، ولو لم يكن إلا بقوله: فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيشٍ كلهن قلاقل فهذه الألفاظ كما قال كلهن قلاقل، ونحو ذلك قوله: أسد فرائسها الأسود، يقودها ... أسد، تكون له الأسود ثعالبا فما أدري كيف تخلص من هذه الغابة المملوءة أسوداً؟ ولا أقول إنه بيت شعر، وأين يقع هذا من قول غيره: فصبح الوصال وليل الشباب ... وصبح المشيب وليل الصدود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 تم بحمد الله وتوفيقه الجزء الأول من كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني منه، وأوله " 45 باب التصدير " أعان الله تعالى على إكماله، بمنه وفضله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 بسم الله الرحمن الرحيم باب التصدير وهو، أن يرد أعجاز الكلام على صدوره، فيدل بعضه على بعض، ويسهل استخراج قوافي الشعر إذا كان كذلك وتقتضيها الصنعة، ويكسب البيت الذي يكون فيه أبهة، ويكسوه رونقاً وديباجة ويزيده مائية وطلاوة. وقد قسم هذا الباب عبد الله بن المعتز على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يوافق آخر كلمة من البيت آخر كلمة من النصف الأول، نحو قول الشاعر: يلفي إذا ما الجيش كان عرمرماً ... في جيش رأي لا يفل عرمرم الآخر: ما يوافق آخر كلمة من البيت أول كلمة منه، نحو قوله: سريع إلى ابن العم يشتم عرضه ... وليس إلى داعي الندى بسريع والثالث: ما وافق آخر كلمة من البيت بعض ما فيه، كقول الآخر: عزيز بني سليم أقصدته ... سهام الموت وهي له سهام والتصدير قريب من الترديد، والفرق بينهما أن التصدير مخصوص بالقوافي ترد على الصدور، فلا تجد تصديراً إلا كذلك حيث وقع من كتب المؤلفين، وإن لم يذكروا فيه فرقاً، والترديد يقع في أضعاف البيت، إلا ما ناسب بيت ابن العميد المقدم. ومن أبيات التصدير قول زهير: كذلك خيمهم، ولكل قومٍ ... إذا مستهم الضراء خيم وقال أيضاً في ذلك: له في الذاهبين أروم صدق ... وكان لكل ذي حسب أروم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 وقال أبو الأسود واسمه ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي: وما كل ذي لب بموتيك نصحه ... وما كل مؤتٍ نصحه بلبيب فهذا تصدير، وإن كان ظاهره في اللفظ ترديداً للعلة التي ذكرتها. ومن أناشيدهم في التصدير قول طفيل الغنوي: محارمك أمنعها من القوم؛ إنني ... أرى جفنة قد ضاع فيها المحارم وقال جرير وهم يستحسنوه جداً: سقى الرمل جون مستهل ربابه ... وما ذاك إلا حب من حل بالرمل وقال عمرو بن الأحمر: تغمرت منها بعد ما نفد الصبا ... ولم يروا من ذي حاجة من تغمرا تغمرت أي: شربت من الغمر، وهو قدح صغير جداً، ضربه مثلاً، أي: تعللت منها بالشيء القليل، وذلك لا يبلغ ما في نفسي منك من المراد. ومن التصدير نوع سماه عبد الكريم المضادة، وأنشد للفرزدق: أصدر همومك لا يغلبك واردها ... فكل واردة يوماً لها صدر وأنشد في التصدير بيت طفيل المتقدم، وبيت جرير، وخص بيت الفرزدق بالمضادة دون أن يجعله تصديراً كما جعله أولاً طباقاً كما يقال في الأضداد إذا وقعت في الشعر، وقد رأيته في إحدى النسخ مع أبيات المطابقة. ويقاربه من كلام المحدثين قول ابن الرومي: ريحانهم ذهب على درر ... وشرابهم درر على ذهب والكتاب يسمون هذا النوع التبديل، حكاه أبو جعفر النحاس. ومن أناشيد ابن المعتز قول منصور بن الفرج في ذكر الشيب: يا بياضاً أذرى دموعي حتى ... عاد منها سواد عيني بياضاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 وأنشد لأبي نواس، وهو عندي بعيد من أحكام السمعة التي يدخل بها في هذا الباب، على أنه غاية في ذاته؛ لأن أكثر العادة أن تعاد اللفظة بنفسها: دقت ورقت مذقة من مائها ... والعيش بين رقيقتين رقيق وأنشد لمسلم بن الوليد: تبسم عن مثل الأقاح تبسمت ... له مزنة صيفية فتبسما وهذا البيت أيضاً ترديد، وأنشد للطائي: ولم يحفظ مضاع المجد شيء ... من الأشياء كالمال المضاع فالمولدون أكثر عناية بهذه الأشياء، وأشد طلباً لها من القدماء، وهي في أشعارهم أوجد كما قدمت آنفاً. باب المطابقة المطابقة في الكلام: أن يأتلف في معناه ما يضاد في فحواه المطابقة عند جميع الناس: جمعك بين الضدين في الكلام أو بيت الشعر، إلا قدامة ومن اتبعه؛ فإنهم يجعلون اجتماع المعنيين في لفظة واحدة مكررة طباقاً، وقد تقدم الكلام في باب التجانس، وسمى قدامة هذا النوع الذي هو المطابقة عندنا التكافؤ، وليس بطباق عنده إلا ما قدمت ذكره، ولم يسمه التكافؤ أحد غيره وغير النحاس من جميع من علمته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 قال الخليل بن أحمد: طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حذوٍ واحد وألصقتهما. وذكر الأصمعي للمطابقة في الشعر فقال: أصلها وضع الرجل في موضع اليد في مشي ذوات الأربع، وأنشد لنابغة بن الجعدة: وخيل يطابقن بالدار عين ... طباق الكلاب يطأن الهراسة ثم قال: أحسن بيت قيل لزهير في ذلك: ليث بعثر يصطاد الرجال، إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا حكى ذلك ابن دريد عن أبي حاتم عنه. وأما علي بن سليمان الأخفش فاختار قول ابن الزبير الأسدي: رمي الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سموداً فرد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سوداً وهذا من التبديل على مذاهب الكتاب، وأختار أيضاً قول طفيل الغنوي: بساهم الوجه لم تقطع أباجله ... يصان وهو ليوم الروع مذبول حكاه الحاتمي عن أبي الفرج على ابن الحسن القرشي.. وقال الرماني: المطابقة: مساواة المقدار من غير زيادة ولا نقصان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 قال صاحب الكتاب: هذا أحسن قول سمعته في المطابقة من غيره، وأجمعه لفائدة، وهو مشتمل على أقوال الفريقين وقدامة جميعاً، وأما قول الخليل إذا جمعت بينهما على حذو واحد ألصقتهما فهو مساواة المقدار من غير زيادة ولا نقصان كما قال الرماني، يشهد بذلك قول لبيد: تعاورن الحديث وطبقنه ... كما طبقت بالنعل المثالا ومنه طبقت المفصل أي: أصبته فلم أزد في العضو شيئاً ولم أنقص منه.. وكذلك قول الأصمعي " أصلها من وضع الرجل موضع اليد في مشي ذوات الأربع هو مساواة المقدار أيضاً؛ لأن من ذوات الأربع ما تجاوز رجله موضع يده، ومنها ما يطابق كما قال خلقة، وربما كان طباقها من ثقل تحكله أو شكيمة تمنعها أو شيئاً تتقيه على أنفسها، ولذلك شبه النابغة الجعدي مشي الخيل بوطء الكلاب الهراس، وهو حطام الشوك؛ فهي لا تضع أرجلها إلا حيث رفعت منه أيديها طلباً للسلامة. وأما قول قدامة في المطابق هو ما اشترك في لفظة واحدة بعينها فإنه أيضاً مساواة لفظٍ للفظ، وهي أعني المساواة على رأي الخليل والأصمعي مساواة معنى لمعنى، وقد يكون المراد أيضاً مطابقة الفظ للمعنى، أي: موافقته، ألا ترى أنهم يقولون: فلان يطابق فلان على كذا إذا وافقه عليه وساعده فيه؛ فيكون مذهب قدامى أن اللفظ وافقت معنى، ثم وافقت بعينها معنى آخر، ويصح هذا أيضاً في قول الخليل في الطباق إنه جمعك بين الشيئين على حذو واحد فيكون الشيئان للمعنيين، والحذو الواحد: اللفظة. ومن مليح ما رأيته في المطابقة قول كثير بن عبد الرحمن يصف عيناً وعن نجلاء تدمع في بياض ... إذا دمعت، وتنظر في سواد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 قال أيضاً: ووالله ما قاربت إلا تباعدت ... بصرم، ولا أكثرت إلا أقلت وقال ابن المعتز، ويروى لابن المعذل: هواي هوا باطن ظاهر ... قديم حديث لطيف جليل ولبعض الأعراب: أمؤثرة الرجال علي ليلى ... ولم أوثر على ليلى النساء وقال إعرابي: الدراهم مياسم تسم حمداً أو ذماً، فمن حبسها كان لها، ومن أنفقها كانت له ونظم الشاعر هذا الكلام فقال: أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك ومن الطباق الحسن قول إعرابي: خرجنا حفاة حين أنتعل كل شيء ظله، وما زادنا إلا التوكل وما مطايانا إلا الأرجل، حتى لحقنا بالقوم. وقال آخر لصاحبه: إن يسار النفس أفضل من يسار المال، فإن لم ترزق غنياً فلا تحرم تقوى، فرب شبعان من النعم غرثان من الكرم؛ وأعلم أن المؤمن على خير ترحب به الأرض وتستبشر به السماء، ولن يساء إليه في بطنها وقد أحسن على ظهرها.. ولربيعة بن مقروم الضبي: فدعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل ومن أفضل كلام البشر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض خطبه فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات؛ فو الدي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا دار، إلا الجنة أو النار فهذا هو المعجز الذي لا تكلف فيه ولا مطمع في الإتيان بمثله. وقال الله عز من قائل: وما يستوي الأعمى والبصر، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 وعد ابن المعتز من المطابقة قول الله عز وجل: ولكم في القصاص حياة لأن معناه: القتل أنفة للقتل فصار القتل سبب الحياة، وهذا من أملح الطباق وأخفاه. ومما استغربه الجرجاني من الطباق واستلطفه قول الطائي: مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل لمطابقته بهاتا وتلك، وإحداهما للحاضر وأخرى للغائب، فكانتا في المعنى نقيضتين وبمنزلة الضدين، هذا قوله، وليس عندي بمحقق؛ إنما إحداهما للقريب والأخرى للبعيد المشار إليه، ولكن الرجل أراد التخلص فزل في العبارة. ومثل هذا عندي في بابه قول أبي الطيب يذكر خيل العدو الزاحف للحرب: ضربن إلينا بالسياط جهالة ... فلما تعارفنا ضربن بها عنا فقوله ضربن إلينا مجيء إقدام، وقوله ضربن بها عنا ذهاب فرار، وهما ضدان. ومن أنواع الطباق قول هدبة بن خشرم: فإن تقتلونا في الحديد فإننا ... قتلنا أخاكم مطلقاً لم يكبل فقوله في الحديد ضد قوله مطلقاً لم يكبل وإن لم يأتي على متعارف المضادة، وكذلك قوله: فإن يك أنفي زال عني جماله ... فما حسبي في الصالحين بأجدع كأنه قال: وإن يك أنفي أجدع فما حسبي بأجدع. قال الجرجاني: وقد يخلط من يقصر علمه ويسوء تمييزه بالمطابق ما ليس منه، كقول كعب بن سعد الغنوي يرثى أخاه: لقد كان أماً حلمه فمروج ... علينا، وأما جهله فعزيب لما رأى الحلم والجهل ووجد مروحاً وعزيباً جعلهما في هذه الجملة، ولو ألحقنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 ذلك بها لوجب أن يلحق أكثر أصناف التقسيم، ولا تسع الخرق فيه حتى يستغرق أكثر الكلام. قال صاحب الكتاب: معنى قوله فيما أنكر أن البيت إنما حقه أن يكون في باب المقابلة؛ لمقابلة الشاعر فيه كلمتين بكلمتين تقرباني من مضادتهما، وليستا بضدين على الحقيقة، ولو كانتا ضدين لم يكن ما زاد على لفظتين متضادتين أو مختلفتين إلا مقابلة، فإن لم يكن بين الألفاظ مناسبة البتة إلا الوزن سمى موازنة، وسأذكره في باب المقابلة إن شاء الله، هكذا جرت العادة في هذه التسمية. وأما قولنا إن الكلمتين غير متفاوتتين فظاهر؛ لأن الحلم ليس ضده في الحقيقة الجهل، وإنما ضده السفه والطيش، وضد الجهل العلم والمعرفة وما شاكلهما، وكذلك المروح ليس ضده العزيب وإنما ضده المغدو به أو المبكر به، وما أشبههما ولما ثقل وزن المروح من هاتين اللفظتين وقل استعماله تسمحت فيهما، وأما العزيب فهو البعيد والغائب، ولا مضادة بينه وبين المروح إلا بعيدةً، كأنه يقول: إن هذا يأتي لوقته وذلك بعيد خفي لا يأتي ولا يعرف، على أنا نجد أبا تمام إمام الصنعة قد قال: ولقد سلوت لو أن داراً لم تلح ... وحلمت لو أن الهوا لم يجهل وقال زهير، وزعموا أنه لأوس بن الحجر: إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليماً أو أصابك جاهل لما وجده خلافاً له طابق بينها كما يفعل بالضد، وإن كان الخلاف مقصراً عن رتبة الضد في المباعدة، والناس متفقون على أن جميع المخلوقات: مخالف، وموافق، ومضاد، فمتى وقع الخلاف في باب المطابقة فإنما هو على معنى المسامحة وطرح الكلفة والمشقة، وأنشد غير واحد من العلماء لحسين بن مطير: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 بسود نواصيها وحمر أكفها ... وصفر تراقيها وبيض خدودها ورواه ابن الأعرابي في نسق أبيات: بصفر تراقيها وحمر أكفها ... وسود نواصيها وبيض خدودها وهذه الرواية أدخل في الصنعة، وقال الرماني وغيره: السواد والبياض ضدان، وسائر الألوان يضاد كل واحد منها صاحبه، إلا أن البياض هو ضد السواد على الحقيقة؛ إذ كان كل واحد منهما كلما قوي زاد بعداً من صاحبه، وما بينهما من الألوان كلما قوى زاد قرباً من السواد، فإن ضعف زاد قرباً من البياض، وأيضاً فلأن البياض منصبغ لا يصبغ، والسواد صابغ لا منصبغ، وليس سائر الألوان كذلك؛ لأنها كلها تصبغ ولا تنصبغ، انقضى كلامهم، وهو بين ظاهر لا يخفى على أحد، وإنما أوردته إبطالا لزعم من زعم أن أفضل مطابقة وقعت قول عمرو بن كلثوم: بأنا نورد الرايات بيضاً ... ونصدرهن حمراً قد روينا ومن أخف الطباق روحاً، وأقله كلفة، وأرسخه في السمع، وأعقله في القلب؛ قول السيد أبي الحسن في قصيدة: ألا ليت أياماً مضى لي نعيمها ... تكر علينا بالوصال فننعم وصفراء تحكي الشمس من عهد قيصر ... يتوق إليها كل من يتكرم إذا مزجت في الكأس خلت لآلئا ... تنثر في حافاتها وتنظم جمعنا بها الأشتات من كل لذة ... على أنه لم يغش في ذاك محرم فطابق بين تنثر وتنظم وبين جمعنا والأشتات أسهل طباقاً وألطفه من غير تعمل ولا استكراه، وأتى في البيت الأول من قوله مضى وتكر بأخفى مطابقة، وأظرف صنعة على مذهب من انتحله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 ومما يغلط فيه الناس كثيراً في هذا الباب الجمال والقبح كقول بعض المحدثين. وجهه غاية الجمال، ولكن ... فعله غاية لكل قبيح وليس لضده، وإنما ضده الدمامة، والقبح ضده الحسن. وقال الصولي أبو بكر يصف قلماً: ناحل الجسم ليس يعرف مذكاً ... ن نعيما، وليس يعرف ضراً وليس بيهما مضادة. وإنما ضد النعيم البؤس، فأما قول أبي الطيب: فالسلم تكسر من جناحي ماله ... بنواله ما تجبر الهيجاء فإنه داخل في الطباق المحض؛ لأن المراد بالهيجاء الحرب وهي اسم من أسمائها، فكأنه قال الحرب، فأتى بضد السلم حقيقة. باب ما اختلط فيه التجنيس بالمطابقة من ذلك أن يقع في الكلام شيء مما يستعمل للضدين: كقولهم جلل بمعنى صغير، وجلل بمعنى عظيم؛ فإن باطنه مطابقة، وإن كان ظاهره تجنيساً، وكذلك الجون الأبيض، والجون الأسود، وما أشبه ذلك وكذلك إن دخل النفي كما قدمت، قال البحتري: يقيض لي من حيث لا أعلم الهوى ... ويسري إلي الشوق من حيث أعلم فهذا مجانس في ظاهره، وهو في باطنه مطابق؛ لأن قوله لا أعلم كقوله أجهل، ومثل ذلك قول الآخر: لعمري لئن طال الفضيل بن ديسم ... مع الظل ما إن رأيه بطويل كأنه قال: إن رأيه قصير، وقد جاء في القرآن: " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " فأما قول الفرزدق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 لعمري لئن قل الحصى في عديدكم ... بني مهشل ما لؤمكم بقليل ظاهره تجنيس بالقلة، وباطنه تطبيق بالكثرة؛ إذ كان معنى قل الحصى في عديدكم أنكم كثير، ومعنى ما لؤمكم بقليل أنه كثير أيضاً، فخاف الأول، وقد قال جلهمة بن أد بن مالك وهو طيء لولده في وصية: " ولا تكونوا كالجراد أكل ما وجد وأكله ما وجده " فهذا مجانس الظاهر مطابق الباطن، ومما أنشده ثعلب: أبى حبي سليمى أن يبيدا ... وأمسى حبلها خلقاً جديدا الجديد هنا: المجدود وهو المقطوع، مثل قتيل وهزيل بمعنى مقتول ومهزول، كأنه قال مجدوداً، أي: مقطوعاً، فليس بمطابق، وإن كان كذلك في الظاهر عند من لا يميز، فأما المميز فيعلم أنه لا يكون خلقاً جديداً في حال: وقال العتابي يعاتب المأمون وقد حجب عنه وكان به حفياً: تضرب الناس بالمهندة البي ... ض على غدرهم وتنسى الوفاء فأتى بالغدر والوفاء، جميعاً، وهما ضدان، فطابق بينهما في الظاهر وباطن كلامه مجانس لأن قوله وتنسى الوفاء كقوله تغدر. وقال جرير أيضاً: أتصحو أم فؤادك غير صاح. فقوله غير صاح نقيض أتصحو لولا استفهام لم تعلم حقيقة محصوله بعد، إلا على مذهب من جعل أم بمعنى بل فكأنه قال لنفسه: بل فؤادك غير صاح، فناقض الصحو، ودخل كلامه في المطابقة.. وقال قيس بن الخطيم، ويروي لعدي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وإني لأغنى الناس عن متكلف ... يرى الناس ضلالاً وليس بمهتدي كأنه قال وهو ضال فجانس في الباطن، وإن كان قد طابق في الظاهر. ومن هذا الباب قولك فاعل ومفعول، نحو خالق ومخلوق وطالب ومطلوب هما ضدان في المعنى، وإن تجانسا في اللفظ، وكذلك ما كان اسم الفاعل منه مفعل والمفعول مفعل نحو مكرم ومكرم ومعط ومعطى وما جرى هذا المجرى أو زاد عليه في البناء، وأما قولك قضيت واقتضيت فظاهره تجنيس وباطنه طباق، إلا أنه غير محض، وكذلك قولك أخذت وأعطيت؛ لأن الأخذ ضده الترك، والإعطاء ضد المنع، فهذا مما يظنه من لا يحسن طباقاً وليس كما ظن، ولكنه كثر جداً في الكلام، واستعمله الناس، كما تقدم من قولنا في الحلم والجهل والجمال والقبح. ومما ظاهره تجنيس وباطنه طباق الوعد والوعيد كما قال الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وأول ما يعتد به في هذا الباب قول امرئ القيس: فإن تدفنوا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد ويروى فإن تكتموا الداء لا نخفه وقوله لا نخفه أي: لنبده من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 قوله تعالى: أكاد أخفيها فكأن الشاعر قال: إن تدفنوا الداء ندعه دفيناً أو قال: إن تكتموا الداء نكتمه، وكذلك قوله لا نقعد كأنه قال: إن تبعثوا الحرب نبعثها، ومن كلام السيد أبي الحسن: وأعلم أن المجد شيء مخلد ... وأن الفتي والمال غير مخلد والبيت من قصيدة شريفة أولها: صحا القلب عن سعدي وعن أم مسعد ... ولم يشجني نوح الحمام المغرد باب المقابلة المقابلة: مواجهة اللفظ بما يستحقه في الحكم، هذا حد ما اتضح عندي المقابلة: بين التقسيم والطباق، وهي تتصرف في أنواع كثيرة، وأصلها ترتيب الكلام على ما يجب؛ فيعطي أول الكلام ما يليق به أولاً، وآخره ما يليق به آخراً، ويأتي في الموافق بما يوافقه، وفي المخالف بما يخالفه. وأكثر ما تجئ المقابلة في الأضداد، فإذا جاوز الطباق ضدين كان مقابلة مثال ما أنشده قدامة لبعض الشعراء، وهو: فيا عجباً كيف اتفقنا؛ فناصح ... وفي، ومطوي على الغل غادر؟ فقابل بين النصح والوفاء بالغل والغدر، وهكذا يجب أن تكون المقابلة الصحيحة، لكن قدامة لم يبال بالتقديم والتأخير في هذا الباب، وأنشد للطرماح: أسرناهم وأنعمنا عليهم ... وأسقينا دماءهم التربا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 فما صبروا بلأس عند حرب ... ولا أدوا لحسن يدٍ ثوابا فقدم ذكر الإنعام على المأسورين، وأخر ذكر القتل في البيت الأول؛ وأتى في البيت الثاني بعكس الترتيب، وذلك أنه قدم ذكر الصبر عند بأس الحرب وأخر ذكر الثواب على حسن اليد، اللهم إلا أن يريد بقوله فما صبروا لبأس عند حرب القوم المأسورين إذ لم يقاتلوا حتى يقتلوا دون الأسر وإعطاء اليد؛ فإن المقابلة حينئذ تصح وتترتب على ما شرطنا، وهذه عندهم تسمى مقابلة الاستحقاق، ويقرب منها قول أبي الطيب: وفعله ما تريد الكف والقدم لأن الكف من اليد بمنزلة القدم من الرجل، فبينهما مناسبة وليست مضادة، ولو طلبت المضادة لكان الرأس أو الناصية أولى، كما قال تعالى: " فيؤخذ بالنواصي والأقدام ". ومن أناشيد المقابلة قول النابغة الجعدي: فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعادية فقابل يسر بيسوء وصديقه بالأعادي، وهذا جيد؛ ولو كان كل مقابل على وزن مقابله في هذا البيت والبيت الذي أنشده قدامة أولاً لكان أجود.. وقال عمرو بن معدي كرب الزبيدي: ويبقى بعد حلم القوم حلمي ... ويفنى قبل زاد القوم زادي فقال يبقى بعد ثم قال يفنى قبل فهذا كما أردنا. وقال الفرزدق: وأنا لنمضي بالأكف رماحنا ... إذا أرعشت أيديكم بالمعالق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 سأل أبو جعفر المنصور أبا دلامة فقال: أي بيت قالته العرب أشعر؟ قال: بيت يلعب به الصبيان، قال: وما هو ذلك؟ قال: قول الشاعر: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل وقال يزيد بن محمد المهلبي، يقوله لسليمان بن وهب: فمن كان للآثام والذل أرضه ... فأرضكم للأجر والعز معقل وقال في التغزل: إن تغيبي عني فسقياً ورعياً ... أو تحلي فينا فأهلاً وسهلاً والمعجز قوله الله تعالى: " ومن رحمته جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً ولتبتغوا من فضله " فقابل الليل بالسكون، والنهار بابتغاء الفضل، وجعل بعض المفسرين الليل والنهار بمعنى الزمان، والأول أعجب إلى، وقال تعالى: " وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين ". ومن جيد المقابلة قول بكر بن النطاح الحنفي: أذكى وأوقد للعداوة والقرى ... نارين نار وغى ونار زناد وكذلك قوله: لباسي حسام أو إزار معصفر ... ودرع حديد أو قميص مخلق إلا أنه لو كان الإزار رداء كان أجود، لا سيما والسيف يسمى رداء، ولكنا هكذا رويناه. ومن خفي المقابلة والقسمة قول العباس بن الأحنف وأحسن ما شاء: اليوم مثل الحول حتى أرى ... وجهك، والساعة كالشهر وهذا مليح؛ لأن الساعة من اليوم كالشهر من الحول جزء من اثني عشر. وقال محمد بن أحمد العلوي: لا تؤخر عني الجواب فيومي ... مثل دهر، وساعتي مثل شهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 فلم يصنع شيئاً، وكان يمكنه أن يجعل مكان دهر حولا؛ فتكون قسمة مستوية، ولكنا هكذا رويناه. ومن جيد ما وقع في المنثور من المقابلة قول بعض الكتاب فإن أهل الرأي والنصح لا يساويهم ذوو الأفن والغش، وليس من يجمع إلى الكفاية الأمانة كمن أضاف إلى العجز الخيانة ومن كلام إبراهيم بن هلال الصابي وأعد لمحسنهم جنة وثواباً، ولمسيئهم ناراً وعقاباً. وقال أبو الفتح محمود بن حسين كشاجم: تريك الحسن والإحسان وقفاً ... إذا برزت لنا وإذا تغيب ومما عابه الجرجاني على ابن المعتز: بياض في جوانبه احمرارٌ ... كما احمرت من الخجل الخدود لأن الخدود متوسطة وليست جوانب؛ فهذا من سوء المقابلة، وإن عده الجرجاني غلطاً في التشبيه، وإنما العلة في كونه غلطاً ما ذكرناه.. ومن المأخوذ المعيب عندي قول الكميت يخاطب قضاعة: رأيتكم من مالك وادعائه ... كرائمة الأولاد من عدم النسل فوقع تشبيهه على الادعاء والرثمان خاصة، لا على صحة المقابلة في الشبهين؛ لأن هؤلاء فيما زعم يدعون أبا، والرائمة تدعى ولداً، وهما ضدان. والصواب قول الآخر يهجو كاتباً، أنشده الجاحظ: حمار في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حرب في زياد وقال أبو نواس: أرى الفضل للدنيا وللدين جامعاً ... كما السهم فيه فوق والريش والنصل فزاد في المقابلة قسماً؛ لأنه قابل اثنين بثلاثة. وكذلك قول أبي قيس ابن الأسلت: الحزم والقوة خير من ال ... إدهان والفكة والهاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 فقابل الحزم بالإدهان، والقوة بالفكة وهي الضعف ويروي الفهة وهي العي، وزاد الهاع، وهو الجبن والخفة. ومما سقط فيه عبد الكريم من جهة المقابلة وإن كان تمثيلاً وتشبيهاً قوله يمدح نزار بن معد صاحب مصر: إلى ملكٍ بين الملوك وبينه ... مسافة ما بين الكواكب والترب لأنه لما أتى بالملوك أولاً وبضمير الممدوح وهو الهاء التي في بينه بعد ذلك، ثم أتى بالكواكب وهي جماعة تقابل الملوك وبالترب وهو واحد يقابل الضمير باتحاده؛ أوجب له بهذا الترتيب أن يكون هو الترب، وتكون الملوك هم الكواكب، ولم يرد إلا أن يجعله موضع الكواكب، ويجعلهم موضع الترب، ولكن حكم عليه ما حكم على ابن المعتز الذي إليه انتهى التشبيه وسر صناعة الشعر.. ويدلك على صحة ما طلبته به قول امرئ القيس بن حجر: كأن القلوب الطير رطباً ويابساً ... لدي وكرها العناب والحشف البالي قابل الرطب أولا بالعناب مقدماً، وقابل اليابس ثانياً بالحشف تاليا. وكذلك قول الطرماح: يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد فقابل يبدو بيسل، وقابل تضمره البلاد بيغمد، على ترتيب، وكذلك كان يجب لهؤلاء أن يصنعوا، وإلا كانوا مخطئين أو مقصرين. ومن المقابلة ما ليس مخالفاً ولا موافقاً كما شرطوا إلا في الوزن والازدواج فقط، فيسمى حينئذ موازنة نحو قول النابغة: أخلاق مجد تجلت ما لها خطر ... في البأس والجود بين الحلم والخبر وعلى هذا الشعر حشا النعمان بن المنذر فم النابغة دراً. وينضاف إلى هذا النوع قول أبي الطيب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 نصيبك في حياتك من حبيب ... نصيبك في منامك من خيال فوازن قوله في حياتك بقوله في منامك وليس بضده ولا موافقه، وكذلك صنع في الموازنة بين حبيب وخيال، وإن اختلف حرف اللين فيهما، فإن تقطيعه في العروض واحد. فأما قول أبي تمام: فكنت لناشيهم أباً، ولكهلهم ... أخاً، ولذي التقويس والكبرة ابنما فإنه من أحكم المقابلة وأعدل القسمة. وقد بنيت في أول هذا الباب أن المقابلة بين التقسيم والطباق؛ فكلما توفر حظها منهما كانت أفضل. ومن أملح ما رويناه في الموازنة وتعديل الأقسام مما يجب أن نختم به هذا الباب قول ذي الرمة: أستحدث الركب عن أشياعهم خبراً ... أم راجع القلب من أطرابه طرب؟؟ لأن قوله أستحدث الركب موازن لقوله أم راجع القلب وقوله عن أشياعهم خبراً موازن لقوله من أطرابه طرب وكذلك الركب موازن للقلب وعن موازن لمن، وأشياعهم موازن أطرابه وخبراً موازن لطرب. وقال السيد أبو الحسن في هذا النوع: لكفاك أندى من غيوم سواجم ... وعزمك أمضى من حسام مهند فكل لفظة من القسيم الأول موازنة لأختها من القسيم الآخر موازنة عدلٍ وتحقيق. باب التقسيم اختلف الناس في التقسيم: فبعضهم يرى أنه استقصاء الشاعر جميع أقسام ما ابتدأ به، كقول بشار يصف هزيمة: بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه ... ويدرك من نجى الفرار مثالبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 فراح فريق في الأساري، ومثله ... قتيل، ومثل لاذ بالبحر هاربه فالبيت الأول قسمان: إما الموت، وإما حياة تورث عاراً ومثلبة، والبيت الثاني ثلاثة أقسام: أسير، وقتيل، وهارب؛ فاستقضى جميع الأقسام، ولا يوجد في ذكر الهزيمة زيادة على ما ذكر. ومثل ذلك قول عمرو بن الأهتم إلا أنه أكثر إيجازاً: اشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل وهارب وأسير فجمع الوجوه كلها في مصراع واحد. ومن التقسيم الجيد قول نصيب: فقال فريق القوم: لا، وفريقهم: ... نعم، وفريق قال: ويحك ما ندري فلم يبق جواب سائل إلا أتى به؛ فاستوفى جميع الأقسام، وزعم قوم أنه أفضل بيت وقع فيه تقسيم. ومن أناشيد قدامة في هذا الباب قول الشماخ يصف حمار وحش: متى ما تقع أرساغه مطمئنةً ... على حجر يرفض أو يتدحرج فلم يبق الشماخ قسماً ثالثاً إلا أن يقول: يغوص في الأرض، وذلك لا يلزم؛ من جهة أن الحافر عند الجرى وسرعة المشي يقذف الحجر إلى وراء، إلا أنه لو أتى به لكان حسناً من أجل قوله مطمئنة. ومن أشرف المنثور في هذا الباب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وهل لك يابن آدم بن مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت " فلم يبق عليه الصلاة والسلام قسماً رابعاً لو طلب يوجد.. وقال نافع بن خليفة: يا بني، اتقوا الله بطاعته، واتقوا السلطان بحقه، واتقوا الناس بالمعروف فقال رجل منهم: ما بقي شيء من أمر الدين والدنيا إلا وقد أمرتنا به.. وقال أعرابي إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا ينفقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 ضاعت الأمور وكان ثابت البناني يقول: الحمد لله وأستغفر الله فسئل: لم خصهما؟ فقال: لأني بين نعمة وذنب؛ فاحمد الله على النعمة، وأستغفره من الذنوب.. ووقف أعرابي على حلقة الحسن البصري فقال: رحم الله من تصدق من فضل، أو واسى من كفاف، أو آثر من قوت، فقال الحسن: ما ترك البدوي منكم أحداً إلا وقد سأله. ثم نعود إلى الشعر، قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي: وهبها كشيء لم يكن، أو كنازح ... به الدار، أو من غيبته المقسابر فلم يبق مما يعبر به عن إنسان مفقود قسماً إلا أتى به في هذا البيت. وقال آخر، وأحسبه أبا دهبل الجمحي أو طريحاً: لو قلت للسيل دع طريقك وال ... موج عليه كالهضب يعتلج لارتد، أوساخ، أو لكان له ... في سائر الأرض عنك منعرج ولا يدع السيل طريقه إلا بأحد هذه الأشياء. وقال أبو العتاهية: وعلى من كلفي بكم ... قيد وجامعة وغل فأتى على جميع ما يتخذ للمأسور أو المجنون ولم يبقى قسماً هذا وأمثاله مما قدمت هو الجيد من التقسيم؛ وأما ما كان في بيتين أو ثلاثة فغير عاجز عنه كثير من الناس. وزعم الحاتمي أن أصح تقسيم وقع لشاعر قول الأسعر الجعفي يصف فرساً: أما إذا استقبلته فكأنه ... بازٍ يكفكف أن يطير وقد رأى أما إذا استدبرته فتسوقه ... ساق قموس الوقع عارية النسا أما إذا استعرضته متمطراً ... فتقول: هذا مثل سرحان الغضا واختاره أيضاً قدامة، وليس عندي بأفضل من قول امرئ القيس إلا بشرف الصفات: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 إذا أقبلت قلت دباءة ... من الخضر مغموسة في الغدر وإن أدبرت قلت أثفية ... ململمة ليس فيها أثر وإن أعرضت قلت سرعوفة ... لها ذنب خلفها مسبطر ولو لم يكن إلا تنسيق هذا الكلام بعضه على بعض، وانقطاع ذلك بعضه من بعض، وقد صنعت على ضعف متني وتأخر وقتي: إذا أقبلت أقعت، وإن أدبرت كبت ... وتعرض طولاً في العناني فتستوي وكلفت حاجاتي شبيهة طائر ... إذا انتشرت ظلت لها الأرض تنطوي ومن التقسيم نوع هو هذا الأول إلا أن فيه زيادة تدريجاً وترتيباً فصعب لذلك على متعاطيه وقل جداً.. فأحسنه قول زهير بن أبي سلمى: يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا فأتى بجميع ما استعمل في وقت الهياج، وزاد ممدوحه رتبة، وتقدم به خطوة على أقرانه، ولا أرى في التقسيم عديل هذا البيت، ويليه في باله قول عنتر: إن يلحق أكرر، وإن يستلحموا ... أشدد، وإن يلفوا بضنك أنزل ويروى وإن يقفوا ومما ينضاف إليهما قول طريح بن إسماعيل الثقفي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 إن يسمع الخير يخفوه، وإن سمعوا ... شراً أذاعوا، وإن لم يسمعوا كذبوا وقال الحصين بن الحمام: دفعناكم بالحلم حتى بطرتم ... وبالكف حتى كان رفع الأصابع فلما رأينا جهلكم غير منتهي ... وما قد مضى من حلمكم غير راجع مسنا من الآباء شيئاً، وكلنا ... إلا حسب في قومه غير واضح فلما بلغنا الأمهات وجدتم ... بني عمكم كانوا كرام المضاجع كأنه يقول: نحن أكرم منكم أمهات، فهذا هو التدريج في الشعر. وبعضهم في التقسيم على خلاف ما قدمت: زعم أبو العيناء أن خير تقسيم قول ابن أبي ربيعة: تهيم إلى نعم؛ فلا الشمل جامع ... ولا الحبل موصول، ولا أنت مقصر ولا قرب نعم إن دنت منك نافع، ... ولا نأيها يسلى، ولا أنت تصبر واختار قوم آخرون قول الحارثي: فلا كمدى يفنى، ولا لك رقة، ... ولا عنك إقصار، ولا فيك مطمع وزعم الفرزدق أن أكمل بيت قالته العرب أو قال: أجمع بيت قول امرئ القيس: له أيطلا ظبي، وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل وقال الأعشي يصف فرساً: سلس مقلده، أسي ... ل خده، مرع جنابه وقال عمرو بن شأس: مدمج سابغ الضلوع طويل الش ... خص عبل الشوي ممر الأعالي وقال أبو دؤاد الإيادي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 بعيد مدى الطرف حاظي البضيغ ... ممر المطا سمهري القصب هذا وما قبله يسمى جمع الأوصاف، وسماه بعض الحذاق من أهل الصناعة التعقيب العين قبل القاف وأما التقعيب فمكروه في الكلام. وكان محمد بن موسى المنجم يحب التقسيم في الشعر، وكان معجباً بقول العباس بن الأحنف: وصالكم صرم وحبكم قلي ... وعطفكم صد وسلمكم حرب ويقول: أحسن والله فيما قسمحين جعل كل شيء ضده، والله إن هذا التقسيم لأحسن من تقسيمات إقليدس، حكى ذلك الصولي.. ومن مليح التقسيم قول داود بن سلم: في باعه طول، وفي وجهه ... نور، وفي العرنين منه شمم فوصف بعض أحواله وقسمها كما فعل الأولون. ومن أنواع التقسيم التقطيع، أنشد الجرجاني للنابغة الذبياني: ولله عيناً من رأى أهل قبة ... أضر لمن عادى أو أكثر نافعاً وأعظم أحلاماً وأكبر سيداً ... وأفضل مشفوعاً إليه وشافعاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وسماه قوم منهم عبد الكريم التفصيل، وأنشد في ذلك: بيض مفارقنا، تغلي مراجلنا ... ناس بأموالنا آثار أيدينا وقال البحتري: قف مشوقاً، أو مسعداً، أو حزيناً ... أو معيناً، أو عاذراً أو عذولاً فقطع وفصل كما تراه. وقال أبو الطيب: فيا شوق ما أبقى، ويا لي من النوى، ... ويا دمع ما أجرى، ويا قلب ما أصى ففصل كما فعل أصحابه وجاء به على تقطيع الوزن، كل لفظتين ربع بيت.. وقال أيضاً: للسبي ما نكح، والقتل وما ولد، ... والنهب ما جمع، والنار ما زرعوا وإذا كان تقطيع الأجزاء مسجوعاً أو شبيهاً بالمسجوع فذلك هو الترصيع عند قدامة، وقد فضله وأطنب في وصفه إطناباً عظيماً.. وأنشد أبيات أبي المثلم يرثى صخر الغي: لو كان للدهر مال عند متلده ... لكان للدهر صخر مال قنيان آبي الهضيمة، ناب بالعظيمة، مت ... لاف الكريمة لا سقط ولان وان حامي الحقيقة، نسال الوريقة، مع ... تاق الوسيقة، جلد غير ثنيان رباء مرقبة، مناع مغلبه ... ركاب سهبلة، قطاع أقران الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 هباط أودية، حمال ألوية ... شهاد أندية، سرحان فتيان يعطيك ما لا تكاد النفس تسلمه ... من التلاد وهوب غير منان وللقدماء من هذا النوع، إلا أنهم لا يكثرون منه كراهة التكلف.. قال أبو دؤاد يصف فرساً، وقيل: بل رجل من الأنصار: فالعين قادحة، والرجل ضارحة ... واليد سابحة، واللون غربيب والشد منهمر، والماء منحدر، ... والقصب مضطمر، والمتن ملحوب وقال الكميت بن زيد في ذلك: كالناطقات الصادقا ... ت الواسقات من الذخائر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وإلى هذا ذهب أبو الطيب بقوله: الناعمات القاتلات المحييا ... ت المبديات من الدلائل غرائبا وقال توبة بن الحمير، وفيه التقسيم والترصيع: لطيفات أقدام، نبيلات أسوق ... لفيفات أفخاذ، دقاق خصورها وقال مسلم بن الوليد صريع الغواني: كأنه قمر، أو ضيغم هصر، ... أو حية ذكر، أو عارض هطل وقال أيضاً: يورى بزندك، أو يسعى بجندك، أو ... يفرى بحدك، كل غير محدود ومن كلام أبي تمام، وكان يجيد التصنيع: تجلى به رشدي، وأثرت به يدي، ... وفاض به ثمدي، وأروى به زندي وقال أيضاً وأحسن ما شاء: تدبير معتصم، بالله منتقم، ... لله مرتقب، في الله مرتغب وقال أيضاً في غير هذا النمط: عن ثامر ضاف، ونبت قرارة ... واف، ونور كالمراجل خافي المراجل: ثياب.. وقال كشاجم: هلال في إضاءته حياء في سماحته شهاب في اتقاده ومن جيد ما للمحدثين قول ديك الجن: حر الإهاب وسيمه، بر الإيا ... ب كريمه، محض النصاب صميمه فأكثر البيت ترصيع كيف ما أدرته.. وكان المذهب الأول وهو المحمود أن يؤتى ببيت من هذا أو بعض بيت، كما قال امرؤ القيس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وأوتاده ماذية، وعماده ... ردينية، فيها أسنة قعضب وكما قال امرؤ القيس: كحلاء في برج، صفراء في نعج، ... كأنها فضة قد مسها ذهب وأما ما هو شبيه بالمسجوع فقول امرئ القيس: فتور القيام، تطوع الكلا ... م، تفتر عن ذي غروب أشر وقوله ألص الضروس، حنى الضلوع فجاء فتور في وزن قطوع، وكذلك الضروس والضلوع، وألص وحنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 ثم أدخل المولدون في هذا الباب أشياء عدوها تقطيعاً وتقسيماً، وذلك نحو قول أبي العميثل الأعرابي: فاصدق وعف وجد وأنصف واحتمل ... واصفح ودار وكاف واحلم واشجع والطف ولن وتأن وارفق واتئد ... واحزم وجد وحام واحمل وادفع وكقول ديك الجن: أحل وأمرر، وضر وانفع ولن واخ ... شن ورش وابر وانتدب للمعالي وقول أبي الطيب: أقل أنل اقطع احمل على سل أعد ... زد هش بش تفضل ادن سر صل ثم زاد في هذا وتباغض حتى صنع: عش ابق أمم سد قد جد مر انه رهفه أسر نل ... غظ ارم صب احم اغز اسب رع زغ دل ائن بل فهذه رقية العقرب كما قال ابن وكيع، ولا بد من شرحها.. قوله عش ابق دعاء له بالعيش والبقاء، واسم: من السمو، وسد: من السيادة: أي دم هكذا، وقد: من قود الخيل، وجد: من الجود والسماح، أو من الجود وهو المطر الغزير، مرانه: من الأمر والنهي، ره: من الورى تثبت الهاء فيه أظنه في الخط دون اللفظ، على أنه ليس موضع وقف، ولا يجب أن يكتب بلا هاء لئلا يخالف العادة وتقع كلمة على حرف واحد، والورى: داء في الجوف: أي اصنع ذلك بإعدائك وحسادك، فه: من الوفاء، واسر: من سرى الليل، يصفه بالعزم والغارات، ونل: من النيل والإدراك، أي: نل ما تحب، وروى نل أي أعط، من النول، ويقال: نلته إذا أعطيته، وغظ: من غيظ الحسود، ويروي عظ من الوعظ، وارم: من رمي العدو بالمكايد وغيرها، وصب: من صاب المطر والهم، واحم: من حميت المكان، واغز: من الغزو، واسب: من السبي وارع: من الروع، وزع: من وزعت، أي: كففت، ود: من الدية، ول: من الولاية للأمور وقد يكون من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 المطر الولي، واثن: من الثنى أضداده إذا ردهم، وبل: من الوابل، وهذه غاية المقت والبغاضة وإن كان ولا بد فقوله أيضاً: دان بعيد، محب مبغض، بهج ... أغر، حلو ممر، لين شرس ندي أبي غر واف أخو ثقة ... جعد سرى نهٍ ندب رضاً ندس ند: من الندى، وغر: من غرى به، ونهٍ: من النهى، وأصل هذا كله من قول امرئ القيس: أفاد فجاد، وشاد فزاد ... وقاد فذاد، وعاد فأفضل باب التسهيم وقدامة يسميه التوشيح.. وقيل: إن الذي سماه تسهيماً علي بن هارون المنجم، وأما ابن وكيع فسماه المطمع، وهو أنواع: منه ما يشبه المقابلة، وهو الذي اختاره الحاتمي، نحو قول جنوب أخت عمرو ذي الكلب: فأقسم يا عمرو لو نبهاك ... إذاً نبها منك داء عضالا إذاً نبها ليث عريسةٍ ... مفيتاً مفيداً نفوساً ومالا خرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء حرف تشكى الكلالا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا أردت قولها مفتياً نفوساً ومفيداً مالاً فقابلت مفتياً بالنفوس ومفيداً بالمال، وكذلك قولها في البيت الأخير لما ذكرت النهار جعلته شمساً ولما ذكرت الليل جعلته هلالاً لمكان القافية، ولو كانت رائية لجعلته قمراً. وسر الصنعة في هذا الباب أن يكون معنى البيت مقتفياً قافيته، وشاهداً بها دالاً عليها كالذي اختاره قدامة للراعي، وهو قوله: وإن وزن الحصى فوزنت قومي ... وجدت حصى ضريبتهم رزيناً فهذا النوع الثاني هو أجود من الأول للطف موقعه. والنوع الثالث شبيه بالتصدير، وهو دون صاحبيه، إلا أن قدامة لم يجعل بينهما فرقاً.. وأنشد للعباس بن مرداس: هم سودوا هجناً وكل قبيلة ... يبين عن أحسابها من يسودها وقال نصيب الأكبر مولى بني مروان: وقد أيقنت أن ستبين ليلى ... وتحجب عنك إن نفع اليقين وإن تأملت قوافي ما هذه سبيله لم تجد له من لطف الموقع ما لقافية الراعي وإنما أختير هذا النوع على ما ناسب المقابلة والتصدير لأن كل واحد منهما مدلول عليه من جهة اللفظ: إما بالترتيب، وإما باشتراك المجانسة، والقافية في بيت الراعي دالة على نفسها بالمعنى وحده، فصار استخراجها أعجب وأغرب، وتمكنها أشد وأوكد. وقد حكى أن ابن أبي ربيعة جلس إلى ابن عباس رضي الله عنه، فابتدأه ينشده: تشط غداً دار جيراننا فقال ابن العباس: وللدار بعد غد أبعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 فقال له عمر: هكذا صنعت، فأنت ترى كيف طبق المفصل، وأصاب شاكلة الروي، لما كان المعنى يقتضي زيادة البعد كلما طال العهد بأيام الموسم، وأجتنب " أشط " لأنه لا يتزن ولايستعمل، وعدا عن أن يقول " أبرح " وما شاكله رغبة في قرب المأخذ، وسلوكاً لطريق الفصاحة، وأتياناً بالمتعارف المعتاد المتعاهد. ويحكى عن عدي بن الرقاع أنه أنشد في صفه الظبية وولدها: تزجى أغن كأن ابنة روقه فغفل الممدوح عنه، فسكت، فقال الفرزدق لجرير: ما تراه يقول؟ فقال: يقول: قلم أصاب من الدواة مدادها وأقبل عليه الممدوح فأنشد كما قال جرير لم يغادر حرفاً.. وقالت الخنساء: ببيض الصفاح وسمر الرما ... ح بالبيض ضرباً وبالسمر وخزا وقالت أيضاً في نحو ذلك: ونلبس في الحرب نسج الحديد ... ونلبس في السلم خزاً وقزا وقال حريث بن محفض: فإن يك طعن بالرديني يطعنوا ... وان يك ضرب بالمهند يضربوا وقال ابن الدمينة واسمه عبد الله بن عبيد الله أحد بني عامر الخثعمي: وكوني عل الواشين لداء شغبة ... كما أنا بالواشي ألد شغوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 وكوني إذا مالوا عليك صليبة ... كما أنا إن مالوا علي صليب فالبيتان جميعاً مسهمان. وقال دعبل: وإذا عاندنا ذو نخوة ... غضب الروح عليه فعرج فعلى أيماننا يجري الندى ... وعلى أسيافنا تجري المهج ليس يجهل أحد بعد معرفة البيت الأول من هذين البيتين قافية الأخر منهما. ومن جيد التسهيم قول بعضهم: لو أنني أعطيت من دهري المنى ... وما كل من يعطي المنى بمسدد فقلت لأيام مضين: ألا ارجعي ... وقلت لأيام أتين: ألا ابعدي وكذلك قول الآخر وهو مليح: حبيبي غداً لا شك فيه مودع ... فو الله ما أدري به كيف أصنع فيا يوم لا أدبرت هل لك محبسٍ ... ويا غد لا أقبلت هل لك مدفع إذ لم أشيعه تقطعت حسرة ... ووا كبدي إن كنت ممن يشيع أردت البيت الأخير.. وما أظن هذه التسمية إلا من تسهيم البرود، وهو أن ترى ترتيب الألوان فتعلم إذا أتى أحدها ما يكون بعده. وأما تسميته توشيحاً فمن تعطف أثناء الوشاح بعضها على بعض وجمع طرفيه، ويمكن أن يكون من وشاح اللؤلؤ والخرز، وله فواصل معروفة الأماكن، فلعلهم شبهوا هذا به، ولا شك أن الموشحات من ترسيل البديع وغيره إنما هي من هذا، وبعض الناس يقول: إن التوشيج بالجيم، فإن صح ذلك فإنما يجيء من " وشجت العروق " إذا اشتبكت، فكأن الشاعر شبك بعض الكلام ببعض.. فأما تسميته المطمع فذلك لما فيه من سهولة الظاهر وقلة التكلف، فإذا حوول امتنع وبعد مرامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 باب التفسير وهو: أن يستوفي الشاعر شرح ما ابتدأ به مجملا، وقل ما يجيء هذا إلا في أكثر من بيت واحد، نحو قول الفرزدق واختاره قدامة: لقد جئت قوماً لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملاً ثقل مغرم لألفيت منهم معطياً ومطاعناً ... وراء شزراً بالوشيج المقوم هذا جيد في معناه، إلا أنه غريب مريب؛ لأنه فسر الآخر أولاً والأول آخراً؛ فجاء فيه بعض التقصير والإشكال، على أن من العلماء من يرى أن رد الأقرب على الأقرب والأبعد على الأبعد أصح في الكلام. وأكثر ما في التفسير عندي السلامة من سوء التضمين لا أنه بعينه ما لم يكن في بيت واحد أو شبيه به كالذي أنشده سيبويه: خوى على مستويات خمس ... كركرة وثفنات ملس لأن هذا كالبيت المصرع فهو بيتان من مشطور الرجز ومن التفسير الجيد قول حاتم الطائي، ويروي لعتيبة بن مرداس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 متى ما يجئ يوماً إلى المال وارثي ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر يجد فرساً مثل العنان وصارماً ... حساماً إذا ما هز لم يرض بالهبر وأسمر خطياً كأن كعوبة ... نوى القسب قد أربى ذراعاً على العشر فهذا هو التفسير الصحيح السالم من ضرورة التضمين؛ لأنه لم يعلق كلامه بلو كما فعل الفرزدق، ولا بما يقتضي الجواب اقتضاء كلياً؛ فلهذا حسن عندي.. ومثله قول عروة بن الورد: وإن امرأ يرجو تراثي وإن ما ... يصير له منه غداً لقليل ومالي مال غير درع ومغفر ... وأبيض من ماء الحديد صقيل وأشمر خطي القناة مثقف ... وأجرد عريان السراة طويل هكذا أنشدوه بالإقواء، ويجوز أن يرفع على القطع والإضمار، كأنه قال: هو صقيل، أو قال: ولي أبيض من ماء الحديد، يعني سيفه. وقال ذو الرمة في التفسير: وليل كجلباب العروس ادرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد أحم علافي، وأبيض صارم ... وأعيس مهري، وأروع ماجد ففسر الأربعة ما هي، ورفع على شرط ما قدمت من الإضماز، كأنه قيل له: ما الأربعة التي شخصها في العين واحد؟ فقال: كذا وكذا وكذا.. ومن التفسير ما يفسر الأكثر فيه بالأقل، وهو من باب الإيجاز والاختصار: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وذلك ما أتت فيه الجملة بعد الشرح، نحو قول أبي الطبيب: من مبلغ الأعراب أني بعدها ... جالست رسطاليس والإسكندرا ومللت بحر عشارها فأضافني ... من ينحر البدر النضار لمن قرى وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملكاً متبدياً متحضرا ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا نسقوا لنا نسق الحساب مقدماً ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا فقوله نسقوا لنا نسق الحساب مقدماً وأتى فذلك إذ أتيت تفسير مليح قليل النظير في أشعار الناس.. وتعلقت به في بعض مدح السيد أبي الحسن فقلت: أتى بعد أهل العلى ... كجملة شيء شرح وقد أتى به أبو الطيب في بيت واحد فقال: إذا عد الكرام فتلك عجل ... كما الأنواء حين تعد عام فهذا الذي كنا نرغب فيه لكون المفسر والمفسر به في بيت واحد. ونظيره قوله أيضاً: مضى وبنوه وانفردت بفضلهم ... وألف إذا ما جمعت واحد فرد فجاء به أيضاً في بيت واحد. وكذلك قول امرئ القيس: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ومن قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي: فأرسلنا ربيئتنا فأوفى ... فقال: ألا أولى خمس رتوع رباعية وقارحها وجحش ... وثالثة وهادية زموع ففسر ما هي، وأنثها لغلبة التأنيث على اسم الدواب.. وقال مالك بن خريم، وقيل: حزيم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 فإن يك شاب الرأس منى فأنني ... أبيت على نفسي مناقب أربعا فواحدة أن لا أبيت بغرة ... إذا ما سوام الحي حولي تضوعا وثانية أن لا تفزع جارتي ... إذا كان جار القوم فيهم مفزعا وثالثة أن لا أصمت كلبنا ... إذا نزل الأضياف حرصاً لنودعا ورابعة أن لا أحجل قدرنا ... على لحمها حين الشتاء لنشبعاً " أجحل " أستر، أجعلها في حجلة لتخفى عن الجار رغبة أن نشبع، ولكن أبرزها وكتب أحمد بن يوسف وفي رواية النحاس: عمرو بن مسعدة عن المأمون " أما بعد فقد أمر أمير المؤمنين من الإستكثار من المصابيح في شهر رمضان؛ فإن في ذلك أنساً للسابلة، وضياء للمجتهدين، ونفياً لمكامن الريب، وتنزيهاً لبيوت الله عز وجل عن وحشة الظلم ". ومن جيد التفسير في بيت واحد قول أبي الطيب: فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى ... ويرجى الحيا منه وتخشى الصواعق فإنه قد أحكمه أشد إحكام، وجاء به أحسن مجيء، حتى أربى على البحتري إذ يقول: بأروع من طيٍ كأن قميصه ... يزر على الشيخين زيد وحاتم سماحاً وبأساً كالصواعق والحيا ... إذا اجتمعا في العارض المتراكم وقد رد الكلام جميعاً آخره على أوله.. وأصل هذا المعجز قول الله تعالى: " وهو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً ". وقال أبو الطيب أيضاً في التفسير المستحسن: إن كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا ... في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا ففسر وقابل كل نوع بما يليق به، من غير تقديم ولا تأخير، كالذي وقع أولاً في بيتي الفرزدق.. ومن التفسير قول كشاجم واسمه محمود بن الحسين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 في فمها مسك، ومشمولة ... صرف، ومنظوم من الدر فالمسك للنكهة والخمر للري ... قة واللؤلؤ للثغر وهذا من مليح ما وقع للمحدثين. وقال لقمان لابنه: إياك والكسل والضجر، فإنك إذا كسلت لم تؤد حقاً، وإذا ضجرت لم تصبر على حق. باب الاستطراد وهو: أن يرى الشاعر أنه في وصف شيء وهو إنما يريد غيره، فإن قطع أو رجع إلى ما كان فيه فذلك استطراد، وإن تمادى فذلك خروج، وأكثر الناس يسمي الجميع استطراداً، والصواب ما بينته.. وأوضح الاستطراد قول السموأل وهو أول من نطق به حيث يقول: ونحن أناس لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول واتبعه الناس، فقال الفرزدق وأجاد: كأن فقاح الأسد حول ابن مسمع ... إذا اجتمعوا أفواه بكر بن وائل ثن أتى جرير فأربى وزاد بقوله: لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل فهجا واحداً واستطرد باثنين.. وقال مخارق بن شهاب المازني يصف معزى: ترى ضيفها فيها يبيت بغبطة ... وضيف ابن قيس جائع يتحوب فوفد ابن قيس هذا على النعمان بن المنذر فقال: كيف المخارق بن شهاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 فيكم؟ فقال: سيد شريف حسبك من رجل يمدح تيسه ويهجو ابن عمه. ومن جيد الاستطراد قول دعبل بن علي الخزاعي، ويروي لبشار بن برد وهو أصح: خليلي من كلب أعينا أخاكما ... على دهره، إن الكريم معين ولا تبخلا بخل ابن قزعة؛ إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين إذا جئته في الفرط أغلق بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين ويروى في حاجة سد بابه وأنشد البحتري أبو تمام لنفسه في صفة فرس واستطرد يهجو عثمان بن إدريس الشامي: وسابح هطل التعداء هتان ... على الجراء أمين غير خوان أظمى الفصوص وما تظمى قوائمه ... فخل عينيك في ظمآن ريان فلو تراه مشيحاً والحصى زيم ... تحت السنابك من مثنى ووحدان أيقنت إن لم تثبت أن حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان فقال له: أتدري ما هذا من الشعر؟ قال: لا أدري، قال: هذا الاستطراد، أو قال: المستطرد. قال الحاتمي: وقد يقع من هذا الاستطراد ما يخرج به من ذم إلى مدح، كقول زهير: إن البخيل ملوم حيث كان ول ... كن الجواد على علاته هرم فسمى الخروج استطراداً كما تراه اتساعاً، وأنشد في الخروج بالاستطراد من مدح إلى ذم قول بكر بن النطاح يمدح مالك بن طوق: عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى، فقالت: قم فجئني بكوكب فقلت لها: هذا التعنت كله ... كمن يتشهى لحم عنقاء مغرب سلي كل أمر يستقيم طلابه ... ولا تسألي يا در في كل مذهب فأقسم لو أصبحت في عز مالك ... وقدرته أعيى بما رمت مطلبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 فتى شقيت أمواله بعفاته ... كما شقيت قيس بأرماح تغلب فهذا مليح: أوله خروجه، وآخره استطراد، وملاحته أن مالكاً من بني تغلب فصار الاستطراد زيادة في مدحه، وزعم قوم أنه يمدح مالك بن علي الخزاعي، ومما استطرد أبو الطيب في هجاء كافور: يموت به غيظاً على الدهر أهله ... كما مات غيظاً فاتك وشبيب على أن هذا البيت قد يقع موقع غيره من أبيات هذا الباب؛ إذ ليس القصد فيه مدحاً ولا هجاء للرجلين المذكورين، ولكن التشبيه والحكاية لا غير. وقيل: أصل الاستطراد أن يريك الفارس أنه فر ليكر، وكذلك الشاعر يريد أنه في شيء لم يقصد إليه فذكره ولم يقصد قصده حقيقة إلا إليه. ومن الاستطراد نوع يسمى الاندماج، وذلك نحو قول عبيد الله بن طاهر لعبد الله بن سليمان بن وهب حين وزر المعتضد: أبي الدهر من إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحب ونكرم فقلت له: نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا؛ إن المهم المقدم وحكى أحمد بن يوسف الكاتب أنه دخل على المأمون وفي يده كتاب من عمرو بن مسعدة يردد فيه النظر، فقال: لعلك فكرت في ترديدي النظر في هذا الكتاب، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: إني عجبت من بلاغته واحتياله لمراده " كتبت كتابي إلى أمير المؤمنين أعزه الله ومن قبلي من قواده وأجناده في الطاعة والانقياد على أحسن ما يكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم واختلت أحوالهم " ألا ترى يا أحمد إدماجه المسألة في الإخبار، وإعفاءه سلطانه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 الإكثار؟ ثم أمر لهم برزق ثمانية أشهر، وهذا النوع أقل في الكلام من الاستطراد المتطرف وأغرب. باب التفريع وهو من الاستطراد كالتدريج من التقسيم، وذلك أن يقصد الشاعر وصفاً ما ثم يفرع منه وصفاً آخر يزيد الموصوف توكيداً، نحو قول الكميت: أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم يشفى بها الكلب فوصف شيئاً ثم فرع شيئاً آخر لتشبيه شفاء هذا بشفاء هذا. وقال ابن المعتز: كلامه أخدع من لحظه ... ووعده أكذب من طيفه فبينا هو يصف خدع كلامه فرع منه خدع لحظه، ويصف كذب وعده فرع كذب طيفه وقال أيضاً يصف ساقي كأس: فكأن حمرة لونها من خده ... وكأن طيب نسيمها من نشره حتى إذا صب المزاج تبسمت ... عن ثغرها فحسبته من ثغره ما زال ينجزني مواعد عينه ... فمه، وأحسب ريقه من خمره البيتان الأولان من هذه الثلاثة تفريع، والبيت الآخر ليس بتفريع جيد؛ لأن الخمرة نازلة عن رتبة الريق عند العاشق، وحق التفريع أن يكون الآخر من الموصوفين زائداً على الأول درجة: في الحسن إن قصد المدح، وفي القبح إن قصد الذم، وهو نوع خفي إلا على الحاذق البصير بالصنعة. ومثل بيت ابن المعتز قول البحتري: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وإذا تألق في الندي كلامه ال ... مصقول خلت لسانه من عضبه لأن حق العضب في باب المدح أن اللسان أمضى منه.. ومن التفريع الجيد قول الصنوبري: ما أخطأت نوناته من صدغه ... شيئاً، ولا ألفاته من قده وكأنما أنفاسه من شعره ... وكأنما قرطاسه من جلده فانظر إليه كيف يزيده رتبة في الجودة كلما فرع. ووصف ابن شيرزاد جارية كاتبة: فقال كأن خطها أشكال صورتها، وكأن بيانها سحر مقلتها، وكأن سكينها غنج لحظها، وكأن مدادها سواد شعرها، وكأن قرطاسها أديم وجهها، وكأن قامتها بعض أناملها، وكأن مقطها قلب عاشقها. وشتان ما بين هذا الوصف وقول الآخر يهجو كاتباً أنشده الصولي في أبيات: كأن دواته من ريق فيه ... تلاق فنشرها أبداً كريه وقال كشاجم: شيخ لنا من مشايخ الكوفه ... نسبته للعليل موصوفه لو بدل الله قمله غنما ... ما طمع الناس منه في صوفه ومن لطيف التفريع قول أبي الطيب يصف ليلا: أقلب فيه أجفاني كأني ... أعد بها على الدهر الذنوبا بينا هو يصف كثرة سهره وإدارة لحظه شبهها بكثرة ذنوب الدهر عنده.. وقال فبرد: ولو نقصت كما قد زدت من شرف ... على الورى لرأوني مثل شانيكا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 هذا التفريع الملعون.. وقال محمد بن وهب: طللان طال عليهما الأمد ... دثراً فلا علم ولا نضد لبسا البلى فكأنما وجدا ... بعد الأحبة بعض ما أجد ومن المستحسن قول الخوارزمي أبي بكر محمد بن العباس: سمح البديهة ليس يمسك لفظه ... فكأنما ألفاظه من ماله وكأنما عرماته وسيوفه ... من حدهن خلقن من إقباله متبسم في الخطب تحسب أنه ... تحت العجاج ملثم بفعاله وأخبث ما سمعته في هذا الباب قول ابن الرومي يهجو رجلاً: له سائس ماهر ... يجول على متنه ويطعن في دبره ... أفانين من طعنه بأطول من قرنه ... وأغلظ من ذهنه ومن التفريع أيضاً قول أبي الطيب على غير هذا النظام: أسير إلى أقطاعه في ثيابه ... على طرفه من داره بحسامه وما مطرتنيه من البيض والقنا ... وروم العبدي هاطلات غمامه فهذا تفريع تناوله من قول أبي تمام: فقالوا: فما أولاك؟ صف بعض نيله ... فقلت لهم: من عنده كل ما عندي وأصله من قول أبي نواس: فكل خير عندهم من عنده يصف كلب صيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 باب الالتفات وهو الاعتراض عند قوم، وسماه آخرون الاستدراك، حكاه قدامه، وسبيله أن يكون الشاعر آخذاً في معنى ثم يعرض له غيره فيعدل عن الأول إلى الثاني فيأتي به، ثم يعود إلى الأول من غير أن يخل في شيء مما يشد الأول، كقول كثير: لو ان الباخلين، وأنت منهم، ... رأوك تعلموا منك المطالا فقوله وأنت منهم اعتراض كلام في كلام، قال ذلك ابن المعتز، وجعله باباً على حدته بعد باب الالتفات، وسائر الناس يجمع بينهما. قال النابغة الذبياني: ألا زعمت بنو عبس بأني ... ألا كذبوا كبير السن فاني فقوله ألا كذبوا اعتراض، ورواه آخرون للجعدي ألا زعمت بنو كعب وهو أشبه بالجعدي؛ لأنه أعلى سنا منه؛ فقوله ألا كذبوا اعتراض، وكذلك ما يجري مجراه. وأنشدوا في الالتفات لبعض العرب: فظلوا بيوم دع أخاك بمثله ... على مشرع يروي ولما يصرد فقولك دع أخاك بمثله التفات مليح. وقال جرير يرثي امرأته أم حزرة: نعم القرين وكنت علق مضنة ... وارى بنعف بلية الأحجار فقوله وكنت علق مضنة هو الالتفات. وقال عوف بن محلم لعبد الله بن طاهر: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان فقوله بلغتها التفات، وقد عده جماعة من الناس تتميماً، والالتفات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 أشكل وأولى بمعناه، ومنزلة الالتفات في وسط البيت كمنزلة الاستطراد في آخر البيت، وإن كان ضده في التحصيل؛ لأن الالتفات تأتي به عفواً وانتهازاً، ولم يكن لك في خلد فتقطع له كلامك، ثم تصله بعد إن شئت، والاستطراد تقصده في نفسك، وأنت تحيد عنه في لفظك حتى تصل به كلامك عند انقطاع آخره، أو تلقيه إلقاء وتعود إلى ما كنت فيه. وقد جاء الالتفات في آخر البيت نحو قول امرئ القيس: أبعد الحارث الملك بن عمرو ... له ملك العراق إلى عمان مجاورةً بني شمجي بن جرم ... هواناً ما أتيح من الهوان ويمنحها بنو شمجي بن جرمٍ ... معيزهم، حنانك ذا الحنان فقوله ما أتيح من الهوان وقوله حنانك ذا الحنان الالتفات وحكى عن إسحاق الموصلي أنه قال: قال الأصمعي: أتعرف التفات جرير؟ قلت: وما هو؟ فأنشدني: أتنسى إذ تودعنا سليمى ... بعود بشامة، سقي البشام! ثم قال: أما تراه مقبلاً على شعره، إذ التفت إلى البشام فدعا له، وأنشد له عبد الله المعتز: متى كان الخيام بذي طلوحٍ ... سقيت الغيث أيتها الخيام. وأنشد له أيضاً ابن المعتز: طرب الحمام بذي الأراك فهاجني ... لا زلت في غللٍ وأيك ناضر لم يعد ابن المعتز إلا ما كان من هذا النوع، وإلا فهو اعتراض كلام في كلام وقد أحسن ابن المعتز في العبارة عن الالتفات بقوله " هو انصراف المتكلم من الإخبار إلى المخاطبة ومن المخاطبة إلى الإخبار " وتلا قوله تعالى: " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ". وأنشد غيره لأبي عطاء السندي يرثي يزيد بن عمر بن هبيرة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 وإنك لا تبعد على متعهدٍ ... بلى كل ما تحت التراب بعيد وهذا هو الاستدراك، ومثله قول زهير: حي الديار التي لم يبلها القدم ... بلى، وغيرها الأرواح والديم وكذلك قول جرير: غداً باجتماع الحي نقضي لبانة ... فأقسم لا تقضى لبانتنا غداً وأنشد ابن المعتز في هذا النوع، وهو لبشار: نبئت فاضح قومه يغتابني ... عند الأمير، وهل علي أمير؟ ومن مليح ما سمعته قول نصيب: وددت ولم أخلق من الطير أنني ... أعار جناحي طائر فأطير فقوله ولم أخلق من الطير عجب، ولما سمعت التي قيل فيها هذا البيت تنفست تنفساً شديداً، فصاح ابن أبي عتيق: أوه قد والله أجبته بأحسن من شعره، والله لو سمعك لنعق وطار، فجعله غراباً لسواده. وأنشد الصولي للعباس بن الأحنف: وقد كنت أبكي وأنت راضية ... حذار هذا الصدود والغضب إن تم ذا الهجر يا ظلوم، فلا ... تم، فما في العيش من أرب وقال: سمعت ثعلباً يقول: ما رأيت أحداً إلا وهو يستحسن هذا الشعر. ومن المليح أيضاً قول القحيف بن سليمان العقيلي: أمنكم يا حنيف نعم لعمري ... لحى مخضوبة ودم سجال يخاطب ابنه.. وقال عدي بن زيد العبادي وهو في حبس النعمان يخاطب ابنه زيداً ويحرضه: فلو كنت الأسير، ولا تكنه، ... إذاً علمت معد ما أقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 باب الاستثناء وابن المعتز يسميه توكيد المدح بما يشبه الذم، وذلك نحو قول النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب فجعل فلول السيف عيباً، وهو أوكد في المدح.. وقال النابغة الجعدي: فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا فاستثنى جوده الذي يستأصل ماله، بعد أن وصفه بالكمال. وبهذا الاستثناء ثم وزاد كمالاً وتأكد حسنه.. فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا فكأنه لما كان فيه ما يسوء أعاديه لم يطلق عليه أنسه يسر فقط، وذلك زيادة في مدحه، وليس هذا الاستثناء على ما رابه النحويون فتطلبه بحروف الاستثناء المعروفة، وإنما سمي اصطلاحاً وتقريباً، سماه هؤلاء المحدثون نحو الحاتمي وأصحابه ولم يسم حقيقة.. ومن مليح هذا النوع قول أبي هفان وقد تقدم به وجود غاية التجويد: ولا عيب فينا غير أن سماحنا ... أضر بنا، والبأس من كل جانب فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم ... وأفنى الندى أموالنا غير عائب فقوله إن السماح ولبأس أضر بهم ليس بعيب على الحقيقة، ولكن توكيد مدح، والمليح كل المليح قوله " وغير عائب " فهذا الثاني أعجب من الأول وألطف موقعاً.. وقال آخر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 ولا عيب فينا غير عرق لمعشر ... كرام، وأنا لا نخط على النمل فقصر من جهة قوله غير عرق لمعشر كرام لأن سبيل هذا الباب أن يؤثر فيه بما يظن أنه عيب أو تقصير، وإن كان على التحصيل فخراً وفضلاً، كالفلول في سيوف النابغة الذبياني، وإتلاف المال في شعر الجعدي، وترك الخط على النمل في شعر لآخر وأنهم لا يشفون صاحبها، وهي داء واحدتها النملة، وأما ذكر الكلام فلا وجه له ههنا. ومن هذا الباب قول ابن الرومي: ليس له عيب سوى أنه ... لا تقع العين على شبهه فجعل انفراده في الدنيا بالحسن دون أن يكون له قرين يؤنسه عيباً؛ فهو يزيد توكيد حسنه. وقال حاتم الطائي: وما تتشكى جارتي غير أنني ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 سيبلغها خيري ويرجع أهلها ... إليها ولم تقصر علي ستورها لما كان في ترك الزيارة إشكال بين مراده. ومن أصحاب التآليف من يعد في هذا الباب ما ناسب قول الشاعر: فأصبحت مما كان بيني وبينها ... سوى ذكرها كالقابض الماء باليد وقال الربيع بن ضبيع الفزاري: فنيت وما يفنى صنيعي ومنطقي ... وكل امرئ إلا أحاديثه فاني وليس من هذا الباب عندي، وإنما هو من باب الاحتراس والاحتياط؛ فلو أدخلنا في هذا الباب كل ما وقع فيه استثناء لطال، ولخرجنا فيه عن قصده وغرضه ولكل نوع موضع. باب التتميم وهو التمتم أيضاً، وبعضهم يسمي ضرباً منه احتراساً واحتياطاً. ومعنى التتميم: أن يحاول الشاعر معنى، فلا يدع شيئاً يتم به حسنه إلا أورده وأتى به: إما مبالغة، وإما احتياطاً واحتراساً من التقصير، وينشدون بيت طرفة: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي لأن قوله غير مفسدها تتميم للمعنة، واحتراس للديار من الفساد بكثرة المطر. ومثله قول جرير: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 فسقاك حيث حللت غير فقيدة ... هزج الرواح وديمة لا تقلع فقوله غير فقيدة تتميم لما أراد من دنوها وسقياها غير راحلة ولا ميتة إذ كانت العادة أن يدعى للغائب الميت بالسقي؛ فاحترس من ذلك. وقد عاب قدامة على ذي الرمة قوله: ألا يا سلمي يا دار مي على البلا ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر فإنه لم يحترس كما احترس طرفة، فرد ذلك عليه بأن الشاعر قدم الدعاء بالسلامة للدار في أول البيت، وهذا هو الصواب.. وقال زهير: من يلق يوماً على علاته هرماً ... يلق السماحة منه والندى خلقا قوله على علاته مبالغة وتتميم عجيب. والأصل في هذا قول الله عز وجل: " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً " فقوله " على حبه " هو التتميم والمبالغة في قول من قال إن الهاء ضمير الطعام، وإن كان كناية عن الله تعالى خرج المعنى عن هذا الباب، وقال الله جل اسمه: " من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة " فتمم بقوله وهو مؤمن " ومن أناشيد قدامة والحاتمي وغيرهما قول نافع بن خليفة الغنوي: رجال إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه عادوا بالسيوف القواضب قال الحاتمي: فإن المعنى تم بقوله " ويعطوه " وإلا كان ناقصاً. ويجري مجراه عندي قول عنترة العبسي: أثني علي كما علمت فإنني ... سهل مخالفتي إذا لم أظلم فقوله إذا لم أظلم تتميم حسن. وقال آخر: فلا تبعدن إلا من السوء؛ إنني ... إليك وإن شطت بك الدار نازع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 فاستثناؤه " السوء " تتميم واحتراس جيد. وقال أبو الطيب بن الوشاء: لئن كان باقي عيشنا مثل ما مضى ... فللموت إن لم ندخل النار أروح وقال سراقة البارقي يهجو رهط جرير: صغار مقاريهم عظام جعورهم ... بطاء عن الداعي، إذا لم يكن أكلا كأنه قال إذا لم يكن المدعو إليه أكلا. وقال مريع بن وعوعة الكلابي وقد قتل رجلاً نهشلياً: وقلت لأصحابي: النجاء؛ فإنما ... مع الصبح إن لم تسبقوا جمع نهشل ويجري على هذه الأناشيد قول ابن محكان السعدي حين قدم للقتل: ولست وإن كانت إلي حبيبة ... بباكٍ على الدنيا إذا ما تولت فاستثنى وإن كانت إلي حبيبة استثناء مليحاً، ونوى التقديم والتأخير؛ فلذلك جاز له أن يأتي بالضمير مقدماً على مظهره، هكذا قال فيه أبو العباس المبرد، ومن التتميم الحسن قول امرئ القيس: على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفا نين جري غير كز ولا واني فقوله قبل سؤاله تتميم حسن لقوله " أفانين حرى " وقول أعشى باهلة: وكل أمر سوى الفحشاء فإنه لا يدبرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 باب المبالغة وهي ضروب كثيرة. والناس فيها مختلفون: منهم من يؤثرها، ويقول بتفضيلها، ويراها الغاية القصوى في الجودة، وذلك مشهور من مذهب نابغة بني ذبيان، وهو القائل: أشعر الناس من استجيد كذبه، وضحك من رديئه، هكذا أعرفه، ورأيت بخط جماعة منهم عبد الكريم والباغي من استجيد جيده ومطابقه وضحك من رديئه. وروى قوم من حديث النابغة ومطالبته حسان ابن ثابت بالمبالغة ونسبته إياه إلى التقصير في قوله: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما ما هو مشهور عندهم مشهور في كتبهم، ومنهم من يعيبها وينكرها، ويراها عيباً وهجنة في الكلام، قال بعض الحذاق بنقد الشعر: المبالغة ربما أحالت المعنى، ولبسته على السامع؛ فليست لذلك من أحسن الكلام ولا أفخره، لأنها لا تقع موقع القبول كما يقع الاقتصاد وما قاربه؛ لأنه ينبغي أن يكون من أهم أغراض الشاعر والمتكلم أيضاً الإبانة والإفصاح، وتقريب المعنى على السامع؛ فإن العرب إنما فضلت بالبيان والفصاحة، وحلا منطقها في الصدور وقبلته النفوس لأساليب حسنة، وإشارات لطيفة، تكسبه بياناً وتصوره في القلوب تصويراً، ولو كان الشعر هو المبالغة لكانت الحاضرة والمحدثون أشعر من القدماء، وقد رأيناهم احتالوا للكلام حتى قربوه من فهم السامع بالاستعارات والمجازات التي استعملوها، وبالتشكك في الشبهين، كما قال ذو الرمة: فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا أنت أم أم سالم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 فلو أنه قال أنت أم سالم على نفي الشك بل لو قال " أنت أحسن من الظبية " لما حل من القلوب محل التشكك. وكما قال جرير: فإنك لو رأيت عبيد نسيمٍ ... وتيماً قلت: أيهم العبيد فلو قال " عبيدهم " أو " خير منهم " لما ظن به الصدق، فاحتال في تقريب المشابهة؛ لأن في قربها لطافة تقع في القلوب وتدعو إلى التصديق. وكذلك قول أبي النجم يصف عرق الخيل: كأنه من عرقٍ يسربله ... ككرسف النداف لولا بلله فإنه لو قال " إنه الكرسف " لم يكن في حسن هذا؛ لأنه يشهد بتقارب الشبهين إلى أن وقع في الشك.. والمبالغة في صناعة الشعر كالاستراحة من الشاعر إذا أعياه إيراد معنى حسن بالغ فيشغل الأسماع بما هو محال، ويهول مع ذلك على السامعين، وإنما يقصدها من ليس بمتمكن من محاسن الكلام أن تمكنه، ولا يتعذر عليه، وتنجذب كلما أرادها إليه، انقضى كلامه. وفيه كفاية وبلاغ، إلا أنه فيما يظهر من فحواه لم يرد إلا ما كان فيه بعد، وليس كل مبالغة كذلك، ألا ترى أن التتميم إذا طلبت حقيقته كان ضرباً من المبالغة وإن ظهر أنه من أنواع الحشو المستحسن، وقد مر ذكره. وكذلك ما ناسب قول ابن المعتز يصف خيلاً: صببنا عليها ظالمين سياطنا ... وطارت بها أيدٍ سراع وأرجل وهذا عند جميع الناس من باب الحشو، وهو عندي مبالغة، وكذلك الإيغال، وسيرد في بابه إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 فمن أحسن المبالغة وأغربها عند الحذاق: التقصي، وهو بلوغ الشاعر أقصى ما يمكن من وصف الشيء، كقول عمرو بن الأيهم التغلبي: ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث كانا فتقصى بما يمكن أن يقدر عليه فتعاطاه ووصف به قومه. ومن أغربها أيضاً ترادف الصفات، وفي ذلك تهويل مع صحة لفظ لا تحيل معنى، كقول الله تعالى: " أو كظلمات في بحر لجىً يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعضٍ ". فأما الغلو فهو الذي ينكره من ينكر المبالغة من سائر أنواعها، ويقع فيه الاختلاف لا ما سواه مما بينت، ولو بطلت المبالغة كلها وعيبت لبطل التشبيه وعيبت الاستعارة، إلى كثير من محاسن الكلام: فمن أبيات المبالغة قول امرئ القيس: كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر يعل به برد أنيابها ... إذا غرد الطائر المستحر فوصف فاها بهذه الصفة سحراً عند تغيير الأفواه بعد النوم، فكيف تظنها في أول الليل؟! ومثل ذلك قوله يصف ناراً وإن كان فيه إغراق: نظرت إليها، والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان، تشب لقفال يقول: نظرت إلى نار هذه المرأة تشب لقفال والنجوم كأنها مصابيح رهبان، وقد قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 تنورتها من أذرعاتٍ وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال وبين المكانين بعد أيام، وإنما يرجع القفال إلى الغزو والغارات وجه الصباح؛ فإذا رأوها من مسافة أيام وجه الصباح وقد خمد سناها وكل موقدها فكيف كانت أول الليل؟!! وشبه النجوم بمصابيح الرهبان؛ لأنها في السحر يضعف نورها كما يضعف نور المصابيح الموقدة ليلها أجمع، لا سيما مصابيح الرهبان؛ لأنهم يكلون من سهر الليل فربما نعسوا ذلك الوقت، وهذا مما أورده شيخنا أبو عبد الله. وقال أمرؤ القيس يصف فرساً: لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسد به فرجها من دبر أراد طوله؛ لأن العروس تجر ذيلها إما من الحياء وإما من الخيلاء. وزعم الجاحظ أن قول غيلان ذي الرمة: وليل كجلباب العروس ادرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد أراد به سبوغه لا لونه، وأكثر الناس على خلاف قوله، وأنا أرى أن هذا كقول عوف بن عطية بن الخرع التيمي من تيم الرباب يصف خيلاً: وجللن دمخاً قناع العرو ... س تدني على حاجبيها الخمار دمخ جبل بعينه، فأراد أن الخيل كسونه قناعاً من الغبار هذه صفته. ومن معجز المبالغة قول الله عز وجل: " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار " فجعل من يسر القول كمن يجهر به، والمستخفي بالليل كالسارب بالنهار، وكل واحد منهما أشد مبالغة في معناه وأتم صفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 باب الإيغال وهو ضرب من المبالغة كما قدمت، إلا أنه في القوافي خاصة لا يعدوها، والحاتمي وأصحابه يسمونه التبليغ، وهو تفعيل من بلوغ الغاية، وذلك يشهد بصحة ما قلته، ويدل على ما رتبته. وحكى الحاتمي عن عبد الله بن جعفر عن محمد بن يزيد المبرد قال: حدثني التوزي قال: قلت للأصمعي: من أشعر الناس؟ قال: الذي يجعل المعنى الخسيس بلفظه كبيراً، أو يأتي إلى المعنى الكبير فيجعله خسيساً، أو ينقضي كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى، قال: قلت: نحو من؟ قال: نحو الأعشى إذ يقول: كناطح صخرة يوما ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل فقد تم المثل بقوله: وأوهى قرنه، فلما احتاج إلى القافية قال " الوعل " قال: قلت: وكيف صار الوعل مفضلا على كل ما ينطح؟ قال: لأنه ينحط من قنة الجبل على قرنه فلا يضيره، قال: قلت: ثم نحو من؟ قال: نحو ذي الرمة بقوله: قف العيس في أطلال مية واسأل ... رسوماً كأخلاق الرداء المسلسل فتمم كلامه، ثم احتاج إلى القافية فقال " المسلسل " فزاد شيئاً، وقوله: أظن الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعاً كتبديد الجمان المفصل فتمم كلامه، ثم احتاج إلى القافية فقال " المفلل " فزاد شيئاً أيضاً. وليس بين الناس اختلاف أن امرأ القيس أول من ابتكر هذا المعنى بقوله يصف الفرس: إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه ... تقول هزيز الريح مرت بأثأب فبالغ في صفته، وجعله على هذه الصفة بعد أن يجري شأوين ويبتل عطفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 بالعرق، ثم زاد إيغالاً في صفته بذكر الأثأب، وهو شجر للريح في أضعاف أغصانه حفيف عظيم وشدة صوت، ومثل ذلك قوله: كأن عيون الطير حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب فقوله " لم يثقب " إيغال في التشبيه، وأتبعه زهير فقال: كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم فأوغل في التشبيه إيغالاً بتشبيهه ما يتناثر من فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يحطم؛ لأنه أحمر الظاهر أبيض الباطن، فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض البتة، وكان خالص الحمرة، وتبعهما الأعشى فقال يصف امرأة: غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل فأوغل بقوله " الوحل " بعد أن قال " الوجى " وكذلك قوله " الوعل " وكان الرشيد كثير العجب بقول صريع الغواني: إذا ما علت منا ذؤابة شارب ... تمشت به مشى المقيد في الوحل ويقول: قاتله الله! ما كفاه أن جعله مقيداً حتى جعله في وحل، وأنا اقول: إنه بيت الأعشى بعينه. ومن الإيغال قول الطرماح العقيلي يصف فرساً بسعة المنخر: لا يكتم الربو إلا ريث يخرجه ... من منخر كوجار الثعلب الخرب فكونه كوجار الثعلب غاية في المبالغة، فكيف إذا كان خرابا؟. ومن الإيغال الحسن قول الخنساء: وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار فبالغت في الوصف أشد مبالغة، وأوغلت إيغالاً شديداً بقولها " في رأسه نار " بعد أن جعلته علماً، وهو الجبل العظيم. وأنشد الجاحظ: ألوي حيازيمي بهن صبابة ... كما تتلوى الحية المتشرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 فقوله " الحية المتشرق " إيغال؛ لأنه أشد لتلويه. وكذلك قول جرير: بات الفرزدق عائراً وكأنه ... قعو تعاوره السقاة معار وإذا كان معاراً كان أشد لاستعماله وأقل للتحفظ عليه. وقال النجاشي يذكر عبد الرحمن بن حسان: لما أتاني ما يقول ودونه ... مسيرة شهر للمطى المفرد فأوغل بقوله " المفرد " إيغالاً عجيباً؛ لأنه أسير من المحمل. وقال جميل: إني لأكتم حبها إذ بعضهم ... فيمن يحب كناشد الأغفال " الناشد " طالب الضالة، وإذا كانت غفلاً ليس فيها سمة كان أشد للبحث عليها، وأكثر للسؤال والذكر. ومن أحسن إيغال المحدثين قول مروان بن أبي حفصة: هم القوم: إن قالوا أصابوا، وإن دعوا ... أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا فقوله " وأجزلوا " قد أتى به في نهاية الحسن. وكذلك قول بشار بن برد: وغيران من دون النساء كأنه ... أسامة ذو الشبلين حين يجوع فقوله " حين يجوع " إيغال حسن. وقال ابن المعتز: وداع دعا والليل بيني وبينه ... فكنت مكان الظن منه وأعجلا فقوله " وأعجل " زيادة وصف، وإيغال ظاهر. وقال أبو الطيب في رثاء أم سيف الدولة: مشى الأمراء حوليها حفاة ... كأن المرو من زف الرئال " فالزف ": أصغر الريش وألينه، ولا سيما النعام، ولم يرض بذلك حتى جعله زف الرئال، شبه به المرو وهو ما صغر من الحصى وحد فهذا فوق كل مبالغة وإيغال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 ومن هذا نوع يسمى الاستظهار، وهو قول ابن المعتز لابن طباطبا العلوي أو غيره: فأنتم بنو بنته دوننا ... ونحن بنو عمه المسلم فقوله " المسلم " استظهار؛ لأن العلوية من بني عم النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً أعني أبا طالب ومات جاهلياً، فكأن ابن المعتز أشار بحذقه إلى ميراث الخلافة. وليس بين الإيغال والتتميم كبير فرق؛ إلا أن هذا في القافية لا يعدوها، وذلك في حشو البيت. واشتقاق الإيغال من الإبعاد، يقال: أوغل في الأرض، إذا أبعد، فيما حكاه ابن دريد، وقال: وكل داخل في شيء دخول مستعجل فقد أوغل فيه وقال الأصمعي في شرح قول ذي الرمة: كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج الإيغال: سرعة الدخول في الشيء، يقال: أوغل في الأمر، إذا دخل فيه بسرعة، فعلى القول الأول كأن الشاعر أبعد في المبالغة وذهب فيها كل الذهاب، وعلى القول الثاني كأنه أسرع الخول في المبالغة بمبادرته هذه القافية. وكلما أكثرت من الشواهد في باب فإنما أريد بذلك تأنيس المتعلم وتجسيره على الأشياء الزائعة. ولأريه كيف تصرف الناس في ذلك الفن، وقلبوا تلك المعاني والألفاظ. باب الغلو ومن أسمائه أيضاً الإغراق، والإفراط، ومن الناس من يرى أن فضيلة الشاعر إنما هي في معرفته بوجوه الإغراق والغلو، ولا أرى ذلك إلا محال؛ لمخالفته الحقيقة، وخروجه عن الواجب والمتعارف.. وقد قال الحذاق: خير الكلام الحقائق، فإن لم يكن فما قاربها وناسبها، وأنشد المبرد قول الأعشى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 فلو أن ما أبقين مني معلق ... بعود تمام ما تأود عودها فقال: هذا متجاوز، وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبه، وأحسن منه ما أصاب الحقيقة فيه، انقضى كلامه. وأصح الكلام عندي ما قام عليه الدليل، وثبت فيه الشاهد من كتاب الله تعالى، ونحن نجده قد قرن الغلو فيه بالخروج عن الحق؛ فقال جل من قائل: " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ". والغلو عند قدامة: تجاوز في نعت ما للشيء أن يكون عليه، وليس خارجاً عن طباعه، كقول النمر بن تولب في صفة سيف شبه به نفسه: تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي إذ ليس خارجاً عن طباع السيف أن يقطع الشيء العظيم ثم يغوص بعد ذلك في الأرض، ولأن مخارج الغلو عنده على " تكاد " وعلى هذا تأول أصحاب التفسير قول الله تعالى: " وبلغت القلوب الحناجر " أي: كادت. وقال الجرجاني في كتاب الوساطة: والإفراط مذهب عام في المحدثين، وموجود كثير في الأوائل، والناس فيه مختلفون: من مستحسن قابل، ومستقبح راد، وله رسوم متى وقف الشاعر عندها ولم يتجاوز بالوصف حدها سلم، ومتى تجاوزها اتسعت له الغاية، وأدته الحال إلى الإحالة، وإنما الإحالة نتيجة الإفراط، وشعبة من الإغراق. وقال الحاتمي: وجدت العلماء بالشعر يعيبون على الشاعر أبيات الغلو والإغراق، ويختلفون في استحسانها واستهجانها، ويعجب بعض منهم بها، وذلك على حسب ما يوافق طباعه واختياره، ويرى أنها من إبداع الشاعر الذي يوجب الفضيلة له، فيقولون: أحسن الشعر أكذبه، وأن الغلو إنما يراد به المبالغة والإفراط، وقالوا: إذا أتى الشاعر من الغلو بما يخرج عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 الموجود ويدخل في باب المعدوم فإنما يريد به المثل وبلوغ الغاية في النعت، واحتجوا بقول النابغة وقد سئل: من أشعر الناس فقال: من استجيد كذبه وأضحك رديثه، وقد طعن قوم على هذا المذهب بمنافاته الحقيقة، وأنه لا يصح عند التأمل والفكرة، انقضى كلامه. ومن أبيات الغلو للقدماء قول مهلهل: فلولا الريح اسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور وقد قيل: إنه أكذب بيت قالته العرب، وبين حجر وهي قصبة اليمامة وبين مكان الوقعة عشرة أيام، وهذا اشد غلواً من قول امرئ القيس في النار؛ لأن حاسة البصر أقوى من حاسة السمع وأشد إدراكاً.. ومنها قول النابغة في صفة السيوف: تقد السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقدن بالصفاح نار الحباحب وهو دون بيت امرئ القيس في تنر صاحبة النار إفراطاً، ودون بيت النابغة قول النمر بن تولب في صفة السيف أيضاً، وقد أنشدته فيما مضى من هذا الباب واختار قوم على بيتي النابغة والنمر قول أبي تمام: ويهتز مثل السيف لو لم تسله ... يدان لسلته ظباه من الغمد ومن الغلو قول جرير: فلو وضعت فقاح بني نمير ... على خبث الحديد إذا لذابا لأنه شيء لا يذوب أبداً، وقد نعي على أبي نواس قوله: وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 إذ جعل ما لم يخلق يخافه.. وكذلك قوله: حتى الذي في الرحم لم يك صورة ... لفؤاده من خوفه خفقان وزعم بعض المتعقبين أن الذي كثر هذا الباب أبو تمام، وتبعه الناس بعد، وأين أبو تمام مما نحن فيه؟ فإذا صرت إلى أبي الطيب صرت إلى أكثر الناس غلواً، وأبعدهم فيه همة، حتى لو قدر ما أخلي منه بيتاً واحداً، وحتى تبلغ به الحال إلى ما هو عنه غنى، واه في غيره مندوحة، كقوله: يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد وإن كان له في هذا تأويل ومخرج يجعله التوحيد غاية المثل في الحلاوة بفيه. وقوله: لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموسا أو كان صادف رأس عازر سيفه ... في يوم معركة لأعيا عيسى أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما انشق حتى جاز فيه موسى فما دعاه إلى هذا وفي الكلام عوض من بلا تعلق عليه؟ فكيف إذا قال: كأني دحوت الأرض من خبرتي به ... كأني بني الإسكندر السد من عزمي فشبه نفسه بالخالق، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ثم انحط إلى الإسكندر، وربما أفسد أبو الطيب إغراقه هكذا ونقص منه بما يظنه إصلاحاً له وزيادة فيه، نحو قوله يصف شعره: إذا قلته لم يمتنع من وصوله ... جدار معلى أو خباء مطنب فما وجه الخباء المطنب بعد الجدار المنيف؟ بينا هو في الثريا صار في الثرى! وإنما أراد الحاضرة والبادية، وكذلك قوله: تصد الرياح الهوج عنها مخافة ... ويفزع منها الطير أن يلقط الحبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 فكم بين خوف الرياح الهوج وصدودها، وبين فزع الطير أن تلقط الحب؟ ولا سيما وأفزع الطير بهائمه التي تلقط الحب لضعفها وعدمها السلاح، وأقل خيال أو تمثال يحمي مزروعات جمة وقد رجح صاحب الوساطة هذا البيت على قول أبي تمام: فقد بث عبد الله خوف انتقامه ... على الليل حتى ما تدب عقاربه فاعتبروا يا أولي البصار. ومما يشاكل قول أبي الطيب في ألفاظه قول نصر الخابز أرزي: ذبت من الشوق فلو زج بي ... في مقلة النائم لم ينتبه وكان لي فيما مضى خاتم ... فالآن لو شئت تمنطقت به فبين الإغراق والإغراق بون بعيد واختلاف شديد. وإذا لم يجد الشاعر بداً من الإغراق لحبه ذلك، ونزوع طبعه إليه فليكن ذلك منه في الندرة، وبيتاً قي القصيدة إن أفرط، ولا يجعل هجيراه كما يفعل أبو الطيب. وأحسن الإغراق ما نطق فيه الشاعر أو المتكلم بكاد أو ما شاكلها، نحو كأن ولو ولولا، وما أشبه ذلك مما لم يناسب أبيات أبي الطيب المتقدم ذكرها في البشاعة، ألا ترى ما أعجب قول زهير: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأحسابهم أو مجدهم قعدوا فبلغ ما أراد من الإفراط، وبنى كلامه على صحة. ومما استحسنه الرواة ونص عليه العلماء قول امرئ القيس يصف سناناً: حملت ردينيا كأن شباته ... سنا لهب لم يتصل بدخان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وإذا نظرت إلى قول أبي صخر: تكاد يدي تندى إذا ما لمستها ... وينبت في أطرافها الورق النضر وقول أبي الطيب: عجبت من أرض سحاب أكفهم ... من فوقها وصخورها لا تورق لم يخف عنك وجه الحكم فيهما، على أن في قول أبي الطيب بعض الملاحة والمخالطة لطبعه في حب الإفراط وقلة المبادرة فيه؛ إذ كان ممكناً أن يقول: إن الصخور أورقت، ولغة القرآن أفصح اللغات، وأنت تسمع قول الله تعالى: " يكاد البرق يخطف أبصارهم " وقوله: " إذا أخرج يده لم يكد يراها " وقوله: " يكاد زينتها يضيء ولو لم تمسسه نار ". واشتقاق الغلو من المبالغة، ومن غلوة السهم، وهي مدى رميته، يقال: غاليت فلاناً مغالاة وغلاء، إذا اختبرتما أيكما أبعد غلوة سهم، ومنه قول النبي عليه الصلاة السلام: " جرى المذكيات غلاء " وقد جاء في حديث داحس " غلاء " و " غلاب " بالياء ايضاً، وإذا قلت: غلا السعر غلاء، فإنما تريد أنه ارتفع وزاد على ما كان، وكذلك غلت القدر غلياً أو غلياناً، إنما هو أن يجيش ماؤها ويرتفع، والإغراق أيضاً أصله في الرمي، وذلك أن تجذب السهم في الوتر عند النزع حتى تستغرق جميعه بينك وبين حنية القوص، وإنما تفعل ذلك لبعد الغرض الذي ترميه، وهذه التسمية تدل على ما نحوت إليه وأشرت نحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 باب التشكك وهو من ملح الشعر وطرف الكلام، وله في النفس حلاوة وحسن موقع، بخلاف ما للغو والإغريق. وفائدته الدالة على قرب الشبهين حتى لا يفرق بينهما، ولا يميز أحدهما من الآخر، وذلك نحو قول زهير: وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء فإن تكن النساء مخبئآت ... فحق لكل محصنة هداء فقد أظهر أنه لم يعلم أنهم رجال أم نساء، وهذا أملح من أن يقول: هم نساء، وأقرب إلى التصديق؛ ولهذه العلة اختاروه كما تقدم القول في بيت ذي الرمة: أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقاآ أنت أم أم سالم وبيت جرير فإنك لو رأيت عبيد تيم وبيت أبي النجم في صفة عرق الخيل. وقال العرجي: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وإنما سلك طريق ذي الرمة. وقال سلم بن عمرو الخاسر: تبدت فقلت الشمس عند طلوعها ... بجلد غني اللون عن أثر الورس فلما كررت الطرف قلت لصاحبي ... على مرية: ما ها هنا مطلع الشمس فأنت ترى كيف موقع هذا الشك من اليقين؟ وكيف حلاوته في الصدر وقبوله؟؟ فإنه لو كان يقيناً ما بلغ هذا المبلغ. وتناول هذا المعنى أبو زيد الوضاح بن محمد الثقفي فقال يمدح المستعين بالله: وقائلة والليل قد نشر الدجى ... فغطى بها ما بين سهل وقردد أرى بارقاً يبدو من الجوسق الذي ... به حل ميراث النبي محمد فظل عذارى الحي ينظمن تحته ... ظفارية الجزع لم يسرد أضاءت به الآفاق حتى كأنما ... رأينا بنصف الليل نور ضحى الغد فقلت: هو البدر الذي تعرفينه ... وإلا يكن فالنور من وجه أحمد وأما قول أبي تمام حين قصد عبد الله بن طاهر إلى خراسان يذكر شك رفقائه واستبعادهم الطريق: يقول في قومس صحبي وقد أخذت ... منا السرى وخطا المهرية القرد: أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا؟ ... فقلت: كلا ولكن مطلع الجود فقد صرف المعنى فيه عن وجهه، وخالف فيه قصده، ونسب الشك إلى غيره، وهو بعيد من قول سلم، وليس ذكرهما جميعاً مطلع الشمس قدوة، ولا عليه معول.. وقال ابن ميادة: وأشفق من وشك الفراق وإنني ... أظن لمحمول عليه فراكبه فوالله ما أدري: أيغلبني الهوى ... إذاجد جد البين أم أنا غالبه؟! فقوله في البيت الأول " أظن " مليح جداً، وكذلك قوله في البيت الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 " ما أدري أيغلبني الهوى أم أنا غالبه ". وأخذ هذا المعنى ابن أبي مية وزاده ملاحة فقال: فديتك لم تشبع ولم ترو من هجري ... أيستحسن الهجران أكثر من شهر أراني سأسلو عنك إن دام ما أرى ... بلا ثقة، لكن أظن ولا أدري وقد أحسن أبو الطيب في قوله: أريقك أم ماء الغمامة أم خمر؟؟ ... بفي برود وهو في كبدي جمر لولا أنه كدر صفوه ومرر حلوه بما أضاف إليه من قوله: أذا الغصن أم ذا الدعص أم أنت فتنة ... وهذا الذي قبلته البرق أم ثغر؟ ولله در أبي نواس إذ يقول: ألا لا أرى مثل امترى اليوم في رسم ... تغص به عيني ويلفظه وهمي أتت صور الأشياء بيني وبينه ... فظني كلا ظن وعلمي كلا علم ويروي وجهلي كلا جهل. وأول من نطق بهذا المعنى امرؤ القيس: لمن طلل دارس آيه ... أضر به سالف الأحرس تنكره العين من جانب ... ويعرفه شغف الأنفس وقال أعرابي في معنى أبيات الوضاح بن محمد: أقول والنجم قد مالت مياسره ... إلى الغروب: تأمل نظرة حار ألمحة من سنا برق رأى بصري ... ووجه نعم بدا لي أم سنا نار بل وجه نعم بدا والليل معتكر ... فلاح من بين حجاب وأستار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 باب الحشو وفضول الكلام وسماه قوم الاتكاء، وذلك أن يكون في داخل البيت من الشعر لفظ لا يفيد معنى، وإنما أدخله الشاعر لإقامة الوزن، فإن كان ذاك في القافية فهو استدعاء، وقد يأتي في حشو البيت ما هو زيادة في حسنه وتقوية لمعناه: كالذي تقدم من التتميم، والالتفات، والاستثناء، وغير ذلك، مما ذكرته آنفاً. من ذلك قول عبد الله بن المعتز يصف خيلاً: صببنا عليها ظالمين ... فطارت بها أيد سراع وأرجل وقد مر ذكره في باب المبالغة، فقوله ظالمين حشو أقام بها وزن، وبالغ في المعنى أشد مبالغة من جهته، حتى علمنا ضرورة أن إتيانه بهذه اللفظة التي هي حشو في ظاهر الأمر أفضل من تركها، وهذا شبيه بالتتميم.. وقال الفرزدق: ستأتيك مني إن بقيت قصائد ... يقتصر عن تحبيرها كل قائل فقوله إن بقيت حشو في ظاهر لفظه، وقد أفاد به معنى زائداً، وهو شبيه بالالتفات من جهة، وبالاحتراس من جهة أخرى، فما كان هكذا فهو الجيد، وليس بحشو إلا على المجاز، أو بعد أن ينعت بالجودة والحسن، أو يضافا إليه، وإنما يطلق اسم الحشو على ما قدمت ذكره مما لا فائدة فيه. وقد أتى العتابي بما فيه كفاية حيث يقول: إن حشو الكلام من لكنه المر ... ء وإيجازه من التقويم فجعل الحشو لكنة، وليس كل ما يحشى بن الكلام لزيادة فائدة لكنة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وإنما أراد ما لا حاجة إليه ولا منفعة، كقول أبي صفوان الأسدي يذكر بازياً: ترى الطير والوحش من خوفه ... حواجر منه إذا ما أغتدي فقوله منه بعد قول من خوفه حشو لا فائدة فيه، ولا معنى له، وكذلك قول أبي تمام يصف قصيدة: خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود حالك الجلباب فقوله الدجى حشو؛ لأن في القسيم الثاني ما يدل عليه من زيادة استعارتين مليحتين، فإن لم يكن في القسيم الأول حشو كان القسيم الثاني بأثره فضلة. وقال أبو الطيب في نحو من ذلك: إذا اعتل سيف الدولة اعتلت الأرض ... ومن فوقها والبأس والكرم المحض فقوله والبأس حشو؛ لأن قوله ومن فوقها دال على الإنس والجن جميعاً، والبأس والكرم جميعاً، والبأس والكرم جميعاً، اللهم إلا أن يحمله على تأويلهم في قول الله تعالى: " فيهما فاكهة ونخل ورمان " فأعاد ذكرهما وهما من الفاكهة لفضلهما، وقوله تعالى: " ومن كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال " فإن هذا سائغ وليس بحشو حينئذ. ومن الحشو قول الكلحبة اليربوعي: إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال الهوينا بالفتى أن تقطعا فقوله بالفتى حشو، وكان الواجب أن يقول به لأن ذكر المرء قد تقدم، إلا أن يريد في قوله بالفتى الزراية والأطنوزة فإنه يحتمل. قال زيد الخيل يخاطب كعب بن زهير: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 يقول: أرى زيداً وقد كان معدماً ... أراه لعمري قد تمول واقتنى فقوله أراه لعمري حشو واستراحة يستغنى عنها بقوله أرى زيداً ومما يكثر به حشو الكلام أضحى، وبات، وظل، وغدا، وقد، ويوماً، وأشباهها، وكان أبو تمام كثيراً ما يأتي بها، ويكره للشاعر استعمال ذا، وذي، والذي، وهو، وهذا، وهذي وكان أبو الطيب مولعاً بها، مكثراً منها في شعره، حتى حمله حبه فيها على استعمال الشاذ وركوب الضرورة في قوله: لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء وكذلك يكره للشاعر قوله في شعره " حقاً " إلا أن تقع له موقعها في قول الأخطل: فأقسم المجد حقاً لا يحالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشعر فإن قوله ههنا حقاً زاد المعنى حسناً وتوكيداً ظاهراً. ولقد أحسن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في قوله لابن المعتز: ولو قبلت في حادث الدهر فدية ... لقلنا على التحقيق نحن فداؤه فقوله " على التحقيق " حشو مليح فيه زيادة فائدة. ومن الناس من يسمي هذا النوع من الكلام ارتفاداً، وأنشد بعض العلماء قول قيس بن الخطيم: قضى لها الله حين صورها ال ... خالق أن لا يكنها سدف والاتكاء عنده والإرتفاد هو قول الشاعر " صورها الخالق " لأن اسم الله تعالى قد تقدم. ووجدت الحذاق يعيبون قول ابن الحدادية وهي أمه، واسمه قيس بن منقذ: إن الفؤاد قد أمسى هائماً كلفاً ... قد شفه ذكر سلمى اليوم فانتكسا لحشوه ب " قد " في موضعين من البيت ثم ب " أمسى " وب " اليوم " على تناقضهما. وعاب الحاتمي على الأعشى قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 فرميت غفلة قلبه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها لأن تكرير القلب عنده حشو لا فائدة فيه، وهذا تعسف من الحاتمي لأن قلبه غير قلبها، فإنما كرر اللفظ دون المعنى، ورأيت روايته في أكثر النسخ " حبة قلبه وطحالها " وهو غلط، ومن ههنا عابه فيما أظن، ومن الناس من روى " فرميت غفلة عينه عن شاته " وهي رواية مشهورة صحيحة. ونعوا على أبي العيال الهذلي قوله: ذكرت أخي فعاودني ... صداع الرأس والوصب لأن صداع الرأس من أدواء الرأس خاصة، فليس الذكر الرأس معه معنى، وعلى جميل قوله: وما ذكرتك النفس يا بثن مرة ... من الدهر إلا كادت النفس تتلف فتكرير النفس لبس له وجه ههنا، وللتكرير موضع يحسن فيه، وسيرد إن شاء الله في بابه. ومن الحشو نوع سماه قدامة التفضيل بالفاء وزعم قوم أنه بالعين كأنهم يجعلونه اعوجاجاً من قولهم: ناب أعصل، وجعله آخرون بالعين وضاد معجمة، كأن عندهم من: تعضل الولد، إذا عسر خروجه واعترض في الرحم، وظاهر البيت الذي أنشده قدامة يدل على أنه التفصيل بالفاء وهو قول دريد بن الصمة: وبلغ نميراً إن عرضت ابن عامر ... وأي أخ في النائبات وطالب ويجري هذا المجرى قول أبي الطيب، بل هو اقبح منه: حملت إليه من لساني حديقة ... سقاها الحيا سقي الرياض السحائب لأن التفرقة بين النعت والمنعوت أسهل من التفرقة بين المضاف والمضاف إليه، وهما بمنزلة اسم واحد، فإذا شئت أن تجعل بيت ابن الخطيم " حين صورها الخالق " من هذا النوع جاز لك؛ فيكون التقدير قضى لها الله الخالق حين صورها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 باب الاستدعاء وهو ألا يكون للقافية فائدة إلا كونها قافية فقط، فتخلو حينئذ من المعنى كقول عدي القرشي، أنشده قدامة: ووقيت الحتوف من وارث وا ... لٍ، وأبقاك صالحاً رب هود فإنه لم يأت لهود النبي عليه السلام ههنا معنى إلا كونه قافية. وما أعجب السيد الحميري في قوله: أقسم بالفجر وبالعشر ... والشفع والوتر ورب لقمان في منزل محكم ناطق ... بنور آيات وبرهان فالفجر فجر الصبح والعشر عش ... ر النحر والشفع نجيان محمد وابن أبي طالب ... والوتر رب العزة الباني باني سموات بناها بلا ... تقدير إنس ولا جان فانظر إلى قوله " رب لقمان " ما اكثر قلقه وأشد ركاكته!!! وأما قوله " الباني " فقد خرج فيه من حد اللين والبرد، وتجاوز فيه الغاية في ثقل الروح، والله حسبه. ومن أناشيد قدامة قول علي بن محمد صاحب البصرة: وسابغة الأذيال زغف مفاضة ... تكنفها مني نجاد مخطط فلا أدري معنى هذا الشاعر في تخطيط النجاد، وهذا أقل ما في تكلف القوافي الشاردة إذا ركبها غير فارسها، وراضها غير سائسها. باب التكرار وللتكرار مواضع يحسن فيها، ومواضع يقبح فيها، فأكثر ما يقع التكرار في الألفاظ دون المعانى، وهو في المعاني دون الألفاظ أقل، فإذا تكرر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 اللفظ والمعنى جميعاً فذلك الخذلان بعينه، ولا يجب للشاعر أن يكرر اسماً إلا على جهة التشوق والاستعذاب، إذا كان في تغزل أو نسيب.. كقول امرئ القيس، ولم يتخلص أحد تخلصه فيما ذكر عبد الكريم وغيره، ولا سلم سلامته في هذا الباب: ديار لسلمى عافيات بذي الخال ... ألح عليها كل أسحم هطال وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا ... بوادي الخزامي أو على رأس أو عال وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا ... من الوحش أو بيضاً بميثاء محلال ليالي سلمى إذ تريك منضداً ... وجيداً كجيد الريم ليس بمعطال وكقول قيس بن ذريح: ألا ليت لبنى لم تكن لي خلة ... ولم تلقني لبنى ولم أدر ما هيا أو على سبيل التنويه به، والإشارة إليه بذكر، إن كان في مدح كقول أبي الأسد: ولائمة لامتك يا فيض في الندى ... فقلت لها: هل يقدح اللوم في البحر؟ أرادت لتثني الفيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر؟! كأن وفود الفيض يوم تحملوا ... إلى الفيض لاقوا عنده ليلة القدر مواقع جود الفيض في كل بلدة ... مواقع ماء المزن في البلد القفر فتكر يراسم الممدوح ههنا تنويه به، وإشارة بذكره، وتفخيم له في القلوب والأسماع. وكذلك قول الخنساء: وإن صخراً لمولانا وسيدنا ... وإن صخراً إذا نشتو لنحار وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 أو على سبيل التقرير والتوبيخ. كقول بعضهم: إلى كم وكم أشياء منكم تريبني ... أغمض عنها لست عنها بذي عمي فأما قول محمد بن مناذر الصبيري في معنى التكثير: كم وكم كم كم وكم كم كم وكم ... قال لي: أنجز حر ما وعد فقد زاد على الواجب، وتجاوز الحد. ولما أنشدوا للصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد قول أبي الطيب: عظمت فلما لم تكلم مهابة ... تواضعت، وهو العظم عظماً عن العظم قال: ما أكثر عظام هذا البيت مع أنه من قول الطائي: تعظمت عن ذاك التعظيم فيهم ... وأوصاك عظم القدر أن تتنبلا ومن المعجز في هذا النوع قول الله تعالى في سورة الرحمن: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " كلما عدد منة أو ذكر بنعمة كرر هذا. وقد كرر أبو كبير الهذلي قوله: فإذا وذلك ليس إلا ذكره ... وإذا مضى شيء كأن لم يفعل على بعض الروايات في سبعة مواضع من قصيدته التي أولها: أزهير هل عن شيبة من معدل ... أم لا سبيل إلى الشباب الأول؟؟ كلما وصف فصلاً وأتمه كرر هذا البيت. أو على سبيل التعظيم للمحكي عنه، وأنشد سيبويه: لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا أو على جهة الوعيد والتهديد إن كان عتاب موجع، كقول الأعشى ليزيد بن مسهر الشيباني: أبا ثابت لا تعلقنك رماحنا ... أبا ثابت أقصر وعرضك سالم وذرنا وقوماً إن هم عمدوا لنا ... أبا ثابت واقعد فإنك طاعم!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 أو على وجه التوجع إن كان رثاء وتأبيناً، نحو قول متمم بن نويرة: وقالوا: أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك؟؟ فقلت لهم: إن الأسى يبعث الأسى ... دعوني فهذا كله قبر مالك وأولى ما تكرر فيه الكلام باب الرثاء؛ لمكان الفجيعة وشدة القرحة التي يجدها المتفجع، وهو كثير حيث التمس من الشعر وجد. أو على سبيل الاستغاثة وهي في باب المديح، نحو قول العديل بن الفرخ: بني مسمع لولا الإله وأنتم ... بني مسمع لم ينكر الناس منكرا ويقع التكرار في الهجاء على سبيل الشهرة، وشدة التوضيع بالمهجو، كقول ذي الرمة يهجو المرئي: تسمى امرأ القيس بن سعد إذا اعتزت ... وتأبى السبال الصهب والأنف الحمر ولكنا أصل امرئ القيس معشر ... يحل لهم لحم الخنازير والخمر نصاب امرئ القيس العبيد وأرضهم ... ممر المساحي لا فلاة ولا مصر تخطى إلى الفقر امرؤ القيس؛ إنه ... سواء على الضيف امرؤ القيس والفقر تحب امرؤ القيس القرى أن تناله ... وتأبى مقاريها إذا طلع الفجر هل الناس إلا يا امرأ القيس غادر ... ووافٍ وما فيكم وفاء ولا غدر؟ وكذلك صنع جرير في قصيدته الدماغة التي هجا بها راعي الإبل؛ فإنه كرر " بني نمير " في كثير من أبياتها. ويقع أيضاً على سبيل الازدراء والتهكم والتنقيص، كقول حماد عجرد لابن نوح، وكان يتعرب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 يا بن نوح يا أخا ال ... حلس ويا ابن القتب ومن نشا والده ... بين الربا والكثب يا عربي يا عربي ... يا عربي يا عربي ومن المعيب في التكرار قول ابن الزيات: أتعزف أم تقيم على التصابي؟ ... فقد كثرت مناقلة العتاب إذا ذكر السلو عن التصابي ... نفرت من اسمه نفر الصعاب وكيف يلام مثلك في التصابي ... وأنت فتى المجانة والشباب؟!! سأعزف إن عزفت عن التصابي ... إذا ما لاح شيب بالغراب ألم ترني عدلت عن التصابي ... فأغرتني الملامة بالتصابي؟!! فملأ الدنيا بالتصابي، على التصابي لعنة الله من أجله، فقد برد به الشعر، ولا سيما وقد جاء به كله على معنى واحد من الوزن، لم يعد به عروض البيت، وأين هذا من تكريره على جهة التفخيم في قوله للحسن بن سهل من قصيدة: إلى الأمير الحسن استجدتها ... أي مزار ومناخ ومحل أي مزار ومناخ ومحل ... لخائف ومستريش ذي أمل وهذا كقول امرئ القيس: تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا عشية جاوزنا حماة وشيزرا ... أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا ومن تكرير المعاني قول امرئ القيس، وما رأيت أحداً نبه عليه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل فالبيت الأول يغني عن الثاني، والثاني يغني عن الأول، ومعناهما واحد؛ لأن النجوم تشتمل على الثريا، كما أن بذبل يشتمل على صم الجندل، وقوله " شدت بكل مغار الفتل " ومثل قوله " علقت بأمراس كتان " ويقرب من ذلك وليس به قول كثير: وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت مما بيننا وتخلت لكالمرتجى ظل الغمامة كلما ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت كأني وإياها سحابة ممحل ... رجاها فلما جاوزته استهلت إلا أن كثيراً تصرف، فجعل رجاء الأول ظل الغمامة ليقيل تحتها من حرارة الشمس فاضمحلت وتركته ضاحياً، وجعل الممحل في البيت الثاني يرجو سحابة ذات ماء فأمطرت بعد ما جاوزته. ومن مليح هذا االباب ما أنشدنيه شيخنا أبو عبد الله محمد بن جعفر لابن المعتز، وهو قوله: لساني لسري كتوم كتوم ... ودمعي بحبي نموم نموم ولي مالك شفني حبه ... بديع الجمال وسيم وسيم له مقلتا شادنٍ أحورٍ ... ولفظ سحور رخيم رخيم فدمعي عليه سجوج سجوم ... وجسمي عليه سقيم سقيم باب منه ذكر ابن المعتز أن الجاحظ سمى هذا النوع المذهب الكلامي. قال ابن المعتز: وهذا باب ما علمت أني وجدت منه في القرآن شيئاً، وهو ينسب إلى التكلف، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 قال صاحب الكتاب: غير أن ابن المعتز قد ختم بهذا الباب أبواب البديع الخمسة التي خصها بهذه التسمية، وقدمها على غيرها، وأنشد الفرزدق: لكل امرئ نفسان: نفس كريمة ... وأخرى يعاصيها الفتى ويطيعها ونفسك من نفسيك تشفع للندى ... إذا قل من أحرارهن شفيعها وأنشد لآخر، ولا أظنه إلا إبراهيم بن العباس: وعلمتني كيف الهوى وجهلته ... وعلمكم صبري على ظلمكم ظلمي فاعلم مالي عندكم فيميل بي ... هواي إلى جهلي وأعرض عن علمي وعاب على أبي تمام قوله: فالمجد لا يرضى بأن ترضى بأن ... يرضى المؤمل منك إلا بالرضا وحكى أن إسحاق الموصلي سمع الطائي ينشد ويكثر من هذا الباب وأمثاله عند الحسن بن وهب، فقال: يا هذا، لقد شددت على نفسك. وأنشد ابن المعتز لنفسه: أسرفت في الكتمان ... وذاك مني دهاني كتمت حبك حتى ... كتمته كتماني فلم يكن لي بد ... من ذكره بلساني وهذه الملاحة نفسها، والظرف بعينه. ومن هذا الباب نوع آخر هو أولى بهذه التسمية من كثير مما ذكره المؤلفون، نحو قول إبراهيم بن المهدي يعتذر إلى المأمون من وثوبه على الخلافة: البر منك وطاء العذر عندك لي ... فيما فعلت، فلم تعذل ولم تلم وقام علمك بي فاحتج عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متهم وكذلك قول أبي عبد الرحمن العطوي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 فو حق البيان يعضده البر ... هان في مأقط ألد الخصام ما رأينا سوى الحبيبة شيئاً ... جمع الحسن كله في نظام هي تجري مجرى الإصابة في الرأ ... ي ومجرى الأرواح في الأجسام وقد نقلت هذا الباب نقلاً من كتاب عبد الله بن المعتز، إلا ما لا خفاء به عن أحد من أهل التمييز، واضطرني إلى ذلك قلة الشواهد فيه، إلا ما ناسب قول أبي نواس: سخنت من شدة البرودة حتى ... صرت عندي كأنك النار لا يعجب السامعون من صفتي ... كذلك الثلج بارد حار فهذا مذهب كلامي فلسفي.. وقوله أيضاً: فيك خلاف لخلاف الذي ... فيه خلاف لخلاف الجميل وأشباه ذلك مما في هذا غنى عنه ودلالة عليه. باب نفي الشيء بإيجابه وهذا الباب من المبالغة، وليس بها مختصاً، إلا أنه من محاسن الكلام، فإذا تأملته وجدت باطنه نفياً، وظاهره إيجاباً.. قال امرؤ القيس: على لاحب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا فقوله " لا يهتدى بمناره " لم يرد أن له مناراً لا يهتدى به، ولكن أراد أنه لا منار له فيهتدى بذلك المنار. وكذلك قول زهير: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 بأرض خلاء لا يسد وصيدها ... علي، ومعروفي بها غير منكر فأثبت لها في اللفظ وصيداً، وإنما أراد ليس لها وصيد فيسد علي. ويتصل بهذا قول الزبير بن عبد المطلب يذكر عميلة بن السباق بن عبد الدار، وكان نديماً له وصاحباً: صبحت بهم طلقاً يراح إلى الندى ... إذا ما انتشى لم تحتضره مفاقره ضعيفاً بحث الكأس قبض بنانه ... كليلاً على وجه النديم أظافره فظاهر كلامه أنه يخمش وجه النديم، إلا أن أظافره كليلة، وإنما أراد في الحقيقة أنه لا يظفر وجه النديم ولا يفعل شيئاً من ذلك، وكذلك قوله " لم تحتضره مفاقره " أي: ليس له مفاقر فتحتضره. وقال أبو كبير الهذلي يصف هضبة: وعلوت مرتقباً على مرهوبة ... حصاء ليس رقيبها في مثمل عيطاء معنقة يكون أنيسها ... ورق الحمام جميعها لم يؤكل يريد أنه ليس بها جميم فيؤكل، يدل على ذلك قوله في البيت الأول " حصاء " وهي التي لا نبت فيها. وقال أبو ذؤيب يصف فرساً: متفلق أنساؤها عن قانئ ... كالقرط صار وغبره لا يرضع فلم يرد أن هناك بقية لبن لا يرضع، لكن أراد أنها لا لبن لها فيرضع. والشاهد على جميع ما قلته في شرح هذه الأشياء ما جاء في تفسير قول الله عز وجل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 " لا يسألون الناس إلحافاً " قالوا: ليس يقع منهم سؤال فيقع إلحافاً: أي هم لا يسألون البتة. والمعيب من هذا الباب قول كثير يرثي عزة صاحبته: فهلا وقاك الموت من أنت زينه ... ومن هو أسوأ منك دلاً وأقبح؟ لأنه قد أوهم السامع أن لها دلاً سيئاً، ولكن غيره أسوأ منه وأقبح، فكيف إن كان القبح راجعاً عليها لا على دلها، وليس هذا في شيء من قوله تعالى: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلا " لأن هذا إشكال فيه. باب الاطراد ومن حسن الصنعة أن تطرد الأسماء من غير كلفة، ولا حشو فارغ؛ فإنها إذا أطردت دلت على قوة طبع الشاعر، وقلة كلفته ومبالاته بالشعر. وذلك نحو قول الأعشى: أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت امرؤ ترجو شبابك وائل فأتى كالماء الجاري اطراداً وقلة كلفة، وبين النسب حتى أخرجه عن مواضع اللبس والشبهة.. ولما سمع عبد الملك بن مروان قول دريد بن الصمة: قتلنا بعبد الله خير لداته ... ذؤابة بن أسماء بن زيد بن قارب قال كالمتعجب: لولا القافية لبلغ به آدم، ورواه قوم " أبأت بعبد الله ". وقال أبو تمام: عبد المليك بن صالح بن عل ... ي بن قسيم النبي في نسبه فهذا سهل العنان، خفيف على اللسان، وإن كانت الياء في " المليك " ضرورة وتكلفاً. وقال الحارث بن دوس الإيادي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وشباب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد فأطردت ثلاثة أسماء لا كلفة فيها. وقال أبو تمام في قالب بيت الأعشى، وإن نقص عنه اسماً واحداً: بنصر بن منصور بن بسام انفرى ... لما شظف الأيام عن عيشة رغد فأما من أتى بأكثر من هذا ومن الأول فقد قال بعضهم: من يكن رام حاجة بعدت عن ... هـ وأعيت عليه كل العياء فلها أحمد المرجى بن يحيى ب ... ن معاذ بن مسلم بن رجاء فجاء كلامه نسقاً واحداً، إلا أنه قد شغل البيت وفصل بين الكلام بقوله " المرجى " غير أن مجانسة رجاء هونت خطيئته وغفرت ذنبه. وقال الطائي: عمرو بن كلثوم بن مالك بن عت ... اب بن سهم سهمكم لا يسهم فخاطب بذلك بني عمرو بن غنم التغلبيين، وهم بنو عم مالك بن طوق، فانتظم له ما أراد من الأسماء، إلا أنه ظاهر التكلف، وقال فأتى بستة: مناسب تحسب من ضوئها ... منازل للقمر الطالع كالدلو والحوت وأشراطه ... والبطن والنجم إلى البالع نوح بن عمرو بن حوى بن عم ... رو بن حوى بن الفتى مانع فأحكم التصنيع وقابل ستة بستة؛ لأن الأشراط منزلة، وإن جمعها، إلا أن " الفتى " ههنا غضة مع برد لفظ وركاكة، ما أحسن أبا هؤلاء كلهم يقال له الفتى وإن كنا نعلم أنه لم يرد فتاء السن، ولكن الفتوة. وجاء أبو الطيب فجاءك بالتعسف في قوله لسيف الدولة: فأنت أبو الهيجا ابن حمدان يا ابنه ... تشابه مولود كريم ووالد وحمدان حمدون وحمدون حارث ... وحارث لقمان ولقمان راشد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 ففي هذا المعنى من التقصير أنه جاء به في صفين وأنه جعله أنياب الخلافة بقوله: أولئك أنياب الخلافة كلها ... وسائر أملاك البلاد الزوائد وهم سبعة بالممدوح، والأنياب في المتعارف أربعة، إلا أن تكون الخلافة تمساح نيل أو كلب بحر؛ فإن أنياب كل واحد منهما ثمانية، اللهم إلا أن يريد أن كل واحد منهم ناب الخلافة في زمانه خاصة؛ فإنه يصح، وفيه من الزيادة على ما قبله أنه زاد واحداً في العدد، فإنه جعل كل ابن هو أبوه في الخلافة إلى أن بلغ راشداً، ولم يقصد إلى ذلك أحد من أصحابه، وإنما مقت شعره هذا تكريره كل اسم مرتين في بيت واحد، وهي أربعة أسماء. باب التضمين والإجازة وهذا باب يختلط على كثير من الشعراء ممن ليس له ثقوب في العلم ولا حذق بالصناعة، كجماعة ممن وسم في بلدنا بالمعرفة، وينسب إليها مكذوباً عليه فيها، كاذباً فيما ادعاه منها، ولتعرفنهم في لحن القول. فأما التضمين فهو قصدك إلى البيت من الشعر أو القسيم فتأتي به في أواخر شعرك أو في وسطه كالمتمثل، نحو قول محمود بن الحسين كشاجم الكاتب: يا خاضب الشيب والأيام تظهره ... هذا شباب لعمر الله مصنوع أذكرتني قول ذي لب وتجربة ... في مثله لك تأديب وتقريع إن الجديد إذا ما زيد في خلق ... تبين الناس أن الثوب مرقوع فهذا جيد في بابه، وأجود منه أن لو يكن بين البيت الأول والآخر واسطة؛ لأن الشاعر قد دل بذلك على أنه متهم بالسرق، أو على أن هذا البيت غير مشهور، وليس كذلك، بل هو كالشمس اشتهاراً، ولو أسقط البيت الأوسط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 لكان تضميناً عجيباً، لأن ذكر الثوب قد أخرج الثاني من باب الأول إلا في المعنى، وهذا عند الحذاق أفضل التضمين، فإنما احتذى كشاجم قول ابن المعتز في أبيات له: لا ذنب لي إن ساء ظنك بعدما ... وفيت لكم، ربي بذلك عالم وها أنا ذا مستعتب متنصل ... كما قال عباس وأنفي راغم تحمل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلوماً فقل: أنا ظالم وأبيات العباس بن الأحنف التي منها البيت المضمن هي قوله: وصب أصاب الحب سوداء قلبه ... فأنحله، والحب داء ملازم فقلت له إذ مات وجداً بحبه ... مقالة نصح جانبتها المآثم: تحمل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلوماً فقل: أنا ظالم فإنك إن لم تحمل الذنب في الهوى ... يفارقك من تهوى وأنفك راغم غير أن شيخنا أبا عبد الله روى هذه الأبيات أيضاً لابن المعتز. فهذا النوع من التضمين جيد، وهو الذي أردنا من قبل؛ وأجود منه أن يصرف الشاعر المضمن وجه البيت المضمن عن معنى قائله إلى معناه، نحو قول بعض المحدثين، ونسبه قوم إلى ابن الرومي: يا سائلي عن خالد، عهدي به ... رطب العجان وكفه كالجلمد كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي هكذا أعرفه، وروى " عن جعفر " فصرف الشاعر قول النابغة في صفة الثغر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 تجلوا بقادمتي حمامة أيكةٍ ... برداً أسف لثاته بالإثمد كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي إلى معناه الذي أراد. ومن هذا المعنى أيضاً قول ابن الرومي بلا محالة: وسائلة عن الحسن بن وهبٍ ... وعما فيه من كرم وخير فقلت: هو المهذب غير أني ... أراه كثير إرخاء الستور وأكثر ما يغنيه فتاه ... حسين حين يخلو بالسرير فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور فالبيت الأخير لمهلهل، فجاء قرع البيض بالذكور ههنا عجيباً، وإن كانت اللفظتان في المعنى غير اللفظتين. ومن الشعراء من يضمن قسيماً نحو قول بعضهم، أظنه الصولي: خلقت على باب الأمير كأنني ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل إذا جئت أشكو طول ضيق وفاقة ... يقولون: لا تهلك أسى وتحمل ففاضت دموع العين من سوء درهم ... على النحر حتى بل دمعي محملي لقد طال تردادي وقصدي إليكم ... فهل عند رسم دارس من معول ومنهم من يقلب البيت فيضمنه معكوساً، نحو قول العباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان لمسلمة بن عبد الملك: لقد أنكرتني إنكار خوف ... يضم حشاك عن شتمي وذحلي كقول المرء عمرو في القوافي ... لقيسٍ حين خالف كل عذل عذيرك من خليلك من مراد ... أريد حياته ويريد قتلي والبيت المضمن لعمرو بن معدي كرب الزبيدي، يقوله لابن أخته قيس بن زهير بن هبيرة بن مكشوح المرادي، وكان بينهما بعد شديد وعداوة عظيمة، وحقيقته في شعر عمرو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا رأى ابن ملجم تمثل بهذا البيت. ومن التضمين ما يجمع فيه الشاعر قسمين من وزنين كقول علي بن الجهم يعرض بفضل الشاعرة جارية المتوكل وبنان المغني وكانا يتعاشقان فإذا غنى بنان: اسمعي أو خبرينا ... يا ديار الظاعنينا غنت هي كالمجاوبة له عما يقول: ألا حييت عنا ما مدينا ... وهل بأس بقول مسلمينا فقال علي منبهاً عليهما في ذلك: كلما غنى بنان ... اسمعي أو خبرينا أنشدت فضل ألا حي ... يت عنا يا مدينا عارضت معنى بمعنى ... والندامى غافلونا أحسنت إذ لم تجاوب ... هم ديار الظاعنينا لو أجابتهم لصرنا ... آية للسائلينا واستعاد الصوت مولا ... ها وحث الشاربينا قلت للمولى وقد دا ... رت حميا الكأس فينا رب صوت حسن ين ... بت في الرأس قرونا وأنشد ابن المعتز في باب التضمين للأخطل: ولقد سما للخرمي فلم يقل ... يوم الوغى لكن تضايق مقدمي إشارة إلى قول عنترة العبسي: إذ يتقون بي الأسنة لم أخم ... عنها ولكني تضايق مقدمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 وهذا تضمين أنت ترى كيف هو، وأنشد لآخر: عوذ لما بت ضيفاً له ... أقراصه مني بياسين فبت والأرض فراشي وقد ... غنت قفا نبك مصاريني ومن التضمين ما يحيل الشاعر فيه إحالة، ويشير به إشارة، فيأتي به كأنه نظم الأخبار أو شبيه به، وذلك نحو قول بعضهم في معنى قول ابن المعتز كما قال عباس وأنفي راغم إنه لم يرد الأبيات المقدم ذكرها، وإنما أراد قوله للرشيد حين هجرته ماردة: لا بد للعاشق من وقفةٍ ... تكون بين الوصل والصرم حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغم فهذا النوع أبعد التضمينات كلها، وأقلها وجوداً، وذلك نحو قول أبي تمام: لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظي ... أرق وأحمى منك في ساعة الكرب أراد البيت المضروب به المثل: المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار وقد صنعت أنا معنى الهجاء: عرسه من غير ضيرٍ ... عرس زيد بن عمير أبداً تزني فإن حاض ... ت تقد حباً لأير ولها رجلان من نا ... قة كعب بن زهير هكذا تبنى المعالي ... ليس إلا كل خير " زيد بن عمير " هو الذي يقول في زوجته: تقود إذا حاضت، وإن طهرت زنت ... فهي أبداً يزنى بها وتقود و" كعب بن زهير " يقول في وصف ناقته: تهوى على يسرات وهي لاهية ... ذوابل وقعهن الأرض تحليل فكانت هذه المرأة في حاليها لا تقع رجلاها بالأرض: إما لكثرة مباضعة أو شدة مشي في فساد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 ومن أنواع التضمين تعليق القافية بأول البيت الذي بعدها، وقد تقدم ذكره. وأما الإجازة فإنها بناء الشاعر بيتاً أو قسيماً يزيده على ما قبله، وربما أجاز بيتاً أو قسيماً بأبيات كثيرة، فأما ما أجيز فيه قسيم بقسيم فقول بعضهم لأبي العتاهية: أجز برد الماء وطابا فقال: حبذا الماء شرابا وأما ما أجيز فيه بيت ببيت فقول حسان بن ثابت وقد أرق ذات ليلة فقال: متاريك أذناب الأمور إذا اعترت ... أخذنا الفروع واجتنبنا أصولها وأجبل، فقالت ابنته: يا أبت، لا أجيز عنك، فقال: أوعندك ذاك؟ قالت: بلى، قال: فافعلي، فقالت: مقاويل للمعروف خرس عن الخنا ... كرام يعاطون العشيرة سولها قال: فحمي الشيخ عند ذاك، فقال: وقافية مثل السنان ردفتها ... تناولت من جو السماء نزولها فقالت ابنته: يراها الذي لا ينطق الشعر عنده ... ويعجز عن أمثالها أن يقولها وذكر أن العباس بن الأحنف دخل على الذلفاء فقال: أجيزي عني هذا البيت: أهدى له أحبابه أترجة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر فقالت غير مفكرة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 خاف التلون إذ أتته لأنها ... لونان باطنها خلاف الظاهر فحلف لها بكل الأيمان، وكانت تعزه، لئن ظهر البيت إن دخلت منزلكم أبداً، وأضافه إلى بيته. وأما ما أجيز فيه قسيم بيت ببيت ونصف فقول الرشيد للشعراء: أجيزوا: الملك لله وحده فقال الجماز: وللخليفة بعده وللمحب إذا ما ... حبيبه بات عنده واستجاز سيف الدولة أبا الطيب قول عباس بن الأحنف: أمني تخاف انتشار الحديث ... وحظي في ستره أوفر؟ فصنع القصيدة المشهورة: هواك هواي الذي أضمر ... وسرك سري فما أظهر إلا أنه خرج فيها عن المقصد. والإجازة في هذا الموضع مشتقة المعنى من الإجازة في السقي، يقال: أجاز فلان فلاناً، إذا سقى له أو سقاه، الشك مني، وأما اللفظة فصحيحة فصيحة. وقال ابن السكيت: يقال للذي يرد على أهل الماء فيستقى: مستجيز: قال القطامي: وقالوا فقيم الماء فاستجز ... عبادة؛ إن المستجيز على قتر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 ويجوز أن يكون من " أجزت عن فلان الكأس " إذا تركته وسقيت غيره، فجازت عنه دون أن يشربها، فقال أبو نواس: وقلت لساقينا أجزنا فلم أكن ... ليأبى أمير المؤمنين وأشربا فجوزها عني عقاراً ترى لها ... إلى الشرف الأعلى شعاعاً مطنبا وقد تقدم ذكره الإجازة التي فيها عيوب القوافي، وذكرت اشتقاقها. ومن هذا الباب نوع يسمى التمليط، وهو أن يتساجل الشاعران فيصنع هذا قسيماً وهذا قسيماً لينظر أيهما ينقطع قبل صاحبه، وفي الحكاية أن امرأ القيس قال للتوأم اليشكري: إن كنت شاعراً كما تقول فملط أنصاف ما أقول فأجزها، قال: نعم، قال امرؤ القيس: أحار ترى بريقاً هب وهناً فقال التوأم: كنار مجوس تستعر استعارا ف قال امرؤ القيس: أرقت له ونام أبو شريح فقال التوأم: إذا ما قلت قد هدأ استطارا ولا يزالان هكذا، يصنع هذا قسيماً وهذا قسيماً إلى آخر الأبيات. وقد تقدم إنشادها في باب أدب الشاعر من هذا الكتاب. وربما ملط الأبيات شعراء جماعة، كما يحكى أن أبا نواس والعباس بن الأحنف والحسين بن الضحاك الخليع ومسلم بن الوليد الصريع خرجوا في متنزه لهم ومعهم يحيى بن المعلى، فقام يصلي بهم، فنسي الحمد وقرأ " قل هو الله أحد " فأرتج عليه في نصفها، فقال أبو نواس: أجيزوا: أكثر يحيى غلطاً ... في قل هو الله أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 فقال عباس: قام طويلاً ساهياً ... حتى إذا أعيا سجد فقال مسلم بن الوليد: يزحر في محرابه ... زحير حبلى بولد فقال الخليع: كأنما لسانه ... شد بحبل من مسد وأنشدني بعض أصحابنا هذه الأبيات على طريق الاستملاح لها والاستظراف بها، وقال: هذا الذي يعجز الناس عنه، فقلت: فما بال عباس وأبي نواس لم يقولا بعد البيت الأول: ونسي الحمد فما ... مرت له على خلد ولا سيما وقد كان ذلك حقيقة، وكذلك جرت الحكاية، فقال: ولمن البيت؟ فقلت: لابن وقته. واشتاق التمليط من أحد شيئين: أولهما أن يكون من الملاطين، وهما جانباً السنام في مرد الكتفين، قال جرير: ظللن حوالي خدر أسماء، وانتحى ... بأسماء موار الملاطين أروح فكأن كل قسيم ملاط، أي: جانب من البيت، وهما عند ابن السكيت العضدان. والآخر وهو الأجود أن يكون اشتقاقه من الملاط وهو الطين يدخل في البناء يملط به الحائط ملطاً، أي: يدخل بين اللبن حتى يصير شيئاً واحداً. وأما الملط وهو الذي لا يبالي ما صنع والأملط الذي لا شعر عليه في جسده؛ فليس لاشتقاقه منهما وجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 باب الاتساع وذلك أن يقول الشاعر بيتاً يتسع فيه التأويل؛ فيأتي كل واحد بمعنى، وإنما يقع ذلك لاحتمال اللفظ، وقوته، واتساع المعنى. من ذلك قول امرئ القيس: مكر مفر مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل فإنما أراد أنه يصلح للكر والفر، ويحسن مقبلاً مدبراً، ثم قال " معاً " أي: جميع ذلك فيه، وشبهه في سرعته وشدة جريه بجلمود صخر حطه السيل من أعلى الجبل؛ فإذا انحط من عال كان شديد السرعة، فكيف إذا أعانته قوة السيل من ورائه؟؟ وذهب قوم منهم عبد الكريم إلى أن معنى قوله كجلمود صخر حطه السيل من عل إنما هو الصلابة؛ لأن الصخر عندهم كلما كان أظهر للشمس والريح كان أصلب. وقال بعض من فسره من المحدثين: إنما أراد الإفراط، فزعم أنه يرى مقبلاً ومدبراً في حال واحدة عند الكر والفر لشدة سرعته، واعترض على نفسه، واحتج بما يوجد عياناً؛ فمثله باللجلمود المنحدر من قنة الجبل، فإنك ترى ظهره في النصبة على الحال التي ترى فيها بطنه وهو مقبل إليك، ولعل هذا ما مر قط ببال امرئ القيس، ولا خطر في وهمه، ولا وقع في خلده، ولا روعه. ومثله قول أبي نواس: ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر فزعم من فسره أنه إنما قال " وقل لي هي الخمر " ليلتذ السمع بذكرها كما التذت العين برؤيتها، والأنف بشمها، واليد بلمسها، والفم بذوقها، وأبو نواس ما أظنه ذهب هذا المذهب، ولا سلك هذا الشعب، ولا أراه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 أراد إلا الخلاعة والعبث الذي بنى عليه القصيدة، ودليل ذلك أنه قال في تمام البيت: ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر ويروى " فقد أمكن الجهر " فذهب إلى المجاهرة، وقلة المبالاة بالناس، والمداراة لهم في شرب الخمر بعينها التي لا اختلاف بين المسلمين فيها. وقد ثبت أن المأمون ذم أخاه الأمين على المنابر، وذكر في مذامه أنه صحب شاعراً من أمره ومن قصته أنه يجاهر بالمعاصي، ويقول في قصيدة أولها كذا وأنشد البيت: فبتنا يرانا الله شر عصابة ... نجر بأذيال الفسوق ولا فخر ومثل ذلك قول المفضل الضبي بين يدي الرشيد والكسائي حاضر في معنى قول الفرزدق: أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع وقد سأل الأمين والمأمون: ما معناه؟ فقالا: معناه في قوله " قمراها " تغليب المستعمل عندهم؛ لأن القمر أكثر استعمالاً عند العرب من الشمس، وكذلك قولهم " العمران " لما كان عمر أطول أياماً وأكثر تأثيراً، فقال الرشيد: هكذا أخبرنا هذا الشيخ، وأشار إلى الكسائي، فقال المفضل: بل مراده بالقمرين جداك إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما، وبالنجوم الطوالع أنت وآباؤك الطيبون، فأعجب الرشيد بذلك ووصله، والفرزدق ما قصد إلى شيء من ذلك ولا أراده، ولا علم أن الرشيد بعده يكون أمير المؤمنين، وإنما أراد أن كل مشهور فاضل فهو لنا عليكم، ومنا لا منكم، فنحن أشرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 بيتاً، وأظهر فضلاً، وأبعد صوتاً، إلا أن التي جاء بها المفضل ملحة أفادت مالا. ويتعلق بهذا قول أبي الطيب يذكر الروم: وقد بردت فوق اللقان دمائهم ... ونحن أناس نتبع البارد السخنا أراد أنا نتبع البارد من الدماء سخنا، كأنه يتوعدهم بقتل آخر، فيكون قد أخذه من قول سويد بن كراع وهي أمه يصف كلاباً وثوراً: فهز عليه الموت والموت دونه ... على روقه منه مذاب وجامد وقال الأصمعي: يعني بالمذاب الحار، وبالجامد والبارد، ويجوز أن يكون أبو الطيب أراد: ونحن أناس نتبع البارد من الطعام سخنا، وكذلك أيضاً عادتنا في الدماء؛ فيكون قد فرع. وزعم قوم في قوله يشفع لبني كلاب إلى سيف الدولة: وتملك انفس الثقلين طراً ... فكيف تحوز أنفسها كلاب أنه لم يرد القبيلة، وإنما أراد أن يجعلهم كلاباً على باب التحقير لقدرهم، والتلطف لهم، كما جعلهم في البيت الأول ذئاباً سراقاً، ولا أظن ذلك، بل لا أحققه؛ لأن في القصيدة: ولو غير الأمير غزا كلاباً ... ثناه عن شموسهم ضباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 ولاقي دون ثأيهم طعاناً ... يلاقي عندها الذئب الغراب إلا أن يحملوا على الشاعر التناقض، وينسبوه إلى قلة التحصيل؛ فذلك إليهم، على أن هذه القصيدة قليلة النظير في شعره: تناسباً، وطبعاً، وصنعة، ومثلها الرائية في وزنها وذكر القصة بعينها. باب الاشتراك وهو أنواع: منها ما يكون في اللفظ، ومنها ما يكون في المعنى؛ فالذي يكون في اللفظ ثلاثة أشياء: فأحدها: أن يكون اللفظان راجعين إلى حد واحد ومأخوذين من حد واحد، فذلك اشتراك محمود، وهو التجنيس، وقد تقدم القول فيه، والنوع الثاني: أن يكون اللفظ يحتمل تأويلين أحدهما يلائم المعنى الذي أنت فيه والآخر لا يلائمه ولا دليل فيه على المراد، كقول الفرزدق: وما مثله في الناس إلا مملكاً ... أبو أمه حي أبوه يقاربه فقوله " حي " يحتمل القبيلة، ويحتمل الواحد الحي، وهذا الاشتراك مذموم قبيح، والمليح الذي يحفظ لكثير في قوله يشبب: لعمري لقد حببت كل قصيرة ... إلي، وما تدري بذاك القصائر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا؛ شر النساء البحاتر فأنت ترى فطنته لما أحس باشتراك كيف نفاه، وأعرب عن معناه الذي نحا إليه. ومن نوع قول الفرزدق قول كشاجم يذكر الميدان: عمرته بفتية صباح ... سمح، بأعراضهم شحاح فنحن نعلم أنه أراد سمح شحاج بأعراضهم، ولكن فيه من اللبس ما هو أولى من التأويل. والنوع الثالث ليس من هذا في شيء، وهو سائر الألفاظ المبتذلة للتكلم بها، لا يسمى تناولها سرقة، ولا تداولها اتباعاً؛ لأنها مشتركة لا أحد من الناس أولى بها من الآخر، فهي مباحة غير محظورة، إلا أن تدخلها استعارة، أو تصحبها قرينة تحدث فيها معنى، أو تفيد فائدة، فهناك يتميز الناس، ويسقط اسم الاشتراك الذي يقوم به العذر، ولو غيرت اللفظة وأتى بما يقوم مقامها كقول ابن أحمر: بمقلص درك الطريدة، متنه ... كصفا الخليقة بالفضاء الملبد فقوله " درك الطريدة " وقول الأسود بن يعفر: بمقلص عتد جهير شده ... قيد الأوابد والرهان جواد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 جميعاً كقول امرئ القيس: بمنجرد قيد الأوابد هيكل وكذلك قول أبي الطيب: أجل الظليم وربقة السرحان فأما ما ناسب قول الأبيرد اليربوعي يرثي أخاه: وقد كنت أستعفي الإله إذا اشتكى ... من الأجر لي فيه، وإن عظم الأجر وقول أبي نواس في صفة الخمر: ترى العين تستعفيك من لمعانها ... وتحسر حتى ما تقل جفونها فهو من المشترك الذي لا يعد سرقة. وقد نص عليه القاضي الجرجاني أنه من المنقول المتداول المبتذل. وأما الاشتراك في المعاني فنوعان: أحدهما: أن يشترك المعنيان وتختلف العبارة عنهما، فيتباعد اللفظان، وذلك هو الجيد المستحسن، نحو قول امرئ القيس: كبكر المقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الماء غير محلل وقول غيلان ذي الرمة: نجلاء في برج صفراء في نعجٍ ... كأنها فضة قد مسها ذهب فوصفا جميعاً لوناً بعينه: فشبهه الأول بلون بيضة النعام، وشبهه الثاني بلون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 الفضة قد خالطها الذهب يسيراً ولذلك قال " قد مسها ذهب " ونحو قول عبدة بن الطبيب يصف ثوراً وحشياً: مجتاب نصع جديد فوق نقبته ... وفي القوائم من خال سراويل وقال الطرماح يصف ظليماً: مجتاب شملة برجد لسراته ... قدراً فأسلم ما سواه البرجد فوصف الأول بياض الثور وسواد قوائمه وتخطيطها فشبه ظهره كأن عليه نصعاً جديداً، وهو الثوب الأبيض، وشبه ما في قوائمه من السواد والتخطيط بسراويل من الخال، وهو ضرب من الوشي. وقال الثاني: إنه مجتاب شملة برجد، يريد ما على الظليم من قرونه، والبرجد: كساء أسود مخمل، وجعل الشملة قدراً لسراته دون رجليه وعنقه؛ فدل على بياضهن. وقال عنترة: صعل يعود بذي العشيرة بيضه ... كالعبد ذي الفرو الطويل الأصلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 فشبهه بعبد طويل عليه فرو أصلم، أي: قصير الذيول، وإنما خص الفرو لأنهم كانوا يلبسونه مقلوباً، وجعله عبداً لبياض ساقيه وعنقه وإشرابهما الحمرة يعني صفات الروم، ولم تكن العبيد في ذلك الوقت إلا بيضاً؛ فهذا اشتراك في وصف الظهر والقوائم واختلاف في اللفظ والعبارة. والنوع الثاني على ضربين: أحدهما: ما يوجد في الطباع من تشبيه الجاهل بالثور والحمار، والحسن بالشمس والقمر، والشجاع بالأسد وما شابهه، والسخي بالغيث والبحر، والعزيمة بالسيف والسيل، ونحو ذلك؛ لأن الناس كلهم الفصيح والأعجم والناطق والأبكم فيه سواء؛ لأنا نجده مركبا في الخليقة أولاً. ولآخر ضرب كان مخترعاً، ثم كثر حتى استوى فيه الناس، وتواطأ عليه الشعراء آخراً عن أول، نحو قولهم في صفة الخد " كالورد " وفي القد " كالغصن " وفي العين " كعين المهاة من الوحش " وفي العنق كعنق الظبي، وكإبريق الفضة أو الذهب فهذا النوع وما ناسبه قد كان مخترعاً، ثم تساوى الناس فيه، إلا أن يولد أحد منهم فيه زيادة، أو يخصه بقرينة؛ فيستوجب بها الانفراد من بينهم، ومثل ذلك تشبيه العزم بهبوب الريح، والذكاء بشواظ النار، وسيرد عليك من قوافي باب السرقات وما ناسبها كثير، إن شاء الله تعالى. باب التغاير وهو أن يتضاد المذهبان في المعنى حتى يتقاوما، ثم يصحا جميعاً، وذلك من افتنان الشعراء وتصرفهم وغوص أفكارهم. من ذلك قول بعض العرب المتقدمين يذكر قوماً بأنهم لا يأخذون إلا القود دون الدية: لا يشربون دمائهم بأكفهم ... إن الدماء الشافيات تكال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وقال آخر وقد أخذ بثأره إلا إنه فيما زعم قتل دون من قتل له، ويروى لامرأة حارثية: فيقتل خير بامرئ لم يكن له ... بواء ولكن لا تكايل بالدم ويروى " في فتى لم يكن له وفاء " فالأول يقول: لا آخذ بالدم لبناً، لكن آخذ دماً بقدره، فكان ذلك مكايلة، والثاني يزعم أن قتيله قليل المثل والنظير، فمتى لم يقتل به إلا نظيره بعد انتقامه، وعسر إدراكه الثأر فقال: إن الدماء ليست مما يكايل به في الحقيقة، وقيل: إنما يعني بذلك أن الإسلام لما جاء أزال المكايلة بالدم؛ فكانوا لا يقتلون بالرئيس إلا رئيساً مثله. ومن هذا الباب قول أبي تمام في التكرم يفضله على الكرم المطبوع: قد بلونا أبا سعيد حديثاً ... وبلونا أبا سعيد قديماً ووردناه سائحاً وقليباً ... ورعيناه بأرضاًً وجميماً فعلمنا أن ليس إلا بشق الن ... فس صار الكريم يدعى كريماً وقال أبو الطيب في خلافه: لو كفر العالمون نعمته ... لما عدت نفسه سجاياها كالشمس لا تبتغي بما صنعت ... تكرمة عندهم ولا جاها وإلى هذا المذهب نحا السيد أبو الحسن في قوله: جبر الكسير إذا يهاض جناحه ... لجأ المطرد مستغاث المملق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 جمع الفضائل والمحامد والعلا ... خلق لعمر أبيك غير تخلق وأصل معنى قول أبي الطيب من قول بشار: ليس يعطيك للرجاء وللخو ... ف ولكن يلذ طعم العطاء وقال البحتري في نحو ذلك: لا يتعب النائل المبذول همته ... وكيف يتعب عين الناظر النظر؟! وكان أبو الطيب لقدرته واتساعه في المعاني كثيراً ما يخالف الشعراء ويغاير مذاهبهم، ألا ترى إلى قول علي بن العباس النوبختي وهو في رواية الجرجاني لابن الرومي يصف القلم ويفضله على السيف، وكتب بذلك إلى علي بن مقلة في قصيدة: إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم فالموت والموت لا شيء يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم وهذا كلام متقن البنية، صحيح المعنى، لا مطعن فيه، فجاء أبو الطيب فخالفه وذهب مذهباً آخر يشهد بصحته العيان، ويصححه البرهان، فقال: حتى رجعت وأقلامي قوائل لي: ... المجد للسيف ليس المجد للقلم اكتب بذا أبداً قبل الكتاب بها ... فإنما نحن للأسياف كالخدم ومن التغاير قول الفرزدق يصف إبله ويفخر: ألم تسمعا يا بني حكيم حنينها ... إلى السيف تستبكي إذا لم تعقر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 فجعلها إذا لم تعقر حنت إلى السيف واستبكت؛ لكثرة عادتها، وهذا غلو مفرط، وكان في مكان آخر يصفها بالجزع إذا رأت الضيف لعلمها أنها تنحر له: ترى النيب من ضيفي إذا ما رأينه ... ضموراً على جراتها ما تجيزها فزعم أنها تخفي حسها حتى إنها لا تجتر خوفاً من النحر، وهذا المعنى مأخوذ من بيتين مدح بهما النبي صلى الله عليه وسلم، وهما: وأبيك حقاً إن إبل محمد ... عزل نوائح أن تهب شمال وإذا رأين لدى الفناء غريبة ... فدموعهن على الخدود سجال يقول: إذا هبت الشمال وهي من رياح الشتاء، وعلامات المحل أيقن أن رسول الله عليه وسلم ينحرهن للضيفان والجيران؛ فهي نوائح لذلك، وقوله وإذا رأين لدى الفناء غريبة أي: يعرفن بذلك أنها ناقة ضيف فتذري كل واحدة دمعها، لا تدري هل هي النحورة، وهذا من مليح الشعر ولطيف المدح، وقل كل مديح لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن مليح التغاير قول أبي الشيص: أجد الملامة في هوام لذيذة ... حباً لذكرك؛ فليلمني اللوم وقول أبي الطيب في عكس هذا: أأحبه وأحب فيه ملامة؟ ... إن الملامة فيه من أعدائه وهذا عند الجرجاني هو النظر والملاحظة، وهو يعده في باب السرقات، قال: وأصله من قول أبي نواس: إذا غاديتني بصبوح عذل ... فممزوجاً بتسمية الحبيب ولأبي العلاء المعري مثله من غير التزام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 لم يبق غير العذل من أسبابهم ... فأحب من يدنو إلي عذول يغدو فر مستخبر عن حالهم ... غيري، ولا مستخبر مسئول باب التصرف ونقد الشعر يجب للشاعر أن يكون متصرفاً في أنواع الشعر: من جد وهزل، وحلو وجزل، وأن لا يكون في النسيب أبرع منه في الرثاء، ولا في المديح أنفذ منه في الهجاء، ولا في الافتخار أبلغ منه في الاعتذار، ولا في واحد مما ذكرت أبعد منه صوتاً في سائرها؛ فإنه متى كان كذلك حكم له بالتقدم، وحاز قصب السبق، كما حازها بشار بن برد، وأبو نواس بعده. حكى الصاحب بن عبادة في صدر رسالة صنعها على أبي الطيب، قال: حدثني محمد بن يوسف الحمادي، قال: حضرت بمجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وقد حضره البحتري، فقال: يا أبا عبادة، أمسلم أشعر أم أبو نواس؟ فقال: بل أبو نواس؛ لأنه يتصرف في كل طريق، ويبرع في كل مذهب: إن شاء جد، وإن شاء هزل، ومسلم، ومسلم يلزم طريقاً واحداً لا يتعداه، ولا يتحقق بمذهب لا يتخطاه فقال له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا، فقال: أيها الأمير، ليس هذا من علم ثعلب وأضرابه ممن يحفظ الشعر ولا يقوله؛ فإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه، فقال: وريت بك زنادي يا أبا عبادة، إن حكمك في عميك أبي نواس ومسلم وافق حكم أبي نواس في عميه جرير والفرزدق؛ فإنه سئل عنهما ففضل جريراً، فقيل: إن أبا عبادة لا يوافقك على هذا، فقال: ليس هذا من علم أبي عبيدة؛ فإنما يعرفه من دفع إلى مضايق الشعر، وقد خالف البحتري أبا نواس في الحكم بين جرير والفرزدق، فقدم الفرزدق، قيل له: كيف تقدمه وجرير أشبه طبعاً بك منه؟ فقال: إنما يزعم هذا من لا علم له بالشعر، جرير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 لا يعدو في هجائه الفرزدق ذكر القين وجعثن وقتل الزبير، والفرزدق يرميه في كل قصيدة بآبدة، حكى ذلك غير واحد من المؤلفين. فإذا كان هذا فقد حكم له بالتصرف، وبهذا أقول أنا، وإياه أعتقد فيهما، وإذا لم يكن شعر الشاعر نمطاً واحداً لم يمله السامع، حتى إن حبيباً ادعى ذلك لنفسه في القصيدة الواحدة فقال: الجد والهزل في توشيع لحمتها ... والنبل والسخف، والأشجان والطرب وقد كان إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية: لا يصلح النفس إذ كانت مصرفة ... إلا التصرف من حال إلى حال وأنشد الصاحب لأبي أحمد يحيى بن علي المنجم في نقد الشعر: رب شعر نقدته مثل ما ين ... قد رأس الصيارف الدينارا ثم أرسلته فكانت معاني ... هـ وألفاظه معاً أبكارا لو تأتى لقالة الشعر ما أس ... قط منه الحلو به الأشعارا إن خير الكلام ما يستعير النا ... س منه ولم يكن مستعارا وقال الجاحظ: طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبه فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار، وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب: كالحسن بن وهب، ومحمد بن عبد الملك الزيات. قال الصاحب على أثر هذه الحكاية: فلله أبو عثمان، فلقد غاص على سر الشعر، واستخرج أرق من السحر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وسأذكر بعد هذا الباب قطعة من أشعار الكتاب يظهر فيها مرماهم، ويستدل به على مغزاهم، ويعرف حسن اختيار الجاحظ فيما ذهب إليه من تفضيلهم، ويشهد لي بجودة الميز، وفرط التثبت والإنصاف، إن شاء الله تعالى. باب في أشعار الكتاب والكتاب أرق الناس في الشعر طبعاً، وأملحهم تصنيعاً، وأحلاهم ألفاظاً، وألطفهم معاني، وأقدرهم على تصرف، وأبعدهم من تكلف. وقد قيل: الكتاب دهاقين الكلام، وما نزيدك على قول إبراهيم بن العباس الصولي بين يدي المتوكل حين أحضر لمناظرته أحمد بن المدبر فقال ارتجالاً: صد عني وصدق عني الأقوالا ... وأطاع الوشاة والعذالا أتراه يكون شهر صدود ... وعلى وجهه رأيت الهلالا فطرب له المتوكل واهتز ووصله، وخلع عليه وحمله، وجدد له ولاية. وقيل له في التلطف والاستعطاف أكثر من هذا، وأي مدح أبرع وأبدع من قوله في الفضل بن سهل: لفضل بن سهل يد ... تقاصر عنها المثل فباطنها للندى ... وظاهرها للقبل ونائلها للغنى ... وسطوتها للأجل أليس هذا الماء الزلال، والسحر الحلال؟؟ ولقد أجاد ابن الرومي في تناوله هذا المعنى حين قال: مفبل ظهر الكف، وهاب بطنها ... له راحة فيها الحطيم وزمزم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 فظاهرها للناس ركن مقبل ... وباطنها عين من الجود عيلم إلا أن الأول أخف وزناً، وأرشق لفظاً ومعنى. وهذان البيتان وإن كانت فيهما زيادة فإنما هما بإزاء البيت الأوسط من أبيات إبراهيم فقط.. ومن تغزل إبراهيم قوله: أراك فلا أرد الطرف كيلا ... يكون حجاب رؤيتك الجفون ولو أني نظرت بكل عين ... لما استقصت محاسنك العيون فهذا وأبيك البيان، والخبر الذي كأنه العيان. وما أجد كل حلاوة وحسن طلاوة، إلا دون قوله: ابتداء بالتجني ... واقتضاء بالتظني واشتفاء بتجني ... ك لأعدائك مني بأبي قل لي لكي أع ... لم لم أعرضت عني قد تمنى ذاك أعدا ... ئي، فقد نالوا التمني وأما الهجاء فقد بلغ فيه أبعد الغايات بقوله في محمد بن عبد الملك الزيات: فكن كيف شئت وقل ما تشاء ... وأرعد يميناً وأبرق شمالاً نجا بك لؤمك منجى الذباب ... حمته مقاذيره أن ينالا ومن شعر محمد بن عبد الملك الزيات قوله لأحمد بن أبي دؤاد، وقد أمر الواثق أن يقوم جميع الناس لابن الزيات، ولم يجعل في ذلك رخصة لأحد، وكان ابن أبي دؤاد يشتغل بصلاة الضحى إذا أحس بقدومه أنفةً من القيام إليه في دار السلطان، وامتثالاً للأمر، فصنع ابن الزيات: صلى الضحى لما استفاد عداوتي ... وأراه ينسك بعدها ويصوم لا تعد من عداوة مشئومة ... تركتك تقعد تارةً وتقوم ومن تغزله قوله، وهو في غاية العذوبة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 قام بقلبي وقعد ... لما نفى عني الجلد يا صاحب القصر الذي ... أسهر عيني ورقد واعطشي إلى فمٍ ... يمج خمراً من برد إن قسم الناس فحس ... بي بك من كل أحد وقال يرثي جاريته سلوانة، وهي أم ولده عمر الأصغر: يقول لي الخلان: لو زرت قبرها ... فقلت: وهل غير الفؤاد لها قبر؟ على حين لم أحدث فأجهل قدرها ... ولم أبلغ السن التي معها الصبر وقال أيضاً وأحسن ما شاء: مالي إذا غبت لم أذكر بواحدة ... وإن مرضت فطال السقم لم أعد ما أعجب شيء ترجوه فتحرمه ... قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي ومن شعره في هذا الباب مقطعات متفرقة تغني عن الإكثار منه ههنا. وأما الحسن بن وهب فمن قوله: لم تنم مقلتي لطول بكاها ... ولما جال فوقها من قذاها فالقذى كحلها إلى أن ترى وج ... هـ سليمى، وكيف لي أن تراها؟! أسعدت مقلتي بإدمانها الدم ... ع وهجرانها الكرى مقلتاها فلعيني في كل حين دموع ... إنما تستدرها عيناها وقدم إليه كانون، ومعه قينة كان يهواها، فأمرت بإبعاد الكانون، فصنع: بأبي كرهت النار حتى أبعدت ... فعرفت ما معناك في إبعادها هي ضرة لك بالتماع شعاعها ... وبحسن صورتها لدى إيقادها وأرى صنيعك بالقلوب صنيعها ... بأراكها وسيالها وعرادها شركتك في كل الجهات بحسنها ... وضيائها وصلاحها وفسادها ومن مليح الشعر قوله يمدح محمد بن عبد الله بن ظاهر غب مطر: هطلتنا السماء هطلا دراكا ... جاوز المزربان فيه السماكا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 قلت للبرق إذ تألق فيه: ... يا زناد السماء من أوراكا أحبيباً أحببته فجفاكا؟ ... فعسى ذاك أن يعود كذاكا أم تشبهت بالأمير أبي العب ... اس في جوده؟ فلست هناكا وهذا هو الكلام الكتابي، السهل، المرسل، الحسن الطلاوة، والظاهر الحلاوة. ومن قوله يرثى حبيباً الطائي، وكان صديقاً له جداً: سقى بالموصل القبر الغريبا ... سحائب ينتحبن به نحيبا إذا أظللنه أطلقن فيه ... شعيب المزن يتبعها شعيبا ولطمت البروق له خدوداً ... وشققت الرعود له جيوبا فإن تراب ذاك القبر يحوي ... حبيباً كان يدعى لي حبيبا وهي قصيدة كاملة أتيت بهذا منها معرضاً. ومن شعراء الكتاب سعيد بن حميد الكاتب، وهو القائل في طول الليل: يا ليل، بل يا أبد ... أنائم عنك غد؟ يا ليل، لو تلقى الذي ... ألقى بها أو أجد قصر من طولك أو ... أضعف منك الجلد ورواه قوم أنحل من منك الجسد والأول عندي أصوب، وعلى كل حال فمنه أخذ أبو الطيب قوله: ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي ... فتظهر فيه رقة ونحول وليس يلزم الكاتب أن يجاري الشاعر في أحكام صنعة الشعر؛ لرغبة الكتاب في حلاوة الألفاظ وطيرانها، وقلة الكلفة، والإتيان بما يخف على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 النفس منها؛ وأيضاً فإن أكثر أشعارهم إنما يأتي تظرفاً، لا عن رغبة ولا رهبة، فهم مطلقون مخلون في شهواتهم، مسامحون في مذاهبهم؛ إذ كانوا إنما يصنعون الشعر تخيراً واستظرافاً، كما قال كشاجم الكاتب: ولئن شعرت فما تع ... مدت الهجاء ولا المديحه لكن رأيت الشعر لل ... آداب ترجمة فصيحه وعلى هذا النمط يجري الحكم في أشعار الخلفاء، والأمراء، والمترفين من أهل الأقدار: لا يحاسبون فيها محاسبة الشاعر المبرز الذي الشعر صناعته، والمديح بضاعته. وقد أعرب أبو الفتح بن العميد وأغرب في قوله: فإن كان مرضياً فقل: شعر كاتب ... وإن كان مسخوطاً فقل: شعر كاتب ولو حاولت أن أذكر من علمت من شعراء الكتاب سوى من ذكرت لبعد الأمد، وطالت الشقة، واحتجت إلى أن أقيم لهذا الفن ديواناً مفرداً؛ لكني عولت على ابن الزيات، وابن وهب؛ لإحالة الجاحظ في الفضل عليهما، وآنستهما باثنين ليسا بدونهما، ولو لم آت بهذا الباب إلا بما بنيته عليه من ذكر أشعار السيد الرئيس أبي الحسن أيده الله لكان ذلك فوق الرضا والكفاية. فمن ذلك قوله: باكر الراح ودع عنك العدل ... واسع في الصحة من قبل العلل واغتنم لذة يوم زائل ... فالمنايا ضاحكات بالأمل ما ترى الساقي كشمس طلعت ... تحمل المريخ في برج الحمل مائساً كالغصن في دعص نقاً ... فاتن المقلة زينت بالكحل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وقوله أيضاً يتغزل: مر بنا يهتز في مشيه ... مثل اهتزاز الغصن الرطب فمقلتي ترتع في حسنه ... ومقلتاه أحرقت قلبي قوله " أحرقت " وهما مقلتان كقول بعضهم، وأنشده أبو الجراح في طبقات الشعراء: أشركت عيناه ظالمة ... في دمي يا عظم ما جنت فقال " ظالمة " وقال " جنت " لأن التثنية جمع في الحقيقة، والجماعة تخبر عنها كما تخبر عن الواحد: لمكان التأنيث، والشاهد من قول القدماء قول أحدهم: لمن زحلوقة زل ... بها العينان تنهل فقال " تنهل " وكان حقه أن يقول " تنهلان " لكن العلة ما قدمت. ومن الموعظة الحسنة البالغة قوله: أمن الزمان زمانة العقل ... فاخش الإله وحل عن الجهل واعلم بأنك في الحساب غداً ... تجزى بما قدمت من فعل ومن تشكي أحوال الناس وقلة ثقتهم وإنصافهم قوله: أيا رب، إن الناس لا ينصفونني ... ولم يحسنوا قرضي على حسناتي إذا ما رأوني في رخاء ترددوا ... إلي، وأعدائي لدى الأزمات ومهما أكن في نعمة حزنوا لها ... ذوو أنفس في شدة جذلات ثقاتي ما دامت صلاتي لديهم ... وإن عنهم أخرتها فعداتي سأمنع قلبي أن يحن إليهم ... وأصرف عنهم قالياً لحظاتي وألزم نفسي الصبر دأبا لعلني ... أعاين ما أملت قبل مماتي ألا إنما الدنيا كفاف وصحة ... وأمن، ثلاث هن طيب حياتي قوله " ثلاث " يعني ثلاث خصال أو ثلاث أحوال، كما قال طرفة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 فلولا ثلاث هن من لذة الفتى ثم فسرهن فقال: فمنهن سبق العاذلات بشربة وكرى إذا نادى المضاف مجنباً وتقصير يوم الدجن والسبق والتقصير والكر كلها مذكرة، لكن أراد ما قدمت. ومن أحسن الأشعار قوله: خليلي، إن لم تسعداني فأقصرا ... فليس يداوي بالعتاب المتيم تريدان مني النسك في غير حينه ... وغصني ريان ورأسي أسحم وقوله في قصيدة طويلة: غراء واضحة ينوس بقرطها ... جيد حكى جيد الغزال الأعنق صدت فأغرت بالسجوم مدامعي ... والعين تذرف بالدموع السبق تشكو البعاد إذا بعدت تصبراً ... وإن ارتجعت إلى الزيارة تفرق ولقد يبيت أخو المودة لائمي ... في حبها لوم الشفيق المشفق حتى إذا طلعت فأبصر شخصها ... أخزى جهالة لائمي المستحمق كم قد قطعت بوصلها من ليلة ... وبشرب صافية كلون الزئبق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 يسعى بها كالبدر ليلة تمه ... سحار ألحاظ رخيم المنطق آليت أترك ذا وتلك وهذه ... حتى يفارقني سواد المفرق فلله سلامة هذا الطبع واندفاعه، وقرب هذا اللفظ واتساعه، ولله رقة معانيه وإرهافها، وظهورها مع ذلك وانكشافها، ولطف مواقعها من القلوب، وسرعة تأثيرها في النفوس، وسيرد من شعره فيما بعد ما لاق بالمواضع التي يذكر فيها، إن شاء الله تعالى. باب في أغراض الشعر وصنوفه وهو بسط لما بعده من الأبواب، وقد فرط البسط له، وفرغ من مقدمته في باب حد الشعر وتبيينه، وأنا ذاكر هنا ما لا بد منه. تكلم قوم في الشعر عند أبي الصقر إسماعيل بن بلبل من حيث لا يعلمون فكتب إليه أبو العباس الناشئ: لعن الله صنعة الشعر، ماذا ... من صنوف الجهال فيها لقينا؟ يؤثرون الغريب منه على ما ... كان سهلاً للسامعين مبينا ويرون المحال شيئاً صحيحا ... وخسيس المقال شيئاً ثميناً يجهلون الصواب منه، ولا يد ... رون للجهل أنهم يجهلونا فهم عند من سوانا يلامو ... ن، وفي الحق عندنا يعذرونا إنما الشعر ما تناسب في النظ ... م، وإن كان في الصفات فنونا فأتى بعضه يشاكل بعضاً ... قد أقامت له الصدور المتونا كل معنى أتاك منه على ما ... تتمنى لو لم يكن أن يكونا فتناهى عن البيان إلى أن ... كاد حسناً يبين للناظرينا فكان الألفاظ فيه وجوه ... والمعاني ركبن فيه عيونا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 فائتاً في المرام حسب الأماني ... فيجلي بحسنه المنشدينا فإذا ما مدحت بالشعر حرا ... رمت فيه مذاهب المسهبينا فجعلت النسيب سهلاً قريباً ... وجعلت المديح صدقا مبينا وتنكبت ما تهجن في السم ... ع، وإن كان لفظه موزونا وإذا ما قرضته بهجاء ... عفت فيه مذاهب المرفثينا فجعلت التصريح منه دواء ... وجعلت التعريض داء دفينا وإذا ما بكت فيه على الغا ... دين يوماً للبين والظاعنينا حلت دون الأسى وذللت ما كا ... ن من الدمع في العيون مصونا ثم إن كنت عاتبا شبت في الوع ... د وعيدا وبالصعوبة لينا فتركت الذي عتبت عليه ... حذراً آمنا، عزيزاً مهينا وأصح القريض ما فات في النظ ... م، وإن كان واضحا مستبينا وإذا قيل أطمع الناس طرا ... وإذا ريم أعجز المعجزينا قال أبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري: كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبع، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضائه، حتى قصدت أبا تمام؛ فانقطعت فيه إليه، واتكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة، تخير الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم، فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقا، والمعنى رشيقا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق، وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فأشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وأبن معالمه، وشرف مقامه، وتقاض المعاني، واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية، وكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام، وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك، ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب، واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه؛ فإن الشهوة نعم المعين، وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين: فما استحسنته العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه، ترشد إن شاء الله تعالى. قال صاحب الكتاب: قد كنت أردت ذكر هذا الفصل فيما تقدم من باب عمل الشعر وشحذ القريحة له، فلم أثق بحفظي فيه، حتى صححته فأثبته بمكانه من هذا الباب. ومن قول الناشئ في معنى شعره الأول: الشعر ما قومت زيغ صدوره ... وشددت بالتهذيب أسر متونه ورأيت بالإطناب شعب صدوعه ... وفتحت بالإيجاز عور عيونه وجمعت بين قريبه وبعيده ... ووصلت بين مجمه ومعينه فإذا بكيت به الديار وأهلها ... أجريت للمحزون ماء شؤونه وإذا مدحت به جواداً ماجداً ... وفيته بالشكر حق ديونه أصفيته بنفيسه ورصينه ... وخصصته بخطيره وثمينه فيكون جزلاً في اتساق صنوفه ... ويكون سهلاً في اتفاق فنونه فإذا أردت كناية عن رتبة ... باينت بين ظهوره وبطونه فجعلت سامعه يشوب شكوكه ... ببيانه وظنونه بيقينه وإذا عتبت على أخٍ في زلةٍ ... أدمجت شدته له في لينه فتركته مستأنساً بدماثة ... مستيئساً لوعوثه وحزونه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وإذا نبذت إلى التي علقتها ... إن صارمتك بفاتنات شؤونه تيمتها، بلطيفه ودقيقه ... وشغفتها بخبيه وكمينه وإذا اعتذرت إلى أخ من زلة ... واشكت بين محيله ومبينه وهذا حين أبدأ بالكلام على هذه الأغراض والصنوف واحداً فواحداً، إن شاء الله سبحانه وتعالى. باب النسيب حق النسيب أن يكون حلو الألفاظ رسلها، قريب المعاني سهلها، غير كز ولا غامض، وأن يختار له من الكلام ما كان ظاهر المعنى، لين الإيثار، رطب المكسر، شفاف الجوهر، يطرب الحزين، ويستخف الرصين. وروى أبو علي إسماعيل بن القاسم، عن ابن دريد، عن أبي حاتم، عن الأصمعي، عن أبي عمرو بن العلاء، عن رواية كثير قال: كنت مع جرير وهو يريد الشام فطرب، وقال: أنشدني لأخي بني مليح يعني كثيراً فأنشدته حتى انتهيت إلى قوله: وأدنيتني حتى إذا ما سنيتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وخلفت ما خلفت بين الجوانح فقال: لولا أنه لا يحسن بشيخ مثلي النخير لنخرت حتى يسمع هشام على سريره.. وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحداً لا يشتهي النسيب؟ فقال: أما من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا. والنسيب والتغزل والتشبيب كلها بمعنى واحد.. وأما الغزل فهو إلف النساء، والتخلق بما يوافقهن، وليس مما ذكرته في شيء؛ فمن جعله بمعنى التغزل فقد أخطأ، وقد نبه على ذلك قدامة وأوضحه في كتابه نقد الشعر. وقال الحاتمي: من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه أن يكون ممزوجاً بما بعده من مدح أو ذم، متصلاً به، غير منفصل منه، فإن القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه، وتعفي معالم جماله، ووجدت حذاق الشعراء وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون من مثل هذه الحال احتراساً يحميهم من شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان. ومن مختار ما قيل في النسيب قول المرار العدوي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 وهي هيفاء هضيم كشحها ... فخمة حيث يشد المؤتزر صلتة الخد طويل جيدها ... ضخمة الثدي ولما ينكسر يضرب السبعون في خلخالها ... فإذا ما أكرهته ينكسر لا تمس الأرض إلا دونها ... عن بلاط الأرض ثوب منعفر تطأ الخز ولا تكرمه ... وتطيل الذيل منه وتجر ثم تنهد على أنماطها ... مثل ما مال كثيب منقعر عبق العنبر والمسك بها ... فهي صفراء كعرجون العمر أملح الناس إذا جردتها ... غير سمطين عليها وسور قال عبد الكريم: هذه أملح وأشرف ما وقع في الوصف، وهي أشبه بنساء الملوك. وأنشد لغيره: قليلة لحم الناظرين يزينها ... شباب ومخفوض من العيش بارد أرادت لتنتاش الرواق فلم أقم ... إليه، ولكن طأطأته الولائد تناهى إلى لهو الحديث كأنها ... أخو سقطة قد أسلمته العوائد وأنواع النسيب كثيرة، وهذا الذي أنشدته أفضلها في مذاهب المتقدمين، وللمحدثين طريق غير هذه كثيرة الأنواع أيضاً: فما أختار من ذلك ما ناسب قول أبي نواس: حلت سعاد وأهلها سرفاً ... قوماً عدى ومحلة قذفا وكأن سعدي إذ تودعنا ... وقد اشرأب الدمع أن يكفا رشا تواصين القيان به ... حتى عقدن بأذنه شنفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 فإن هذا في غاية الجودة ونهاية الإحسان، وما ناسب قول مسلم بن الوليد: أحب التي صدت وقالت لتربها: ... دعيه، الثريا منه أقرب من وصلي أماتت وأحيت مهجتي فهي عندها ... معلقة بين المواعيد والمطل وما نلت منها نائلاً غير أنني ... بشجو المحبين الألى سلفوا قبلي بلى، وربما وكلت عيسى بنظرة ... إليها تزيد القلب خبلاً على خبل ومن الجيد قول الوليد بن عبيد البحتري: رددن ما خففت منه الخصور إلى ... ما في المآزر فاستثقلن أردافاً إذا نضين شفوف الريط آونة ... قشرن عن لؤلؤ البحرين أصدافاً والبحتري أرق الناس نسيباً، وأملحهم طريقة، ألا تسمع قوله: إني وإن جانبت بعض بطالتي ... وتوهم الواشون أني مقصر ليشوقني سحر العيون المجتلي ... ويروقني ورد الخدود الأحمر وشعره من هذا النمط، لا سيما إن ذكر الطيف؛ فإنه الباب الذي شهر به، ولم يكن لأبي تمام حلاوة توجب له حسن التغزل، وإنما يقع له من ذلك التافه اليسير في خلال القصائد، مثل قوله: بت أرعى الخدود حتى إذا ما ... فارقوني بقيت أرعى النجوما وقوله أول قصيدة: أرامة، كنت ما لف كل ريم ... لو استمتعت بالأنس المقيم أدار البؤس، حسنك التصابي ... إلي فصرت جنات النعيم ومما ضرم البرجاء أني ... شكوت فما شكوت إلى رحيم وأما أبو الطيب فمن مليح ما سمعت له قوله: كئيباً توقاني العواذل في الهوى ... كما يتوقى ريض الخيل حازمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 قفي تغرم الأولى من اللحظ مهجتي ... بثانية، والمتلف الشيء غارمه سقاك وحيانا بك الله، إنما ... على العيس نور والخدور كمائمه فقد جاء بأملح شيء وأوفاه من الظرافة والغرابة. وقوله يذكر ربع أحبابه: نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا نذم السحاب الغر في فعلها به ... ونعرض عنها كلما طلعت عتبا وقال في ذكر الديار أيضاً: ودسنا بأخفاف المطي ترابها ... فلا زلت أستشفي بلثم المناسم ديار اللواتي دارهن عزيزة ... بسمر القنا يحفظن لا بالتمائم حسان التثني ينقش الوشي مثله ... إذا مسن في أجسامهن النواعم ويبسمن عن در تقلدن مثله ... كأن التراقي وشحت بالمباسم ورد جماعة من الكتاب على العتابي، وهو بحلب، وفي يده رقعة، وقد أطال فيها النظر والتأمل، فقال: أرأيتم الرقعة التي كانت في يدي؟ قالوا: نعم، قال: لقد سلك صاحبها وادياً ما سلكه غيره، فلله دره، وكان في الرقعة قول أبي نواس: رسم الكرى بين الجفون محيل ... عفى عليه بكى عليك طويل يا ناظراً ما أقلعت لحظاته ... حتى تشحط بينهن قتيل روى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: أغزل بيت قالته العرب قول عمر بن أبي ربيعة: فتضاحكن وقد قلن لها: ... حسن في كل عين من تود وكان الأصمعي يقول: أغزل بيت قالته العرب قول امرئ القيس: وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وحكى عن الوليد بن يزيد بن عبد الملك أنه قال: لم تقل العرب بيتاً أغزل من قول جميل بن معمر: لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل عندهن شهيد وفضلته بهذا البيت سكينة بنت الحسين بن علي رضوان الله عليهم، وأثابته به دون جماعة من حضر من الشعراء. وقال بعضهم: الأحوص من أغزل الناس بقوله: إذا قلت أني مشتف بلقائها ... وحم التلاقي بيننا زادني سقما وقال غيره: بل جميل بقوله: يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيا إذا فارقتها فيعود وقال آخر: بل جرير بقوله: فلما التقى الحيان ألقيت العصي ... ومات الهوى لما أصيبت مقاتله والأحوص عندهم أغزلهم في هذه الأبيات الثلاثة؛ لزيادته سقماً إذا التقى المحبوب. وقال الحاتمي: أغزل ما قالته العرب قول أبي صخر: فيا حبذا زدني جوى كل ليلةٍ ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر وقال أبو عبيدة: ما حفظت شعراً لمحدث، إلا قول أبي نواس: كأن ثيابه أطلع ... ن من أزراره قمرا يزيدك وجهه حسناً ... إذا ما زدته نظرا بعين خالط التفت ... ير من أجفانها الحورا وخد سابري لو ... تصوب ماؤه قطرا وللشعراء أسماء تخف على ألسنتهم وتحلو أفواههم، فهم كثيراً ما يأتون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 بها زوراً نحو: ليلى، وهند، وسلمى، ودعد، ولبنى، وعفراء، وأروى، وريا، وفاطمة، ومية، وعلوة، وعائشة، والرباب، وجمل، وزينب، ونعم، وأشباههن. ولذلك قال مالك بن زغبة الباهلي، أنشده الأصمعي: ما كان طبي حبها غير أنه ... يقام بسلمى للقوافي صدورها وأما عزة وبثينة فقد حماهما كثير وجميل، حتى كأنهما حرما على الشعراء.. وربما أتى الشعراء بالأسماء الكثيرة في القصيدة؛ إقامة للوزن، وتحلية للنسيب، كما قال جرير: أجد رواح القوم؟ بل لات روحوا ... نعم كل من يعنى بجمل مبرح ثم قال بعد بيت واحد: إذا سايرت أسماء يوماً ظعائناً ... فأسماء من تلك الظعائن أملح ظللن حوالي خدر أسماء فانتحى ... بأسماء موار الملاطين أروح صحا القلب عن أسما وقد برحت به ... وما كان يلقى من تماضر أبرح وأما قول السيد الحميري: ولقد تكون بها أوانس كالدمى ... هند وعبدة والرباب وبوزع فإنه ثقيل من أجل بوزع. وأنكر هذه اللفظة عبد الملك بن مروان على جرير، فما ظنك بالسيد الحميري؟ وكلما كانت اللظة أحلى كان ذكرها في الشعر اشهى، اللهم إلا أن يكون الشاعر لم يزور الاسم، وإنما قصد الحقيقة لا إقامة الوزن؛ فحينئذ لا ملامة عليه، ما لم يجد في الكنية مندوحة.. وقال يزيد بن أم الحكم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 أمسى بأسماء هذا القلب معموداً ... إذا أقول صحا يعتاده عيدا كان أحور من غزلان ذي بقر ... أهدى لعائشة العينين والجيدا على أن بعضهم رواه " أهدى لها شبه العينين " وهو أجود لا محالة، ومثل هذا كثير في أشعار القدماء، ولست أرى مثله من عمل المحدثين صواباً، ولا علمته وقع لأحد منهم، إلا ما ناسب قول السيد المتقدم آنفاً، وقول أبي تمام الطائي: وإن رحلت في ظعنهم وحدوجهم ... زيانب من أحبابنا وعواتك ومن عيوب هذا الباب أن يكثر التغزل ويقل المديح، كما يحكى عن شاعر أتى نصر بن سيار بأرجوزة فيها مائة بيت نسيباً وعشرة أبيات مديحاً، فقال له نصر: والله ما أبقيت كلمة عذبة ولا معنى لطيفاً إلا وقد شغلته عن مديحي بنسيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في النسيب، فغدا عليه فأنشده: هل تعرف الدار لأم عمرو؟ ... دع ذا وحبر مدحة في نصر فقال نصر: لا هذا ولا ذاك، ولكن بين الأمرين. فأما مذهبه الأول في طول النسيب وقصر المديح فإن نصيباً اتبعه فيه، ولكن ذاك منه إنما كان على اقتراح في القصيدة التي مدح بها بني جبريل، وأما المذهب الثاني فانتحله أبو الطيب في قوله: واحر قلباه ممن قلبه شبم ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم ثم خرج إلى المدح في البيت الثاني. ويعاب على الشاعر أن يفتخر أو يتعاطى فوق قدره، كما أخذ على عباس قوله: فإن تقتلوني لا تفوتوا بمهجتي ... مصاليت قومي من حنيفة أو عجل وعيب على الفرزدق وهو صميم بني تميم قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 يا أخت ناجية بن سامة إنني ... أخشى عليك بني إن طلبوا دمي اللهم إلا أن يكون النسيب الذي يصنع مجازاً كالذي في بسط القصائد، فإن ذلك لا بأس به، ولا مكروه فيه. وسمع ابن أبي عتيق قول ابن أبي ربيعة المخزومي: بينما ينعتنني أبصرنني ... دون قيد الميل يعدو بي الأغر قالت الكبرى: أتعرفن الفتى؟ ... قالت الوسطى: نعم، هذا عمر قالت الصغرى وقد تيمتها: ... قد عرفناه، وهل يخفى القمر!؟ فقال له: أنت لم تنسب بهن، وإنما نسبت بنفسك، وإنما كان ينبغي لك أن تقول: قالت لي فقلت لها، فوضعت خدي فوطئت عليه. وكذلك قال له كثير لما سمع قوله: قالت لها أختها تعاتبها ... لا تفسدن الطواف في عمر قومي تصدي له لأبصره ... ثم اغمزيه يا أخت في خفر قالت لها: قد غمزته فأبى ... ثم اسبطرت تشتد في أثري أهكذا يقال للمرأة؟؟ إنما توصف بأنها مطلوبة ممتنعة. قال بعضهم أظنه عبد الكريم: العادة عند العرب أن الشاعر هو المتغزل المتماوت، وعادة العجم أن يجعلوا المرأة هي الطالبة والراغبة المخاطبة، وهنا دليل كرم النجيزة في العرب وغيرتها على الحرم. وعاب كثير على نصيب قوله: أهيم بدعد ما حييت، فإن أمت ... فيا ليت شعري من يهيم بها بعدي حتى إنه قال له: كأنك اغتممت لمن يفعل بها بعدك، وهو لا يكنى.. ومثل هذه الحكاية ما قاله بعض الكتاب وقد دخل على علي بن عبد الله بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 محبوس فقال: أين هذا الجعفري الذي يتديث في شعره؟ قال علي: فعلمت أنه يريدني لقولي: ولما بدا لي أنها لا تحبني ... وأن هواها ليس عني بمنجلي تمنيت أن تهوى سواي، لعلها ... تذوق صبابات الهوى فترق لي فما كان إلا عن قليل وأشغفت ... بحب غزال أدعج الطرف أكحل وعذبها حتى أذاب فؤادها ... وذوقها طعم الهوى والتذلل فقلت لها: هذا بهذا، فأطرقت ... حياء، وقالت: كل من عايب ابتلي فقلت: أنا هو جعلت فداك، وأنا الذي أقول في الغيرة: ربما سرني صدودك عني ... وطلابيك وامتناعك مني حذراً أن أكون مفتاح غيري ... فإذا ما خلوت كنت التمني ويعاب ما ناسب قول الآخر، وهو جميل: فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابيها لما فات من عقلي لأن الصواب قول عباس، أو مسلم: أبكي وقد ذهب الفؤاد، وإنما ... أبكي لفقدك لا لفقد الذاهب فأما طرد الخيال والمجاورة في المحبة فهو مذهب مشهور، وقد ركبه جلة الشعراء، ورواه رواة: منهم طرفة، ولبيد، ثم جرير، ثم جميل، فقال طرفة، وهو أول من طرقه: فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها، فإني واصل حبل من وصل وقال لبيد في مثل ذلك: فاقطع لبانة من تعرض وصله ... ولشر واصل خلة صرامها يقول: اقطع المزار ممن تعرض وصله للقطيعة ويقال: تعرض الشيء، إذا فسد، حكاه الخليل فإن شر من وصلك من قطعك بلا ذنب، يريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 الذي تعرض وصله، ومن الناس من رواه ولخير واصل خلة صرامها يقول: إن خير من وصل الخلة من قطعها باستحقاق، يعني نفسه.. وقال جرير: طرقتك صائدة القلوب، وليس ذا ... وقت الزيارة، فارجعي بسلام على أن قوماً زعموا أنه كان محرماً، فلذلك طرد الخيال، كأنه تحرج وليس طرد عتب. وقال جميل: ولست وإن عزت علي بقائل ... لها بعد صرم: يا بثين صليني وجرى على سنن هؤلاء جماعة من المولدين، واعتقدوا هذا المبدأ قولا وفعلاً، حتى تعداه بعضهم إلى القتل، مثل عبد السلام بن رغبان، ونصر الخابز أرز ومن شاكلهما من الشطار، إلا أن أصل هذا المذهب عند قدامة فاسد، وعاب عن نابغة بني تغلب واسمه الحارث بن عدوان، أحد بني زيد بن عمرو بن غنم بن تغلب قوله: بخلنا لبخلك لو تعلمين ... وكيف يعيب بخيل بخيلاً؟ لأن الواجب عنده في التغزل أن يكون على خلاف هذا، وكل ما لا يليق بالمحبوب فهو مكروه في باب النسيب. قالت عزة لكثير يوماً ويقال بثينة ما أردت بنا حين قلت: وددت وبيت الله أنك بكرة ... وأني هجان مصعب ثم نهرب كلانا به عر فمن يرنا يقل ... على حسنها جرباء تعدى وأجرب نكون لذى مال كثير مغفل ... فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 إذا ما وردنا منهلاً صاح أهله ... علينا، فلا ننفك نرمى ونضرب لقد أردت بنا الشقاء، أما وجدت أمنية أوطأ من هذه؟! فخرج من عندها خجلاً وإنما اقتدى بالفرزدق حيث يقول، وهذا من سوء الأتباع: ألا ليتنا كنا بعيرين لا نرد ... على حاضر إلا نشل ونقذف كلانا به عر يخاف قرافه ... على الناس مطلي الأشاعر أخشف بأرض خلاء وحدنا وثيابنا ... من الريط والديباج درع وملحف ولا زاد إلا فضلتان: سلافة ... وأبيض من ماء الغمامة قرقف وأشلاء لحم من حباري يصيدها ... إذا نحن شئنا صاحب متألف لنا ما تمنينا من العيش مادعا ... هديلا بنعمان حمائم هتف وإذا كان بعيراً فما هذه الأمنية التي كلها للحيوان الناطق؟ لولا أنه ردها إلى نفسه حقيقة، وإلا فما أملح الجمل نشوان يصيد الحباري بالبازي. ومعايب هذا الباب كثيرة، وفما قدمت منها دليل على باقيها. واشتقاق التشبيب يجوز أن يكون من ذكر الشبيبة، وأصله الإرتفاع، كأن الشباب ارتفع عن حال الطفولية، أو رفع صاحبه، ويقال: شب الفرس، إذا رفع يديه وقام على رجليه. قال الجاحظ: يقال شبت شبوبا، وشب الفرس بيديه فهو يشب شبيباً، ويقال: مالك عضاض ولا شباب، انقضى كلامه. ويجوز أن يكون من الجلاء، يقال: شب الحمار وجه الجارية، إذا جلاه ووصف ما تحته من محاسنه؛ فكأن هذا الشاعر قد أبرز هذه الجارية في صفته إياها وجلاها للعيون، ومنه الشب الذي يجتلي به وجوه الدنانير، ويستخرج غشها، ومنها: شببت النار، إذا رفعت سناها وزدتها ضياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وأنشد الأصمعي لعكاشة بن أبي مسعدة: يدفع عنها كل مشبوب أغر قال: المشبوب الذي إذا رأيته فزعت لحسنه.. قال ابن دريد: شببت في الشعر شبيباً، مثل نسبت نسيباً، والنسيب أكثر ما يستعمل في الشعر. باب في المديح وسبيل الشاعر إذا مدح ملكاً أن يسلك طريقة الإيضاح والإشادة بذكره للممدوح، وأن يجعل معانيه جزلة، وألفاظه نقية، غير مبتذلة سوقية، ويجتنب مع ذلك التقصير والتجاوز والتطويل؛ فإن للملك سآمة وضجراً، ربما عاب من أجلها ما لا يعاب، وحرم من لا يريد حرمانه، ورأيت عمل البحتري إذا مدح الخليفة كيف يقل الأبيات، ويبرز وجوه المعاني، فإذا مدح الكتاب عمل طاقته، وبلغ مراده. وقد حكى عن عمارة أن جده جريراً قال: يا بني، إذا مدحتهم فلا تطيلوا الممادحة؛ فإنه ينسى أولها، ولا يحفظ آخرها، وإذا هجوتم فخالفوا. قال عبد الكريم: وهذا ضد قول عقيل بن علفة المرادي، وحكى غيره قال: دخل الفرزدق على عبد الرحمن بن أم الحكم، فقال له عبد الرحمن: أبا فراس، دعني من شعرك الذي ليس يأتي آخره حتى ينسى أوله، وقال: قل في بيتين يعلقان بالرواة، وأنا أعطيك عطية لم يعطكها أحد قط قبلي، فغدا عليه وهو يقول: وأنت ابن بطحاوي قريشٍ، وإن تشأ ... تكن من ثقيف سيل ذي خدر غمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وأنت ابن سوار اليدين إلى العلى ... تكفت بك الشمس المضيئة للبدر فقال: أحسنت، وأمر له بعشرة آلاف درهم. وإذا كان الممدوح ملكاً لم يبال الشاعر كيف قال فيه، ولا كيف أطنب، وذلك محمود، وسواه المذموم، وإن كان سوقة فإياك والتجاوز به خطته؛ فإنه متى تجاوز به خطته؛ كان كمن نقصه منها، وكذلك لا يجب أن يقصر عما يستحق، ولا أن يعطيه صفة غيره؛ فيصف الكاتب بالشجاعة والقاضي بالحمية والمهابة، وكثيراً ما يقع هذا لشعراء وقتنا، وهو خطأ، إلا أن تصحبه قرينة تدل على الصواب الرأي فيه، وكذلك لا يجب أن يمدح الملك ببعض ما يتجه في غيره من الرؤساء، وإن كان فضيلة. وذلك مثل قول البحتري يمدح المعتز بالله: لا العذل يردعه ولا الت ... عنيف عن كرم يصده فإنه مما أنكره عليه أبو العباس أحمد بن عبد الله، وقال: من ذا يعنف الخليفة على الكرم أو يصده؟ هذا بالهجاء أولى منه بالمدح. وعيب على الأخطل قوله في عبد الملك بن مروان: وقد جعل الله الخلافة منهم ... لأبيض لا عاري الخوان ولا جدب وقالوا: لو مدح بها حرسياًً لعبد الملك لكان قد قصر به. قلت أنا: وإن كان فلا بد من ذكر الضيافة والقرى، كقول ابن قيس الرقيات لمصعب بن الزبير: يلبس الجيش بالجيوش ويسقي ... لبن البخت في عساس الخلنج لأن هذا وإن لم يعد به ممادحة العرب في سقي اللبن فقد زاده رتبة عرف بها أنه ملك. وأجود منه في معناه قول حسان في آل جفنة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل ويروي " مسكا ". وعابوا على الأحوص قوله للملك: وأراك تفعل ما تقول، وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل فقالوا: إن الملوك لا تمدح بما يلزمها فعله كما تمدح العامة، وإنما تمدح بالإغراق والتفضيل بما لا يتسع غيرهم لبذله. ومن هذا النوع قول كثير: رأيت ابن ليلى يعتري صلب ماله ... مسائل شتى من غني ومصرم مسائل إن توجد لديك تجد بها ... يداك، وإن تظلم بها تتظلم لأن هذا إنما يقع لمن دون الخليفة والملك، وإنما أخذه من قول زهير في هرم ابن سنان، وليس بملك، ولذلك حسن قوله: هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفواً، ويظلم أحياناً فيظلم يريد أنه يسأل ما ليس قبله فيحتمله، هذا، وقد قال الصولي في شرح قول حبيب: لو يفاجى ركن المديح كثيراً ... بمعانيه خالهن نسيباً طاب فيه المديح والتذ، حتى ... فاق وصف الديار والتشييبا سألت عون بن محمد الكندي: لم خص كثيراً؟ فقال: سمعته يقول: أمدح الناس زهير والأعشى، ثم الأخطل وكثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وحكى غير الصولي أن مروان بن أبي حفصة كان يقدم كثيراً في المدح على جرير والفرزدق. ومما قدم به زهير قوله: لو كان يقعد النجم من كرمٍ ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا قوم سنان أبوهم حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا إنس إذا أمنوا، جن إذا فزعوا، ... مرزأون بها ليل إذا جهدوا محسدون على ما كان من نعمٍ ... لا ينزع الله عنهم ماله حسدوا ويروي غر بها ليل في أعناقهم صيد وقدمه قدامة بن جعفر الكاتب فقال في كتابه نقد الشعر: لما كانت فضائل الناس من حيث هم ناس، لا من طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوانات، على ما عليه أهل الألباب من الاتفاق في ذلك؛ إنما هي العقل والعفة والعدل والشجاعة؛ كان القاصد للمدح بهذه الأربعة مصيباً، وبما سواها مخطئاً. فقال زهير: أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله لأنه قد وصفه بالعفة لقلة في اللذات وأنه لا ينفد فيها ماله، وبالسخاء لإهلاكه ماله في النوال وانحرافه إلى ذلك عن اللذات، وذلك هو العقل، ثم قال: تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله أراد أن فرحة بما يعطي أكثر من فرحه بما يأخذ، فزاد في وصف السخاء منه: بأن يهش، ولا يلحقه مضض، ولا تكره لفعله.. ثم قال: فمن مثل حصن في الحروب ومثله ... لإنكار ضيم أو لخصم يجادله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 فأتى في هذا البيت بالوصف من جهة الشجاعة والعقل، فاستوفى ضروب المدح الأربعة التي هي فضائل الإنسان على الحقيقة، وزادها ما هو وإن كان داخلاً في الأربعة فكثير من الناس من لا يعرف وجه دخوله فيها حيث قال أخي ثقة فوصفه بالوفاء، والوفاء داخل في هذه الفضائل التي قدمنا، وقد تفنن الشعراء فيعدون أنواع الفضائل الأربع وأقامها وكل داخل في جملتها مثل أن يذكروا ثقابة المعرفة، والحياء، والبيان، والسياسة، والصدع بالحجة، والعلم، والحلم عن سفاهة الجهلة، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، وهي من أقسام العقل؛ وكذكرهم القناعة، وقلة الشهوة، وطهارة الإزار، وغير ذلك وهي من أقسام العفة؛ وكذكرهم الحماية، والأخذ بالثأر، والدفع عن الجار، والنكاية في العدو، وقتل الأقران، والمهابة، والسير في المهامه والقفار الموحشة، وما شاكل هذا وهو من أقسام الشجاعة؛ وكذكرهم السماحة، والتغابن، والانظلام، والتبرع بالنائل، والإجابة للسائل، وقرى الأضياف، وما جانس هذه الأشياء، وهي من أقسام العدل. وأما تركيب بعضها من بعض فيحدث منها سته أقسام: يحدث من تركيب العقل مع الشجاعة الصبر على الملمات ونوازل الخطوب، والوفاء بالإيعاد؛ وعن تركيب العقل مع السخاء البر، وإنجاز الوعد وما أشبه ذلك؛ وعن تركيب العقل مع العفة التنزه، والرغبة عن المسألة، والاقتصار على أدنى معيشة، وما أشبه ذلك؛ وعن تركيب الشجاعة مع السخاء الإتلاف، والإخلاف وما جانس ذلك؛ وعن تركيب الشجاعة مع العفة إنكار الفواحش، والغيرة على الحرم؛ وعن تركيب السخاء مع العفة الإسعاف بالوقت، والإيثار على النفس، وما شاكل ذلك. قال: وكل واحدة من هذه الفضائل الأربع المتقدم ذكرها وسط بين طرفين مذمومين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 مدح أبو العتاهية عمر بن العلاء فأعطاه سبعين ألفاً وخلع عليه حتى لم يستطع أن يقوم، فغار الشعراء لذلك، فجمعهم ثم قال: عجباً لكم معشر الشعراء ما أشد حسد بعضكم لبعض، إن أحدكم يأتينا ليمدحنا فينسب في قصيدته بصديقته بخمسين بيتنا فما يبلغنا حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره، وقد أتى أبو العتاهية فنسب في أبيات يسيرة. ثم قال: إني أمنت الزمان وريبه ... لما علقت من الأمير حبالاَ لو يستطيع الناس من إجلاله ... لحذوا له حر الخدود نعالاً إن المطايا تشتكيك؛ لأنها ... قطعت إليك سباسباً ورمالا فإذا وردن بنا وردن خفائفاً ... وإذ صدرن بنا صدرن ثقالاً ومن مليح ما لأبي العتاهية في المدح قوله: فتى ما استفاد الما إلا أفاده ... سواه كأن الملك في كفه حلم إذا ابتسم المهدي نادت يمينه ... ألا من أتانا زائرا فله الحكم وله أيضاً في معنى بيتي الفرزدق اللذين صنعهما لعبد الرحمن بن أم الحكم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 فما مثل بيتيه في العالمين ... أعز بناء ولا أرفع فبيت بناه له هاشم ... وبيت بناه له تبع ولو حاول الدهر ما في يديه ... لعاد وعرنينه أجدع ومن المديح المنصوص عليه قول زهير: وفيهم مقامات حسان وجوهها ... وأندية ينتابها القول والفعل وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم ... مجالس قد يشفى بأحلامها الجهل على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم ... فلم يفعلوا ولم يليموا ولم يألوا فما كان من خير أتوه فإنما ... توارثه أباء آبائهم قبل وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل وكذلك أيضاً قوله: من يلق يوماً على علاته هرماً ... يلق السماحة منه والندى خلقاً ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا فضل الجواد على الخيل البطاء فلا ... يعطي بذلك ممنوناً ولا نزقا هذا وليس كمن يعيا بخطبته ... وسط الندى إذا ما ناطق نطقا لو نال حي من الدنيا بمكرمة ... أفق السماء لنالت كفه الأفقا وينبغي أن يكون قصد الشاعر في مدح الكاتب والوزير ما اختاره قدامة وغيره، وكذلك ما ناسب حسن الروية، وسرعة الخاطر بالصواب، وشدة الحزم، وقلة الغفلة، وجود النظر للخليفة، والنيابة عنه في المعضلات بالرأي أو الذات، كما قال أبو نواس: إذا نابه أمر فإما كفيته ... وإما عليه بالكفى تشير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وبأنه محمود السير، حسن السياسة، لطيف الحس، فإن أضاف ذلك إلى البلاغة، والخط، والتفنن في العلم؛ كان غاية. وأفضل ما مدح به القائد: الجود، والشجاعة، وما تفرغ منهما، نحو التخرق في الهيئات، والإفراط في النجدة، وسرعة البطش، وما شاكل ذلك. ويمدح القاضي بما ناسب العدل والإنصاف، وتقريب البعيد في الحق، وتبعيد القريب، والأخذ للضعيف من القوي، والمساواة بين الفقير والغني، وانبساط الوجه، ولين الجانب، وقلة المبالاة في إقامة الحدود واستخراج الحقوق، فإن زاد إلى ذلك ذكر الورع، والتحرج، وما شاكلهما، فقد بلغ النهاية. وصفات القاضي كلها لائقة بصاحب المظالم، ومن دون هذه الثلاث الطبقات سوى طبقة الملك فلا أرى لمدحه وجهاً، فإن دعت إلى ذلك ضرورة مدح كل إنسان بالفضل في صناعته، والمعرفة بطريقته التي هو فيها، وأكثر ما يعول عن الفضائل النفسية التي ذكرها قدامة، فإن أضيف إليها فضائل عرضية أو جسمية: كالجمال، والأبهة، وبسطة الخلق، وسعة الدنيا، وكثرة العشيرة؛ كان ذلك جيداً، إلا أن قدامة قد أبى منه، وأنكره جملة، وليس ذلك صواباً، وإنما الواجب عليه أن يقول: إن المدح بالفضائل النفيسة أشرف وأصح، فأما إنكار ما سواها كرة واحدة فما أظن أحداً يساعده فيه، ولا يوافقه عليه. وقد كره الحذاق أن تمدح الملوك بما ناسب قول موسى شهوات وروى لغيره: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 ليس فيما بدا لنا منك عيب ... عابه الناس غير أنك فاني أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان وذكر عن سليمان بن عبد الملك أنه خرج من الحمام، وهو الخليفة، يريد الصلاة، ونظر في المرآة فأعجبه جماله، وكان حسن الوجه، فقال: أنا الملك الشاب، ويروى " الفتى " فتلقته إحدى حظاياه، فقال لها: كيف ترينني؟ فتمثلت في البيتين المتقدم ذكرهما، فتطير بهما ورجع، فحم فما بات إلا ميتاً تلك الليلة وروى عن بعض الملوك أنه قال: ما لهؤلاء الشعراء قاتلهم الله، ربما ذكرونا شيئاً نحن أكثر ذكراً له منهم فينغصون به علينا أوقات لذتنا!!؟ يعني بذلك الموت. ومن أشنع ما في ذلك قول أبي تمام: فليطل عمره فلو مات في طو ... س مقيماً لمات فيها غريبا فما الذي دعاه إلى ذكر الموت ههنا إلا النكد والنغاصة؟. أجمع الناس على تقديم قول كعب بن زهير يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحمله الناقة الأدماء معتجراً ... بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم وفي عطافيه أو أثناء ريطته ... ما يعلم الله من دين ومن كرم والجهال يروون البيت الأول لأبي دهبل الجمحي، ويناسبه قول العجاج: يحملن كل سؤدد وفخر ... يحملن ما ندري وما لا ندري قال الأصمعي: وأصله قول الحارث بن حلزة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وفعلنا بهم كما علم الل ... هـ وما إن للحائنين دماء قال: ولم يقل قط شاعر " كما يعلم " أحسن من هذه الثلاثة المعاني قال أبو العباس المبرد: من الشعراء من يحمل المدح، فيكون ذلك وجهاً حسناً؛ لبلوغه الإرادة مع خلوة من الإطالة، وبعده من الإكثار، ودخوله في الاختصار. وذلك نحو قول الحطيئة: تزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المكارم يحمد تزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ويعلم أن المرأ غير مخلد يرى البخل لا يبقي على المرء ماله ... ويعلم أن المرء غير مخلد ورواه غيره أن المال غير مخلد. كسوب متلاف إذا ما سألته ... تهلل واهتز اهتزاز المهند متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... نجد خير نار عندها خير موقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 تصرف في أبياته هذه في أصناف المديح، واتى بجماع الوصف وجملة المدح على سبيل الاقتصار في البيت الأخير. ومثله قول الشماخ: رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى العلياء منقطع القرين إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين انتهى كلامه. ومن أفضل ما مدح به ملوك وأكثره إصابة للغرض ما ناسب قول أبن هرمة المنصور: له لحظات عن حفافي سريره ... إذا كرها فيها عقاب ونائل فأم الذي أمنت آمنة الردى ... وأم الذي أوعدت بالثكل ثاكل وقول أبي العتاهية في مدح الهادي: يضطرب الخوف والرجاء إذا ... حرك موسى القضيب أو فكرا وكذلك قول الحزين الكناني في عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وقد وفد عليه بمصر، ويروي للفرزدق في علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وقيل: بل قالها فيه اللعين المنقري، وقيل: بل الأبيات لداود بن سلم في قثم بن العباس بن عبد الله بن العباس: في كفه خيزران ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم اجتمع الشعراء بباب المعتصم فبعث إليهم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل منصور النميري في أمير المؤمنين الرشيد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع إذا رفعت أمراً فالله رافعه ... ومن وضعت من الأقوام متضع من لم يكن بأمين الله معتصماً ... فليس بالصلوات الخمس بنتفع إن أخلف الغيث لم تخلف أنامله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع فليدخل، فقال محمد بن وهب: فينا من يقول خيراً منه، وأنشد: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر يحكى أفاعيله في كل نائلة ... الغيث والليث والصمصامة الذكر فأمر بإدخاله وأحسن صلته. قالوا: لما حضرت الحطيئة الوفاة قال: أبلغوا الأنصار أن أخاهم أمدح الناس حيث يقول: يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل قال ثعلب: بل قول الأعشى: فتى لو يباري الشمس ألقت قناعها ... أو القمر الساري لألقى المفالدا أمدح منه. وقال أبو عمرو بن العلاء: بل بيت جرير: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح أسير ما قيل في المدح وأسهله. وقال غيره: بل قول الأخطل: شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا وقال دعبل: بل قول أبي الطمحان القيني: أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم العقد ثاقبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 قال: وقد تنازع في هذا البيت يعني بيت أبي الطمحان قوم، وفي بيت حسان في آل جفنة، وبيت النابغة: فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب وبيت أبي الطمحان أشعرها. قال الحاتمي: بل بيت زهير: تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله وحكى علي بن هارون عن أبيه أنه قال: أجمع أهل العلم على أن بيتي أبي نواس أجود ما للمولدين في المدح، وهما قوله: أنت الذي تأخذ الأيدي بحجزته ... إذا الزمان على أبنائه كلحا وكلت بالدهر عيناً غير غافلة ... من جود كفك تأسو كل ما جرحا روى الحاتمي عن محمد بن عبد الواحد عن أحمد بن يحيى قال: سمعت ابن الأعرابي يقول: أمدح بيت قاله مولد قول أبي نواس: تغطيت من دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني فلو تسأل الأحداث عني ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني قال صاحب الكتاب: نحن إلى الإنصاف أحوج منا إلى المكابرة والخلاف، أبو نواس ذهب مذهباً لطيفاً يخرج له فيه العذر والتأويل، وإلا فما في صفة الخمول أشد مما وصف، لا سيما على رواية من روى: فلو تسأل الأيام عني ومن جيد ما سمعته لمحدث وأظنه لابن الرومي في عبيد الله بن سليمان بن وهب، ورأيت من يرويه لأبي الحسين أحمد بن محمد الكاتب: إذا أبو قاسم جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان: البحر والمطر ولو أضاءت لنا أنوار غرته ... تضاءل النيران: الشمس والقمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وإن مضى رأيه أو حد عزمته ... تأخر الماضيان: السيف والقدر من لم يبت حذراً من خوف سطوته ... لم يدر ما المزعجان: الخوف والحذر ينال بالظن ما يعيا العيان به ... والشاهدان عليه العين والأثر كأنه وزمام الدهر في يده ... يرى عواقب ما يأتي وما يذر وقال خلف الأحمر: أغلب المدح أكثره ملقاً كقول زهير: تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله غدوت عليه غدوة فوجدته ... قعوداً لديه بالصريم عواذله يفدينه طوراً، وطوراً يلمنه ... وأعيى فما يدرين أين مخاتله فأعرضن منه عن كريم مرزإ ... عزوم على الأمر الذي هو فاعله وقال طفيل الغنوي: جزى الله عنا جعفراً حين أزلفت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ... تلاقي الذي لا قوة منا لملت وقال الأصمعي: أخلب الشعر قول حمزة بن بيض: تقول لي والعيون هاجعة: ... أقم علينا يوماً، فلم أقم أي الوجوه انتجعت؟ قلت لها: ... لا أي وجه إلا إلى الحكم متى يقل حاجباً سرداقه ... هذا ابن بيضٍ بالباب يبتسم قد كنت أسلمت فيك مقتبلاً ... فهات إذ حل أعطني سلمي وسأل الرشيد المفضل الضبي: أي بيت قالته العرب أمدح؟ فقال: أغر أبلج تأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار هكذا روايته فيه. قال شرحبيل بن معن بن زائدة: كنت أسير تحت قبة يحيى بن خالد، وقد حج مع الرشيد، وعديله أبو يوسف القاضي، إذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 أتاه أعرابي من بني أسد كان يلقاه إذا حج فيمدحه، فأنشده شعراً أنكر يحيى منه بيتاً فقال: يا أخا بني أسد، ألم أنهك عن مثل هذا الشعر؟ ألا قلت كما قال الشاعر: بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفان أشبل هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأولهم في الجاهلية أول هم القوم إن قالوا أصابوا، وأن دعوا ... أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا ولا يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا فقال أبو يوسف: لمن هذا الشعر أصلحك الله فما سمعت أحسن منه؟ فقال يحيى: يقوله ابن أبي حفصة في أبي هذا الفتى، وأوما إلي، فكان قوله أسر إلى من جليل الفوائد، ثم التقت إلي وقال: يا شرحبيل، أنشدني أجود ما قاله ابن أبي حفصة في أبيك، فأنشدته: نعم المناخ لراغب ولراهب ... ممن تصيب جوائح الأزمان معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفاً على شرف بنو شيبان إن عد أيام اللقاء فإنما ... يوماه يوم ندى ويوم طعان يكسو الأسرة والمنابر بهجة ... ويزينها بجهارة وبيان تمضي أسنته ويسفر وجهه ... في الحرب عند تغير الألوان نفسي فداك أبا الوليد إذا بدا ... رهج السنابك والرماح دواني فقال يحيى: أنت لا تدري جيد ما مدح به أبوك، أجود من هذا قوله: تشابه يوماه علينا فأشكلاً ... فلا نحن ندري أي يوميه أفضل أيوم نداه الغمر، أم يوم بأسه؟ ... وما منهما إلا أغر محجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 ومما اخذ الكميت قوله يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: فاعتتب القول من فؤادي والش ... عر إلى من إليه معتتب إلى السراج المنير أحمد لا ... يعدلني رغبة ولا رهب عنه إلى غيره ولو رفع الن ... اس إلى العيون وارتقبوا وقيل: أفرطت، بل تقصدت، ولو ... عنفني القائلون أو ثلبوا إليك يا خير من تضمنت ال ... أرض ولو عاب قولي العيب لج بتفضيلك اللسان ولو ... أكثر فيك الضجاج والصخب قالوا: من هذا الذي يقول في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أفرطت، أو يعنفه، أو يثلبه، أو يعيبه، حتى يكثر الضجاج والصخب؟!! وهذا كله خطأ منه، وجهل بمواقع المدح، وقال من احتج له: لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد علياً رضي الله عنه، فورى عنه بذكر النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من بني أمية. ومن الشعراء من ينقل المديح عن رجل إلى رجل، وكان ذلك دأب البحتري، وفعله أبو تمام في قصائد معدودة؛ منها: قدك أتئب أربيت في الغلواء نقلها عن يحيى بن ثابت إلى محمد بن حسان، فأما الذي قال: " هن بنياتي أنكحهن من شئت " فهو معذور إن لم يثب، فأما إن أثيب فذلك منه قلة وفاء، وفرط خيانة. باب الافتخار والإفتخار هو المدح نفسه، إلا أن الشاعر يخص به نفسه وقومه، وكل ما حسن في المدح حسن في الافتخار، وكل ما قبح فيه قبح في الافتخار؛ فمن أبيات الافتخار قول الفرزدق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول قال أحمد بن يحيى: أفخر بيت قالته العرب قول امرئ القيس: ما ينكر الناس منا حين نملكهم ... كانوا عبيداً وكنا نحن أربابا؟ وقال دعبل بن علي: أفخر الشعر قول كعب بن مالك: وببئر بدر إذ يرد وجوههم ... جبريل تحت لوائنا، محمد وقال الحاتمي: قول الفرزدق: ترى الناس إن سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا قال: ويتلوه قول جرير: إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا وقال آخرون: بل بيت الفرزدق: ونحن إذا عدت معد قديمها ... مكان النواصي من وجوه السوابق وقال غيرهم: بل قوله لجرير: وإذا نظرت رأيت فوقك دارماً ... والشمس حيث تقطع الأبصارا وقيل: بل قول ابن ميادة واسمه الرماح بن أبرد: ولو أن قيساً قيس عيلان أقسمت ... على الشمس لم يطلع عليك حجابها وأفخر بيت صنعه محدث عندهم بشار: إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة ... ذرا منبر صلى علينا وسلما ويروى: هتكنا سماء الله أو مطرت دما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 ومن جيد الافتخار قول بكر بن النطاح الحنفي: ومن يفتقر منا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل ونحن وصفنا دون كل قبيلة ... ببأس شديد في الكتاب المنزل وإنا لنلهو بالحروب كما لهت ... فتاة بعقد أو سخاب قرنفل يعني قول الله عز وجل: " قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد " فدعوا في خلافة أبي بكر إلى قتال أهل الردة من بني حنيفة، وبسبب هذا الشعر وأشباهه طلبه الرشيد طلبٍ، وقال: كيف يفتخر على مضر ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خير البشر؟ فهذا افتخار بالشجاعة خاصة. وممن افتخر بالكثرة أوس بن مغراء قال: ما تطلع الشمس إلا عند أولنا ... ولا تغيب إلا عند أخرانا وقد أنكر قدامة أن يمدح الإنسان بآبائه دون أن يكون ممدوحاً بنفسه؛ لأن كثيراً من الناس لا يكونون كآبائهم، والذي ذهب إليه حسن. وأنكر الجرجاني على أبي الطيب قوله: ما بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودي وإنما أخذه من قول علي بن جبلة حيث يقول: وما سودت عجلاً مآثر غيرهم ... ولكن بهم سادت على غيرهم عجل قال: وهذا معنى سوء يقصر بالممدوح، ويغض من حسبه، ويحقر من شأن سلفه، وإنما طريفة المدح يشرف بآبائه، والآباء تزداد شرفاً به؛ فجعل لكل واحد منهم حظاً في الفخر وفي المدح نصيباً، وإذا حصلت الحقائق كان النصيبان مقسومين، بل كان الكل خالصاً لكل فريق منهم؛ لأن شرف الوالد جزء من ميراثه، ومنتقل إلى ولده كانتقال ماله، فإن رعى وحرس ثبت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 وازداد، وإن أهمل وضيع هلك وباد. وكذلك شرف الوالد يعم القبيلة، وللولد منه القسم الأوفر، والحظ الأكبر. قال صاحب الكتاب: والذي يقع عليه الاختيار عندي ما ناسب قول المتوكل الليثي: إنا وإن أحسابنا كرمت ... لسنا على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا وقول عامر بن الطفيل الجعفري: فإني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المشهور في كل موكب فما سودتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ومن أفخر ما قال المولدون قول إبراهيم الموصلي يفتخر بولائه من خزيمة بن حازم النهشلي: إذا مضر الحمراء كانت أرومتي ... وقام بمجدي حازم وابن حازم عطست بأنفي شامخاً وتناولت ... يداي الثريا قاعداً غير قائم ومن قول السيد أبي الحسن يفخر بقومه بني شيبان: يا آل شيبان لا غارت نجومكم ... ولا خبت ناركم من بعد توقيد لأنتم دعائم هذا الملك مذ ركضت ... قبل الخيول لإبرام وتوكيد المنعمون إذا ما أزمة أزمت ... والواهبون عتيقات المزاويد سيوفكم أفقدت كسرى مرازبه ... في يوم ذي قار إذ جاؤا لموعود وهذا هو الفخر الحلال غير المدعى فيه ولا المنتحل. ومما عابه الأصمعي وغيره قول عامر بن معشر بن أسحم يصف أسيراً أسروه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 فظل يخالس المذقات فينا ... يقاد كأنه جمل ربيق وذلك بأنه وصف أسيرهم بأنه جائع يخالس القليل الممذوق من اللبن، وإنما ذلك من الجهد. ومن أجود قصيدة افتخر فيها شاعر قصيدة السموأل بن عادياء اليهودي فإنها جمعت ضروب الممادح وأنواع المفاخر، وهي مشهورة. باب الرثاء وليس بين الرثاء والمدح فرق؛ إلا أنه يخلط بالرثاء شيء يدل على أن المقصود به ميت مثل " كان " أو " عدمنا به كيت وكيت " وما يشاكل هذا وليعلم أنه ميت. وسبيل الرثاء أن يكون ظاهر التفجع، بين الحسرة، مخلوطاً بالتلهف والأسف والاستعظام، إن كان الميت ملكاً أو رئيساً كبيراً، كما قال النابغة في حصن بن حذيفة بن بدر: يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... وكيف بحصن والجبال جنوح ولم تلفظ الموتى القبور، ولم تزل ... نجوم السماء، والأديم صحيح فعما قليل ثم جاء نعيه ... فظل ندي الحي وهو ينوح فهذا وما شاكله رثاء الملوك والرؤساء الجلة، وإلى هذا المعنى ذهب أبو العتاهية حين قال: مات الخليفة أيها الثقلان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 فرفع الناس رؤوسهم، وفتحوا عيونهم، وقالوا: نعاه إلى الجن والإنس، ثم أدركه اللين والفترة فقال: فكأنني أفطرت في رمضان يريد: إني بمجاهرتي بهذا القول كأنما جاهرت بالإفطار في رمضان نهاراً وكل أحد ينكر ذلك علي، ويستعظمه من فعلي، وهذا معنى جيد غريب في لفظ رديء غير معرب عما في النفس. ومن أفضل الرثاء قول حسين بن مطير يرثي معن بن زائدة، ويروي لابن أبي حفصة: فيا قبر معن، كنت أول حفرة ... من الأرض خطت للسماحة مضجعا ويا قبر معن، كيف واريت جوده؟ ... وقد كان منه البر والبحر مترعا بلى وقد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعاً وما قصر أبو تمام في رثائه محمد بن حميد بالقصيدة التي يقول فيها: ألا في سبيل الله من عطلت له ... فجاج سبيل الثغر وانثغر الثغر فتى كلما فاضت عيون قبيلة ... دماً ضحكت عنه الأحاديث والنشر وما مات حتى مات مضرب سيفه ... من الضرب واعتلت عليه القنا السمر فتى مات بين الطعن والضرب ميتة ... تقوم مقام النصر إذ فاته النصر وقد كان فوت الموت سهلاً فرده ... إليه الحفاظ المر والخلق الوعر ونفس تخاف العار حتى كأنما ... هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشر وقد أجاد أيضاً في القصيدة التي رثى بها إدريس بن بدر السامي يقول فيها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 ولم أنس سعي الجود خلف سريره ... بأكسف بال يستقل ويظلع وتكبيره خمساً عليه معالناً ... وإن كان تكبير المصلين أربع وما كنت أدري يعلم الله قبلها ... بأن الندى في أهله يتشيع وليس في ابتداءات المرائي المولدة مثل قوله: أصم بك الناعي وإن كان أسمعا ... وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا يرثي بها محمد بن حميد، وجعل خاتمها: فإن أترم عن عمر تدانى به المدى ... فخانك حتى لم تجد عنه منزعا فما كنت إلا السيف لاقى ضريبة ... فقطعها ثم انثنى فتقطعا وأبو تمام من المعدودين في إجادة الرثاء، ومثله عبد السلام بن رغبان ديك الجن، وهو أشهر في هذا من حبيب، وله فيه طريق انفرد بها، وذلك أنه قتل جاريته واتهم بها أخاه، ثم قال يرثيها: يا مهجة جثم الحمام عليها ... وجنى لها ثمر الردى بيديها رويت من دمها التراب، وربما ... روى الهوى شفتي من شفتيها حكمت سيفي في مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خديها فوحق نعليها لما وطئ الحصى ... شيء أعز علي من نعليها ما كان قتليها لأني لم أكن ... أخشى إذا سقط الغبار عليها لكن بخلت على الأنام بحسنها ... وأنفت من نظر العيون إليها وقال أيضاً فيها على بعض الروايات: أشفقت أن يرد الزمان بغدره ... أو أبتلى بعد الوصال بهجره فقتلته، وله علي كرامة ... ملء الحشا، وله الفؤاد بأسره قمر أنا استخرجته من دجنه ... لبليتي وزففته من خدره عهدي به ميتاً كأحسن نائم ... والحزن ينحر دمعتي في نحره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 الذي أعرف " ينحر مقلتي " وهو أصح استعارة. لو كان يدري الميت ماذا بعده ... بالحي منه بكى له في قبره غصص تكاد تفيض منها نفسه ... ويكاد يخرج قلبه من صدره والرواية الأخرى أن المتهم بالجارية غلام كان يهواه قتله أيضاً، فصنع فيه هذه الأبيات، فصنعت فيه أخت الغلام: يا ويح ديك الجن، بل تباً له ... ماذا تضمن صدره من غدره قتل الذي يهوى وعمر بعده ... يا رب لا تمدد له في عمره ويكون الرثاء مجملاً كالمدح المجمل فيقع حسناً لطيفاً: كقول ابن المعتز في المعتضد: قضوا ما قضوا من أمره ثم قدموا ... إماماً إمام الخير بين يديه وصلوا عليه خاشعين كأنهم ... صفوف قيام للسلام عليه وقال في عبيد الله بن سليمان بن وهب: قد استوى الناس ومات الكمال ... وصاح صرف الدهر: أين الرجال! هذا أبو العباس في نعشه ... قوموا انظروا كيف تسير الجبال يا ناصر الملك بآرائه ... بعدك للملك ليال طوال وذكر غير واحد أن أراتي بيت قيل: أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر. ومن عادة القدماء أن يضربوا الأمثال في المرائي بالملوك الأعزة، والأمم السالفة، والوعول الممتنعة في قلل الجبال، والأسود الخادرة في الغياض، وبحمر الوحش المتصرفة بين القفار، والنسور، والعقبان، والحيات؛ لبأسها وطول أعمارها، وذلك في أشعارهم كثير موجود لا يكاد يخلو منه شعر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 قال أبو علي: فأما المحدثون فهم على غير هذه الطريقة أميل، ومذهبهم في الرثاء أمثل، في هذا وقبله، وربما جروا على سنن من قبلهم إقتداء بهم وأخذاً بسنتهم كالذي صنع أبو أيوب في رثائه أبا البيداء الأعرابي وخلف بن حيان الأحمر ومرائيه فيهما وقافية مشهورات: إحداهن قوله: لا تئل العصم في الهضاب ولا ... شغواء تغذو فرخين في لجف والثانية قوله: لو كان حي وائلا من التلف والثالثة قوله في أبي البيداء: هل مخطئ يومه عفر بشاهقة ... ترعى بأخيافها شثاً وطباقا وكما صنع ابن المعتز يرثي أباه بالقصيدة اللامية المقيدة في الرمل: رب حتف بين أثناء الأمل ... وحياة المرء ظل منتقل وهي أيضاً معروفة، ولولا اشتهار هذه القصائد، ووجودها، وخيفة التطويل بها؛ لأثبتها في هذا الموضع. وليس من عادة الشعراء أن يقدموا قبل الرثاء نسيباً كما يصنعون ذلك في المدح والهجاء، وقال ابن الكلبي وكان علامة: لا أعلم مرثية أولها نسيب إلا قصيدة دريد بن الصمة: أرث جديد الحبل من أم معبد ... بعافية وأخلفت كل موعد؟ وعن علي بن سليمان، عن أبي العباس الأحول، وأن القصيدة التي لأبي قحافة أعشى باهلة، إنما هي لابنة المنتشر، واسمها الدعجاء. قال: وقال علي بن سليمان: حدثني أبي أن أولها. هاج الفؤاد على عرفانه الذكر ... وذكر خودٍ على الأيام ما يذر قد كنت أذكرها والدار جامعة ... والدهر فيه هلاك الناس والشجر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 هكذا أنشده النحاس والذي أعرف " وذكر ميت " وأعرف أيضاً " والدهر فيه هلاك الناس والغير " كذلك أنشدنيه الموصلي في الأغاني، ثم عطف النحاس فقال: هذان البيتان لا يعرفان في أول هذه القصيدة؛ ومما يزيد الاسترابة بهما أن المتعارف عند أهل اللغة أنه ليس للعرب في الجاهلية مرثية أولها تشبيب إلا قصيدة دريد، وأنا أقول: إنه الواجب في الجاهلية والإسلام، وإلى وقتنا هذا، ومن بعده؛ لأن الآخذ في الرثاء يجب أن يكون مشغولاً عن التشبيب بما هو فيه من الحسرة والاهتمام بالمصيبة؛ وإنما تغزل دريد بعد قتل أخيه بسنة، وحين أخذ ثأره، وأدرك طلبته. وربما قال الشاعر في مقدمة الرثاء " تركت كذا " أو " كبرت عن كذا " وهو في ذلك كله يتغزل ويصف أحوال النساء، وكان الكميت ركاباً لهذه الطريقة في أكثر شعره؛ فأما ابن مقبل فمن جفاء أعرابيته أنه رثى عثمان بن عفان رضي الله عنه بقصيدة حسنة أتى فيها على ما في النفس، ثم عطف وقال: فدع ذا، ولكن علقت حبل عاشق ... لإحدى شعاب الحين والقتل أريب ولم تنسني قتلى قريش ظعائناً ... تحملن حتى كادت الشمس تغرب يطفن بغريد يعلل ذا الصبا ... إذا رام أركوب الغواية أركب من الهيف مبدان ترى نطفاتها ... بمهلكة أخراصهن تذبذب والنسيب في أول القصيدة على مذهب دريد خير مما ختم به هذا الجلف، على تقدمه في الصناعة، إلا أن تكون الرواية " ظعائن " بالرفع. ومما عيب على الكميت في الرثاء قوله في ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبورك قبر أنت فيه، وبوركت ... به وله أهل بذلك يثرب لقد غيبوا براً وحزماً ونائلاً ... عشية واراه الضريح المنصب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 حكاه الجاحظ وغيره، وأظن أن المراد بما عيب الثاني من هذين البيتين، فأما الأول فجيد. ومن العجب أن يقول عبدة بن الطيب في تأبين قيس بن عاصم: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما تحية من ألبسته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلما فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما ويقول الكميت في تأبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول، فهلا قال مثل قول فاطمة رضي الله عنها: اغبر آفاق السماء وكورت ... شمس النهار وأظلم العصران فالأرض من بعد النبي كئيبة ... أسفاً عليه كثيرة الرجفان فليبكه شرق البلاد وغربها ... وليبكه مضر وكل يماني وليبكه الطود المعظم جوه ... والبيت ذو الأستار والأركان يا خاتم الرسل المبارك صنوه ... صلى عليك منزل القرآن صلى الله عليه وسلم، ورحم وكرم وعظم. والنساء أشجى الناس قلوباً عند المصيبة، وأشدهم جزعاً على هالك؛ لما ركب الله عز وجل في طبعهن من الخور وضعف العزيمة. وعلى شدة الجزع يبنى الرثاء، كما قال أبو تمام: لولا التفجع لادعى هضب الحمى ... وصفا المشقر أنه محزون فانظر إلى قول جليلة بنت مرة ترثي زوجها كليباً، حين قتله أخوها جساس، ما أشجى لفظها، وأظهر الفجيعة فيه!! وكيف يثير كوامن الأشجان، ويقدح شرر النيران، وذلك: يا ابنة الأقوام إن لمت فلا ... تعجلي باللوم حتى تسألي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 فإذا أنت تبينت التي ... عندها اللوم فلومي واعذلي إن تكن أخت امرئ ليمت على ... جزع منها عليه فافعلي فعل جساس على ضني به ... قاطع ظهري ومدن أجلي لو بعين فديت عيني سوى ... أختها وانفقأت لم أحفل تحمل العين قذى العين كما ... تحمل الأم قذى ما تفتلي إنني قاتلة مقتولة ... فلعل الله أن يرتاح لي يا قتيلاً قوض الدهر به ... سقف بيتي جميعاً من عل ورماني فقده من كثب ... رمية المصمى به المستأصل هدم البيت الذي استحدثته ... وسعى في هدم بيتي الأول مسني فقد كليب بلظى ... من ورائي ولظى مستقبلي ليس من يبكي ليومين كمن ... إنما يبكي ليوم ينجلي درك الثائر شافيه وفي ... دركي ثأري ثكل المثكل ليته كان دمى فاحتلبوا ... درراً منه دمى من أكحلي ومن أشد الرثاء صعوبة على الشاعر أن يرثي طفلاً أو امرأة؛ لضيق الكلام عليه فيهما، وقلة الصفات، ألا ترى ما صنعوا بأبي الطيب وهو فحل مجود إذا ذكر المحدثون في قوله يذكر أم سيف الدولة: صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفن بالجمال فقالوا: ماله ولهذه العجوز يصف جمالها؟ وقال الصاحب بن عباد: استعارة حداد في عرس، فان كان أراد بالاستعارة الحنوط فقد والله ظلم وتعسف، وإن كان أراد استعارة الكفن بجمال العجوز فقد اعترض في موضع اعتراض إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 مواضع كثيرة في هذه القصيدة، على أن فيهما ما يمحو كل زلة، ويعفى على كل إساءة قال الصاحب بن عباد: ولقد مررت على مرثية له في أم سيف الدولة تدل مع فساد الحس على سوء أدب النفس، وما ظنك بمن يخاطب ملكاً في أمه بقوله: رواق العز فوقك مسبطر ... وملك علي ابنك في كمال ولغل لفظة الاسبطرار في مراثي النساء من الخذلان الصفيق الرقيق، وأنا أقول: إن أشد ما هجن هذه اللفظة وجعلها مقام قصيدة هجاء أنه قرنها بفوقك؛ فجاء عملاً تاماً لم يبق فيه الإفضاء. ومن صعب الرثاء أيضاً جمع تعزية وتهنئة في موضع، قالوا: لما مات معاوية اجتمع الناس بباب يزيد، فلم يقدر أحد على الجمع بين التهنئة والتعزية، حتى أتى عبيد الله بن همام السلولي فدخل فقال: يا أمير المؤمنين، آجرك الله على الرزية، وبارك لك في العطية، وأعانك على الرعية، فقد رزئت عظيماً، وأعطيت جسيماً، فاشكر الله على ما أعطيت، واصبر على ما رزئت، فقد فقدت خليفة الله، وأعطيت خلافة الله، ففارقت جليلا، ووهبت جزبلا؛ إذ قضى معاوية نحبه، ووليت الرياسة، وأعطيت السياسة، فأورده الله موارد السرور، ووفقك لصالح الأمور. فاصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا لا رزء أصبح في الأقوام نعلمه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا أصبحت والي أمر الناس كلهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا ففتح للناس باب القول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 وعلى هذا السنن جرى الشعراء بعده؛ فقال أبو نواس يعزي الفضل بن الربيع عن الرشيد، ويهنئه بالأمين: تعز أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان أو هو كائن حوادث أيام تدور صروفها ... لهن مساو مرة ومحاسن وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا الملك مغبون ولا الموت غابن ويروى: فلا أنت مغبون واتبعه أبو تمام بالقصيدة التي أولها: ما للدموع تروم كل مرام يقولها للواثق بعد موت المعتصم، صرف الكلام فيها كيف شاء، وأطنب كما أراد، واحتج فيها فأسهب، وتقدم فيها على كل من سلك هذه الناحية من الشعراء، وأراد ابن الزيات مجاراته فعلم من نفسه التقصير فاقتصر على قوله: قد قلت إذ غيبوك واصطفقت ... عليك أيد بالترب والطين اذهب فنعم المعين كنت على الد ... نيا ونعم الظهير للدين لن يجبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون ومن جيد ما رثي به النساء وأشجاه وأشده تأثيراً في القلب وإثارة للحزن قول محمد بن عبد الملك هذا في أم ولده: ألا من رأى الطفل المفارق أمه ... بعيد الكرى عيناه تبتدران رأى كل أم وابنها غير أمه ... يبيتان تحت الليل ينتجيان وبات وحيداً في الفراش تحثه ... بلابل قلب دائم الخفقان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 يقول فيها بعد أبيات: ألا إن سجلاً واحدا قد أرقته ... من الدمع أو سجلين قد شفياني فلا تلحياني إن بكيت؛ فإنما ... أداوي بهذا الدمع ما تريان وإن مكاناً في الثرى خط لحده ... لمن كان في قلبي بكل مكان أحق مكان بالزيارة والهوى ... فهل أنتما إن عجت منتظران ومن أشجى الشعر رثاء قوله في هذه القصيدة: فهبني عزمت الصبر عنها لأنني ... جليد، فمن بالصبر لابن ثمان؟؟ ضعيف القوى لا يعرف الأجر حسبة ... ولا يأتسى بالناس في الحدثان ألا من أمنيه المنى فأعده ... لعثرة أيامي وصرف زماني ألا من إذا ما جئت أكرم مجلسي ... وإن غبت عنه حاطني ورعاني فلم أر كالأقدار كيف تصيبني ... ولا مثل هذا الدهر كيف رماني فهذه الطريق هي الغاية التي يجري حذاق الشعر إليها، ويعتمدون في الرثاء عليها، ما لم تكن المرئية من نساء الملوك، وبنات الأشراف، وغير ذوات محارم الأشعار؛ فإنه يتجافى عن هذه الطريقة إلى أرفع منها، نحو قول أبي الطيب: ولو أن النساء كمن فقدنا ... لفضلت النساء على الرجال وقوله في هذه القصيدة: مشى الأمراء حوليها حفاة ... كأن المرو من زف الرئال ونحو قوله لأخت سيف الدولة: يا أخت خير أخ، يا بنت خير أب ... كناية بهما عن أشرف النسب أجل قدرك أن تدعي مؤنثة ... ومن يصفك فقد سماك للعرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 ورثاء الأطفال أن يذكر مخايلهم، وما كانت الفراسة تعطيه فيهم، مع تحزن لمصابهم، وتفجع بهم، كالذي صنع أبو تمام في ابني عبد الله بن طاهر. باب الاقتضاء والاستنجاز حسب الشاعر أن يكون مدحه شريفاً، واقتضاؤه لطيفاً، وهجاؤه إن هجا عفيفاً؛ فإن الاقتضاء الخشن ربما كان سبب المنع والحرمان، وداعية القطيعة والهجران، وقوم يدرجون العتاب في الاقتضاء، والاقتضاء في العتاب، وأنا أرى غير هذا المذهب أصوب؛ فالاقتضاء طلب حاجة، وباب التلطيف فيه أجود؛ فإن بلغ الأمر العتاب فإنما هو طلب الإبقاء على المودة والمراعاة، وفيه توبيخ ومعارضة لا يجوز معها بعد الاقتضاء، إلا أن الناس خلطوا هذين البابين، وساووا بينهما. فمن أحسن الاقتضاء على ما تخيرته، ونحوت إليه قول أمية بن أبي الصلت لعبد الله بن جدعان: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك؟ إن شيمتك الحياء وعلمك بالحقوق وأنت فرع ... لك الحسب المهذب والسناء خليل لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا مساء فأرضك كل مكرمة بنتها ... بنو تيم وأنت لها سماء إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء تباري الريح مكرمة وجوداً ... إذا ما الكلب أجحره الشتاء فأنت ترى هذا الاقتضاء كيف يلين الصخر، ويستنزل القطر، ويحط العصم إلى السهل؟؟ ومثله قول الآخر: لأشكرنك معروفاً هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 ولا ألومك إن لم يمضه قدر ... فالشيء بالقدر المحتوم مصروف وأما ما ناسب قول محمد بن يزيد الأموي لعيسى بن فرخان شاه؛ إذ يقول له مستبطئاً: أبا موسى، سقى أرض ... ك دان مسبل القطر وزاد الله في قدر ... ك ما أخملت من قدري لقد كنت أرجيك ... لما أخشى من الدهر فقد أصبحت من أوك ... د أسبابي إلى الفقر أترضى لي بأن أرضى ... بتقصيرك في أمري؟ وقد أفنيت ما أفني ... ت في شكرك من عمري مواعيد كما أخبت ... سراب المهمه القفر فمن يوم إلى يوم ... ومن شهر إلى شهر فلم أحصل على قيم ... ة ما قلمت من ظفري لعل الله أن يصن ... ع لي من حيث لا أدري فألقاك بلا شكر ... وتلقاني بلا عذر ولا أرجوك في الحالي ... ن لا العسر ولا اليسر فهذا هو العتاب الممض، والتوبيخ الذي دونه الجلد بالسوط، بل بالسيف!! ومما صنعته في العتاب على هذا الشكل بعد اليأس المستحكم على ما شرطته: رجوتك للأمر المهم وفي يدي ... بقايا أمني النفس فيها الأمانيا فساوفت بي الأيام حتى إذا انقضت ... أواخر ما عندي قطعت رجائيا وكنت كأني نازف البئر طالباً ... لإجمامها أو يرجع الماء طافيا فلا هو أبقى ما أصاب لنفسه ... ولا هي أعطته الذي كان راجيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 ومن أملح ما رأيته في الاقتضاء والاستبطاء قول أبي العتاهية لعمر بن العلاء وابن المعتز يسمي هذا النوع مزحاً يراد به الجد، وهو: أصابت علينا جودك العين يا عمر ... فنحن لها نبغي التمائم والنشر سنرقيك بالأشعار حتى تملها ... فإن لم نفق منها رقيناك بالسور وكنت أنا صنعت في استبطاء: أحسنت في تأخيرها منة ... لو لم تؤخر لم تكن كامله وكيف لا يحسن تأخيرها ... بعد يقيني أنها حاصله؟؟ وجنة الفردوس يدعى بها ... آجلة للمرء لا عاجله لكنما أضعف من همتي ... أيام عمر دونها زائله والعتاب أوسع حداً من الاقتضاء؛ لأنه يكون مثله بسبب الحاجات، وقد يكون بسبب غيرها كثيراً، والاقتضاء لا يكون إلا في حاجة. باب العتاب العتاب وإن كان حياة المودة، وشاهد الوفاء فإنه باب من أبواب الخديعة، يسرع إلى الهجاء، وسبب وكيد من أسباب القطيعة والجفاء، فإذا قل كل داعية الألفة، وقيد الصحبة، وإذا كثر خشن جانبه، وثقل صاحبه. وللعتاب طرائق كثيرة، وللناس فيه ضروب مختلفة؛ فمنه ما يمازجه الاستعطاف والاستئلاف، ومنه ما يدخله الاحتجاج والانتصاف، وقد يعرض فيه المن والإجحاف، مثل ما يشركه الاعتذار والاعتراف. وأحسن الناس طريقاً في عتاب الأشراف شيخ الصناعة وسيد الجماعة أبو عبادة البحتري الذي يقول: يريبني الشيء تأتي به ... وأكبر قدرك أن أستريبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 وأكره أن أتمادى على ... سبيل اغترار فألقى شعوبا أكذب ظني بأن قد سخطت ... وما كنت أعهد ظني كذوبا ولو لم تكن ساخطاً لم أكن ... أذم الزمان وأشكو الخطوبا ولا بد من لومة أنتحي ... عليك بها مخطئاً أو مصيبا أيصبح وردي في ساحتي ... ك طرقاً ومرعاي محلاً جديبا؟! أبيع الأحبة بيع السوام ... وآسى عليهم حبيبا حبيبا ففي كل يوم لنا موقف ... يشقق فيه الوداع الجيوبا وما كان سخطك إلا الفراق ... أفاض الدموع وأشجى القلوبا ولو كنت أعلم ذنباً لما ... تخالجني الشك في أن أتوبا سأصبر حتى ألاقي رضا ... ك إما بعيداً وإما قريبا أراقب رأيك حتى يصح ... وأنظر عطفك حتى يؤوبا والذي يقول أيضاً: وأصيد إن نازعته اللحظ رده ... كليلاً، وإن راجعته القول جمجما ثناه العدى عني فأصبح معرضاً ... وأوهمه الواشون حتى توهما وقد كان سهلاً واضحاً فتوعرت ... رباه وطلقا ضاحكا فتجهما أمتخذ عندي الإساءة محسن ... ومنتقم مني امرؤ كان منعما؟ ومكتسب في الملامة ما جد ... يرى الحمد غنما والملامة مغرما يخوفني من سوء رأيك معشر ... ولا خوف إلا أن تجوز وتظلما أعيذك أن أخشاك من غير حادث ... تبين أو جرم إليك تقدما ألست الموالي فيك غر قصائد ... هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما ثناء كأن الروض فيه منور ... ضحاً، وكأن الوشى فيه منمنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 ولو أنني وقرت شعري وقاره ... وأجللت مدحي فيك أن يتهضما لأكبرت أن أومي إليك بأصبع ... تضرع أو أدنى لمعذرة فما وكان الذي يأتي به الدهر هيناً ... علي ولو كان الحمام المقدما ولكنني أعلي محلي أن أرى ... مدلاً وأستحييك أن أتعظما فهذا عتاب كما قال: عتاب بأطراف القوافي كأنه ... طعان بأطراف القنا المتكسر وقد نحوت أنا هذا النحو في كلمة عاتبت بها القاضي جعفر بن عبد الله الكوفي قلت فيها: وقد كنت لا آتي إليك مخاتلاً ... لديك، ولا أثني عليك تصنعا ولكن رأيت المدح فيك فريضة ... علي إذا كان المديح تطوعا فقمت بما لم يخف عنك مكانه ... من القول حتى ضاق مما توسعا ولو غيرك الموسوم عني بريبة ... لأعطيت منها مدعي القول ما ادعى فلا تتخالجك الظنون فإنها ... مآثم، واترك في للصنع موضعا فوالله ما طولت باللوم فيكم ... لساناً، ولا عرضت للذم مسمعا ولا مات عنكم بالوداد، ولا انطوت ... حبالي، ولا ولى ثنائي، مودعا بلى ربما أكرمت نفسي فلم تهن ... وأجللتها عن أن تذل وتخضعا ولم أرض بالحظ الزهيد، ولم أكن ... ثقيلاً على الإخوان كلا مدفعا فباينت لا أن العداوة باينت ... وقاطعت لا أن الوفاء تقطعا ألوذ بأكناف الرجاء، وأتقي ... شمات العدا، إن لم أجد فيك مطمعا ومن معاتبات أبي تمام قوله لابن عبد الملك الزيات: لئن هممي أوجدنني في تقلبي ... مآلا لقد أفقدنني منك موئلاً وإن رمت أمراً مدبر الوجه إنني ... لأترك حظاً في فنائك مقبلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وإن كنت أخطو ساحة المحل إنني ... لأترك روضا من جداك وجدولا كذلك لا يلقي المسافر رحله ... إلى منقل حتى يخلف منقلا ولا صاحب التطواف يعمر منهلا ... وربعاً إذا لم يخل ربعاً ومنهلا ومن ذا يداني أو ينائي؟ وهل فتى ... يحل عرى الترحال أو يترحلا؟ فمرني بأمر أحوذي فإنني ... أرى الناس قد أثروا وأصبحت مرملاً فسيان عندي صادفوا لي مطعناً ... أعاب به أو صادفوا لي مقتلاً ومن قصيدة أخرى لأبي تمام: تقطعت الأسباب إن لم تغرلها ... قوى أو يصلها من يمينك واصل سوى مطلب ينضى الرجاء بطوله ... وتخلق إخلاق الجفون الوسائل وقد تألف العين الدجى وهو قيدها ... ويرجى شفاء السم والسم قاتل ولي عدة تمضي العصور وإنها ... كعهدك من أيام مصر لحائل سنون قطعناهن عشراً كأن ما ... قطعنا لقرب العهد منها مراحل وإن جزيلات الصنائع لامرئ ... إذا ما لليالي ناكرته معاقل وإن المعالي يسترم بناؤها ... سريعاً، كما قد تسترم المنازل ولو حاردت شوال عذرت لقاحها ... ولكن حرمت الدر والضرع حافل منحتكها تشفي الجوى وهو لاعج ... وتبعث أشجان الفتى وهو ذاهل ترد قوافيها إذا هي أرسلت ... هوامل مجد القوم وهي هوامل وكيف إذا حليتها بحليها ... تكون وهذا حسنها وهي عاطل؟؟! أكابرنا، عطفاً علينا؛ فإننا ... بنا ظمأ برح وأنتم مناهل وقال ابن الرومي لأبي الصقر إسماعيل بن بلبل يعاتبه في قصيدة جيدة مختارة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 عقيل الندى، أطلق مدائح جمة ... خواصي حسرى قد أبت أن تسرحا وكنت متى تنشد مديحاً ظلمته ... يكن لك أهجى كلما كان أمدحا عذرتك لو كانت سماء تقشعت ... سحائبها أو كان روض تصوحا ولكنها سقيا حرمت رويها ... وعارضها ملق كلاكل جنحا وأكلأ معروف حميت مريعها ... وقد عاد منها الحزن والسهل مسرحا فيا لك بحراً لم أجد فيه مشرباً ... وإن كان غيري واجداً فيه مسبحا مديحي عصا موسى، وذاك لأنني ... ضربت به بحر الندى فتضحضحا فيا ليت شعري إن ضربت به الصفا ... أيحدث لي فيه جداول سيحا كتلك التي أبدت ثرى البحر يابساً ... وشقت عيوناً في الحجارة سفحا سأمدح بعض الباخلين لعله ... إذا اطرد المقياس أن يتسمحا فهذا هو الذي لا يبلغ جودة، ولا يجاري سبقاً، على أن البحتري قد تقدم إلى بعض المعنى في قوله للفتح بن خاقان: غمام خطاني صوبه وهو مسبل ... وبحر عداني فيضه وهو مفعم وبدر أضاء الأرض شرقاً ومغرباً ... وموضع رحلي منه أسود مظلم وما بخل الفتح بن خاقان بالندى ... ولكنها الأقدار تعطي وتحرم وأما أبو الطيب المتنبي فكان في طبعه غلظة، وفي عتابه شدة، وكان كثير التحامل، ظاهر الكبر والأنفة، وما ظنك بمن يقول لسيف الدولة: يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الناس جراها ويختصم وجاهل مده في جهله ضحكي ... حتى أتته يد فراسة وفم إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا تظنن أن الليث يبتسم فهذا الكلام في ذاته في نهاية الجودة، غير أنه من جهة الواجب والسياسة غاية في القبح والرداءة، وإنما عرض بقوم كانوا ينتقصونه عند سيف الدولة ويعارضونه في أشعاره، والإشارة كلها إلى سيف الدولة، ثم قال بعد أبيات: يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم ما كان أخلقنا منكم بتكرمة ... لو أن أمركم من أمرنا أمم إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة ... إن المعارف في أهل النهى ذمم كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ... ويكره الله ما تأتون والكرم؟! ما أبعد العيب والنقصان من شرفي ... أنا الثريا وذان الشيب والهرم ليت الغمام الذي عند صواعقه ... يزيلهن إلى من عنده الديم أرى النوى يقتضيني كل مرحلة ... لا تستقل بها الوخادة الرسم لئن تركن ضميراً عن ميامننا ... ليحدثن لمن ودعتهم ندم وإنما قال أولا ليحدثن لسيف الدولة الندم ثم بدله، وليس هذا عتاباً، لكنه سباب، وبسبب هذه القصيدة كاد يقتل عند انصرافه من مجلس إنشادها، وهذا الغرور بعينه. فأما عتاب الأكفاء، وأهل المودات، والمتعشقين من الظرفاء، فبابة أخرى جارية على طرقاتها. قال إبراهيم بن العباس الصولي يعاتب محمد بن عبد الملك الزيات، وقد تغير عليه لما وزر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا صرت حرباً عوانا وكنت أذم إليك الزمان ... فأصبحت فيك أذم الزمانا وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا وهذا عندي من أشد العتاب وأوجعه. ومن أكرم العتاب قول السيد أبي الحسن أدام الله سيادته وسعادته: وإني لأطرى كل خل صحبته ... وأنت ترى شتمي بغير حياء ستعلم يوماً ما أسأت لصاحب ... تكرم أخلاقي وحسن وقائي ومن مليح ما سمعت قول سعيد بن حميد يعاتب صديقاً له: أقلل عتابك فالبقاء قليل ... والدهر يعدل تارة ويميل لم أبك من زمن ذممت صروفه ... إلا بكيت عليه حين يزول ولكل نائبة ألمت مدة ... ولكل حال أقبلت تحويل فالمنتمون إلى الإخاء عصابة ... إن حصلوا أفناهم التحصيل ولعل أحداث المنية والردى ... يوماً ستصدع بيننا وتحول ولئن سبقت لتبكين بحسرة ... وليكثرن علي منك عويل ولتفجعن بمخلص لك وامق ... حبل الوفاء بحبله موصول ولئن سبقت، ولا سبقت، ليمضين ... من لا يشاكله لدي خليل وليذهبن بهاء كل مروءة ... وليفقدن جمالها المأهول وأراك تكلف بالعتاب وودنا ... صاف، عليه من الوفاء دليل ود بدا لذوي الإخاء جماله ... وبدت عليه بهجة وقبول ولعل أيام الحياة قصيرة ... فعلام يكثر عتبنا ويطول إلى ههنا أومأ أبو الطيب بقوله: ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما العمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وأشار إليه أيضاً بقوله، وأردت البيت الأخير: زودينا بحسن وجهك ما دا ... م فحسن الوجوه حال تحول وصلينا نصلك في هذه الدني ... افإن المقام فيها قليل والجميع من قول الأول: ولقد علمت فلا تكن متجنياً ... أن الصدود هو الفراق الأول حسب الأحبة أن يفرق بينهم ... ريب المنون فما لنا نستعجل إلا أن ابن حميد قد فنن وبين، وشرح ما أجمل غيره بقوله " لئن سبقت أنا " " ولئن سبقت أنت " فله بذلك فضل بين، ورجحان ظاهر. وما أحسن إيجاز الذي قال: العمر أقصر مدة ... من أن يمحق بالعتاب وقال أبو المحدثين بشار: إذا كنت في كل الأمور معاتبا ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه باب الوعيد والإنذار كان العقلاء من الشعراء وذوو الحزم يتوعدون بالهجاء، ويحذرون من سوء الأحدوثة، ولا يمضون القول إلا لضرورة ولا يحسن السكوت معها. قال ابن مقبل: بني عامر، ما تأمرون بشاعر ... تخير آيات الكتاب هجانيا؟ أأعفو كما يعفو الكريم فإنني ... أرى الشغب فيما بيننا متدانيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 أم اغمض بين الجلد واللحم غمضة ... بمبرد رومي يقط النواصيا فأما سراقات الهجاء فإنها ... كلام تهاداه اللئام تهاديا أم اخبط خبط الفيل هامة رأسه ... بحرد فلا يبقى من العظم باقيا وعندي الدهيم لو أحل عقالها ... فتصبح لم تعدم من الجن حاديا شبه لسانه بمبرد رومي لمضاته، وشبه القصيدة التي لو شاء هجاهم بها بالدهيم وهي الداهية، وأصل ذلك أن الدهيم ناقة عمرو بن زبان الذهلي التي حملت رءوس بنيه معلقة في عنقها، فجاءت بها الحي، فضرب بها المثل للداهية. وقال جرير لبني حنيفة، وكان ميلهم مع الفرزدق عليه: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا أبني حنيفة إنني إن أهجكم ... أدع اليمامة لا تواري أرنبا " أحكموا " كفوا، ومن حكمة اللجام. وقال أيضاً لتيم الرباب رهط عمر بن لجأ: يا تيم تيم عدي لا أبا لكم ... لا يلقينكم في سوأة عمر وكان علي بن سليمان الأخفش في صباه يعبث بابن الرومي لما يعلم من طيرته، فيجعل من يقرع الباب عليه بكرة ويتسمى له بأقبح الأسماء، فيمنعه ذلك من التصرف، فقال يتوعده: قولوا لنحوينا أبي حسن ... إن حسامي متى ضربت مضى وإن نبلي متى هممت بأن ... أرمي نصلتها بجمر غضى لا تحسبن الهجاء يحفل بال ... رفع ولا خفض خافض خفضا ولا تخل عودتي كبادئتي ... سأسعط السم من عصى الحضضا أعرف في الأشقياء لي رجلاً ... لا ينتهي أو يصير لي غرضا يليح لي صفحة السلامة والس ... لم، ويخفي في قلبه الرضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 يضحي مغيظاً علي أن غضب ا ... لله عليه ونلت منه رضا وليس تجدي عليه موعظتي ... إن قدر الله حينه فقضى كأنني بالشقي معتذراً ... إذا القوافي أذقنه مضضا ينشدني العهد يوم ذلك وال ... عهد خفار إذا له قبضا لا يأمنن السفيه بادرتي ... فإنني عارض لمن عرضا عندي له السوط إن تلوم في ال ... سير وعندي اللجام إن ركضا أسمعت أنباء صيتي أبا حسنٍ ... والنصح لا شك نصح من محضا وهو معافى من السهاد فلا ... يجهل فيشرى فراشه قضضا أقسمت بالله لا غفرت له ... إن واحد من عروقه نبضا وكذلك قد فعل، وقد مزقه بالهجاء كل ممزق، وجعله مثلة بين أصحابه، على أن الأخفش كان يتجلد عليه، ويظهر قلة المبالاة به، وهيهات! وقد وسمه سمة الدهر، وسامه سوم الخسف والقهر. ومما قلته في هذا الباب: يا موجعي شتماً على أنه ... لو فرك البرغوث ما أوجعا كل له من نفسه آفة ... وآفة النحلة أن تلسعا وقلت من قصيدة خاطبت بها بعض بني مناد: من يصحب الناس مطوياً على دخل ... لا يصحبوه؛ فخلوا كل تدخيل لا تستطيلوا على ضعفي بقوتكم ... إن البعوضة قد تعدو على الفيل وجانبوا المزح إن الجد يتبعه ... ورب موجعة في إثر تقبيل ومنها بعد أبيات لا تليق بالموضع خوف الحشو: يا قوم لا يلقيني منكم أحد ... في المهلكات؛ فإني غير مغلول لا تدخلوا بالرضا منكم على غرر ... فتخربوا لليث غضباناً من الغيل إلا تكن حملت خيراً ضمائركم ... أكن تأبط شراً ناكح الغول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 باب الهجاء يروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: خير الهجاء ما تنشده العذراء في خدرها فلا يقبح بمثلها، نحو قول أوس: إذا ناقة شدت برجل ونمرق ... إلى حيكم بعدي فضل ضلالها واختار أبو العباس قول جرير: لو أن تغلب جمعت أحسابها ... يوم التفاخر لم تزن مثقالا ومثل قوله: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا وبين الاختيارين تناسب في عفة المذهب، غير أن بيت جرير الثاني أشد هجاء لما فيه من التفضيل، فقد حكى محمد بن سلام الجمحي عن يونس بن حبيب أنه قال: أشد الهجاء الهجاء بالتفضيل، وهو الإقذاع عندهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من قال في الإسلام هجاء مقذعاً فلسانه هدر " ولما أطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حبسه إياه بسبب هجائه الزبرقان بن بدر قال له: إياك والهجاء المقذع، قال: وما المقذع يا أمير المؤمنين؟ قال: المقذع أن تقول هؤلاء أفضل من هؤلاء وأشرف، وتبني شعراً على مدح لقوم وذم لمن تعاديهم، فقال: أنت والله يا أمير المؤمنين أعلم مني بمذاهب الشعر، ولكن حباني هؤلاء فمدحتهم وحرمني هؤلاء فذكرت حرمانهم ولم أنل من أعراضهم شيئاً، وصرفت مدحي إلى من أراده ورغبت به عمن كرهه وزهد فيه، يريد بذلك قصيدته المهموزة التي يقول فيها: وآنيت العشاء إلى سهيل ... أو الشعرى فطال بي الإناء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وهي أخبث ما صنع. وفيها أو من أجلها قال خلف الأحمر: أشد الهجاء أعفه وأصدقه، وقال مرة أخرى: ما عف لفظه وصدق معناه، ومن كلام صاحب الوساطة: فأما الهجو فأبلغه ما خرج مخرج التهزل والتهافت، وما اعترض بين التصريح والتعريض، وما قربت معانيه، وسهل حفظه، وأسرع علوقه بالقلب ولصوقه بالنفس، فأما القذف والإفحاش فسباب محض، وليس للشاعر فيه إلا إقامة الوزن. ومما يدل على صحة ما قاله صاحب الوساطة وحسن ما ذهب إليه إعجاب الحذاق من العلماء وفرسان الكلام بقول زهير في تشككه وتهزله وتجاهله فيما يعلم: وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء فإن تكن النساء مخبئات ... فحق لكل محصنة هداء وإن هذا عندهم من أشد الهجاء وأمضه. ولما قدم النابغة بعد وقعة حسي سأل بني ذبيان: ما قلتم لعامر بن الطفيل وما قال لكم؟ فأنشدوه، فقال: أفحشتم على الرجل وهو شريف لا يقال له مثل ذلك، ولكني سأقول، ثم قال: فإن يك عامر قد قال جهلاً ... فإن مطية الجهل السباب فكن كأبيك أو كأبي براء ... تصادفك الحكومة والصواب فلا يذهب بلبك طائشات ... من الخيلاء ليس لهن باب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 فإنك سوف تحلم أو تناهى ... إذا ما شبت أو شاب الغراب فإن تكن الفوارس يوم حسي ... أصابوا من لقائك ما أصابوا فما إن كان من سبب بعيد ... ولكن أدركوك وهم غضاب فلما بلغ عامراً ما قال النابغة شق عليه، وقال: ما هجاني أحد حتى هجاني النابغة، جعلني القوم رئيساً، وجعلني النابغة سفيهاً جاهلاً وتهكم بي! وروى أن شاعراً مدح الحسين بن علي رضي الله عنهما، فأحسن عطيته، فعوتب على ذلك، فقال: أترون أني خفت أن يقول إني لست ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ابن علي بن أبي طالب؟ ولكن خفت أن يقول: لست كرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولست كعلي، فيصدق ويحمل عنه، ويبقى مخلداً في الكتب، ومحفوظاً على ألسنة الرواة، فقال الشاعر: أنت والله يا ابن رسول الله أعلم بالمدح والذم مني، وقد وقع الحسن بن زيد بن الحسين بن علي في بعض ما قال جده، قال فيه ابن عاصم المديني، واسمه محمد بن حمزة الأسلمي: له حق، وليس عليه حق ... ومهما قال فالحسن الجميل وقد كان الرسول يرى حقوقاً ... عليه لأهلها وهو الرسول وجميع الشعراء يرون قصر الهجاء أجود، وترك الفحش فيه أصوب، إلا جريراً فإنه قال لبنيه: إذا مدحتم فلا تطيلوا الممادحة، وإذا هجوتم فخالفوا، وقال أيضاً: إذا هجوت فأضحك. وسلك طريقته في الهجاء سواء علي بن العباس بن الرومي، فإنه كان يطيل ويفحش، وأنا أرى أن التعريض أهجى من التصريح؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 لاتساع الظن في التعريض، وشدة تعلق النفس به، والبحث عن معرفته، وطلب حقيقته، فإذا كان الهجاء تصريحاً أحاطت به النفس علماً، وقبلته يقيناً في أول وهلة، فكان كل يوم في نقصان لنسيان أو ملل يعرض، هذا هو المذهب الصحيح، على أن يكون المهجو ذا قدر في نفسه وحسبه؛ فأما إن كان لا يوقظه التلويح، ولا يؤلمه إلا التصريح؛ فذلك، ولهذه العلة اختلف هجاء أبي نواس، وكذلك هجاء أبي الطيب فيه اختلاف؛ لاختلاف مراتب المهجوين. فمن التفضيل في الهجاء قول ربيعة بن عبد الرحمن الرقي: لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم فلا يحسب التمتام أني هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم ومن الاستحقار والاستخفاف قول زياد الأعجم: فقم صاغراً يا شيخ جرم فإنما ... يقال لشيخ الصدق: قم غير صاغر فمن أنتم؟ إنا نسينا من أنتم ... وريحكم من أي ريح الأعاصر؟!! أأنتم أولى جئتم مع النمل والدبا ... فطار، وهذا شيخكم غير طائر قضى الله خلق الناس ثم خلقتم ... بقية خلق الله آخر آخر فلم تسمعوا إلا بمن كان قبلكم ... ولم تدركوا إلا مدق الحوافر وأخذ الطرماح منه هذا المعنى فقال: وما خلقت تيم وعبد مناتها ... وضبة إلا بعد خلق القبائل ومن الاحتقار أيضاً قول جرير في التيم: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود فإنك لو رأيت عبيد تيم ... وتيماً قلت: أيهم العبيد؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 ومن مليح التهكم والاستخفاف قول أبي هفان: سليمان ميمون النقيبة حازم ... ولكنه وقف عليه الهزائم ألا عوذوه من توالي فتوحه ... عساه ترد العين عنه التمائم وفيه يقول ابن الرومي: قرن سليمان قد أضر به ... شوق إلى وجهه سيتلفه كم يعد القرن باللقاء؟ وكم ... يكذب في وعده ويخلفه؟ لا يعرف القرن وجهه، ويرى ... قفاه من فرسخ فيعرفه أخذ معنى البيت الأخير من قول الخارجي وقد قال له المنصور: أي أصحابي كان أشد إقداماً في مبارزتكم؟ فقال: ما أعرف وجوههم، ولكن أعرف أقفاءهم، فقل لهم يدبروا لأعرف. وأجود ما في الهجاء أن يسلب الإنسان الفضائل النفسية وما تركب من بعضها مع بعض، فأما ما كان في الخلقة الجسمية من المعايب فالهجاء به دون ما تقدم، وقدامة لا يراه هجواً البتة، وكذلك ما جاء من قبل الآباء والأمهات من النقص والفساد لا يراه عيباً، ولا يعد الهجو به صواباً، والناس إلا من لا يعد قلة على خلاف رأيه، وكذلك يوجد في الطباع وقد جاء ما أكد ذلك من أحكام الشريعة. وقد جمع السيد أبو الحسن أنواع الفضائل وسلبها بعض من رأى ذلك فيه صواباً، فقال: وخل لا سبيل لصرم حبله ... تعرض لي بحتف فرط جهله ردي الظن لا يأوي لخلق ... ولا يؤوى إليه لسوء فعله يصدق هاجساً يغري، ويغرى ... بتكذيب العيان لضعف عقله ويشنأ كل ذي دين وعلمٍ ... وأصل ثابت لفساد أصله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 وكان السيد أبو الحسن في هذا الباب الذي سلكه من الهجاء كما قال ولي إحسانه: إذا لم تجد بداً من القول فانتصف ... بحد لسان كالحسام المهند فقد يدفع الإنسان عن نفسه الأذى ... بمقوله، إن لم يدافعه باليد ويقال: إن أهجى بيت قاله شاعر قول الأخطل في بني يربوع رهط جرير: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولي على النار لأنه قد جمع فيه ضروباً من الهجاء: فنسبهم إلى البخل بوقود النار لئلا يهتدي بها الضيفان، ثم البخل بإيقادها إلى السائرين والسابلة، ورماهم بالبخل بالحطب، وأخبر عن قلتها وأن بولة تطفئها، وجعلها بولة عجوز، وهي أقل من بولة الشابة، ووصفهم بامتهان أمهم وابتذالها في مثل هذه الحال، يدل بذلك على العقوق والاستخفاف، وعلى أن لا خادم لهم، وأخبر في أضعاف ذلك ببخلهم بالماء، وقال محمد بن الحسين بن عبد الله الأنصاري: إنه رماهم في هذا البيت بالمجوسية؛ لأن المجوس لا ترى إطفاء النار بالماء، ولا أدري أنا كيف هذا والبول ماء غير أنه ماء نجس قذر؟ وقيل لبني كليب: ما أشد ما هجيتم به؟ قالوا: قول البعيث: ألست كليبياً إذا سيم خطة ... أقر كإقرار الحليلة للبعل وكل كليبي صحيفة وجهه ... أذل لأقدم الرجال من النعل وكان النابغة الجعدي يقول: إني وأوساً لنبتدر باباً من الهجاء، فمن سبق منا إليه غلب صاحبه، فلما قال أوس بن مغراء: لعمرك ما تبلى سرابيل عامر ... من اللؤم ما دامت عليها جلودها قال النابغة: هذا والله البيت الذي كنا نبتدره. والذي أراه أنا على كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 حال أن أشد الهجاء ما أصاب الغرض، ووقع على النكتة، وهو الذي قال خلف الأحمر بعينه. باب الاعتذار وينبغي للشاعر أن لا يقول شيئاً يحتاج أن يعتذر منه، فإن اضطره المقدار إلى ذلك، وأوقعه فيه القضاء؛ فليذهب مذهباً لطيفاً، وليقصد مقصداً عجيباً، وليعرف كيف يأخذ بقلب المعتذر إليه، وكيف يمسح أعطافه، ويستجلب رضاه، فإن إتيان المعتذر من باب الاحتجاج وإقامة الدليل خطأ، لا سيما مع الملوك وذوي السلطان، وحقه أن يلطف برهانه مدمجاً في التضرع والدخول تحت عفو الملك، وإعادة النظر في الكشف عن كذب الناقل، ولا يعترف بما لم يجنه خوف تكذيب سلطانه أو رئيسه، ويحيل الكذب على الناقل والحاسد، فأما مع الإخوان فتلك طريقة أخرى. وقد أحسن محمد بن علي الأصبهاني حيث يقول: العذر يلحقه التحريف والكذب ... وليس في غير ما يرضيك لي أرب وقد أسأت فبالنعمى التي سلفت ... إلا مننت بعفو ما له سبب وقال إبراهيم بن المهدي للمأمون في أبيات يعتذر إليه: الله يعلم ما أقول فإنها ... جهد الألية من مقر خاضع ما إن عصيتك والغواة تمدني ... أسبابها إلا بنية طائع وقد سلك أبو علي البصير مذهب الحجة وإقامة الدليل بعد إنكار الجناية، فقال: لم أجن ذنباً فإن زعمت بأن ... جنيت ذنباً فغير معتمد قد تطرف الكف عين صاحبها ... ولا يرى قطعها من الرشد ونحوت أنا هذا النحو فقلت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 لا يبعد الله أبا جعفر ... دعابة بت على نارها وإن تأذيت فيا ربما ... تأذت العين بأشفارها وأجل ما وقع في الاعتذار من مشهورات العرب قصائد النابغة الثلاث: إحداهن: يا دار مية بالعلياء فالسند يقول فيها: فلا لعمر الذي مسحت كعبته ... وما هريق على الأنصاب من جسد والمؤمن العائذات الطير تمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسند ما قلت من سيء مما أتيت به ... إذاً فلا رفعت سوطي إلي يدي إذاً فعاقبني ربي معاقبة ... قرت بها عين من يأتيك بالحسد إلا مقالة أقوام شقيت بها ... كانت مقالتهم قرعاً على الكبد نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد والثانية: أرسماً جديداً من سعاد تجنب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 يقول فيها معتذراً من مدح آل جفنة ومحتجاً بإحسانهم إليه: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب ولكنني كنت امرأ لي جانب ... من الأرض فيه مستراد ومهرب ملوك وإخوان إذا ما لقيتهم ... أحكم في أموالهم وأقرب كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ... فلم ترهم في شكرهم لك أذنبوا فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب وذلك أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب والثالثة: عفا ذو حسي من فرتنا فالفوارع يقول فيها بعد قسم قدمه على عاداته: لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوي غيره وهو راتع فإن كنت لا ذو الضغنين عني مكذب ... ولا حلفي على البراءة نافع ولا أنا مأمون بقول أقوله ... وأنت بأمر لا محالة واقع فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وقد تعلق بهذا المعنى جماعة من الشعراء: قال سلم الخاسر يعتذر إلى المهدي: إني أعوذ بخير الناس كلهم ... وأنت ذاك بما نأتي ونجتنب وأنت كالدهر مبثوثاً حبائله ... والدهر لا ملجأ منه ولا هرب ولو ملكت عنان الريح أصرفه ... في كل ناحية ما فاتك الطلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 فليس إلا انتظاري منك عارفة ... فيها من الخوف منجاة ومنقلب وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: وإني وإن حدثت نفسي بأنني ... أفوتك إن الرأي مني لعازب لأنك لي مثل المكان المحيط بي ... من الأرض أني استنهضتني المذاهب وإلى هذه الناحية أشار أبو الطيب بقوله: ولكنك الدنيا إلي حبيبة ... فما عنك لي إلا إليك ذهاب إلا أنه حرف الكلم عن مواضعه. واختار العلماء لهذا الشأن قول علي بن جبلة: وما لامرئ حاولته عنك مهرب ... ولو رفعته في السماء المطالع بلى هارب لا يهتدي لمكانه ... ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع لأنه قد أجاد مع معارضته النابغة، وزاد عليه ذكر الصبح، وأظنه اقتدى بقول الأصمعي في بيت النابغة: ليس الليل أولى بهذا المثل من النهار وفي هذه الاعتراض كلام يأتي في موضعه من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى. وأفضل من هذا كله قول الله تعالى: " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ". ووجد الفضل بن يحيى على أبي الهول الحميري فدخل إليه فأنشده: كساني وعبد الفضل ثوباً من البلى ... وإيعاده الموت الذي ما له رد وما لي إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... من الجرم ما يخشى على مثله الحقد فجد بالرضا لا أبتغي منك غيره ... ورأيك فيما كنت عودتني بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 فقال له الفضل على مذهب الكتاب في تحرير الخطاب: لا أحتمل والله قولك: " ورأيك فيما كنت دعوتني " فقال أبو الهول: لا تنظر أعزك الله إلى قصر باعي، وقلة تمييزي، وافعل بي ما أنت أهله، فأمر له بمال جسيم، ورضي عنه، وقربه. وفي اشتقاق الأعذار ثلاثة أقوال: أحدهما أن يكون من المحو، كأنك محوت آثار الموجدة، ومن قولهم: اعتذرت المنازل، إذا درست، وأنشدوا قول ابن أحمر: أم كنت تعرف آيات فقد جعلت ... أطلال إلفك بالودكاء تعتذر والثاني: أن يكون من الانقطاع، كأنك قطعت الرجل عما أمسك في قلبه من الموجدة، ويقولون: " اعتذرت المياه " إذا انقطعت. وأنشدوا للبيد: شهور الصيف واعتذرت إليه ... نطاق الشيطين من السماء والقول الثالث: أن يكون من الحجر والمنع ... قال أبو جعفر: يقال " عذرت الدابة " أي جعلت لها عذراً يحجزها من الشراد، فمعنى اعتذر الرجل احتجز، وعذرته: جعلت له بقبول ذلك حاجزاً بينه وبين العقوبة والعتب عليه، ومنه تعذر الأمر احتجز أن يقضى، ومنه جارية عذراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 باب سيرورة الشعر والحظوة في المدح كان الأعشى أسير الناس شعراً، وأعظمهم فيه حظاً، حتى كاد ينسى الناس أصحابه المذكورين معه؛ ومثله زهير، والنابغة، وامرؤ القيس؛ وكان جرير نابغة الشعر مظفراً، قال الأخطل للفرزدق: أنا والله أشعر من جرير، غير أنه رزق من سيرورة الشعر ما لم أرزقه، وقد قلت بيتاً لا أحسب أن أحداً قال أهجى منه، وهو: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولي على النار وقال هو: والتغلبي إذا ننحنح للقرى ... حك استه وتمثل الأمثالا فلم يبق سقاء ولا أمة حتى روته. قال الأصمعي: فحكما له بسيرورة الشعر قال الحسين بن الضحاك الخليع: أنشدت أبا نواس قولي: وشاطري اللسان مختلق الت ... كريه شاب المجون بالنسك إلى أن بلغت إلى قولي: كأنما نصب كأسه قمر ... يكرع في بعض أنجم الفلك فنفر نفرة منكرة، فقلت: مالك فقد أفزعتني؟!! فقال: هذا معنى مليح وأنا أحق به، وسترى لمن يروى، ثم أنشدني بعد أيام: إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا فقلت: هذه مصالته يا أبا علي، فقال: أتظن أنه يروى لك معنى مليح وأنا في الحياة؟!! وأنت ترى سيرورة بيت أبي نواس كيف نسي معها بيت الخليع، على أن له فضل السبق، وفيه زيادة ذكر القمر، وقد أربى ابن الرومي عليهما جميعاً بقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 أبصرته والكأس بين فم ... منه وبين أنامل خمس وكأنها وكأن شاربها ... قمر يقبل عارض الشمس ولكن بيت أبي نواس أملأ للفم والسمع، وأعظم هيبة في النفس والصدر ولذلك كان أسير. وفي زماننا هذا قوم يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. وليس في العرب قبيلة إلا وقد نيل منها، وهجيت، وعيرت؛ فحط الشعر بعضاً منهم بموافقة الحقيقة، ومضى صفحاً عن الآخرين لما لم يوافق الحقيقة، ولا صادف موضع الرمية. فمن الذي لم يحك فيهم هجاء إلا قليلاً على كثرة ما قيل فيهم: تميم بن مرة، وبكر بن وائل، وأسد بن خزيمة، ونظراؤهم من قبائل اليمن. ومن الذين شقوا بالهجاء، ومزقوا كل ممزق على تقدمهم في الشجاعة والفضل أحياء من قيس: نحو غنى وباهلة ابني أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان، واسم غنى عمرة، وكانوا موالي عامر ابن صعصعة: يحملون عنهم الديات والنوائب، ونحو محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان، وجسر بن محارب حالفوا بني عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة على لوم الحلف، ومن ولد طابخة بن إلياس بن مضر: تيم وعكل ابنا عبد مناة بن أد، صادف الشعر سباء كان وقع عليهم في الجاهلية، فاستهانت العرب بهم، وانطبع الهجاء فيهم، وعدى بن عبد مناة، كانوا قطيناً لحاجب بن زرارة، وأراد أن يستملكهم ملك رق بسجل من قبل المنذر، والحبطات، وهم ولد الحارث بن عمرو بن تيم، وسمى الحارث الحبط لعظم بطنه، شبهوه بالجمل الحبط، وهو الذي انتفخ بطنه مما رعى الخلا؛ فأما سلول فقد قال فيهم أبو زياد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 الكلابي: كرام من كرام من صعصعة، لم يحالفوا، ولم يدخلوا في صغار، وإنما كلمة عامر بن الطفيل التي حدثت هي التي شأمتهم يريد قوله: " أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية " قلت: أما عامر فقد قال هذه الكلمة حين دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فما يصنع بقول السموأل ابن عادياء: ونحن أناس لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول والسموأل في زمان امرئ القيس، وبين امرئ القيس ومبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وأربع وخمسون سنة. قال الجاحظ: لم تمدح قبيلة قط في الجاهلية من قريش كما مدحت مخزوم قال: وكان عبد العزيز بن مروان أحظى في الشعر من كثير من خلفائهم، قال: ولم يكن من أصحابنا وخلفائنا أحظى في الشعر من الرشيد، وقد كان يزيد بن مزيد وعمه معن بن زائدة ممن أحظاه الشعر، ولا أعلم في الأرض نعمة بعد ولاية الله تعالى أعظم من أن يكون الرجل ممدوحاً. قلت أنا: أما هذه النعمة فقد أحلها الله مضاعفة عند السيد أبي الحسن، وقرنها منه بالاستحقاق، فقرت مقرها، ونزلت منزلها المختار لها، وأحيا الله لبني شيبان حمداً لم يشبه ذم، وجوداً لم يعقبه فدم، مما زاد على يزيد، ولم يدع لمعن معنى في الجود. وقال غيره: كان عمر بن العلاء ممدحاً، وفيه يقول بشار بن برد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 قل للخليفة إن جئته ... نصيحاً ولا خير في المتهم إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمراً ثم نم فتى لا يبيت على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم دعاني إلى عمر جوده ... وقول العشيرة بحر خضم ولولا الذي زعموا لم أكن ... لأمدح ريحانة قبل شم وله يقول أبو العتاهية: إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسباً ورمالا وقد مرت هذه الأبيات فيما مضى من هذا الكتاب. قال أبو عبيدة: لم يمدح أحد قط بني كليب غير الحطيئة بقوله: لعمرك ما المجاور في كليب ... بمقصي الجوار ولا مضاع هم صنعوا لجارهم وليست ... يد الخرقاء مثل يد الصناع ويحرم سر جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع وكانت قيس تفتخر على تميم؛ لأن شعراءهم تضرب المثل بقبائل قيس ورجالها فأقامت تميم دهراً لا ترفع رءوسها حتى قال لبيد: أبني كليب كيف تنفي جعفر ... وبنو ضبينة حاضرو الأجباب قتلوا ابن عروة ثم لطوا دونه ... حتى يحاكمهم إلى جواب يرعون منخرق اللديد كأنهم ... في العز أسرة حاجب وشهاب متظاهري حلق الحديد عليهم ... كبني زرارة أو بني عتاب قوم لهم عرفت معد فضلها ... والفضل يعرفه ذوو الألباب وقال زبان بن منصور الفزاري: فجاءوا بجمع محزئل كأنهم ... بنو دارم إذ كان في الناس دارم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 فتكلمت تميم وافتخرت؛ لمكان هذين الشاعرين العظيمي القدر في قيس، فدل هذا على أن قيساً أحظى بالمدح من تميم. والأوابد من الشعر الأبيات السائرة كالأمثال، وأكثر ما تستعمل الأوابد في الهجاء، يقال: رماها بآبدة، فتكون الآبدة هنا الداهية، قال الجاحظ: الأوابد الدواهي، ومنه أوابد الشعر، حكاه عن أبي زيد، وحكى: الأوابد الإبل التي تتوحش فلا يقدر عليها إلا بالعفر، والأوابد الطير التي تقيم صيفاً وشتاء، والأوابد الوحش؛ فإذا حملت أبيات الشعر على ما قال الجاحظ كانت المعاني السائرة كالإبل الشاردة المتوحشة، وإن شئت المقيمة على من قيلت فيه لا تفارقه كإقامة الطير التي ليست بقواطع، وإن شئت قلت: إنها في بعدها من الشعراء وامتناعها عليهم كالوحش في نفارها من الناس. وأما المجدودون في التكسب بالشعر والحظوة عند الملوك فمنهم: سلم الخاسر مات عن مائة ألف دينار، ولم يترك وارثاً، وأبو العتاهية صنع: تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال وكان صديقه جداً، فقال سلم: ويلي من ابن الفاعلة، جمع القناطير من الذهب ونسبني إلى ما ترون من الحرص، ولم يرد ذلك أبو العتاهية، لكن دعاه يعجبه كما يفعل الصديق مع صديقه، ومروان بن أبي حفصة: أعطى مائة ألف دينار غير مرات، وكان لا يقابل إلا بالكثير، وهو لعمري من ذوي البيوتات، والمعوقين في التكسب بالشعر، وكان أبو نواس محظوظاً لا يدري ما وصل إليه، لكنه كان متلافاً سمحاً، وكان يتساجل في الإنفاق هو وعباس بن الأحنف وصريع الغواني، وكان البحتري ملياً قد فاض كسبه من الشعر، وكان يركب في موكب من عبيده، وأبو تمام فما وفى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 حقه مع كثرة ما صار إليه من الأموال؛ لأنه تبذل، وجاب الأرض، وكذلك أبو الطيب. باب ما أشكل من المدح والهجاء أنشدنا أبو عبد الله محمد بن جعفر النحوي، عن أبي علي الحسين بن إبراهيم الآمدي، لرجل من بني عبد شمس بن سعد بن تميم: تضيفني وهنا، فقلت: أسابقي ... إلى الزاد؟ شلت من يدي الأصابع ولم تلق للسعدي ضيفاً بقفرة ... من الأرض إلا وهو عريان جائع لم يرد أنه يسبق ضيفه إلى الزاد فيكون قد هجا نفسه، ولكنه وصف ذئباً لقيه ليلاً، فقال: أتسبقني أنت إلى الأكل؟ أي: تأكلني، شلت إذاً أصابعي إن لم أرمك فأقتلك فآكل من لحمك!! ثم قال على جهة المثل: لم تلق للسعدي يعني نفسه ضيفاً بقفزة لا مستعتب فيها يعني الذئب إلا وهو جائع، يقول: فهو لا يبقي علي لأني بغيته. ومن أناشيدهم: أبوك الذي نبئت يحبس خيله ... غداة الندى حتى يجف لها البقل قالوا: إذا أخذ مطر الصيف الأرض أنبتت بقلاً في أصول بقل قد يبس فذلك الأخضر هو النشر، وهو الغمير، فتأكله الإبل، فيأخذها السهام، ولا سهام في الخيل؛ فعابه بالجهل بالخيل. وقال الأصمعي: هذا القول خطأ، بل مدحه بمعرفة الخيل؛ لأن النشر مؤذٍ لكل من يأكله وإن لم يكن ثم سهام. وقال سليمان بن قنة في رثاء الحسين بن علي رضي الله عنهما، وذكر آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروي للفرزدق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 أولئك قوم لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت أراد لم يغمدوا سيوفهم إلا بعد أن كثرت بها القتلى، كما تقول: لم أضربك ولم تجن علي إلا بعد أن جنيت علي؛ وقال آخرون: أراد لم يسلوا سيوفهم إلا وقد كثرت بها القتلى، كما تقول: لم ألقك ولم أحسن إليك إلا وقد أحسنت إليك، والقولان جميعاً صحيحان؛ لأنه من الأضداد. وينشدون قول الآخر: هجمنا عليه وهو يكعم كلبه ... دع الكلب ينبح إنما الكلب نابح ويروى: دفعت إليه وهو يخنق كلبه ... ألا كل كلب لا أبا لك نابح قالوا: فالمدح أن يكون إنما يكعمه لئلا يعقر الضيوف، والذم أن يكون ذلك لئلا ينبح فيدل عليه الضيف، وأنا أعرف هذا البيت في هجاء محض للراعي هجا به الحطيئة، وهو: ألا قبح الله الحطيئة؛ إنه ... على كل من وافى من الناس سالح ويروى: على كل ضيف ضافه فهو سالح هجمنا عليه وهو يكعم كلبه ... دع الكلب ينبح إنما الكلب نابح بكيت على مذق خبيث قريته ... ألا كل عبسي على الزاد نائح وأنشدنا أبو عبد الله: تجنبك الجيوش أبا خبيب ... وجاد على منازلك السحاب ويروى: أبا ربيب قال: إن دعا له فإنما أراد أن يعافي من الجيوش، وأن يجوده السحاب فتخصب أرضه، وإن دعا عليه قال: لا بقي لك خير تطمع فيه الجيوش، فهي تتجنب ديارك لعلمهم بقلة الخير عندك، ويدعو على محلته بأن تدرسها الأمطار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وقال غيره: معناه جاد على محلتك السحاب فأخصبت ولا ماشية لك، فذلك أشد لهمك وغمك، ويكون المعنى حينئذ كقول الآخر: وخيفاء ألقى الغيث فيها ذراعه ... فسرت وساءت كل ماش ومصرم أي: فسرت كل ماشية، وساءت كل فقير. وأنشد أبو عبد الله أيضاً: إني على كل إيسار ومعسرة ... أدعو حبيشاً كما تدعى ابنة الجبل وروى المبرد: أدعو حنيفاً يريد أنه يجيب بسرعة كالصدى، وهو ابنة الجبل، وقيل: ابنة الجبل الصخرة المنحدرة من أعلاه، وزاد أبو زيد في روايته بيتاً، وهو: إن تدعه موهناً يعجل بجابته ... عاري الأشاجع يسعى غير مشتمل فهذا مدح لا محالة، ومنهم من حمله على قول الآخر: كأني إذ دعوت بني حنيف ... دعوت بدعوتي لهم الجبالا ورواه قوم: بني سليم فمن مدح جعله كالأول في سرعة الإجابة، ومن ذم نسبهم إلى الثقل عن إجابته مثل الجبال. ومن الدعاء الذي يدخل في هذا الباب قول الآخر: تفرقت غنمي يوماً فقلت لها: ... يا رب سلط عليها الذئب والضبعا قيل: إنهما إذا اجتمعا لم يؤذيا، وشغل كل واحد منهما الآخر، وإذا تفرقا آذيا، وقيل: إن معناه في الدعاء عليها قتل الذئب الأحياء عيثاً، وأكل الضبع الأموات، فلم يبق منها بقية. ومن لطيف ما وقع في هذا الباب قول النابغة الذبياني: يصد الشاعر الثنيان عني ... صدود البكر عن قرم هجان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 لم يرد أنه يغلب الثنيان ولا يغلب الفحل، لكن أراد التصغير بالذي هجاه، فجعله ثانياً، وقال الآخر: ومن يفخر بمثل أبي وجدي ... يجئ قبل السوابق وهو ثاني أراد وهو ثان من عنانه؛ لأنه يسبق متمهلاً. وقال ابن مقبل: إن الرفاق أناخوا حول منزله ... حلوا بذي فجرات زنده واري قال ابن السكيت " بذي فجرات " أي: يتفجر بالسخاء والعطاء، ويدل على ما قال ابن السكيت أن لصيق هذا البيت: جم المخارج، أخلاق الكريم له، ... صلت الجبين، كريم الخال مغوار ومما يمدح به ويذم قولهم " هو بيضة البلد " فمن مدح أراد بها أصل الطائر، ومن ذم أراد أنها لا أصل لها، قالت أخت عمرو بن عبدود في علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قتل أخاها: لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... لقد بكيت عليه آخر الأبد لكن قاتله من لا يعاب به ... وكان يدعى قديماً بيضة البلد فهذا مدح كما تراه. وقال الراعي النميري يهجو عدي بن الرقاع العاملي: لو كنت من أحد يهجى هجوتكم ... يا ابن الرقاع، ولكن لست من أحد تأبى قضاعة ن ترضى لكم نسباً ... وابنا نزار؛ فأنتم بيضة البلد وأنشد بعض العلماء: وإني لظلام لأشعث بائس ... عرانا، ومقرور بري ماله الدهر وجار قريب الدار، أو ذي جناية ... غريب بعيد الدار ليس له وفر يظنه السامع هجا نفسه بظلم هؤلاء الذين ذكر، إنما مدحها بأنه يظلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 الناقة فينحر فصيلها من غير علة ولا داء، إلا لضيافة هذا الأشعث، والجار وأشباههما. 84 - باب في أصول النسب وبيوتات العرب أول النسب بعد آدم صلى الله عليه وسلم من نوح عليه السلام؛ لأن جميع من كان قبله قد هلك، وإنما بقي من ولده سام، وحام، ويافث، فولد يافث الصقالبة وبرجان والأشبال، وكانت منازلهم أرض الروم، من قبل أن تكون الروم، ومن ولده الترك، والخزر، ويأجوج ومأجوج؛ وولد حام كوش وكنعان وقوط؛ فأما قوط فنزل أرض الهند والسند فأهلها من ولده، وأما كوش وكنعان فأجناس السودان، والنوبة، والزنج، والزعارة، والحبشة، والقبط، وبربر من أولادهما؛ وولد سام إرم، وإر فخشذ، فعاد بن عوص بن إرم، وطسم وجديس ابنا لاوذ بن إرم، ومنهم العماليق، ومنهم فراعنة مصر، والجبابرة، ومنهم ملوك فارس، وأجناس الفرس كلها ولده، وثمود بن عابر بن سام، وماش بن إرم نزل ببابل، ومن ولده نمرود الذي فرق الله الألسنة في زماته، وهو الذي بنى الصرح ببابل، ويقال: إن النبط من ولد ماش؛ ويقال أيضاً: إنهم من ولد شاروخ بن فالغ بن إرفخشذ، والأنبياء كلها عربيها وعجميها، والعرب كلها يمنيها ونزاريها من ولد سام بن نوح، حكى جميع ذلك ابن قتيبة، ومن ولد إرفخشذ قحطان بن عابر بن شالخ بن إرفخشذ، وكان مسكن قحطان اليمن، فكل يمان من ولده، فهم من العرب العاربة. ويقطن بن عابر، وهو أبو جرهم، وكانت مساكن جرهم اليمن، ثم نزلوا مكة فسكنوا بها، وتزوج إسماعيل صلى الله عليه وسلم امرأة منهم؛ فهم أخوال العرب المستعربة. قال الزبير بن بكار: العرب ست طبقات: شعب، وقبيلة، وعمارة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وبطن، وفخذ، وفصيلة: فمضر شعب، وربيعة شعب، ومذحج شعب، وحمير شعب، وأشباههم، وإنما سميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها، وسميت القبائل لأن العمائر تقابلت عليها: أسد قبيلة، ودودان بن أسد عمارة، والشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطون تجمع الأفخاذ، والأفخاذ تجمع الفصائل: كنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة. وزعم أبو أسامة فيما رأيت بخطه، وقد عاصرته، وكان علامة باللغة أن تأليف هذه الطبقات على تأليف خلق الإنسان الأرفع فالأرفع؛ فالشعب أعظمها، مشتق من شعب الرأس، ثم القبيلة من فبلته، ثم العمارة، قال: والعمارة الصدر، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، قال: وهي الساق، أو قال: المفصل، الشك مني أنا، قال: والحي أعظم من الجميع؛ لاشتمال هذا الاسم على جملة الإنسان. وأما أبو عبيدة فجعل بعد الفخذ العشيرة، قال: وهم رهط الرجل دنيا ثم الفصيلة، قال: دون ذلك بمنزلة المفصل من الجسد، وهم أهل بيت الرجل، فأما البيوتات فكل يدعي لنفسه سابقة، ويمت بفضيلة، غير أن الصحيح ما اتفق عليه العلماء، وتداوله الرواة. قال ابن الكلبي: كان أبي يقول: العدد من تميم في بني سعد، والبيت في بني دارم، والفرسان في بني يربوع، والبيت من قيس في غطفان، ثم في بني فزارة، والعدد في بني عامر، والفرسان في بني سليم، والعدد من ربيعة في بكر والبيت والفرسان في شيبان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 قال ابن سلام الجمحي: كان يقال: إذا كنت من تميم ففاخر بحنظلة، وكاثر بسعد، وحارب بعمرو، وإذا كنت من قيس ففاخر بغطفان، وكاثر بهوازن، وحارب بسليم، وإذا كنت من بكر ففاخر بشيبان، وكاثر بشيبان، وحارب بشيبان. قال أبو عبيدة: ليس في العرب أربعة إخوة أنجب ولا أعد ولا أكثر فرساناً من بني ثعلبة بن عكابة، وكان يقال له: الأغر والحصن، وبنوه شيبان، وذهل، وقيس، وتيم الله. قال: ففارس غطفان الربيع بن زياد العبسي، وفاتكها الحارث بن ظالم، وحاكمهما هرم بن قطبة، وجوادها هرم بن سنان المري، وشاعرها النابغة الذبياني، وفارس بني تميم عتيب بن الحارث بن شهاب أحد بني يربوع، وفارس عمرو بن تميم طريف بن تميم العنبري، وفارس دارم عمرو ابن عمرو بن عدس، وفارس سعد فدكي بن أعبد المنقري، وفارس الرباب زيد الفوارس بن حصن الضبي، وفارس قيس عامر بن طفيل، وفارس ربيعة بسطام بن قيس. قال أبو عبيدة: بيوت العرب ثلاثة: فبيت قيس في الجاهلية بنو فزارة ومركزه بنو بدر، وبيت ربيعة بنو شيبان، ومركزه ذو الجدين، وبيت تميم بنو عبد الله بن دارم، ومركزه بنو زرارة. وقال أبو عمرو بن العلاء: بيت بني سعد اليوم إلى الزبرقان بن بدر من بني بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد، وبيت بني ضبة بنو ضرار بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 عمرو الرديم، وبيت بني عدي بن عبد مناة آل شهاب من بني ملكان، وبيت التيم آل النعمان بن جساس. قال: وليس في العرب جساس غيره. قال الجمحي: فارس اليمن في بني زبيد عمرو بن معدي كرب، وشاعرها امرؤ القيس، وبيتها في كندة الأشعث بن قيس، لا يختلف في هذا، وإنما اختلف في نزار. قال: وأما الشرف فما كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد النبي واتصل في الإسلام. قال أبو إياس البصري: كان بيت قيس في آل عمرو بن ظرب العدواني، ثم في غني في آل عمرو بن يربوع؛ ثم تحول إلى بني بدر، فجاء الإسلام وهو فيهم. وقال الأخفش علي بن سليمان: فرعا قريش هاشم وعبد شمس، وفرعا غطفان بدر بن عمرو بن لوذان وسيار بن عمرو بن جابر، وفرعا حنظلة رياح وثعلبة ابنا يربوع، وفرعا ربيعة بن عامر بن صعصعة جعفر وبكر ابنا كلاب، وفرعا قضاعة عذرة والحارث بن سعد. باب مما يتعلق بالأنساب قال أبو عبيدة: قريش البطاح قبائل: كعب بن لؤي بن عبد مناف وبنو عبد الدار وعبد العزى ابنا قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو مخزوم بن يقظة وبنو تيم بن مرة، وبنو جمح وسهم ابنا هصيص بن كعب، وبعض بني عامر بن لؤي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 وقريش الظواهر: بنو محارب والحارث ابنا فهر، وبنو الدرم بن غالب ابن فهر، وعامة بني عامر ابن لؤي، وغيره. كان يقال: مازن غسان أرباب الملوك، وحمير أرباب العرب، وكندة كندة الملك، ومذحج مذحج الطعان، وهمدان أحلاس الخيل، والأزد أسد البأس، والذهلان: أحدهما ذهل بن شيبان بن ثعلبة ويشكر، والآخر ضبيعة وذهل بن ثعلبة، واللهزمتان: إحداهما عجل وتيم اللات، والأخرى قيس بن ثعلبة وعنزة، وكلهم من بكر بن وائل، إلا عنزة بن أسد بن ربيعة. الأحابيش: حلفاء قريش. قال ابن قتيبة: هم بنو المصطلق، والحياء بن سعد بن عمرو وبنو الهون بن خزيمة: اجتمعوا بذنب حبشي وهو جبل بأسفل مكة فتحالفوا بالله إنا ليد على غيرنا ما سجى ليل وأوضح نهار، وما أرسى حبشي مكانه. وقال حماد الراوية: إنما سموا بذلك لاجتماعهم، والتحابش: هو التجمع في كلام العرب. المطيبون: عبد مناف، وزهرة، وأسد بن عبد العزى، وتيم، والحارث بن فهر، وعبد قصي. الأحلاف: مخزوم، وعدي، وسهم، وجمح، وعبد الدار. سموا أولئك المطيبين لخلوق صنعته لهم أم حكيم فغمسوا أيديهم فيه، وسموا الآخرين أحلافاً لجزور نحروه، فدافوا دمه في جفنة فمسوه بأيديهم ولعقوا منه، وسموا " الأحلاف " و " لعقة الدم ". والأراقم: جشم، ومالك، وعمر بن ثعلبة، ومعاوية، والحارث، بنو بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب بن وائل، قال أبو علي: ليس في العرب نصراني غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 البراجم: خمسة بطون من بني حنظلة: قيس، وغالب، وعمرو، وكلفة، والظليم، وهو مرة؛ تبرجموا على إخواتهم يربوع وربيعة ومالك، وكلهم أبوهم حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرة. الثعلبات: ثعلبة بن سعد بن ضبة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان، وثعلبة بن عدي بن فزارة، وأضاف إليهم قوم ثعلبة بن يربوع. والرباب: هم ضبة بن أدبن طابخة، وتيم، وعدي، وعوف وهو عكل وثور، وكل هؤلاء بنو عبد مناة بن أدبن طابخة. الأجارب: خمس قبائل من بني سعد: وهم ربيعة، ومالك، والحارث وهو الأعرج وعبد العزى، وبنو حمار. والحرام: بنو كعب بن سعد بن زيد مناة. الضباب: هم أربعة بطون من بني كلاب: ضب، وضبيب، وحسل، وحسيل، بنو معاوية بن كلاب، كذا زعم ابن قتيبة وغيره. وقال أبو زيد الكلابي، وهو أعلم بقومه: هم بنو عمرو بن معاوية بن كلاب، وإنما سموا ضباباً لأنه سمى فيهم ضباً وحسلاً وحسيلاً، فقال له الرجل وسمعه يهتف بهم: والله ما بنوك هؤلاء إلا الضباب، فسموا الضباب إلى اليوم؛ قال: ومن ولد عمرو بن معاوية بن كلاب: ضب، وحسل، وحسيل، وحصن، وحصين، وخالد، وعبد الله، وقاسط، والأعرف، وتولب، وشقيق، وخزيم، والوليد، وزهير؛ فهؤلاء أربعة عشر لم تدرج منهم قبيلة، وهم الضباب جميعاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 الأكابر: شيبان، وعامر، وجليحة، والحارث بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. بنو أم البنين: عامر، والطفيل، وربيعة، وعبيدة، ومعاوية، بنو مالك بن جعفر بن كلاب، هكذا عند أكثر الناس، قالوا: وإنما اضطرت القافية لبيداً فجعلهم أربعة وهم خمسة. وقال أبو زيد الكلابي، وهو أعلم بقومه: إن بني أم البنين أربعة، كما قال لبيد: ابتكرت عامراً ملاعب الأسنة، وثنت بالطفيل، ثم تزوج عليها مالك سلامة السلمية، فغارت أم البنين وأسقطت له ثلاثة ذكوراً، وجاءت السلمية بثلاثة، وهم: سلمى، وعبيدة، وعتبة، فأدار مالك الحيلة على أم البنين وأخيها زهير بن خداش بن زهير، حتى أخذ عليها حكماً بأن لا تسقط ولداً وكانت حاملاً فولدت معاوية معوذ الحكماء، ثم ثنت بربيعة أبي لبيد، وزعم بعض شيوخه الذين أخذ عنهم أنه سمي معوذ الحكماء من أجل أنه تولى حكماً عن زهير بن عمرو على أخيه، وروى أبيات معاوية التي من أجلها سمي معوذ الحكماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 لزيد الخيل، غير أنه لم ينشد البيت، وزعم أنه ناقض بها طفيلاً الغنوي. قال: وأم البنين بنت عمرو بن عامر فارس الضحياء. الكملة: بنو زياد العبسيون، وهم: أنس الحفاظ، ويقال له أيضاً: أنس الفوارس، وعمارة الوهاب، وربيع الكامل، وقيس الجواد، هكذا رويناه عن النحاس. قال المبرد وغيره: ربيع الحفاظ، وعمارة الوهاب، وأنس الفوارس، أمهم فاطمة بنت الخرشب الأنمارية. الحمس: هم قريش، وكنانة، ومن دان بدينهم من بني عامر بن صعصعة. قال أبو عمرو بن العلاء: الحمس من بني عامر: كلاب، وكعب، وعامر، بنو ربيعة بن عامر بن صعصعة، وأمهم مجد بنت التيم الأدرم بن غالب بن فهر بن مالك، وكانوا في الجاهلية يتحمسون في أديانهم، أي: يتشددون، لا يستظلون أيام منى، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، وقيل: سموا حمساً لشدة بأسهم، ويعدون في الحمس خزاعة. العنابس: حرب، وأبو حرب، وسفيان، وأبو سفيان، وعمرو، وأبو عمرو، بنو أمية بن عبد شمس. والأعياص: العاص، وأبو العاص، والعيص، وأبو العيص، وبنوه أيضاً. أم القبائل: هند بنت تميم بن مر، ولدت لعمرو بن قاسط تيم الله، وأوس الله، وعائذ الله؛ وولدت لوائل بن قاسط بكراً، وتغلب، وعنزاً، وقيل: هو عنز بن وائل؛ وولدت لعبد القيس بن قصي اللبوك بن عبد القيس، وبعضهم يقول: اللبوء بالهمز وبضم الباء وفيه اختلاف بين العلماء. الجمرات: جمرات العرب: ضبة، وعبس، والحارث بن كعب؛ سموا بذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 لأن أمهم الخشناء بنت برة فيما يقال رأت في المنام كأن ثلاث جمرات خرجت منها، قال أبو عبيدة: فطفئت من الجمرات اثنتان: الحارث بن كعب حالفت في غطفان، وضبة حالفت الرباب وسعداً، وبقيت عبس لم تطفأ؛ لأنها لم تحالف، وأما الجاحظ فجعلها عبساً وضبة ونميراً. وأشار إلى أن في تميم جماراً أيضاً، وصرح بذلك المفضل، فقال: هم بنو يربوع، وزعم الفرزدق أنهم بنو العدوية، نسبو إلى أمهم، وهم زيد، وصدى، وجشيش، بنو مالك بن حنظلة، وزعم آخرون أنهم بنو مالك بن خزيمة بن تميم بن جل بن عبد مناة بن أد، غير أنهم جعلوا مكان جشيش يربوعاً، ومن الجمرات التي لم تطفأ عند بعضهم نمير بن عامر بن صعصعة؛ لأنهم لم يحالفوا أحداً من العرب. قال الجاحظ: إنما قيل لكل واحد منها جمرة؛ لأنهم تجمعوا حتى قووا على عدوهم واشتدوا، قال: ويجوز أن يكون اشتقاقه من تجمير المرأة شعرها، وإذا ضفرته قيل: قد جمرته؛ وقال غيره: ومنه " خف مجمر " إذا كان مجتمعاً شديداً. طهية بنت عبشمس بن سعد ولدت لمالك بن حنظلة عوفاً، وأبا سود، وربيعة، وآخر لم يعرفه ابن الكلبي، فعرف أولادها بها. والموالي ثلاثة: مولى اليمين المحالف، ومولى الدار المجاور، ومولى النسب ابن العم والقرابة. قال الشاعر: نبئت حياً على نعمان أفردهم ... مولى اليمين ومولى الدار والنسب باب ذكر الوقائع والأيام قد أثبت في هذا الباب ما تأدى إلى من أيام العرب ووقائعهم، مستخرجة من النقائض وغيرها، ولم أشرط استقضاء وغيرها، ولم أشرط استقضاءها، ولا ترتيبها؛ إذ كان في أقل مما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 جئت به غني ومقنع، ولأن أبا عبيدة ونظراءه قد فرغوا مما ذكرت؛ فإنما هذه القطعة تذكرة للعالم، وذريعة للمتعلم، وزينة لهذا الكتاب، ووفاء لشرطه، وزيادة لحسنه؛ إذ كان الشاعر كثيراً ما يؤتى عليه في هذا الباب، وأنا أذكر ما علمته من ذلك في أقرب ما أقدر عليه من الاختصار إن شاء الله تعالى، بعد أن أقدم في صدره أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقائعه مع المشركين؛ لأنه أولى بالتقديم، وأحق بالتعظيم، ولما أرجوه من بركة اسمه، وافتتاح القصص بذكره. غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة ودان على رأس الحول من الهجرة، ثم غزا عيرا لقريش بعد شهر وثلاثة أيام، ثم غزا في طلب كرز بن حفص حتى بلغ بدراً بعد عشرين يوماً، ووجهت القبلة إلى الكعبة، تم غزا بدراً فكان يوم بدر لستة عشرة يوماً خلت من شهر رمضان من سنة اثنتين، وكان المشركون يومئذ تسعمائة وخمسين رجلاً، والمسملون ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، فقتل من المشركين خمسون رجلاً، وأسر أربعة وأربعون، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً. يوم أحد: كان في شوال من سنة ثلاث. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة، وقريش في ثلاثة آلاف، وفي هذه الغزوة استشهد حمزة رضي الله عنه. يوم الخندق: كان في سنة أربع يوم بني المصطلق وبني لحيان: في شعبان سنة خمس يوم خبير: في سنة ست وكان يوم مؤتة في سنة ثمان، واستشهد فيه زيد بن حارثة أمير الجيش، وجعفر بن أبي طالب أمير الجيش أيضاً بعده، وعبد الله بن رواحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 أمير الجيش بعدها، وقام بأمر الناس خالد بن الوليد، وكانوا في ثلاثة آلاف. وكان فتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان، وبعده بخمس عشرة ليلة سار إلى حنين في شوال، ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع هوزان في شوال للنصف منه، فانهزم المسلمون، وكان الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس بن عبد المطلب، وأبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابنه، وأيمن بن عبد الله، وهو ابن أم أيمن، واستشهد ذلك اليوم، وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وأسامة بن زيد بن حارثة، وفي رواية أخرى أبو بكر، وعمر، وعلي، والعباس، وابنه، وأبو سفيان بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأيمن، وأسامة، ثم رجع الناس من وقتهم، وانهزم المشركون، وكانت الكرة عليهم لله ولرسوله. ثم سار بعد حنين إلى " الطائف " فحاصرها شهراً، ولم يفتتحها، وغزا بلدة الروم في رجب من سنة تسع؛ فبلغ تبوك وبنى بها مسجداً، وهو بها اليوم وفتح الله عليه في سفره ذاك دومة الجندل على يدي خالد بن الوليد، وكل هذا مختصر من كتاب ابن قتيبة، وإياه قلدت فيما رأيت من هذه الطريقة، والله المستعان، وعليه توكلت وهذه أيام العرب: يوم " إراب " لبني ثعلبة بن بكر: رئيسهم الهذيل بن حسان، على بني رياح بن يربوع، وكان الهذيل سبي نساء بني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 رياح، والتقى بهم على إراب، وقد سبقه بنو رياح إليه ليمنعوهم الماء، حتى يرد السبي، فأقسم الهذيل: لأن رددتم إلينا ماء فارغاً لنأتيهم فيه برأس إنسان تعرفونه فاشتروا منه بعض السبي، واطلق البعض. يوم " نعف فشاوة " لبسطام بن قيس رئيس بني شيبان، على بني يربوع، قتل فيه بجيراً، وأسر أباه أبا مليل، ثم من عليه من وقته، وترك له مليلاً ولده، وكان أسيراً عنده بعد أن كساه وحمله: يوم " نجران " للأقرع بن حابس في قومه بني تميم، على اليمن، هزمهم وكانوا أخلاطاً، وفيهم الأشعث بن قيس، وأخوه، وفيهم ابن باكور الكلاعي الذي أعتق في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أربعة آلاف أهل بيت في الجاهلية أسروا. يوم " الصمد " هو يوم " طلح " ويوم " بلقا " ويوم " أود " ويوم " ذي طلوح " كلها يوم واحد، لبنى يربوع على بني شيبان ورئيسهم الحوفزان، ورئيس اللهازم أبجر بن بجير العجلي. يوم طخفة وهو أيضاً يوم " ذات كهف " ويوم " خزار " في قول بعضهم لبني يربوع والبراجم على المنذر بن ماء السماء، أسروا فيه أخاه حسان، وابنه قابوس، وجزت ناصية قابوس، وكان ذلك بسبب إزالة الردافة عن عوف بن عتاب الرياحي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 يوم " المروت ": وهو يوم " إرم الكلبة " نقاً قريب من النباج، لبني حنظلة وبني عمرو بن تميم، على بني قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وكان الذكر فيه لبني يربوع، وإنما أغارت قشير على بني العنبر فاستنقذ بنو يربوع أموال بني العنبر وسبيهم من بني عامر. يوم مليحة: لبني شيبان على بن يربوع، رئيسهم بسطام بن قيس، وقتل ذلك اليوم عصمة بن النجار، فلما رآه بسطام قال: ما قتل هذا إلا لتثكل رجلاً أمه، فقتل به يوم العظالي قاتله الهبش بن المقعاس يوم اللوي: لفزارة على هوزان، وفيه قتل عبد الله بن الصمة، وأثخن أخوه دريد يوم الصليفاء: لهوازان على فزارة وعبس وأشجع، وفيه قتل دريد بأخيه ذؤاب بن أسماء. يوم الهباءة: وهو يوم الجفر لعبس على ذبيان، وفيه قتل حذيفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 بن بدر وأخوه حمل سيدا بني فزارة، وكان يقال لحذيفة رب معد. يوم عراعر: لعبس على كلب وذبيان، وفيه قتل مسعود بن مصاد الكلبي، وكان شريفاً. يوم الفروق: بين عبس وبني سعد بن زيد مناة، قاتلوهم فمنعت عبس أنفسها وحريمها، وخابت غارة بني سعد، وقيل لقيس بن زهير ويقال عنترة: كم كنتم يوم الفروق؟ قال: مائة فارس كالذهب، لم نكثر فنفشل ولم نقل فنذل. يوم شعب جبلة: قال أبو عبيدة: كانت عظام أيام العرب ثلاثة: يوم كلاب ربيعة، ويوم شعب جبلة، ويوم ذي قار، وكان يوم الشعب لبني عامر بن صعصعة وعبس حلفائهم على الحليفين أسد وذبيان، ورئيسهم حصن بن حذيفة يطلب عبساً بدم أبيه، وتطلب عبس بن بغيض بدم أبيهم، ومعهم معاوية بن الجون الكندي في جمع من كندة، وعلى بني حنظلة بن مالك والرباب رئيسهم لقيط بن زرارة يطلب بدم معبد أخيه، ويثربي بن عدس ومعهم حسان بن الجون أخو معاوية وقيل: بل عمرو بن الجون وحسان بن مرة الكلبي أخو النعمان ابن المنذر لأمه. وقال غير أبي عبيدة: كان مع أسد وذبيان معاوية بن شرحبيل بن الحارث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 بن عمرو بن آكل المرار، ومع بني حنظلة والرباب حسان بن عمرو بن الجون في جموع من كندة وغيرهم، فأقبلوا إليهم بوضائع كانت تكون مع الملوك بالحيرة وغيرها، وهم الرابطة، وجاءت بنو تميم فيهم لقيط وحاجب وعمرو بن عمرو، ولم يتخلف منهم إلا بنو سعد؛ لزعمهم أن صعصعة هو ابن سعد، ولم يتخلف من بني عامر إلا هلال بن عامر بن ربيعة بن عامر، وشهدت غني وباهلة وناس من بني سعد بن بكر وقبائل بجيلة إلا قشيراً، وشهدت بنو عبس بن رفاعة ابن بهثة بن سليم مرداس بن أبي عامر أبو العباس بن مرداس صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد معهم نفر من عكل، فانتهى جميع أهل الشعب يومئذ ثلاثين ألفاً. وجاء الآخرون عدد لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولم يجتمع قط في الجاهلية جمع مثله، فانهزمت تميم وذبيان وأسد وكندة ومن لف لفهم، وقتل لقيط بن زرارة، طعنه شريح بن الأحوص، فحمل مرتثا فمات بعد يوم أو يومين، وأسر حسان بن الجون أسره طفيل بن مالك، وأسر معاوية بن الحارث بن الجون، أسره عوف بن الأحوص، وجر ناصيته وأطلقه على الثواب، ولقيه قيس بن زهير فقتله، وأسر حاجب بن زرارة، أسره ذو الرقيبة مالك بن سلمة بن قشير، وأسر عمرو بن عدس، أسره قيس بن المنتفق، فجز ناصيته وأطلقه على الثواب، وكان يوم جبلة قبل الإسلام بسبع وخمسين سنة، وقبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسبع عشرة سنة، وفي يوم الشعب ولد عامر ابن الطفيل، هكذا روى محمد بن حبيب عن أبي عبيدة، وروى عنه غيره خلاف ذلك. يوم أقرن: لبني عبس على بن تميم، وبخاصة بني مالك بن مالك بن حنظلة، وفي هذا اليوم قتل عمرو بن عمرو بن عدس، وابنه شريح، وأخوه ربعي، وكان عمرو بن عمرو خرج مراغماً للنعمان بن المنذر، فسبي سبياً من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 عبس، وغنم مالاً، وابتنى بجارية من السبي، فأدركته عبس فكان من أمره ما كان. يوم زبالة: لبني بكر بن وائل، وبخاصة بني شيبان وبني تميم الله، رئيسهم بسطام، علي بني تميم ورئيسهم الأقرع بن حابس، أسر فيه الأقرع وأخوه فراس، واستنقذهما بسطام بعد أن حكم عليه عمران بن مرة بمائة ناقة. يوم جدود: لبني سعد بن زيد مناة علي بن شيبان، وكانت بنو شيبان أغارت مع الحوفزان على سعد، فأدركهم قيس بن عاصم المنقري فقتلهم واستنقذ ما كان في أيديهم، وفاته الحوفزان لصلابة فرسه، فلما يئس من أسره حفزه بالرمح في خزانة وركه فانتقضت عليه بعد حول فمات منها وسالمت في هذا اليوم بنو يربوع الجيش على تمر أخذوه منهم وفضل ثياب، فعيرتهم بذلك منقر. يوم الكلاب الأول لسلمة بن الحارث بن عمرو المقصور، ومعه بنو تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة والصنائع، على أخيه شرحبيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 ابن الحارث بن عمرو ومعه بكر بن وائل بن حنظلة بن مالك وبنو أسد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، ولم يكونوا ذلك الوقت يدعون رباباً، وإنما ترببوا بعد ذلك، حكاه أبو عبيد، فقتل شرحبيل: قتله أبو حنش عاصم بن النعمان الجشمي، ويقال: بل قتله ذو الثنية حبيب بن عتبة الجشمي، وكانت له سن زائدة، وهو أخو أبي حنش لأمه، وهي سلمى بنت عدي بن ربيعة أخي مهلهل، هكذا أثبتوا في هذا الموضع أن عديا أخو مهلهل، ويسمى الكلاب الأول أيضاً. يوم الشعيبة وهو يوم الكلاب الثاني لبني تميم وبني سعد والرباب رئيسهم قيس بن عاصم، على قبائل مذحج في نحو اثني عشر ألفاً رئيسهم زيد بن المأمور؛ وهو مذحج وهمدان وكندة، وفي هذا اليوم أسر عبد يغوث بن وقاص الحارثي وهتم فم سمي بن سنان، بعد أن أسر رئيس كندة: هتمه قيس بن عاصم بقوسه، وانتزع عبد يغوث من يدي الأهتم بعد أن شرط المأسور لموصله إليه مائة ناقة من الإبل، انتزعه التيم فقتلوه برئيسهم النعمان بن جساس، وكان قد قتل ذلك اليوم، وسمي الكلاب الثاني أيضاً. يوم حر الدوابر قال أبو عبيدة: لم يشهد من تيم إلا الرباب وسعد خاصة، وكان الغناء من الرباب لتيم، ومن سعد لمقاعس يوم ذي بيض أغار الحوفزان على بني يربوع فسبى نسوة منهم، فأصرختهم بنو مالك بن حنظلة، واستنقذوا النسوة، وأسروا الحوافزان: أسره حنظلة بن بشر بن عمرو، وزعم قوم أن هذا اليوم يوم الصمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 يوم عاقل: لبنى حنظلة على هوازن، وفيه أصر الصمة بن الحارث ابن جشم، وهزم جيشه، وكان الذي أسره الجعد بن الشماخ أحد بني عدي بن مالك بن حنظلة، ثم أطلقه بعد سنة، وجز ناصيته على أن يثيبه، فأتاه على الثواب فضرب الصمة عنقه، ثم غزا بني حنظلة ثانية فأسره الحارث ابن نبيه المجاشعي، وأسر رجل من بني أسد وكان نزيلاً عند ابن أخت له في بني يربوع ابناً للصمة، فافتدى الصمة نفسه، ومضى مع ابن نبيه في فداء ابنه إلى الأسدي النازل في بني يربوع، فطعنه أبو مرحب بالسيف فقتله؛ لشيء كان بينهما عند حرب بن أمية، فبنو مجاشع تعير بذلك. يوم عينين: لبني نهشل على عبد القيس، منعوا فيه بني منقر وقد خرجوا ممتارين من البحرين، فعرضت لهم عبد القيس، واستغاثوا ببني نهشل فحموهم واستنقذوهم. يوم قلهي: منعت بنو ثعلبة بن سعد بن ذبيان بني عبس الماء وغلبتهم عليه بعد إصلاح فزارة ومرة، حتى أخذوا دية عبد العزى بن حذار ومالك بن سبيع. يوم بزاخة: لبني ضبة على محرق الغساني وأخيه فارس مودود، أغارو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 على بني ضبة ببزاخة في طوائف من العرب من إياد وتغلب وغيرهما، فأدركتهم بنو ضبة، فأسر زيد الفوارس محرقاً، وأسر أخاه حنش بن الدلف ثم قتلاهما بعد أن هزم من كان معهما، وقتل معهما عدة. يوم إضم: لبني عائذة بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة على الحارث ابن مزيقيا الملك الغساني، وهو عمرو بن عامر، وفيهم كان ملك عسان بالشام في آل جفنة ... علثة بن عمرو قتل بني عائذة قتلاً ذريعاً، وفي ذلك اليوم قتل الرديم وحمل رجل من بني عائذة بن قيس يدعى عامر. بن ضامر فقال: والله لأطعنن طعنة كمنخز الثور النعر، ثم قصد ابن مزيقيا فطعنة فقتله وانهزم أصحابه هزيمة فاحشة، وزعم قوم أن هذا اليوم هو يوم بزاخة. وقال آخرون: بل كانت الواقعة مع عبد الحارث من ولد مزيقيا، وزعم غيرهم أيضاً أنها مع مزيقيا نفسه لا مع ولده، والله أعلم. يوم نقا الحسن: الحسن شجر، سمي بذلك لحسنه، وقيل: هو جبل، وهذا اليوم لبني ثعلبة بن سعد بن ضبة على بكر بن وائل، وفيه قتل بسطام بن قيس: قتله عاصم بن خليفة أخو بني صباح، وكان رجلاً أعسر فأصاب صدغه الأيسر حتى نجم السنان من الصدغ الأيمن. يوم أعيار: وهو أيضاً يوم النقيعة لبني ضبة على بني عبس، وفيه قتل عمارة الوهاب: قتله شرحاف بن المثلم بابن عم له يدعى مفاضلاً كان عمارة قد قتله وانطوى خبره، ثم سمع شرحاف ذكره على شراب، وكان حينئذ غلاماً، فحين شب أخذ بثأر عمه يوم النقيعة، واستنقذت بنو ضبة إبلها من عبس، وقد كانوا أدركوهم في المراعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 يوم رحرحان الأول: غزا يثربي بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بني عامر بن صعصعة، وعلى بني عامر قريط بن عبيد بن أبي بكر، وقتل يثربي. يوم رحرحان الثاني: لبني عامر بن صعصعة، ورئيسهم الأحوص، على بني دارم، وفي ذلك اليوم أسر معبد بن زرارة: أسره عامر بن مالك وأخوه طفيل وشاركهما في أسره رجل من غنى يقال له: أبو عميرة عصمة بن وهب وكان أخا طفيل من الرضاعة، وفي أسرهم مات معبد، شدوا عليه القد وبعثوا به إلى الطائف خوفاً من بني تميم أن يستنقذوه، كان هذا كله بسبب قتل الحارث بن ظالم المري من مرة بن سعد ذبيان خالد بن جعفر غدراً عند الأسود بن المنذر وقيل: عند النعمان والتجائه إلى زرارة بن عدس، فلما انقضت وقعة رحرحان جمع لقيط بن زرارة لبني عامر وألب عليهم، وكان بين يوم رحرحان وغزوة جبلة سنة واحدة. يوم ضرية: اختلفت سعد والرباب على بني حنظلة، وكان بنو عمرو ابن تميم حالفوا بكر بن وائل، فضاقت حنظلة بسعد والرباب، فساروا إلى عمرو بن تميم فردوهم وحالفوهم، ثم جمعوا لسعد والرباب ورئيسهم يومئذ ناجية بن عقال، ورئيس سعد والرباب قيس بن عاصم، فقال ابن خفاف لسعد والرباب: من لعيال عمرو وحنظلة إن قتلتم مقاتلتهم؟ قالوا: نحن، قال: فمن لعيالكم إن قتلوا مقاتلتكم؟ قالوا: هم، قال: فدعوهم لعيالهم وليدعوكم لعيالكم، وتكلم الأهتم بمثل ذلك ورجال من أشراف سعد، وساروا إلى عمرو وحنظلة إلى النسار من حمى ضرية، ناجية بن عقال والقعقاع بن معبد بن زرارة وسنان بن علقمة بن زرارة إلى الصلح، وأبى ذلك مالك بن نويرة يوم النسار: وذلك أن عامر بن صعصعة ومن معهم من هوازن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 انتجعوا بلاد سعد والرباب، وهم يمتون إليهم برحم؛ لأنهم يزعمون أن صعصعة أبا عامر هو ولد سعد بن زيد بن مناة بن تميم. وقال آخرون: إنما غضبوا على سعد لما أنهب المعزى بعكاظ، فلحق ببني أمه ولد معاوية بن بكر وهوازن، وكان سعد قد فارقها بعد أن ولدت له صعصعة وتزوجها معاوية بن بكر فضمن سعد والرباب الأهتم، واسمه سنان بن سمي بن سنان، وقيل: سمي بن سنان، وضمن هوازن مرة بن هبيرة، فسرقت خيل لذي الرقيبة، ثم اعترفت بعد ذلك بيسير عند الحنيف المنتجف، اعترفها بعض القشيريين، فضربه القشيري على ساعده، وضربه الحنيف فقتله، فأرادت هوازن القود من الرباب، فطلبهم بذلك ضامن سعد، فأبت الرباب إلا الدية، ففارقتهم سعد، وضافرت هوازن، فاستمدت بنو ضبة أسداً وطيئاً والتقوا بالنسار، فعبأت أسد لسعد والرباب لهوازن، فانهزمت هوازن وسعد، وكان حامي أدبار بني عامر يومئذ قدامة بن عبد الله القشيري، فرماه ربيعة بن أبي وكان أرمى الناس فقتله، فلما رأت ذلك بنو عامر منه وسائر هوازن سألوا أن يؤخذ منهم شطور أموالهم وسلاحهم، وقبل ذلك منهم، وهذا يوم المشاطرة ويوم النسار وهو من مذكورات أيام العرب في الجاهلية، وبنو ضبة تزعم أن هذا اليوم قبل يوم جبلة، وأبو عبيدة لا يشك أنه بعده. يوم " الصرائم " وهو أيضاً يوم الجرف لبني رياح بن يربوع على بني عبس، وفي هذا اليوم أسر الحكم بن مروان بن زنباع العبسي، أسره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 أسيد بن حياة السليطي، وأسر بنو حميري بن رياح زنباعاً وفروة ابني مروان بن زنباع، واستنقذوا جميع ما أصابته عبس لربيعة بن مالك بن حنظلة وأسرفوا ذلك اليوم في قتل بني عبس. يوم " الغبيط ": لبني يربوع علي بن شيبان، وكان الشيبانيون قد غزوهم متساندين على ثلاثة ألوية: الحوفزان بن شريك، والأسود أخوه، وبسطام بن قيس، وفي هذا اليوم أسر الأسود بن الحوفزان وزيد بن الأسود بن شريك، وحمى بسطام آخر القوم حتى حسبوه قتل وأسر، ورثاه بعضهم بمرات عدة، وزعم سعد عن أبي عبيدة أن يوم الغبيط هو يوم الأياد ويوم العظالي سمي بذلك لأن بسطام بن قيس وهانئ بن قبيصة ومقرون بن عمرو الحوفزان بن شريك تعاظلوا على الرياسة. وقال مرة أخرى: لم يشهد الحوفزان يوم العظالى، وهو أيضاً يوم الإناقة ويوم أعشاش، ويوم مليحة. يوم ذي نجب لبني يربوع على بني عامر، وفيه قتل حسان بن معاوية بن آكل المرار الملك، قتله حشيش بن نمران من بني رياح بن يربوع، وقيل: بل هو عمرو بن معاوية أعني المقتول وأما حسان فأسر، أسره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 دريد بن المنذر، وكانت بنو عامر أتت به تغزو بني حنظلة بن مالك بعد يوم جبلة بعام، فتنحى لهم بنو مالك بن عمرو بن عدس، وتركوا في صدورهم بني يربوع، فهزمت بنو عامر هزيمة عظيمة، وأسر يومئذ يزيد بن الصعق، وقتلت بنو نهشل خليف بن عبيد الله النميري، وأسر زيد بن ثعلبة الهصان، وهو عامر بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، وقتل خالد بن ربعي النهشلي عمرو بن الأحوص، وكان رئيس بني عامر يومئذ. يوم خزازي: ويقال: خزاز واختلف فيه: فقال قوم: كان رئيس نزار فيه كليب بن ربيعة. وقال آخرون: رئيسهم زرارة بن عدس، وقال آخرون: بل ربيعة بن الأحوص، وقد أنكروا عمرو بن العلاء جميع ذلك والذي ثبت عنده أنه قال: هو يوم لنزار على ملك من ملوك اليمن قديم لا يعرف من هو منهم، وأما ربيعة فيقول: لا شك أنه يوم خزار لكليب بن ربيعة على مذحج وغيرهم من اليمن، وكان بعقب يوم السلان، فجمع كليب جموع ربيعة، فاقتتلوا، فانهزمت مذحج والذين معهم من اليمن. يوم ملزق وهو أيضاً يوم السوبان كان لبني تميم على عبس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وعامر بعد أن قاتلت تميم جميع من أتى بلادها من القبائل، وهم إياد، وبلحارث بن كعب، وكلب وطيئ، وبكر، وتغلب، وأسد، كانوا يأتونهم حياً حياً فتقتلهم تميم وتنفيهم عن البلد، وآخر من أتاهم بنو عبس وبنو عامر. يوم الوندة وهي بالدهناء، أغارت بنو هلال على نعم بني نهشل. فأنزلتهم بنو نهشل بالوندة وهي بالدهناء فما أفلت من بني هلال إلا رجل واحد يقال له: فراس طواف؛ وقيل أواب. يوم فيف الريح ورأيته بخط البصري فيفا مقصوراً في مواضع من كتاب نوادر أبي زياد الكلابي. وأنشد أبو زياد لعامر بن الطفيل: ويا لفيفا من اليمن استثارت ... قبائل كان ألبهم فخاروا الفيفا: جبل طويل من جبال خثعم يقال له: فيفا الريح، وكان الصبر فيه والشرف لبني عامر، وقد اجتمعت كلها إلى عامر بن الطفيل على قبائل مذحج، وقد غزتهم مذحج في عدد عظيم من بني الحارث بن كلب وجعفي وزبيد وقبائل سعد العشيرة ومراد وصدى ونهد، ورئيسهم الحصين بن يزيد الحارثي، واستغاثوا بخثعم، فجاءت شهران وناهس وأكلب عليهم أنس بن مدرك، وأسرع القتل في الفريقين، فافترقوا، ولم تغنم طائفة منهم طائفة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وفي هذا اليوم أصيبت عين عامر، وزعم عبد الكريم وغيره أن يوم فيفا الريح هو يوم طلح. يوم ذي بهدى: لبني يربوع على تغلب، أسروا فيه الهذيل، قال جرير للأخطل يعيره بذلك: هل تعرفون بذي بهدى فوارسنا ... يوم الهذيل بأيدي القوم مقتسر يوم البشر لبني كلاب على الأراقم، ورئيس قيس يومئذ الجحاف بن حكيم الكلابي، وكان سبب ذلك تعيير الأخطل إياه. يوم الرغام لبني ثعلب بن يربوع، ورئيسهم عتيبة بن الحارث بن شهاب، أغار فيه على بني كلاب فأطرد إبلهم، وقتل يومئذ أخوه حنظلة، قتله الحوثرة، وأسر الحوثرة ذلك اليوم، فدفع إلى عتيبة فقتله صبراً بأخيه، وانهزم الكلابيون بعد أن أسرع فيهم القتل والأسر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 يوم الهراميت للضباب، وهم معاوية بن كلاب، على أخوته بني جعفر بن كلاب، وكان هذا اليوم في زمن عبد الملك بن مروان، وكذلك يوم البشر. يوم الوقيظ كان في فتنة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو للهازم، رئيسهم أبجر بن بجير، على بني مالك بن حنظلة، فأما بنو عمرو بن تميم فأنذرهم ناشب بن بشامة العنبري، فدخلوا الدهناء فنجوا، وفي هذا اليوم أسر ضرار بن القعقاع بن معبد، أسره الفزر الشيباني ورجل من تيم اللات، فجزت تيم اللات ناصيته، وخلته تحت الليل مضارة للفزر، ويسمى هذا اليوم يوم الحنو. يوم جزع طلال لفزارة ورئيسهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، على التيم وعدي وعكل وثور أطحل بني عبد مناة، وأخذ يومئذ شريك بن مالك بن حذيفة من التيم وعكل أربعين امرأة ثم أطلقهن، وأخذ خارجة بن حصن نفراً من التيم فأطلقهم بغير فداء، ثم أغارت فزارة بعد ذلك عليهم ورئيسهم عيينة، فقتلوا التيم قتلاً ذريعاً وأخذوا منهم مائة امرأة فقسمهن عيينة في بدر، وجعلهن مع أزواجهن الأسارى ينقلن الخرى هوناً لهم، ثم أطلق الجميع بعد ذلك بغير فداء، وأغارت عليهم بعد ذلك بنو غيظ بن مرة، ورئيسهم زيد بن شيبان بن أبي حارثة، فقتلوا التيم وعدياً وسبوا سبياً كثيراً لم يردوا منه شيئاً، فنعى هذا كله عليهم جرير. يوم أوارة الأول: لتغلب والنمر بن قاسط مع المنذر بن ماء السماء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 على بكر بن وائل مع سلمة بن الحارث، واسم سلمة معدي كرب، وهو أيضاً الغلفاء، بعد قتل أخيه شرحبيل، والذي قتل سلمة الغلفاء بن عمرو بن كلثوم، عرفه فحمل عليه حتى قنعه السيف، وكان سبب هزيمة بكر بن وائل، وحلف المنذر يومئذ ليقتلن بدر على رأس أوارة حتى يلحق الدم بالحضيض، فشفع لهم مالك بن كعب العجلي، وقال للمنذر: أنا أخرجك من يمينك، فصب الماء على الدم فلحق الأرض، وبر يمين المنذر، فكف عن القتل، وكان مالك هذا رضيع المنذر. يوم أوارة الأخير: كان لعمرو بن هند على بني دارم، وذلك أن ابناً له كان مسترضعاً عند زرارة بن عدس اسمه أسعد، وكان قد تبناه فعبث بناقة لأحد بني دارم يقال له سويد، فخرق ضرعها، فشد عليه فقتله، وأتى الخبر زرارة، وهو عند عمرو، وكان كالوزير له، فلحق بقومه وأدركه الموت على عقب ذلك، فغزا عمرو بني دارم، وحلف ليقتلن منهم مائة، فقتل منهم تسعة وتسعين، وأتم المائة برجل من البراجم، وفي حكاية أخرى أنه أحرقهم، وبذلك تشهد مقصورة ابن دريد وشعر الطرماح، وزعم أبو عبيدة أن من زعم أنه أحرقهم فقد أخطأ، وذكر له شعر الطرماح، فقال: لا علم له بهذا، واستشهد بقول جرير: أين الذين بسيف عمرو قتلوا ... أم أين أسعد فيكم المسترضع يوم زرود الأول: لشيبان مع الحوفزان، على بني عبس، وأثخن ذلك اليوم عمارة الوهاب جراحاً، غير أنه سلم فلم يمت منها. يوم زرود الآخر: أغار حزيمة بن طارق التغلبي على بني يربوع، فاستاق النعم، فأدركوه، فأسره أسيد بن حناءة السليطي وأنيف بن جبلة الضبي وكان ثقيلاً في بني يربوع، وردوا الغنيمة من أيدي التغلبيين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 يوم تثليث غزت سليم مع العباس بن مرداس مرادا، فجمع لهم عمرو بن معدي كرب، فالتقوا بتثليث، فصبر الفريقان ولم تظفر طائفة منهم بالأخرى، وفي ذلك اليوم صنع العباس قصيدته السينية، وهي إحدى المنصفات. يوم ذي علق كان بين بني عامر وبين بني أسد، وفي هذا اليوم قتل ربيعة أبو لبيد. يوم العذيب: كان لبني سعد بن زيد مناة وعنزة، على مذحج وحمير، وكان رأس اليمن الأصهب الجعفي، بعث إليه النعمان ينكر عليه بلوغ سعد وعنزة العذيب، فحشد لهم ولقيهم، فقتلوه، قتله الأحمر بن جندل، وانهزمت اليمانية هزيمة شديدة، وأخذ منهم مال كثير وسبي. يوم الصفقة: وهو أيضاً يوم المشقر كان على بني تميم بسبب غير كسرى التي كان يجيزها هوذة بن علي السحيمي، فلما سارت ببلاد بني حنظلة اقتطعوها برأي صعصعة بن ناجية جد الفرزدق، فكتب كسرى إلى المكعبر عامله على هجر فاغتالهم، وأراهم أنه يعرضهم للعطاء ويصطنعهم، فكان أحدهم يدخل من باب المشقر فينزع سلاحه ويخرج من الباب الآخر فيقتل، إلى أن فطنوا، وأصفق الباب على من حصل منهم؛ فلذلك سميت الصفقة، وشفع هوذة في مائة من أساراهم فتركوا له، فكساهم وأطلقهم يوم الفصح وكان نصرانياً. يوم ذي قار: كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لبني بكر بن وائل وقادمة بني شيبان وبعدهم بنو عجل، على الأعاجم جنود كسرى ومن معهم من العرب رئيسهم إياس بن قبيصة الطائي، وكان مكان النعمان بن المنذر بعد قتل كسرى إياه، وتحت يديه طيئ وإياد وبهرا، وقضاعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 والعباد وتغلب والنمر بن قاسط، قد رأس عليهم النعمان بن زرعة أعني النمر وتغلب وكان سبب يوم ذي قار طلب كسرى تركة النعمان بن المنذر، وكان النعمان قد تركها وترك ابناً له وبنتاً عند هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود الشيباني، فمنع رسول كسرى من الوصول إلى ما طلب؛ وكتب كسرى إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد، وكان عاملاً له على الطف، بأن يعين إياساً، فأنفذ إلى قومه ليلاً، وحرضهم على القتال، وتوطأت العرب على العجم، فطارت إياد عن العجم حين تشاجرت الرماح كأنهم مهزومون، وقتل الهامرز بن خلا يزر عامل كسرى، وأسر النعمان بن زرعة التغلبي، وبسبب ما صنع قيس بن مسعود استدرجه كسرى حتى أتاه فقتله. يوم الفجار الأول: كان بين كنانة بن خزيمة وبين عجز هوازن، بسوق عكاظ أول يوم من ذي القعدة، وبذلك سمي فجارا؛ لأنهم فجروا في الشهر الحرام، وكان سبب ذلك أن بدر بن معسر الكناني كان يستطيل على من ورد عكاظ فيمد رجله ويقول: أنا أعز العرب؛ فمن كان أعز منها فليضربها بالسيف فضربها الأحمر بن هوازن من بني نصر بن معاوية، وكان بين القبيلتين تشاجر دون أن يقع بينهما دماء، وليس هذا الفجار عند ابن قتيبة، وقد ذكره أبو عبيدة. يوم الفجار الثاني: كان بسبب فتيان من غزية قريش وكنانة رأو امرأة وضيئة من بني عامر بن صعصعة بسوق عكاظ، فسألوها أن تسفر لهم، فأبت، فحل أحدهم ذيلها إلى ظهر درعها بشوكة، فلما قامت انكشفت، فقالوا: منعتنا رؤية وجهك وأريتنا دبرك!! فصاحت: يال عامر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 فتهايجوا وجرت بين الفريقين دماء يسيرة، حملها الحارث بن أمية، وليس هذا الفجار أيضاً عند ابن قتيبة وقد ذكره أبو عبيدة. يوم الفجار الثالت: كان بسبب دين كان لأحد بني نصر على أحد بني كنانة، فأتى النصرى بقرد فقال: من يبيعني مثل هذا بمالي على فلان؟ فمر أحد بني كنانة فقتل القرد، فتصايح الفريقان، ثم سكنوا، وكان هذا سبب الأمر العظيم من قتل البراض الكناني عروة الرحال بن عيينة بن جعفر بن كلاب واتبعت هوازن قريشاً، وكانوا قد أدركوهم بنخلة، حتى دخلوا الحرم، وجنهم الليل، ثم التقوا بعد حول فكانت الوقعة أيضاً عليهم، وهو يوم شمطة ثم التقوا أيضاً بعد حول، فكانت الكرة على هوازن وفي ذلك اليوم سموا بني أمية العنابس لما فعل حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان من تقييدهم أنفسهم حتى يظفروا أو يقتلوا، هذه رواية أبي عبيدة، وأما ابن قتيبة فجعل ما جرى بين النصري والكناني هو الفجار الأول، وقال في آخره: ولم يكن بينهم قتال، إنما كان ذلك القتال في الفجار الثاني، وجعل سبب الفجار الثاني أن عيينة بن حصن بن حذيفة أتى سوق عكاظ فرأى الناس يتبايعون، فقال: أرى هؤلاء مجتمعين بلا عهد ولا عقد، ولئن بقيت إلى قابل ليعلمن، فغزاهم من قابل، وأغار عليهم، قال: فهذا الفجار الثاني، والحرب فيه كناية وقيس، والدائرة على قيس عيلان. يوم الجفار: للأحاليف في ضبة وأخوتها الرباب وأسد وطيئ، على بني تميم، واستحر القتل يومئذ في بني عمرو بن تميم فقتلوا قتلاً ذريعاً. يوم الصريف: كانت هذه الوقعة في أيام الرشيد، وهي لبني ضبة على بني حنظلة، وفي ذلك يقول شاعرهم، وأظنه من ولد جرير: صبرت كليب للطعان ومالك ... يوم الصريف وفرت الأحمال والأحمال: بطون من بني حنظلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وقد أوفيت بما عقدت به في صدر هذا الكتاب من إثبات ما انتهى إلي من أيام العرب، مجتهداً في اختصارها، بريئاً مما وقع فيها من الاختلاف، وإنما عهدة ذلك على الرواة. وسأذكر من مفاخر بني شيبان لمعاً أختم بها هذا الكتاب كما بدأته؛ لأني لو تقصيت ذلك لأفنيت العمر دون تقضي الجزء الذي لا يتجزأ منه قلة، لكني ذهبت فيهم وفي سيدهم أبي الحسن مذهب أبي الطيب في أخوتهم بني تغلب وفي سيدهم علي بن حمدان حيث يقول: ليت المدائح تستوفي مدائحه ... فما كليب وأهل الأعصر الأول خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل قال أبو عبيدة: قدم على النعمان بن المنذر وفود ربيعة ومضر بن نزار، وكان فيمن قدم عليه من وفود ربيعة بسطام بن قيس والحوفزان بن شريك البكريان، وفيمن قدم عليه من وفد مضر من قيس عيلان عامر بن مالك وعامر بن الطفيل، ومن تميم قيس بن عاصم والأقرع بن حابس، فلما انتهوا إلى النعمان أكرمهم وحباهم، وكان يتخذ للوفود عند انصرافهم مجلساً: يطعمون فيه معه، ويشربون، وكان إذا وضع الشراب سقي النعمان، فمن بدأ به على أثره فهو أفضل الوفد، فلما شرب النعمان قامت القينة تنظر إلى النعمان من الذي يأمرها أن تسقيه وتفضله من الوفد، فنظر في وجهها ساعة ثم أطرق ثم رفع رأسه وهو يقول: اسقي وفودك مما أنت ساقيتي ... فابدي بكأس ابن ذي الجدين بسطام أغر ينميه من شيبان ذو أنف ... حامي الذمار وعن أعراضها رامي قد كان قيس بن مسعود ووالده ... تبدا الملوك بهم أيام أيامي فارضوا بما فعل النعمان في مضر ... وفي ربيعة من تعظيم أقوام هم الجماجم والأذناب غيرهم ... فارضوا بذلك أو بوءوا بإرغام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 فقال عامر بن الطفيل: كان التبايع في دهر لهم سلف ... وابن المرار وأملاك على الشام حتى انتهى من لخم إلى ملك ... بادي السنان لمن لم يرمه رامي أنحى علينا بأظفار فطوقنا ... طوق الحمام بإتعاس وإرغام إن يمكن الله من دهر نساء به ... نتركك وحدك تدعو رهط بسطام فانظر إلى الصيد لم يحموك من مضر ... هل في ربيعة إن لم تدعنا حامي؟؟ فأجابه بسطام بن قيس فقال: لعمري لئن ضجت تميم وعامر ... لقد كنت يوماً في حلوقهم شجى أروني كمسعود وقيس وخالد ... وعمرو وعبد الله ذي الباع والندى وكانوا على أفناء بكر بن وائل ... ربيعا إذا ما سال سائلهم جدى فسرت على آثارهم غير تارك ... وصيتهم حتى انتهيت إلىمدى قال: وافتخر رجلان بباب معاوية بن أبي سفيان: أحدهما من بني شيبان، والآخر من بني عامر بن صعصعة، فقال العامري: أنا أعد عليك عشرة من بني عامر، فعد علي عشرة من بني شيبان، فقال الشيباني: هات إذا شئت، فقال العامري: خذ عامر بن مالك ملاعب الأسنة، والطفيل بن مالك قائد هوازن وفارس قرزل، ومعاوية بن مالك معوذ الحكماء، وربيعة بن مالك فارس ذي علق، وعامر بن الطفيل، وعلقمة بن علاثة، وعتبة بن سنان، ويزيد بن الصعق، وأربد بن قيس، وهو أربد الحتوف، فقال الشيباني: خذ قيس بن مسعود رهينة بكر بن وائل، وبسطام بن قيس سيد فتيان ربيعة، والحوفزان ابن شريك فارس بكر بن وائل، وهانىء بن قبيصة أمين النعمان بن المنذر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وقبيصة بن مسعود وافد المنذر، ومفروق بن عمرو حاضن الأيتام، وسنان بن مفروق ضامن الدمن، والأصم عمرو بن قيس صاحب رءوس بني تميم، وعمران بن مرة الذي أسر يزيد بن الصعق مرتين، وعمرو بن النعمان، فتلاحيا، فخرج حاجب معاوية فصادفهما على تلك الحال، فدخل على معاوية فأخبره بالقضية، فدعا بهما، فلما دخلا عليه نسبهما، فانتسبا له، فقال معاوية: عامر أفخر هوازن، وشيبان أفخر بكر بن وائل، وقد كفاكما الله المؤنة، هذان رجلان من غير قومكما عندي يحكمان بينكما: عدي بن حاتم، وشريك بن الأعور الحارثي، احكما بينهما، ثم قال معاوية للشيباني: من يعبى لعامر بن مالك؟ قال الأصم بن أبي ربيعة الذي قتل من تميم مائة رجل على دم، فقال معاوية للرجلين: ما تقولان؟ قالا: رجح الأصم على عامر بن مالك، قال معاوية: فمن يعبى لعامر بن الطفيل؟ قال الشيباني: الحوفزان بن شريك، قال الحكمان: رجح الحوفزان، قال: فمن يعبى لعلقمة بن علاثة؟ قال الشيباني: بسطام بن قيس، فقالا: رجح بسطام، قال معاوية: فمن يعبى لعتبة بن سنان؟ قال الشيباني: مفروق بن عمرو، فقالا: رجح مفروق، قال نعاوية: فمن يعبى للطفيل بن مالك؟ فقال الشيباني: عمران بن مرة، فقالا: رجح عمران بن مرة، فقال معاوية: فمن يعبى لمعاوية بن مالك؟ قال الشيباني: عوف بن النعمان، فقالا: رجح عوف بن النعمان، قال معاوية: فمن يعبى لعوف بن الأحوص؟ قال الشيباني: قبيصة بن مسعود، فقالا: رجح قبيصة، قال: فمن يعبى لربيعة بن مالك؟ قال: هانئ بن قبيصة، فقالا: رجح هانئ بن قبيصة، قال معاوية: فمن يعبى ليزيد بن الصعق؟ قال: سنان بن مفروق، فقالا: رجح سنان بن مفروق، قال: فمن يعبى لأربد بن قيس؟ قال: الأسود بن شريك، فقال معاوية للشيباني: فأين نسيت قيس بن مسعود؟ قال: أصلحك الله! قيس ليس من هذه الطائفة فاتهم قيس مجداً طويلاً، فقال العامري في ذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 أعد إذا عددت أبا براء ... فكان علا على الأقوام فضلا وكان الجعفري أبو علي ... إذا هاجت الهيجاء علا ووالده الذي حدثت عنه ... طفيل خيرنا يفعاً وطفلا وكان معود الحكم المباري ... رياح الصيف أعلى القوم فعلا وقد أوردت زناد أبي لبيد ... ربيعة يوم ذي علق فأبلى وعلقمة بن أحوص كان كهفاً ... كلابياً رحيب الباع سهلا وعتبة والأغر يزيد، إني ... رأيتهما لكل الفخر أهلا وعوفاً ثم أربد ذا المعالي ... كفى بهما عليك ندى وبذلا أولئك من كلاب في ذراها ... وخير قرومها حسباً ونبلا فقال الشيباني مجيباً له: أعد إذا عددت أبا خفاف ... وعمران بن مرة والأصما وهانئاً الذي حدثت عنه ... وكان قبيصة الأنف والأشما ومفروقاً وذا النجدات عوفاً ... وبسطاماً ووالده الخضما وأسود كان خير بني شريك ... ولم يك قرنه كبشاً أجما أولئك من عكابة خير بكر ... واكرم من يليك أباً وأماً وأفضل من ينص إلى المعالي ... إذا ما حصلوا خالاً وعماً وأكثر قومهم بالشر طوفاً ... وأبعد قومهم في الخير هما فقال معاوية للحكمين: ما تقولان؟ قالا: شيبان أكرم الحيين، فقال معاوية: وذلك قولي، فأكرمهما وحباهما، وفضل الشيباني على العامري. قال: وكان من حديث ذي الجدين أن الملك النعمان قال: لأعطين أفضل العرب مائة من الإبل، فلما أصبح الناس اجتمعوا لذلك، فلم يكن قيس بن مسعود فيهم، وأراده قومه على أن ينطلق، فقال: لئن كان يريد بها غيري لا أشهد ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وإن كان يريدني بها لأعطينها، فلما رأى النعمان اجتماع الناس قال لهم: ليس صاحبها شاهداً، فلما كان من الغداة قال له قومه: انطلق، فانطلق، فدفعها إليه الملك، فقال حاجب بن زرارة: أبيت اللعين، ما هو أحق بها مني، فقال قيس ابن مسعود: أنافره عن أكرمنا قعيدة، وأحسننا أدب ناقة، وأكرمنا لئيم قوم، فبعث معهما النعمان من ينظر ذلك، فلما انتهوا إلى بادية حاجب بن زرارة مروا على رجل من قومه، فقال حاجب: هذا ألأم قومي، وهو فلان بن فلان، والرجل عند حوضه ومورد إبله، فأقبلوا إليه، فقالوا: يا عبد الله؛ دعنا نستقي؛ فإنا قد هلكنا عطشاً وأهلكنا ظهورنا، فتجهم وأبى عليهم، فلما أعياهم قالوا لحاجب: أسفر، فسفر فقال: أنا حاجب بن زرارة، فدعنا فلنشرب، قال: أنت؟ فلا مرحباً بك ولا أهلا، فأتوا بيته، فقالوا لامرأته: هل من منزل يا أمة الله؟ قالت: والله ما رب المنزل شاهد، وما عندنا من منزل، وراودوها على ذلك فأبت، ثم أتوا رجلاً من بكر بن وائل على ماء يورد، قال قيس: هذا والله ألأم قومي، فلما وقفوا عليه قالوا له مثل ما قالوا للآخر فأبى عليهم، وهم أن يضربهم، فقال له قيس بن مسعود: ويلك أنا قيس بن مسعود، فقال له: مرحباً وأهلاً، أورد، ثم أتوا بيته، فوجدوا فيه امرأته وقدرها يئط، فلما رأت الركب من بعيد أنزلت القدر وبردت، فلما انتهوا إليها قالوا: هل عندك يا أمة الله من منزل؟ قالت: نعم أنزلوا في الرحب والسعة، فلما نزلوا طعموا وارتحلوا، فأخذوا ناقتيهما، فأناخوهما على قريتين للنمل؛ فأما ناقة قيس بن مسعود فتضورت وتقلبت ثم لم تنز، وأما ناقة حاجب فمكثت وثبتت، حتى إذا قالوا قد اطمأنت طفقت هاربة، فأتوا الملك فأخبروه بذلك، فقال له: قد كنت يا قيس ذا جد، فأنت اليوم ذو جدين فسمي بذلك ذا الجدين، وقيل: إنما سمي بذلك لأسيرين أسرهما مرتين، وقيل: بل سبق سبقين، هكذا جاءت الرواية. والذي أعرف أنا أن ذا الجدين إنما هو عبد الله بن عمرو بن الحارث بن همام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 سمي بذلك لأنه اشترى كعب بن مامة من أيدي قوم من عنزة أسروه، فكتم نفسه، وعرفه عبد الله وأظهر أنه لم يشتره عن معرفة، فوهبه كل ما لقي في طريقه من إبل أبيه بعبدانها، وكانت سوداً وحمراً وصهباً، وبلغ به إلى أبيه فأجاز له ذلك، وأعطاه قبته بما فيها، فلما أتى الحيرة قال بعض من رآه لصاحبه: إنه لذو جد، قال الآخر: بل هو ذو جدين، فسمي بذلك. باب في معرفة ملوك العرب وأنا أذكر في هذا الباب من ملوك النواحي من أخذه حفظي، وبلغته روايتي، على شريطة الاختصار والتخليص، بحسب الطاقة والاجتهاد، إن شاء الله تعالى. ملوك اليمن: قال ابن قتيبة وغيره: أول من حيي بتحية الملوك أبيت اللعن وأنعم صباحاً يعرب بن قحطان، فولد له يشجب، وولد ليشجب سبأ، وقيل: إنه أول من سبى السبي من ولد قحطان، واسمه عبد الشمس، وقيل: عامر، وأول الملوك المتوجين من ولده حمير بن سبأ ملك حتى مات هرماً، ولم يزل الملك في ولد حمير لا يعدوا ملكهم اليمن، حتى مضت قرون، وصار الملك إلى الحارث الرائش، وبينه وبين حمير خمسة عشر أباً، فخرج من اليمن، وغزا وجلب الأموال، فراش الناس، وبذلك سمي الرائش، وفي عصره مات لقمان صاحب النسور، وهو لقمان الذي بعثته عاد ليستسقي لها بمكة، وكان ملك الرائش مائة وخمسة وعشرين سنة، وذكر نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنشد ابن قتيبة: وأحمد إسمه، يا ليت أني ... أعمر بعد مبعثه بعام ثم أبرهة ذو المنار بن الرائش، وكان ملكه مائة وثلاثاً وثمانين سنة، ثم أفريقس بن أبرهة، وهو الذي بنى أفريقية، وبه سميت وكان ملكه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 مائة وستين سنة؛ ثم العبد بن أبرهة، وهو ذو الأذعار، سمي بذلك لقوم سباهم منكري الوجوه تزعم العرب أنهم النسناس، وكان ملكه خمساً وعشرين سنة، ثم هدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن الرائش، وهو أبو بلقيس، ملك سنة واحدة ثم بلقيس إلى أن أسلمت على يدي سليمان صلى الله عليه وسلم، ثم ناشر بن عمرو بن يعفر بن شرحبيل، وكان ملكه خمساً وثمانين سنة، ثم شمر بن أفريقس، وهو الذي أخرب مدينة سمرقند، وبه سميت سمركند، ومعنى كند أخربها، وهو الذي يسمى شمر يرعش؛ لارتعاش كان به، وكان ملكه مائة وسبعاً وثلاثين سنة، ثم ابنه الأقرن بن شمر يرعش، وكان ملكه ثلاثاً وخمسين سنة، ثم تبع الأكبر بن الأقرن، وكان ملكه مائة وثلاثاً وستين سنة، ثم ابنه كليكرب؛ ولم يغز حتى مات، وكان ملكه خمساً وثلاثين سنة، ثم تبع بن كليكيرب وهو أبو كرب تبع الأوسط، كان يغزو بالنجوم ويعمل أعماله كلها بأحكامها، ويقال: إنه آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القائل فيه: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيراً له وابن عم ثم حسان بن تبع الأوسط، وهو الذي غزا جديسا وقتل اليمامة التي سميت بها جو اليمامة، ثم عمرو بن تبع أخو حسان، وكان ملكه ثلاثاً وستين سنة، ثم عبد كلال بن مثوب، وكان على دين عيسى يستر إيمانه، وكان ملكه أربعاً وسبعين سنة؛ ثم تبع بن حسان وهو الأصغر، وكان الحارث بن عمرو بن حجر جد امرئ القيس ابن أخيه، وتبع هو الذي عقد الحلف بين ربيعة واليمن، وهو الذي أدخل في اليمن دين اليهود ثمانية وسبعين سنة، ثم أخوه لأمه مرثد بن عبد كلال، وقيل: مزيد، وكان ملكه إحدى وأربعين سنة، ثم ابنه ربيعة بن مرثد، ملك سبعاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وثلاثين سنة، ثم أبرهة بن الصباح، ملك ثلاثاً وسبعين سنة، وكان يكرم معداً ويعلم أن الملك كائن في بني النضر بن كنانة، ثم حسان بن عمرو بن تبع بن كليكرب، ملك سبعاً وثلاثين سنة، ومدحه خالد بن جعفر بن كلاب لما شفعه في أسارى من قومه، ثم ذو الشناتر، واسمه نجيعة ينوف، ولم يكن من أهل بيت الملكة، لكنه من أبناء المقاول، قتله ذو نواس وكان غلاماً من أبناء الملوك حسن الوجه له ذؤابتان، أراده ذو الشناتر على نفسه فوجأه بخنجر كان قد أعده له فقتله، ورضيته حمير لنفسها لما أراحها من ذي الشناتر، وذو نواس صاحب الأخدود الذي ذكره الله عز وجل، وكان يهودياً، فخد الأخدود لقوم من أهل نجران تنصروا على يد قيل آل جفنة، وعلى أيام ذي نواس دخلت الحبشة اليمن، واقتحم البحر منهزماً فغرق، وكان ملكه ثمانيا وستين سنة، وقام بعده ذو جدن فهزمته الحبشة، فاقتحم البحر فهلك، وملك اليمن أبرهة الأشرم، وهو الذي زحف إلى مكة بالفيل فهلك جيشه، وابتلي بالأكلة، فحمل إلى اليمن فهلك بها، وملك بعده ابنه يكسوم فساءت سيرته باليمن، فاستجاش سيف بن ذي يزن كسرى، فجيش له جيشاً عظيماً، وقد مات يكسوم، وولي بعده مسروق أخوه، وهو أيضاً أخو سيف لأمه، فقتلته الحبشة، وسبيت نساؤهم، فقام سيف ملكاً من قبل كسرى حتى غدره خدامة من الحبشة ولم يجتمع ملك اليمن لأحد بعده، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكشفت به الظلمة، واهتدت بهديه الأمة، واستقر الملك في نصابه، بعد الخلفاء الأربعة من أصحابه، ممن وجبت طاعته، وصحت بيعته، وأنا واقف عند الشبهة، قائل في هذا بما قالت به الجماعة، فقد تنازع اسم أمير المؤمنين من لا يصلح له، ولا يسلم إليه؛ فلذلك أعرضت عن ذكر من لم أذكره، ولولا ذلك لذكرت كل واحد وزمانه، ومنتهى عمره، إلى وقتنا هذا، وما توفيقي إلا بالله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 ملوك الشام: كانت بالشام سليح وهم من غسان، ويقال: من قضاعة وأول ملوكهم النعمان بن عمرو بن مالك، ثم من بعده ابنه مالك، ثم من بعد مالك ابنه عمرو؛ إلى خروج مزيقيا وهو عمرو بن عامر من اليمن في قومه من الأزد، وسمي مزيقيا لأنه كان يمزق كل يوم حلة لا يعود إلى لباسها ثم يهبها، ويسمى عامر ماء السماء؛ لأنه كان يجيء في المحل فينوب عن الغيث بالرفد والعطاء وهو ابن حارثة الغطريف، ابن امرئ القيس البطريق، بن ثعلبة البهلول، بن مازن قاتل الجوع، بن الأزد، ومعه رجل يقال له جذع بن سنان، فنزلوا بلاد عك، فقتل جذع ملك بلاد عك، فافترقت الأزد والملك فيهم حينئذ ثعلبة بن عمرو بن عامر، فانصرف عامله فحارب جرهم فأجلاهم عن مكة، واستولوا عليها زماناً ثم أحدثوا الأحداث، وجاء قصي بن كلاب فجمع معداً وبذلك سمى مجمعاً واستعان ملك الروم فأعانه، وحارب الأزد فغلبهم، واستولى على مكة دونهم، فلما رأت الأزد ضيق العيش بمكة ارتحلت، وانخزعت خزاعة لولاية البيت وبذلك سميت فصار بعض الأزد إلى السواد فملكوا عليهم مالك بن فهم أبا جذيمة الأبرش، وصار قوم إلى يثرب، وهم الأوس والخزرج، وصار قوم إلى عمان، وصار قوم إلى الشام، وفيهم جذع بن سنان، فأتاه عامل الملك في خرج وجب عليه فدفع إليه سيفه رهناً، فقال الرومي: أدخله في كذا من أم الآخر، فغضب جذع وقنعه فقتله، فقيل: خذ من جذع ما أعطاك، وسارت مثلاً، وولوا الشأم، فكان أولهم الحارث بن عمرو محرق، سمي بذلك لأنه أول من حرق العرب في ديارها، وهو الحارث الأكبر، ويكنى أبا شمر، ثم ابنه الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأعرج، وأمه مارية ذات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 القرطين، وهي مارية بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية الكندي، وأختها هند الهنود امرأة حجر آكل المرار الكندي، وإلى الحارث الأعرج زحف المنذر الأكبر فانهزم جيشه، وقتل، ثم الحارث الأصغر بن الحارث الأكبر، وهو ولد الحارث الأعرج ثم عمرو بن الحارث، وكان يقال له: أبو شمر الأصغر، وله يقول نابغة بني ذبيان: علي لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب والنعمان بن الحارث هو أخو الحارث الأصغر، وله يقول النابغة: هذا غلام حسن وجهه ... مستقبل الخير سريع التمام وللنعمان هذا ثلاثة بنين: عمرو، وحجر، والنعمان، ومن ولد الأعرج أيضاً المنذر، والأيهم أبو جبلة، وجبلة آخر ملوك غسان، كان طوله اثني عشر شبراً، وهو الذي تنصر في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ملوك الحيرة: أولهم مالك بن فهم بن عمرو بن دوس بن الأزد، ملك العرب بالعراق عشرين سنة، ثم ابنه جذيمة بن مالك، وهو الأبرش، وهو الوضاح، كان ملكه ستين سنة، ثم عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة اللخمي، ويقال: إن نصراً هو الساطرون صاحب الحضر، وهو جرمقاني من أهل الموصل، وقيل: بل هو من أشلاء قنص بن معد بن عدنان، وعمرو هذا هو ابن أخت جذيمة الأبرش وفيه قيل: " شب عمرو عن الطوق " ثم امرؤ القيس بن عمرو بن عدي، ويقال: بل الحارث بن عمرو، وإنه الذي يدعى محرقاً، ثم النعمان بن امرئ القيس، وهو النعمان الأكبر الذي بني الخورنق، ثم المنذر بن امرئ القيس، وهو المنذر الأكبر بن ماء السماء أخو النعمان الأكبر، ثم المنذر بن المنذر، وهو الأصغر، ثم أخوه عمرو بن المنذر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 وهو عمرو بن هند، ويسمى محرقاً؛ لأنه حرق بني تميم، وقيل: بل حرق نخل اليمامة، ثم النعمان بن المنذر صاحب النابغة الذبياني، وهو أخو ملوك لخم، ثم ولى بعده إياس بن قبيصة الطائي، ثم ابنه أشهر، واضطرب ملك فارس وضعفوا، وكانت ملوك الحيرة من تحت أيديهم، وأتى الله عز وجل بالإسلام فعز أهله بالنبي صلى اله عليه وسلم. باب من النسبة قال ابن دريد: الإبل الأرحبية منسوبة إلى أرحب بن همدان. أسد خفية وأسد خفان وهما أجمتان من العذيب على ليلة. الرماح اليزنية: منسوبة إلى ذي يزن الملك، ويقال الأيزنية، قال ذو الرمة: أرين الذي استودعن سوداء قلبه ... هوى مثل شك الأيزني النواجم هكذا جاءت الرواية في هذا البيت. الدروع تنسب إلى فرعون. قال راشد بن كثير: بكل فرعونية لونها ... مثل بصيص البغشة الغادية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وتنسب إلى داود، وسليمان، وتبع، ومحرق، يريدون بذلك القدم وجودة الصنعة. الكنائن الزغرية: منسوبة إلى زغر وهو موضع بالشام تعمل فيه كنائن حمر مذهبة. قال أبو دؤاد يصف فرساً: ككنانة الزغري زي ... نها من الذهب الدلاص السمهري: الرمح الشديد، يقال: اسمهر الأمر، إذا اشتد. الأتحمية: برود منسوبة إلى أتحم باليمن. القعضبية: ضرب من الأسنة، تنسب إلى قعضب، رجل قشيري كان يعملها، وكذلك الشرعبية أيضاً. قال الأعشى: ولدن من الخطى فيها أسنة ... ذخائر مما سن أبزى وشرعب والشرعبية أيضاً من الثياب الحارية في قول امرئ القيس: فلما دخلناها أضفنا ظهورنا ... إلى كل حاري جديد مشطب قال الأصمعي: احتبوا بحمائل سيوفهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 قال أبو عبيدة: ما نسبت إلى الحيرة سيوف قط، وإنما يريد الرحال كما قال الآخر: مشددة برحال الحيرة الجدد قال ابن الكلبي: أول من اتخذ الرحال علاف، وهو زبان بن جرم؛ فلذلك قيل للرحال علافية وأول من عمل الحديد من العرب الهالك بن مراد بن أسد بن خزيمة؛ فلذلك قيل لبني أسد القيون، وقيل لكل حداد: هالكي. قال أبو عبيدة: أجود السهام التي صنعتها العرب في الجاهلية سهام بلام، وسهام يثرب، وهما بلدان قريبان من حجر اليمامة، وأنشد الأعشى: بسهام يثرب أم سهام بلام سلوق: قرية باليمن، وإليها تنسب الكلاب والدروع. سيف مشرفي: منسوب إلى مشرف، وهي قرية باليمن كانت السيوف تعمل بها، وليس قول من قال أنها منسوبة إلى مشارف الشام أو مشارف الريف بشيء عند العلماء، وإن قاله بعضهم. والسيوف السريجية: منسوبة إلى سريج رجل من بني أسد، قال محمد بن حبيب: هو أحد بني معرض بن عمرو بن أسد بن خزيمة، وكانوا قيودنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 الدروع الحطمية: منسوبة إلى حطمة بن محارب بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن عبد القيس بن أفصى. وقال ابن الكلبي: هي منسوبة إلى حطم، وهو أحد بني عمرو بن مرثد من بني قيس بن ثعلبة، وقال الأصمعي: لا أعلم ما تنسب إليه. الخط: جزيرة بالبحرين تنسب إليها الرماح، قال الأصمعي: ليست تنبت الرماح لكن سفن الرماح ترفأ إلى هذا الموضع فقيل للرماح خطية. والمسك الدارئ: منسوب إلى دارين، يعني عطاراً بالبحرية، زعم ذلك أبو جعفر محمد بن حبيب البغدادي، والأكثر المشهور عند العلماء أن دارين وغزة موضعان بالشام. عصفور، وداعر وشاعر، وذا الكلبتين: فحول إبل النعمان بن المنذر. عصافير النعمان: أولاد عصفور الفحل، وهو أكرم فحل للعرب فيما يزعمون. والقسي العصفورية: منسوبة إلى رجل يسمى عصفوراً، حكاه الجاحظ. وأنشد لابن بشير: عطف السيات بواقع في بذلها ... تعزى إذا نسبت إلى عصفور يعني قسي البندق، ودعا بها على حمام جاره. ويقال للقسي أيضاً الماسخية منسوبة إلى رجل من الأزد، واسمه ماسخة هو أول من عملها. والإبل العسجدية والعبدية والعمانية: إبل ضربت فيها الوحوش. والإبل الشذقمية والجديلية عن غيره منسوبة إلى شذقم وجديل، وهما فحلان مشهوران. الحمر الأخدرية: منسوبة إلى حمار يسمى أخدر، وقيل: هو فرس كان لبعض الملوك، أظنه أزدشير بن بابك، توحش فضرب في عانة فنسبت أولاده إليه، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 أفره الحمر، هكذا تزعم العرب، والعادة أن يكون ما تناتج منه بغالاً. فأما الكداد فحمار معروف من الوحشية نتج. قال الفرزدق: حمار لهم من بنات الكداد ... يدهمج بالوطب والمزود والبغال يزعمون أن قارون أول من أنتجها؛ فهي تنسب إليه، وقيل: بل أنتجها قبله أفريدون. باب العتاق من الخيل ومذكوراتها وأول ما أذكر منها خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومراكبه، جرياً على العادة في التبرك باسمه: فمنها السكب وهو فرسه يوم أحد، حكاه ابن قتيبة، ومنها المرتجز وكان له فرس يقال: اللزاز وفرس يقال له الضرب وفرس يقال له اللجيف وفرس يقال له الورد وزاد غير ابن قتيبة فرساً يقال له سحة وكانت بغلته يقال لها دلدل وكان حماره يقال له يعفور وكانت ركائبه القصوى والجدعاء والعضباء. وهذه خيل العرب: قال ابن قتيبة عن أبي عبيدة: الغراب والوجيه ولاحق ومذهب ومكتوم كانت كلها لغنى. وقال أحمد بن سعد الكاتب: كان أعوج أولاً لكندة، ثم أخذته سليم، ثم صار لبني عامر، ثم لبني هلال، قال ابن حبيب: ركب رطباً فاعوجت قوائمه وكان من أجود خيل العرب، وأمه سبل كانت لغنى، وأم سبل البشامة، كانت لجعدة، ولهم أيضاً الفياض. قال ابن سعد: والوجيه ولاحق لبني سعد، قيل: وحلاب لبني تغلب، والصريح لبني نهشل، وزعم غيره أنه كان لآل المنذر، وجلوى لبني ثعلب ابن يربوع، وذو العقال لبني رياح بن يربوع، وهو أبو داحس، وكان داحس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 والغبراء لبني زهير، وهي خالة داحس، وأخته من أبيه ذي العقال، وقرزل والخطار والحنفاء لحذيفة بن بدر، وهي أخت داحس من أبيه وأمه، وقرزل آخر للطفيل بن مالك، وحذفة لخالد بن جعفر بن كلاب، وحذفة أيضاً لصخر بن عمرو بن الشريد، والشقراء لزهير بن جذيمة العيسى، والزعفران لبسطام ابن قيس، والوديقة ونصاب وذو الحمار لمالك بن نويرة، والشقراء أخرى لأسيد بن حناءة السليطي، والشيط لأنيف بن جبلة الضبي، والوجيف لعامر بن الطفيل والكلب والمزنوق والورد له أيضاً، والخنثى فرس لعمرو بن عمرو بن عدس، والهداج فرس الريب بن شريق السعدي، وجزة فرس يزيد بن سنان المري فارس غطفان، والنعامة للحارث بن عباد، وابن النعامة لعنترة، والنحام فرس السليك بن السلكة السعدي، والعصا فرس جذيمة بن مالك الأزدي، والهراوة لعبد القيس بن أفصى، واليحموم فرس النعمان بن المنذر، وكامل فرس زيد الخيل، والربد فرس الحوفزان، وأبو الزعفران فرس بسطام، والعرادة فرس الكحلبة اليربوعي، انتهى كلام أحمد بن سعد. وعن ابن دريد: القطيب فرس كان للعرب، وكذلك البطين واللعاب والعباءة فرس حري بن ضمرة النهشلي، والمدعاس فرس النواس بن عامر المجاشعي، وصهباء فرس النمر بن تولب، وحافل فرس مشهور ذكره حرب بن ضرار في قوله: كميت عبناة السراة نمى بها ... إلى نسب الخيل الصريح وحافل والعسجدي لبني أسد، والشموس فرس زيد بن حذاق العبدي، والضيف لبني تغلب، وهراوة الغراب فرس الريان بن حويص العنبري، يقال: إنها جاءت سابقة طول أربع عشرة سنة فتصدق بها على العزاب يتكسبون عليها في السباق والغارات، والحرون فرس تنسب إليه الخيل، وكان لمسلم بن عمرو بن أسيد الباهلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 والزليف فرس مشهور، وهو من نسل الحرون، ومناهب فرس تنسب إليه الخيل أيضاً، قال الشمردل: لأفحل ثلاثة سمينا ... مناهبا والضيف والحرونا والعلهان: فرس أبي مليك عبد الله بن الحارث اليربوعي. ومن أقدم الخيل زاد الراكب، وهبه سليمان عليه السلام لقوم من الأزد كانوا أصهاره. وكان إسماعيل عليه السلام أول من ذلل الخيل وركبها، وكانت قبل من سائر الوحوش. باب من المعاني المحدثة قال أبو الفتح عثمان بن جني: المولدون يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ، والذي ذكره أبو الفتح صحيح بين؛ لأن المعاني إنما اتسعت لاتساع الناس في الدنيا، وانتشار العرب بالإسلام في أقطار الأرض، فمصروا الأمصار، وحضروا الحواضر، وتأنقوا في المطاعم والملابس، وعرفوا بالعيان عاقبة ما دلتهم عليه بداهة العقول من فضل التشبيه وغيره، وإنما خصصت التشبيه لأنه أصعب أنواع الشعر، وأبعدها ومتعاطى، وكل يصف الشيء بمقدار ما في نفسه من ضعف أو قوة، وعجز أو قدرة، وصفة الإنسان ما رأى يكون لا شك أصوب من صفته ما لم ير، وتشبيهه ما عاين بما عاين أفضل من تشبيه ما أبصر بما لم يبصر، ومن هنا يحكى عن ابن الرومي أن لائماً لامه فقال: لم لا تشبه تشبيه ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ قال: أنشدني شيئاً من قوله الذي استعجزتني في مثله، فأنشده في صفة الهلال: فانظر إليه كزورق من فضةٍ ... قد أثقلته حمولة من عنبر فقال: زدني، فأنشده: كأن آذريونها ... والشمس فيه كاليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه فصاح: وا غوثاه، يا لله، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ذلك إنما يصف ماعون بيته؛ لأنه ابن الخلفاء، وأنا أي شيء أصف؟ ولكن انظروا إذا وصفت ما أعرف أين يقع الناس كلهم مني؟ هل قال أحد قط أملح من قولي في قوس الغمام: وقد نشرت أيدي السحاب مطارفاً ... على الأرض دكناً وهي خضر على الأرض يطرزها قوس الغمام بأصفر ... على أحمر في أخضر وسط مبيض كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض وقولي في قصيدة في صفة الرقاقة: ما أنس لا أنس خبازاً مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر ما بين رؤيتها في كفة كرة ... وبين رؤيتها زهراء كالقمر إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر وهذا كلام إن صح عن ابن الرومي فلا أظن ذلك أمراً لزمه في الدرك؛ لأن جميع ما أراه ابن المعتز أبوه وجده في ديارهم كما ذكر أن ذلك علة للإجادة وعذر فقد رآه ابن الرومي هنالك أيضاً، اللهم إلا أن يريد أن ابن المعتز ملك قد شغل نفسه بالتشبيه فهو ينظر ماعون بيته وأثاثه فيشبه به ما أراد، وأنا مشغول بالتصرف في الشعر طالباً به الرزق: أمدح هذا مرة، وأهجو هذا كرة، وأعاتب هذا تارة، وأستعطف هذا طوراً، ولا يمكن أن يقع أيضاً عندي تحت هذا، وفي شعره أيضاً من مليح التشبيه ما دونه النهايات التي لا تبلغ، وإن لم يكن التشبيه غالباً عليه كابن المعتز. ولم أدل بهذا البسط كله على أن العرب خلت من المعاني جملة، ولا أنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 أفسدتها، لكن دللت على أنها قليلة في أشعارها، تكاد تحصر لو حاول ذلك محاول، وهي كثيرة في أشعار هؤلاء، وإن كان الأولون قد نهجو الطريق، ونصبوا الأعلام للمتأخرين، وإن قال قائل: ما بالكم معشر المتأخرين كلما تمادى بكم الزمان قلت في أيديكم المعاني، وضاق بكم المضطرب؟ قلنا: أما المعاني فما قلت غير أن العلوم والآلات ضعفت، وليس يدفع أحد أن الزمان كل يوم في نقص، وأن الدنيا على آخرها، ولم يبق من العلم إلا رمقه معلقاً بالقدرة، ما يمسكه إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. وإذا تأملت هذا تبين لك ما في أشعار الصدر الأول الإسلاميين من الزيادات على معاني القدماء والمخضرمين، ثم ما في أشعار طبقة جرير والفرزدق وأصحابهما من التوليدات والإبداعات العجيبة التي لا يقع مثلها للقدماء، إلا في الندرة القليلة والفلتة المفردة، ثم أتى بشار بن برد وأصحابه فزادوا معاني ما مرت قط بخاطر جاهلي ولا مخضرم ولا إسلامي، والمعاني أبداً تتردد وتتولد، والكلام يفتح بعضه بعضاً وكان ابن الرومي ضنيناً بالمعاني، حريصاً عليها، يأخذ المعنى الواحد ويولده، فلا يزال يقلبه ظهراً لبطن، ويصرفه في كل وجه، وإلى كل ناحية، حتى يميته ويعلم أنه لا مطمع فيه لأحد، ثم نجد من بعده من لا ينتهيه في الشعر، بل لا يعشره، قد أخذ المعنى بعينه فولد فيه زيادة، ووجه له وجهة حسنة، لا يشك البصير بالصناعة أن ابن الرومي مع شرهه لم يتركها عن قدرة، ولكن الإنسان مبني على النقصان. وسأورد عليك من معاني المعاني المتقدمين، وأنظرها بأمثالها من أقوال المولدين لا أعدوها ليتبين البرهان، هذا، على أنني ذممت إلى المحدثين أنفسهم في أماكن من هذا الكتاب، وكشفت لهم عوارهم، ونعيت لهم أشعارهم، ليس هذا جهلاً بالحق، ولا ميلاً إلى بنيات الطرق، لكن غضاً من الجاهل المتعاطي، والمتحامل الجافي، الذي إذا أعطي حقه تعاطى فوقه، وادعى على الناس الحسد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وقال: أنا ولا أحد، وإلى كم أعيش لكم؟ وأي علم بين جنبي لو وجدت له مستودعاً؟ فإذا عورض في شعره بسؤال عن معنى فاسد أو متهم، أو طولب بحجة في لحنة أو شاذ، أو نواظر في كلمة من ألفاظ العرب مصحفة أو نادرة، قال: هكذا أعرف، وكأنما أعطي جوامع الكلم، حاش لله! وأستغفر الله، بل هو العمى الأكبر، والموت الأصغر، وبأي إمام يرضى، وإلى أي كتاب يرجع، وعنده أن الناس أجمعين بضعة منه، بل فضلة عنه، فهو كما قال حماد عجرد في يونس بن فروة: أما ابن فروة يونس فكأنه ... من كبره أير الحمار القائم ما الناس عندك غير نفسك وحدها ... والناس عندك ما خلاك بهائم وأين من ذكر بشار بن برد حين قيل له: بم فقت أهل عمرك وسبقت أبناء عصرك: في حسن معاني الشعر، وتهذيب ألفاظه؟ قال: لأني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي، ويناجيني به طبعي، ويبعثه فكري، ونظرت إلى مغارس الفطن، ومعادن الحقائق، ولطائف التشبيهات، فسرت إليها بفكر جيد، وغريزة قوية، فأحكمت سبرها، وانتقيت حرها، وكشفت عن حقائقها، واحترزت عن متكلفها، ولا والله ما ملك قيادي الإعجاب بشيء مما آتي به. وكم في بلدنا هذا من الحفاث قد صاروا ثعابين، ومن البغاث قد صاروا شواهين، إن البغاث في أرضنا يستنسر، ولولا أن يعرفوا بعد اليوم بتخليد ذكرهم في هذا الكتاي، ويدخلوا في جملة من يعد خطله، ويحصى زلله؛ لذكرت من لحن كل واحد منهم وتصحيفه وفساد معانيه وركاكة لفظه ما يدلك على مرتبته من هذه الصناعة التي ادعوها باطلاً، وانتسبوا إليها انتحالاً، وقد بلغني أن بعض من لا يتورع عن كذب، ولا يستحيي من فضيحة، زعم أني أخذت عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 مسائل في هذا الكتاب لو سئل عنها الآن ما علمها، والامتحان يقطع الدعوى، كما قال بعض الشعراء: من تحلى بغير ما هو فيه ... فضح الإمتحان ما يدعيه وكنت غنياً عن تهجين هذا الكتاب بالإشارة إلى من أشرت إليه آنفاً من ذكره، وعزوفاً بهمتي عن الانحطاط إلى مساواته، ولكن رأيت السكوت عنه عجزاً وتقصيراً، كما قال أبو تمام: ترك اللئيم ولم يمزق عرضه ... نقص على الرجل الكريم وعار وكما قال أبو الطيب، وقد استحق المعنى عليه: إذا أتت الإساءة من وضيع ... ولم ألم المسيء فمن ألوم؟ ثم أعود إلى التسطير فأطرح عن المحدث المولد ما كان من جنس تشبيه النعامة للطرماح، وصفة الثور الوحشي له أيضاً، وصفة مغارز ريش النعامة إذا أمرط للشماخ، ومثل بيت العنكبوت فيما يمتد من لغام الناقة تحت لحييها في شعر الحطيئة؛ وتشبيه الذباب بالأجذم، ولحيى الغراب بالجلم لعنترة، وأشباه هذا مما انفردت به الأعراب والبادية كعادتها، كانفرادها بصفات النيران، والفلوات الموحشة، وورود مياهها الآجنة، وتعسف طرقاتها المجهولة، إلى غير ذلك مما لا يعرف عياناً؛ إذ كان المحدث غير مأخوذ به، ولا محمول عليه، ألا ترى إلى أبي نواس وهو متقدم في المحدثين لما وصف الأسد وليس من معارفه، ولعله ما شاهده قط إلا مرة في العمر إن كان شاهده؛ دخل عليه الوهم فجعل عينيه بارزة وشبههما بعيون المخنوق، وقام عنده أن هذا أشنع وأشبه بشتامة وجه الأسد، وذهب عنه من صفة أبي زبيد وغيره لغؤور عينيه مما هو أعلم به ممن أخذ عليه، وأكثر ظني والله أعلم أن أبا نواس إنما رجع بالصفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 الرجل المشبه بالأسد، وجعل أزورار عينيه وبروز جفنيه من علامات الغيظ والحنق على أقرانه في الحرب. وكذلك لما تعاطى الأعرابي أبو نخيلة ما لا يعرف قال: ولم تذق من البقول الفستقا فجعله بقلاً على ما في نفسه من لعاع البقل. على أن المحدثين قد شاركوا القدماء في كل ما ذكرته أيضاً، إلا أولئك أولى به، وأحق بالتقدمة فيه، كما خالطوهم في صفات النجوم ومواقعها، والسحب وما فيها من البروق والرعود، والغيث وما ينبت عنه، وبكاء الحمام، وكثير مما لا يتسع له هذا الباب، ولكني أفرد كتاباً قائماً بنفسه أذكر فيه ما انفرد به المحدثون، وما شاركهم فيه المتقدمون، وآتي ها هنا من هذين النوعين بما يسد خلة المفتقر إلى سماعه من المبتدئين. قال النابغة يذكر طول ليله: كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب تطاول حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يرعى النجوم بآيب وقال أبو الطيب في وزنه ورويه: أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب ... وردوا رقادي فهو لحظ الحبائب فإن نهاري ليلة مدلهمة ... على مقلة من فقدكم في غياهب فأنت ترى ما فيه من الزيادة وحسن المقصد، على أن بيتي النابغة عندهم في غاية الجودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 وقال يزيد بن الطثرية حين حلق أخوه ثور جمته: فأصبح رأسي كالصخيرة أشرفت ... عليها عقاب ثم طارت عقابها وهذا البيت من أفضل الأوصاف وأحسنها بياناً عند قدامة وغيره. وقال بعض المتأخرين، وأحسبه الزيادي، في غلام حلقت وفرته: حلقوا رأسه ليكسوه قبحاً ... غيرة منهم عليه وشحاً كان صبحاً عليه ليل بهيم ... فمحوا ليله وأبقوه صبحاً وقال رؤبة بن العجاج: أمست شواتي كالصفاة صفصفا ... فصار رأسي جبهة إلى القفا فقال ابن الرومي وأحسن ما شاء: يجذب من نقرته طرة ... إلى مدى يقصر عن نيله فوجهه يأخذ من رأسه ... أخذ النهار الصيف من ليله ولو تتبعت هذا لأطلت في غير موضع الإطالة. فأما ما انفرد به المحدثون فمثل قول بشار: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحياناً قالوا: بمن لا ترى تهذي؟ فقلت لهم: ... الأذن كالعين توفي القلب ما كانا وكرره فقال: قالت عقيل بن كعب إذ تعلقها ... قلبي وأمسى به من حبها أثر: أنى ولم ترها تهذي؟ فقلت لهم: ... إن الفؤاد يرى ما لا يرى البصر وقوله أيضاً: وكيف تناسى من كأن حديثه ... بأذني وإن غيبت قرط معلق واختراعاته كثيرة، واشتهاره بذلك يغني عن الإنشاد له. وكقول أبي نواس، وقد ذكر المبرد أنه لم يسبق إليه، وهو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المنام إلا شميما نالني بالملام فيها إمام ... لا أرى لي خلافه مستقيما فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما كبر حظى منها إذا هي دارت ... أن أراها أو ان أشم النسيما فكأني وما أزين منها ... قعدي يزين التحكيما كل عن حمله السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق أن لا يقيما القعدية: فرقة من الخوارج ترى الخروج وتأمر به، وتقعد عنه. وقوله أيضاً: بنينا على كسرى سماء مدامة ... مكللة حافاتها بنجوم فلو رد في كسرى بن ساسان روحه ... إذاً لاصطفاني دون كل نديم وهذا المعنى أيضاً لم يتناوله أحد قبله. وكذلك قوله: قد قلت للعباس معتذراً ... من ضعف شكريه ومعترفاً: أنت امرؤ جللتني نعماً ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا فإليك مني اليوم تقدمة ... تلقاك بالتصريح منكشفاً لا تسدين إلي عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا وقال أيضاً في صفة النساء الخمارات، ويروي لابن المعتز: وتحت زنانير شددن عقودها ... زنانير أعكان معاقدها السرر فهذا تشبيه ما علمت أنه سبق إليه. وقال أيضاً: لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى؟ لو تفرعت لاستطالة ليلى ... ولرعي النجوم كنت مخلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 ومعاني أبي نواس واختراعاته كثيرة. وأكثر المولدين معاني وتوليدا فيما ذكره العلماء أبو تمام، غير أن القاسم بن مهرويه قد زعم أن جميع ما لأبي تمام من المعاني ثلاثه: أحدها قوله: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود والثاني قوله: بني مالك، قد نبهت خامل الثرى ... قبور لكم مستشرقات المعالم غوامض قيد الكلف من متناول ... وفيها علاً لا يرتقي بالسلالم والثالث قوله: يأبى على التصريد إلا نائلاً ... إن لم يكن محضاً قراحاً يمذق نزراً كما استكرهت عائر نفحة ... من فأرة المسك التي لم تفتق وأنا أقول: إن أكثر الشعراء اختراعاً ابن الرومي، وسيأتي برهان ذلك في الكتاب الذي شرطت تأليفه إن شاء الله سبحانه.. ولا بد ها ههنا من نبذ يسيرة أشغل بها الموضع: منها قوله: عيني لعينك حين تنظر مقتل ... لكن لحظتك سهم حتف مرسل ومن العجائب أن معنى واحداً ... هو منك سهم وهو مني مقتل وقوله في عتاب: توددت حتى لم أدع متودداً ... وأفنيت أقلامي عتاباً مرددا كأني أستدعي بك ابن حنية ... إذا النزع أدناه من الصدر أبعدا وقوله في أبيات يتغزل فيها، وإن كان قد كرر المعنى: نظرت فأقصدت الفؤاد بلحظها ... ثم انثنت عنه فظل يهيم فالموت إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وقوله ولم أسمع أحسن منه في معناه: وما يعتريها آفة بشرية ... من النوم إلا أنها تتبختر وغير عجيب طيب أنفاس روضة ... منورة باتت تراح وتمطر كذلك أنفاس الرياض بسحرة ... تطيب، وأنفاس الورى تتغير باب في أغاليط الشعراء والرواة ولا بد أن يؤتى على الشاعر المفلق، والعالم المتقن؛ لما بني عليه الإنسان من النقص والتقصير، وخير ما في ذلك أن يرجع المرء إلى الحق إذا سمعه، ولا يتمادى على الباطل لجاجة وانفة من الخطأ؛ فإن تماديه زيادة في الخطأ الذي أنف منه. أخبرنا أبو عبد الله محمد بن جعفر النحوي، عن أبي علي الآمدي، عن علي بن سليمان الأخفش، عن محمد بن يزيد المبرد، قال: تلاحى مسلم بن الوليد وأبو نواس، فقال مسلم: ما أعلم بيتاً لك يخلو عن سقط، فقال أبو نواس: اذكر شيئاً من ذلك، فقال: بل أنشد أنت أي بيت شئت، فأنشد أبو نواس: ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا ... وأمله ديك الصباح صياحا فقال مسلم: قف عند هذا، لم أمله ديك الصباح، وهو يبشره بالصبوح، وهو الذي يرتاح إليه؟ فقال أبو نواس: فأنشدني أنت، فأنشده: عاصى الشباب فراح غير مفند ... وأقام بين عزيمه وتجلد فقال أبو نواس: ناقضت، ذكرت أنه راح، والرواح لا يكون إلا بالانتقال من مكان إلى مكان، ثم قلت وأقام فجعلته منتقلاً مقيماً في حال، هذا متناقض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 قال أبو العباس: وكلا البيتين صحيح، ولكن من طلب غيباً وجده ومن طلب له مخرجاً لم يفته. قال الأصمعي: وأخطأ زهير في قوله كأحمر عاد ولا أدري لم خطأه وقد سمع قول الله عز وجل: " وأنه أهلك عاداً الأولى " فهل قال هذا إلا وثم عاد أخرى؟ وهي هلكت بالنمل من ولد قحطان. قال قيس بن سعد بن عبادة: سراويل عادي نمته ثمود وكان يقال لثمود عاد الصغرى. وخطأ الشماخ في قوله في وصف ناقته: رحى حيزومها كرحى الطحين ظنه يصفها بالكبر، وهو عيب لا محالة، وإنما وصفها بالصلابة لا غير. وأخذ ابن بشر الآمدي على البحتري قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 هجرتنا يقظى وكادت على مذ ... هبها في الصدود تهجر وسنى قال: هذا غلط؛ لأن خيالها يتمثل له في كل أحوالها، يقظى كانت أو وسنى أو ميتة، والجيد قوله: أرد دونك يقظاناً ويأذن لي ... عليك سكر الكرى إن جئت وسنانا وأنا أقول: إن مراده أنها لشدة هجرها له ونحوها عليه لا تراه في المنام إلا مهجوراً، ولا تراه جملة، فالمعنى حينئذ صحيح لا فساد فيه، ولا غلط، ولعل الرواية وكادت وهذا موجود في كلام الناس اليوم، ومثله يقولون: " فلان لا يرى لي مناماً صالحاً " وليس بين بيتي البحتري تناسب من جهة المعنى جملة واحدة؛ لأنه أولاً يحكي عنها، وثانياً يحكي عن نفسه، بلى إن في اللفظ اشتراكاً ظاهراً. وفي كتاب عبد الكريم من المأخوذ على أبي تمام قوله: مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل قال: فيه غلط من أجل أنه نفى عن النساء لين القنا، وإنما قيل للرماح ذوابل للينها وتثنيها، فنفى ذلك أبو تمام عن قدود النساء التي من أكمل أوصافها اللين والتثني والانعطاف. قلت أنا: أما أبو تمام فقوله الصواب؛ لأنهم يقولون رمح ذابل إذا كان شديد الكعوب صلباً، وهو الذي تعرف العرب، ومنه قولهم: " ذبلت شفتاه " إذا يبستا من الكرب أو العطش أو نحوهما، فأما كلام المعترض فغير معروف إلا عند المولدين؛ فإنهم يقولون: " نوارة ذابلة " وليسوا بقدوة؛ على أن كلامهم راجع إلى ما قلناه، إنما ذلك لقلة المائية وابتداء اليبس، وإنما نقل عبد الكريم كلام ابن بشر الآمدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 قال الأصمعي: قرأت على أبي محرز خلف بن حيان الأحمر شعر جرير، فلما بلغت إلى قوله: وليل كإبهام الحباري محبب ... إلي هواه غالب لي باطله رزقنا به الصيد الغرير ولم نكن ... كمن نبله محرومة وحبائله فيا لك يوماً خيره قبل شره ... تغيب واشيه وأقصر عاذله قال خلف: ويحه، ما ينفعه خير يؤول إلى شر؟ فقلت: هكذا قرأته على أبي عمرو بن العلاء، قال: صدقت، وكذا قال جرير، وكان قليل التنقيح لألفاظه، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلا كما سمع، قلت: فكيف يجب أن يكون قال: الأجود أن يكون " خيره دون شره " فاروه كذلك، وقد كانت الرواة قديماً تصلح أشعار الأوائل، فقلت: والله لا أرويه إلا كذا. قلت أنا: أما هذا الإصلاح فمليح الظاهر، غير أنه خلاف الظاهر، وذلك أن الشاعر أراد أنه كان ليلة في وصال، ثم فارق حبيبه نهاراً، وذلك هو الشر الذي ذكر، والرواية جعله لم يفارق فغير عليه المعنى، إلا أن تكون الرواية ويوم كإبهام الحبارى فحينئذ.. على أن دون تحتمل ما قصد، وتحتمل معنى قبل؛ فهي لفظة مشتركة، وتكون أيضاً بمعنى بعد؛ لأنها من الأضداد، ولكن في غير هذا الموضع. وخطأ الأصمعي بشامة بن الغدير في قوله يصف راحلته: وصدر لها مهيع كالحليف ... تخال بأن عليه شليلا لأن من صفة النجائب قلة الوبر وخطأ أيضاً كعب بن زهير في قوله يصف راحلته: فعم مقيدها ضخم مقلدها لأن النجائب دقيقات المذابح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 ونبه أو الفضل بن العميد على البحتري في بيت كسره، وهو قوله: لماذا تتبع النفس شيئاً ... جعل الله الفردوس منه جزاء قال ننشده: جعل الله الخلد منه جزاء ليستقيم، حكى ذلك الصاحب بن عباد.. وأنشد له أيضاً: أبا غالب بالجود تذكر واجبي ... إذا ما غني الباخلين نسيه وزعم أنه لحن، ولست أرى به بأساً، هذا الشاعر أسكن الياء لما يقتضيه بناء القافية، فإذا أسكن الياء وما قبلها مكسور لم تكن الهاء إلا مكسورة إتباعاً لما قبلها، لا سيما وهي طرف، وقد فعلوا مثل هذا في وسط الكلمة.. وقال رؤبة: كأن أيديهن بالقاع القرق ولم يقل أيديهن بالضم استثقالاً، وأيضاً فكأنه أعني البحتري نوى الوقوف، ثم جر القافية كعادتهم في تحريك الساكن أبداً إلى الجر. وأنشد الصاحب بن عباد قال: أنشدني علي بن المنجم، قال: أنشدني أبو الغوث لأبيه: وأحق الأيام بالأنس أن يؤ ... ثر فيه يوم المهرجان الكبير وأنا أقول: إن أبا الغوث جاء من قبله الخذلان في هذه الرواية، فويل للآباء من أبناء السوء، ودع المثل القديم، ولا أظن البحتري قال إلا: وأحق الأيام بالأنس أن تؤ ... ثره فيه يوم المهرجان الكبير وأخذ الأحمر على المفضل روايته في قول امرئ القيس: نمس بأعراف الجياد أكفنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وما هو إلا نمش أي: نمسح، والمشوش المنديل. وكذلك قول المفضل: إذا ألم خيالها طرقت ... عيني فماء شجونها سجم وإنما هو طرفت بالفاء. وأخذ عليه الأصمعي في قول أوس: تصمت بالماء تولباً جذعا وإنما هو جدعاً بدال مكسورة غير معجمة، ولأمر ما قال ذو الرمة لموسى بن عمرو: اكتب شعري، فالكتاب أعجب إلي من الحفظ؛ لأن الأعرابي ينسى الكلمة قد تعب في طلبها ليلة، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاماً بكلام. قال الأخطل: أخطأ الفرزدق حيث قال: أبني غدانة إنني حررتكم ... فوهبتكم لعطية بن جعال لولا عطية لاجتدعت أنوفكم ... من بين ألأم اوجه وسبال كيف يكون وهب له وهو يهجوهم هذا الهجاء؟ فانبرى له فتى من بني تميم فقال: وأنت الذي قلت في سويد بن منجوف: فما جذع سوء خرق السوس بطنه ... لما حملته وائل بمطيق أردت هجاءه فزعمت أن وائلاً تعصب به الحاجات، وقدر سويد لا يبلغ ذلك عندهم، فأعطيته الكثير، ومنعته القليل، وأردت أن تهجو حاتم بن النعمان الباهلي، وأن تصغر شأنه، وتضع من قدره؛ فقلت: وسود حاتماً أن ليس فيها ... إذا ما أوقد النيران نار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 فأعطيته السؤدد من قيس الجزيرة، ومنعته ما لا يضر منعه؛ وأردت أن تمدح سماكاً الأسدي فقلت: نعم المجير سماك من بني أسد ... بالطف إذ قتلت جيرانها مضر قد كنت أحسبه قينا وأنبؤه ... فالآن طير عن أثوابه الشرر فانصرف الأخطل خجلاً. قال الحسن لعلي بن زيد: أرأيت قول الشاعر: لولا جرير هلكت بجيله ... نعم الفتى وبئست القبيلة مدحه أم هجاه؟ قال: مدحه وهجا قومه، فقال الحسن: ما مدح من هجي قومه. وقال من اعتذر للنابغة في قوله: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأي عنك واسع إنما قدم الليل في كلامه لأنه أهول، ولأنه أول، ولأن أكثر أعمالهم إنما كانت فيه؛ لشدة حر بلدهم، فصار ذلك عندهم متعارفاً. وكذلك اعترفوا لزهير في قوله يصف الضفادع: يخرجن من شربات ماؤها طحل ... على الجذوع يخفن الغمر والغرقا فقال: لم يرد أنها تخاف الغرق على الحقيقة، ولكنها عادة من هرب من الحيوان من الماء، فكأنه مبالغة في التشبيه، كما قال الله عز وجل: " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " وقال: " وبلغت القلوب الحناجر " والقول فيهما محمول على كاد هكذا الحذاق من المفسرين، مع أنا نجد الأماكن البعيدة القعر من البحار لا تقربها دابة، خوفاً على نفسها من الهلكة، فكأنه أراد المبالغة في كثرة ماء هذه الشربات، وإنما اقتدى فيه بقول أوس بن حجر: فباكرن جونا للعلاجيم فوقه ... مجالس غرقى لا يحلا ناهله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 وعند القاضي الجرجاني من غلط أبي النواس في الوزن قوله: رأيت كل من كان أحمقاً معتوهاً ... في ذا الزمان صار المقدم الوجيها يارب نذل وضيع نوهته تنويها ... هجوته لكيما أزيده تشويهاً ولم يقل أبو نواس فيما علمت إلا رب وضيع نذل وهذا أفرط في التعصب والحمية على أبي نواس وغيره لمن لا يجري في حلبتهم ولا يشق غبارهم. باب ذكر منازل القمر ولما رأيت العرب وهم أعلم الناس بهذه المنازل وأنوائها؛ لأنها سقف بيوتهم، وسبب معايشهم وانتجاعهم غلطوا فيها فقال أحدهم: من الأنجم العزل والرامحة.. وقال امرؤ القيس. إذا ما الثريا في السماء تعرضت فأتى بتعرض الجوزاء، ورأيت كل من عني بالنجوم من المحدثين واستوفى جميع المنازل مخطئاً، لا شك في خلافه؛ لأنه إنما يصف نجوم ليلة سهرها، والنجوم كلها لا تظهر في ليلة واحدة، ولذلك قلت أنا احتياطاً في الليل من نسيب قصيدة مدحت بها السيد أبا الحسن أدام الله عزه: قد طال حتى خلته ... من كل ناحية وسط وتكررت فيه المنا ... زل منه لا مني الغلط وجب أن أذكر هذه المنازل وأنواءها، واختلاف الناس فيها، وعولت في ذلك على ما ذكره أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، مجتهداً فيما استطعت من البيان والاختصار، إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 السنة أربعة أجزاء، لكل جزء منها سبعة أنواء، لكل نوء ثلاثة عشر يوماً، إلا نوء الجبهة فإنه أربعة عشر يوماً، زيد فيه يوم لتكمل السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وهو المقدار الذي تقطع الشمس فيه بروج الفلك الاثنى عشر، لكل برج منزلتان وثلث منزلة، وكلما نزلت الشمس منزلة من هذه المنازل سترته؛ لأنها تستر ثلاثين درجة: خمسة عشر من خلفها، ومثلها من أمامها، فإذا انتقلت عنها ظهرت، هكذا قال الزجاجي. وإذا اتفق أن تطلع منزلة من هذه المنازل بالغداة ويغرب رقيبه فذلك النوء لا يتفق لكل منزلة إلا مرة واحدة في السنة، وهو مأخوذ من ناء ينوء إذا نهض متثاقلاً، والعرب تجعل النوء للغارب؛ لأنه ينهض للغروب متثاقلاً، وعلى ذلك أكثر أشعارها، وتفسير بعض العلماء في قوله تعالى: " ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة " أي: تميل بهم الأرض، وهذا التفسير أوجه من قول من جعل الكلمة من المقلوب، قال: وبعضهم يجعله للطالع، وهذا هو مذهب المنجمين؛ لأن الطالع له التاثير والقوة، والغارب ساقط لا قوة له ولا تأثير. قال المبرد: النوء على الحقيقة للطالع من الكوكبين، لا الغارب، وهذه المنازل كلها يطلع بها الفلك من المشرق، ويغرب في المغرب، كل يوم وليلة، وتلك دورة من دوراته. الربع الأول من السنة، وابتداؤه من سبعة عشر يوماً من آذار، وبعضهم يجعله في عشرين يوماً منه، فيستوي حينئذ الليل والنهار منه، ويطلع مع الغداة فرع الدلو الأسفل، وهو المؤخر، ويسقط العواء، وإليها ينسب النوء، وهي تمد وتقصر وصفتها خمسة كواكب كأنها ألف معطوفة الذنب إلى اليسار، وبذلك سميت، وتقول العرب: عويت الشيء، إذا عطفته، وقال آخرون: بل هي كأنها خمسة أكلب تعوي خلف الأسد، قال ابن دريد: هي دبر الأسد، والعواء في كلامهم الدبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 النوء الثاني: السماك، وهما سماكان: أحدهما السماك الأعزل، نجم وفاد، شبهوه بالأعزل من الرجال، وهو الذي لا سلاح معه، وهو منزل القمر، والآخر: كوكب تقدمه آخر، شبهوه بالرمح، وهما ساقا الأسد، وسمي سماكاً لعلوه، ولا يقال لغيره إذا علا سماك، هكذا قال سيبويه مما حكى الزجاجي عن أبي إسحاق الزجاج، غير أنه قال في الأعزل: وقيل إنما سمي أعزل لأن القمر لا ينزل به. وأنا أقول: القول الآخر خلاف ما عليه جميع الناس، ورؤية العين تدركه على غير ما يزعم الزاعم. النوء الثالث: الغفر، وهو ثلاثة كواكب غير زهر، وبذلك سميت، من قولك: غفرت الشيء، إذا غطيته، ومنه سميت الغفارة التي تلبس، وقيل: إنما سمي غفراً من الغفرة، وهي الشعر الذي طرف ذنب الأسد، وقال أبو عبيدة: الغفر كل شعر صغير دون الكثير، وكذلك هو في الريش، وقال قوم: هو من النكس في المرض، يقال: أغفر المريض، إذا نكس، كأن النكس غطاء العافية. النوء الرابع: الزبانان، كوكبان مفترقان، وهما قرنا العقرب، وقيل: يداها، وسميا زبانين لبعد كل واحد منهما عن صاحبه، من قولهم: زبنت كذا، إذا دفعته لتبعده عن نفسك، ومنه اشتقاق الزبانية؛ لأنهم يدفعون أهل النار إليها. النوء الخامس: الإكليل، ثلاثة كواكب على رأس العقرب، وبذلك سميت إكليلاً. النوء السادس: القلب، كوكب أحمر وقاد: جعلوه للعقرب قلباً، على معنى التشبيه. النوء السابع: الشولة، كوكبان أحدهما أخفى من الآخر، وهما ذنبا العقرب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 وذنب العقرب شائل أبداً، فشبه به، هذا قول بعضهم، وبعضهم يجعل الشولة الإبرة التي في ذنب العقرب، وهم أهل الحجاز، وهو أصح على مذهب من زعم أنهما كوكبان فقط. الربع الثاني: الصيف، أول أنوائه " النعائم " وهي ثمانية كواكب نيرة: أربعة منها في المجرة تسمى الواردة، وأربعة خارجة منها تسمى الصادرة، وشبهت بالخشبات التي تكون على البئر يعلق بها البكرة والدلاء. الثاني من الصيف " البلدة " وهي فرجة لطيفة لا شيء فيها، لكن بجوارها كواكب تسمى القلادة، وإنما قيل لتلك الفرجة البلدة تشبيها بالفرحة التي بين الحاجبين، إذا لم يكونا مقرونين، يقال منه: رجل أبلد، ويقال: بل شبهت بالبلدة، وهي باطن الراحة كلها، وقيل: باطن ما بين السبابة والإبهام. الثالث منه " سعد الذابح " وهما نجمان صغيران: أحدهما مرتفع في الشمال معه كوكب آخر يقال هو شاته التي تذبح، والآخر هابط في الجنوب. الرابع منه " سعد بلع " وهما كوكبان صغيران مستويان في المجرة، شبها بفم مفتوح، يريد أن يبتلع شيئاً، وقيل: إنما قيل بلع كأنه بلع شاته، وبلع غير مصروف؛ لأنه معدول من بالع، مثل زفر وقثم، وسعد مضاف إليه. الخامس منه " سعد السعود " وهما كوكبان: أحدهما أنور من الآخر، سمي بذلك لأن وقت طلوعه ابتداء كمال الزرع وما يعيش به الحيوان من النبات. السادس منه " سعد الأخبية " وهما كوكبان عن شمال الخباء، والأخبية أربعة كواكب: واحد منها في وسطها يسمى الخباء؛ لأنها على صورة الخباء، وزعم ابن قتيبة أنه سمي بذلك لطلوعه وقت انتشار الحيات والهوام، وخروج ما كان مختبئاً. السابع: فرع الدلو الأعلى، وهو المقدم، وبعضهم يسميه العرقوة العليا تشبيهاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 بعرقوة الدلو، وهما كوكبان مفترقان نيران، وقيل له " دلو " لأنه تأتي فيه الأمطار العظيمة، ويقال: بل سميا بذلك لأنهما مثل صليب الدلو الذي يفرغ منه الماء. الربع الثالث: الخريف، أول أنوائه " فرع الدلو الأسفل " وصورته كوكبان مضيئان بينهما بعد صالح يتتبعان العرقوة العليا. ثم الحوت، وهو كوكب أزهر نير في وسط السمكة. ثم الشرطان، وهما مفترقان مع الشمال، منهما كوكب دونه في القدر، وسميا شرطين لأن سقوطهما علامة ابتداء المطر واتصاله، وكل من جعل لنفسه علامة فقد شرطها، ومنه سمي الشرط؛ لأن لهم علامة عرفوا بها. ثم البطين: وهو ثلاثة كواكب طمس خفيات، وهو بطن الحمل، إلا أنه قد صغر. ثم الثريا، ثم الثريا، وهو النجم، وصورتها ستة كواكب متقاربة حتى كادت تتلاصق، وأكثر الناس يجعلها سبعة، وقد جاء الشعر بالقولين جميعاً، سميت بهذا لأن مطرها عنه تكون الثروة وكثرة العدد والغنى، وهي تصغير ثروي، ولم ينطق بها إلا مصغرة. ثم الدبران، كوكب وقاد على أثر نجوم تسمى القلاص، وقيل له " دبران " لأنه دبر الثريا، أي: جاء خلفها، ويقال له أيضاً " الراعي " و " التالي " و " التابع " و " الحادي " على التشبيه. ثم الهقعة، سميت بهذا تشبيها بالدائرة التي تكون عند عقب الفارس في جنب الفرس، وصورتها ثلاثة أنجم صغار متقاربة كآثار رءوس أصابع ثلاث في ثرى إذا جمعت الوسطى والسبابة والإبهام، وهي رأس الجوزاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 الرابع: الشتاء، وهو آخر أرباع السنة، وأول أنوائه " الهنعة " سميت بذلك لأنها كوكبان مقترنان كل واحد منهما منعطف على صاحبه، من قولك: هنعه، إذا عطف بعضه على بعض، واقترانهما في المجرة بين الجوزاء والذراع المقبوضة. ثم الذراعان، وهي ذراع الأسد المبسوطة والمقبوضة: كوكبان نيران بينهما كواكب صغار تسمى الأظفار. ثم النثرة، وهي لطخة لطيفة بين كوكبين، وهي عندهم ما بين فم الأسد وأنفه، ومن الإنسان فرجة ما بين الشاربين حيال وترة الأنف، وقيل: إنما سميت نثرة لأنها كقطعة سحاب نثرت. ثم الطرف، عينا الأسد، وهما كوكبان صغيران بينهما نحو قامة في مرأى العين. ثم الجبهة، أربعة كواكب معوجة، في اليماني منها بريق، وهي جبهة الأسد عندهم. ثم الزبرة، نجمان يرى أحدهما أكبر من الآخر، ويقال لهما " الخرتان " كأنهما نفذا إلى جوف الأسد، والعيان يبطل ذلك، كما قال الزجاجي. ثم الصرفة، كوكب وقاد عنده كواكب طمس، سمى بذلك لانصراف البرد لسقوطه. فهذه عدة المنازل وصفاتها، وإنما أضيفت إلى القمر دون الشمس، وحظهما فيه واحد؛ لظهورها معه، وتسمى نجوم الأخذ، كأن الأرض تأخذ عنها بركات المطر، وقيل: لأخذ الشمس والقمر سمتهما في سيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 باب في معرفة الأماكن والبلدان قال أبو عبيدة: الحجاز هو ما بين الجحفة وجبل طيء، وإنما سمي حجازاً لأنه حجز ما بين نجد والغور، وحكى ابن قتيبة عن الرياشي عن الأصمعي: إذا خلفت حجراً مصعداً فقد أنجدت، فلا تزال منجداً حتى تنحدر من ثنايا ذات عرق، فإذا فعلت فقد أتهمت إلى البحر، فإذا عرضت لك الحرار وأنت منجد فتلك الحجاز، وإذا تصوبت من ثنايا العرج واستقبلك المرخ والأراك فقد أتهمت، وسمي حجازاً لأنه حجز ما بين نجد وتهامة، فأما محمد بن عبد الله الأسدي فقال: حد الحجاز الأول بطن نخلة وظهر جدة، والحد الثاني مما يلي الشام شغبى وبدا، والحد الثالث مما يلي تهامة بدر والسقيا ورهاط وعكاظ، والحد الرابع ساية وودان، ثم تنحدر إلى الحد الأول بطن نخل. وأما بطن الجزيرة فإنها ما بين دجلة والفرات والموصل، والسودان: سواد البصرة والأهواز ودست ميسان وفارس، وسواد الكوفة كسكر إلى الزاب وحلوان إلى القادسية. وجزيرة العرب قال أبو عبيدة: هي في الطول ما بين حفير أبي موسى إلى أقصى اليمين، وفي العرض مل بين يبرين إلى السماوة. وقال الأصمعي: هي ما بين نجران والعذيب، حكاه ابن قتيبة عن الرياشي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 قال: وحكى عنه أبو عبيدة أنها في الطول من أقصى عدن إلى ريف العراق، وفي العرض من جدة وما والاها من طراز البحر إلى طراز الشام. وقيل: سمي العراق تشبيهاً بعراق المزادة، وهو موضع الخرز المستطيل في أسفلها، وقال بعضهم: هو جمع عرق؛ لاشتباك عروق النخل والشجر في تلك الأرض، وقيل: إن اسمه بالفارسية إيران شهر أي: أسفل الأرض، فعربت. وأما الشام واليمن فمن اليد اليمنى واليد الشؤمى، وهي الشمال؛ لأن الذي يستقبل الشمس تكون اليمن عن يمينه والشام عن شماله، ويقال شأم بالهمز والتخفيف، ومنهم من جعل الشام جمع شامة، وهي النكتة تكون في الجسم سوداء أو نحو ذلك، وكذلك في الأرض. قال ذو الرمة: وإن لم تكوني غير شام بقفرة ... تجر بها الأذيال صيفية كدر باب من الزجر والعيافة وعنهما يكون الفأل والطيرة، وبين الطيرة والفأل فرقان عند أهل النظر والمعرفة والحقائق؛ وذلك أن الفأل تقوية للعزيمة، وتحضيض على البغية، وإطماع في النية؛ والطيرة تكسر النية، وتصد عن الوجهة، وتثنى العزيمة، وفي ذلك ما يعطل الإحالة على المقادير. وقد تفاءل النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عن الطيرة في قوله: " لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر " وقد تقدم ذكرها، وقيل في الهامة: إنها هده المعرفة. والطيرة من أحد شيئين: مشتقة إما من الطيران، كأن الذي يرى ما يكره أو يسمع يطير، كما قال بعضهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير وإما من الطير، وهو الأصل والمختار من الوجهين، هكذا ذكر الزجاجي. وكانت العرب تزجر الطير والوحش؛ فمن قال بالقول الأول احتج بأن الوحش يطير بها، وزجرت مع الطير، ومن قال بالقول الثاني قال: إنما الأصل في الطير، ثم صار في الوحش، وقد يجوز أن يغلب أحد الشيئين على الآخر فيذكر دونه ويرادان جميعاً. أنشد الجاحظ: ما يعيف اليوم في الطير دوح ... من غراب البين أو تيسٍ برح قال: فجعل التيس من الطير؛ إذ قدم ذكر الطير وجعله من الطير في معنى التطير، والعرب تتطير بأشياء كثيرة: منها العطاس، وسبب تطيرهم منه دابة يقال له العاطوس يكرهونها، والغراب أعظم ما يتطيرون به، والقول فيه أكثر من أن يطلب عليه شاهد، ويسمونه حاتماً؛ لأنه يحتم عندهم بالفراق، ويسمونه الأعور على جهة التطير بذلك؛ إذ كان أصح الطير بصراً، ويقال: سمي أعور لقولهم: " عورات الرجل عن حاجته " إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 رددته عنها، وقد اعتذر أبو الشيص للغراب وتطير بالإبل وإن كان غيره سبقه إلى المعنى فقال: الناس يلحون غرا ... ب البين لما جهلوا وما على ظهر غرا ... ب البين تطوى الرحل ولا إذا صاح غرا ... ب في الديار احتملوا ما فرق الأحباب بع ... د الله إلا الإبل وما غراب البين إ ... لا ناقة أو جمل هكذا رويته، وبعضهم يجعل الشعر ما قرب الأحباب وبعده والناس يلحون.. بواو مكان الهمزة يعطف بها. وقال آخر فملح وظرف: زعموا بأن مطيهم عون النوى ... والمؤذنات بفرقة الأحباب لو أنها حتفي لما أبغضتها ... ولهابهم سبب من الأسباب ويتطيرون بالصرد، ومن أسمائه الأخيل، والأخطب، ويقال: الأخيل الشقراق، ويقال: بل طائر يشبهه، والولق أيضاً الصرد، قال زبان بن منظور الفزاري في حديث له كان مع نابغة بني ذبيان وقد تطير من جرادة سقطت عليه فرجع من الغزو ومضى زبان فظفر وغنم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير، وهي الثبور بل شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا، وباطله كثير يقولها في أبيات لا أقف على جملتها. وقال شاعر قديم لزبان أيضاً: لا يمنعنك من بغا ... ء الخير تعقاد التمائم لا، والتشاؤم بالعطا ... س ولا التيامن بالمقاسم ولقد عدوت وكنت لا ... أعدو على واق وحاتم وإذا الأشائم كالأيا ... من، والأيامن كالأشائم قد خط ذلك في الزبو ... ر الأوليات القدائم ويتشاءمون بالثور الأعضب، وهو المكسور القرن. وقال الكميت ينفي الطير ويدفعها عن نفسه: ولا أنا ممن يزجر الطير همه ... أصاح غراب أم تعرض ثعلب ولا السانحات البارحات عشية ... أمر صحيح القرن أم مر أعضب والبيت الأول من هذين يشبه بيت الأعشى الذي أنشده الجاحظ. ومن أمثال العرب " فلان كبارح الأروى " وفيه قولان: أحدهما أن الأروى يتشاءم بها، فإذا كانت بارحاً فقد عظم الأمر، والآخر أنها إنما تكون في قرون الجبال، ولا تكاد تكون سانحة ولا بارحة. وفي السانح والبارح اختلاف: قال عمرو بن العلاء: سأل يونس رؤبة عن السانح والبارح، فقال: السانح ما ولاك ميامنه، والبارح ما ولاك مياسره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 قال ابن دريد: السانح يتيمن به أهل نجد ويتشاءمون بالبارح، ويخالفهم أهل العالية فيتشاءمون بالسانح ويتيمنون بالبارح. قال الشاعر الهذلي يذكر امرأته: زجرت لها طير السنيح فإن يكن ... هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها قال: والسانح: الذي يلقاك وميامنه عن ميامنك، والبارح الذي يلقاك وشمائله عن شمائلك، والجابه والناطح: اللذان يستقبلانك، والقعيد: الذي يأتيك من ورائك. قال صاحب الكتاب: الكارس الذي ينزل عليك من الجبل، حكاه الثعالبي، قال أبو جعفر النحاس: السنيح عند أهل الحجاز: ما أتى عن اليمين إلى اليسار، والبارح عندهم: ما أتى من اليسار إلى اليمين، وهم يتشاءمون بالسانح، ويتيمنون بالبارح، وأهل نجد بالضد من ذلك، والسانح عندهم هو البارح عند أهل الحجاز. وقال المبرد: السانح: ما أراك مياسره فأمكن الصائد، والبارح: ما أراك ميامنه فلم يمكن الصائد إلا أن ينحرف له. وقد يتطيرون من البازي والغراب وأشياء كثيرة من جهة التسمية، ويتيمن بها آخرون. ومن مليح ما رأيت في الزجر والعيافة، قال الصولي: كان لأبي نواس إخوان لا يفارقهم، فاجتمعوا يوماً في موضع أخفوه عنه، ووجهوا إليه برسول معه ظهر قرطاس لم يكتبوا فيه شيئاً، وحزموه بزير وختموه بقار، وتقدموا إلى رسولهم أن يرمى بالكتاب من وراء الباب، فرمى به، فلما رآه استعلم خبرهم فعلم أنه من فعلهم وتعرف موضعهم وأتاهم فأنشدهم: زجرت كتابكم لما أتاني ... كزجر سولنح الطير الجواري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 نظرت إليه مخزوماً بزير ... على ظهر، ومختوماً بقار فقلت: الزير ملهية ومله ... وقلت: القار من دن العقار وقلت: الظهر أهيف ذو جمال ... تركب صدغه فوق العذار فجئت إليكم طرباً وشوقاً ... فما أخطأت دراكم بداري فكيف ترونني وترون زجري ... ألست من الفلاسفة الكبار؟! باب ذكر المعاظلة والتثبيج العظال في القوافي: التضمين، حكاه الخليل بن أحمد، وزعم قدامة أن المعاظلة سوء الاستعارة، وهو عندهم مشتق من التداخل والتراكب، ومنه تعاظلت الجراد والكلاب وأنشد قدامة بيت أوس بن حجر: وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولبا جدعا لأنه قد أساء الاستعارة عنده؛ لجعله الطفل تولبا، وهو ولد الحمار. وأما التثبيج فهو طول الكلام واضطرابه، ولا يقال " كلام مثبج حتى يكون هكذا، ويقال: رجل مثبج الخلق، إذا كان طويلاً في اضطراب، والتثبيج عند الصولي في الخط ألا يكون بيناً، وكذلك هو الكلام. وزعم قوم أن المعاظلة تداخل الحروف وتراكبها، كما عيب على كعب بن زهير قوله: تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول وعاب ابن العميد حبيباً لقوله: كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي، ومتى ما لمته لمته وحدي بالتكرير في أمدحه أمدحه مع الجمع بين الحاء والهاء في كلمة، وهما معاً من حروف الحلق، وقال: هو خارج عن حد الاعتدال، نافر كل النفار، حكى ذلك عنه الصاحب بن عباد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وزعم آخرون أنها تركيب الشيء في غير موضعه، كقول الكميت بن زيد: وقد رأينا بها حوراً منعمة ... بيضاً تكمل فيها الدل والشنب وهذا البيت مما عابه عليه نصيب. ومثله عندي قول أبي الطيب: يحل المسك عن غدائرها الري ... ح ويفتر عن شنيب برود باب الوحشي المتكلف والركيك المستضعف الوحشي من الكلام: ما نفر عنه السمع، والمتكلف: ما بعد عن الطبع، والركيك: ما ضعفت بنيته، وقلت فائدته، واشتقاقه من الركة، وهي المطر الضعيف، وقيل: من الرك، وهو الماء القليل على وجه الأرض. وأنشد النحاس تهادى كعوم الرك يقطعه الحيا ... بأبطح سهل حين تمشي تأودا وفلان ركيك أي: ضعيف العقل، ويقال للوحشي أيضاً: حوشي، كأنه منسوب إلى الحوش، وهي بقايا إبل وبار بأرض قد غلبت عليها الجن فعمرتها ونفت عنها الإنس، لا يطؤها إنسي إلا خبلوه. قال رؤبة: جرت رجالاً من بلاد الحوش وإذا كانت اللفظة خشنة مستغربة: لا يعلمها إلا العالم المبرز، والأعرابي القح؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 فتلك وحشية، وكذلك إن وقعت غير موقعها، وأتى بها مع ما ينافرها، ولا يلائم شكلها. وكان أبو تمام يأتي بالوحشي الخشن كثيراً ويتكلف. وكذلك أبو الطيب كان يأتي بالمستغرب ليدل على معرفته، نحو قوله: كل آخائه كرام بني الدنيا ولكنه كريم كرام وهذا مع غرابته وتكلفه غير محمول على ضرورة يكون فيها عذر؛ لأن قوله كل إخوانه يقوم مقامه بلا بغاضة. ومن التكلف قول إبراهيم بن سيار للفضل بن الربيع، ويروى أيضاً لإبراهيم بن شبابة: هبني ظلمت وما ظلمت بل ظلم ... ت أقر كي يزداد طولك طولا إن كان جرمي قد أحاط بحرمتي ... فأحط بجرمي عفوك المأمولا فتبارك الله كأنهما لم يخرجا من ينبوع واحد. قال إبراهيم بن المهدي لعبد الله بن صاعد كاتبه: إياك وتتبع الوحشي من الكلام طمعاً في نيل البلاغة؛ فإن ذلك هو العي الأكبر، عليك بما سهل مع تجنبك ألفاظ السفل. وقال أبو تمام يمدح الحسن بن وهب بالبلاغة: لم يتبع شنع اللغات، ولا مشى ... رسف المقيد في طريق المنطق ينشق في ظلم المعاني إن دجت ... منه تباشير الكلام المفلق وقال علي بن بسام: ولا خير في اللفظ الكريه استماعه ... ولا في قبيح اللحن والقصد أزين قال علي بن عيسى الرماني: أسباب الإشكال ثلاثة: التغيير عن الأغلب كالتقديم والتأخير وما أشبهه، وسلوك الطريق الأبعد، وإيقاع المشترك، وكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 ذلك اجتمع في بيت الفرزدق: وما مثله في الناس إلا مملكاً ... أبو أمه حي أبوه يقاربه فالتغيير على الأغلب سوء الترتيب؛ لأن التقدير " وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكاً أبو أمه أبوه " يريد بالمملك هشام بن عبد الملك، والممدوح هو إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك؛ وأما سلوك الطريق الأبعد فقوله " أبو أمه أبوه " وكان يجزئه أن يقول " خاله " وأما المشترك فقوله " حي يقاربه " لأنها لفظة " حي " تشترك فيها القبيلة والحي من سائر الحيوان المتصف بالحياة، قال: وإذا تفقدت أبيات المعاني لا تخرج عن هذه الأسباب الثلاثة. وحكى الصولي قال: أنشدني بعض الكتاب عن أحمد بن يحيى ثعلب قول البحتري للحسين بن وهب: وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدجى في كتبه فاللفظ يقرب فهمه من بعده ... منا، ويبعد نيله في قربه حكم سحائبها خلال بنانه ... هطالة، وقليبها في قلبه كالروض مؤتلفاً بحمرة نوره ... وبياض زهرته وخضرة عشبه وكأنها والسمع معقود بها ... وجه الحبيب بدا لعين محبه واستعادها أبو العباس حتى فهمها، ثم قال: لو سمع الأوائل هذا الشعر لما فضلوا عليه شعراً. باب الإحالة والتغيير وهذه لمح أتيت بها تدل من عرفها على رداءتها، وتدعو إلى كراهتها واجتنابها، وقد وقعت في أشعار الجلة من المتقدمين، والتمس لهم فيها العذر لأنهم أرباب اللغة وأصحاب اللسان، وليس المولد الحضري منهم في شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 فمن الإحالة قول ابن مقبل: أما الأداة ففينا ضمر صنع ... جود حواجز بالألباد واللجم ونسج داود من بيض مضاعفة ... من عهد عاد، وبعد الحي من إرم فكيف يكون نسج داود من عهد عاد؟ اللهم إلا أن يريد فينا ضمر صنع من عهد عاد؛ فذلك له على سبيل المبالغة، مع أن الإحالة لم تفارقه، وكم بين قيس عيلان وبين عاد، فضلاً عن بني العجلان؟! وقال عبد الرحمن بن حسان: وإن مال الضجيع بها فدعص ... من الكثبان ملتبد مهيل قالوا: وكيف يكون ملتبداً مهيلاً؟ هذا مستحيل متناقض، والذي عندي فيه أنه صواب؛ لأنه إنما أراد بالتباده صلابة ملمس العجيزة، وأنها غير مسترخية وجعله مهيلاً لارتعاده واضطرابه من العظم، كما قال ابن مقبل: يمشين هيل النقا سالت جوانبه ... ينهال طوراً، وينهاه الثرى حينا فقد جعله مرة ينهال، ومرة ينهاه الثرى والتثني الذي فيه.. وقال جميل في التغيير: لا حسنها حسن، ولا كدلالها ... دل، ولا كوقارها توقير فحذف كاف التشبيه فصار المعنى كأنه ليس حسنها حسناً، وقد يغيرون اللفظ كما قال النابغة: ونسج سليم كل قضاء ذائل وهذا أسهل من قول الآخر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 من نسج داود أبي سلام وهذا كثير يخرج منه في هذا الموضع ما ذكرت. 98 - باب الرخص في الشعر وأذكر هنا ما يجوز للشاعر استعماله إذا اضطر إليه، على أنه لا خير في الضرورة، على أن بعضها أسهل من بعض، ومنها ما يسمع عن العرب ولا يعمل به؛ لأنهم أتوا به على جبلتهم، والمولد المحدث قد عرف أنه عيب، ودخوله في العيب يلزمه إياه. فمن ذلك قصر الممدود على مذاهب أهل البصرة والكوفة جميعاً، وله على ما أجاز الكوفيون وصل ألف القطع، وهو قبيح.. قال حاتم طيء: أبوه أبي، والأمهات أمهاتنا ... فأنعم فداك اليوم أهلي ومعشري قال بعضهم: إنما الرواية والأم من أمهاتها وله تخفيف المشدد في القافية، وأما في حشو البيت فمكروه جداً، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وربما حذفوا النون الساكنة.. كما قال: فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل وأن يحذف للألف واللام أو الإضافة ما يحذف للتنوين مثل قول خفاف: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 كنواح ريش حمامة نجدية ... ومسحت باللثثين عصف الإثمد وأن يحذف حرفاً من الكلمة كقول العجاج: قواطناً مكة من ورق الحمي وحرفين كقول علقمة بن عبدة: مفدم بسبا الكتان ملثوم يريد بسبائب الكتان، وأن يحذف من المكنى في الوصل ما يحذف منه في الوقف.. كقول الشاعر: سأجعل عينيه لنفسه مقنعاً وأقبح منه أن يحذف من المكنى المنفصل كقول الآخر: فبيناه يشري رحله قال قائل: ... لمن جمل رخو الملاط نجيب؟ وأقبح من ذلك أن يحذف الألف من ضمير المؤنث.. أنشد قطرب: أما تقول به شاة فيأكلها ... أو أن تبيعه في بعض الأراكيب أراد " تبيعها " فحذف الألف، قال: ولا يجوز استعمال هذا للمحدث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 لشذوذه وقبحه، ويجوز له حذف الياء والواو من المضمر المذكر لكثرته واطراده، وللشاعر ان يحذف اسم " ليت " إذا كان مضمراً.. أنشد المفضل لعدي بن زيد: فليت دفعت الهم عني ساعة ... فبتنا على ما خيلت ناعمي بال يريد " ليتك " وله حذف الفاء من " افتعلته " من التقوى وما تصرف منها، أنشد المفضل لخداش بن زهير: تقوه أيها الفتيان؛ إني ... رأيت الله قد غلب الجدودا وأنشد أبو زيد الأنصاري: إن المنية بالفتيان ذاهبة ... وإن تقوها بأرماح وأدراع وحذف الفاء من جواب الجزاء كما قال: يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع قال سيبويه: تقديره إنك إن يصرع أخوك فتصرع. ومثله أيضاً: من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان يريد " فالله يشكرها " وهذا أبين من الأول، وحذف النون من تثنية " الذي " وجمعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 قال الأخطل: أبني كليب إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا وأنشد سيبويه: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد أراد " الذين " وعلى هذا قال أبو الطيب: ألست من القوم الذي من رماحهم ... نداهم، ومن قتلاهم مهجة البخل ويجوز أن يكون جعل " الذي " للجماعة والواحد كما جعل " من " وقد حكى ذلك الزجاجي. قال ابن قتيبة في قول الله عز وجل: " كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ": إن " الذي " ههنا يعني الذين، والله أعلم. وحذف الياء من " الذي " فمنهم من يسكن الذال بعد الحذف، ومنهم من يدعها مكسورة على لفظها، أنشد البصريون والكوفيون جميعاً: فظلت في شر من اللذ كيدا ... كمن تزبى زبية فاصطيدا ويروى كالذ تزبي زبية فاصطيدا فجمع بين اللغتين. ونظير هذا حذف الياء من " التي " وإسكان التاء، وأنشدوا: فقل للت تلومك: إن نفسي ... أراها لا تعوذ بالتميم وحذف الياء والتاء من " اللواتي " أنشد الزجاجي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 جمعتها من أينق غزار ... من اللوا شرفن بالصرار وحذف الموصول وترك الصلة. كما قال يزيد بن مفرغ: عدس ما لعباد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق أراد " وهذا الذي تحملين " فحذف. وحذف اسم " إن " ولكن " كما قال: ولكن من لا يلق أمراً ينوبه ... بعدته ينزل به وهو أعزل فحذف الهاء من لكنه لأنه جازى بمن، ولو أعمل فيها لكن لم يجز أن يجازي بها. ومثله قول الآخر: إن من يدخل الكنيسة يوماً ... يلق فيها جآذراً وظباء أراد إنه. ويبدلون من الحروف السالمة حروف المد واللين، وأنشدوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 لها أشارير من لحم تثمره ... من الثعالي ووخز من أرانيها أراد " من الثعالب " " ومن أرانبها " ويلينون الهمزة، وذلك كثير جداً جائز في المنثور والفصيح، وله حذف ألف الاستفهام، كما قال الأخطل: كذبتك عينيك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا وهذا رديء في المنثور جداً. ونقصان الجموع عن أوزانها لضرورة القافية كما قال رؤبة: حتى إذا بلت حلاقيم الحلق يريد " الحلوق " وترك صرف ما ينصرف؛ لأنه يحذف منه التنوين وهو يستحقه، وهو غير جائز عند البصريين، إلا أنه قد جاء في الشعر. قال عباس بن مرداس يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع وعلى هذا المذهب قال أبو نواس: عباس عباس إذا احتدم الوغا ... والفضل فضل والربيع ربيع ويروى إذا حضر الوغا والفراء يرى ترك الصرف لعلة واحدة، وهي التعريف، والبصريون يخالفونه في ذلك ويأبونه. ومن أقبح الحذف حذف حركة الإعراب للضرورة، وأنشدوا لامرئ القيس: فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل ومثله للفرزدق: رحت وفي رجليك ما فيهما ... وقد بداهمك من المئزر وزعم قوم أن الرواية الصحيحة في قول امرئ القيس اليوم أسقى وبذلك كان المبرد يقول، وقال الآخرون: بل خاطب نفسه كما يخاطب غيره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 فقال: فاليوم فاشرب، وفي بيت الفرزدق وقد بدا ذاك من المئزر كناية عن الهن، وهذا مما يسمع ويحكى، ولا يقاس عليه البتة. هذا صدر جيد مما علمته يجوز للشاعر من الحذف والنقصان. والذي يجوز من الزيادات أنا ذاكر منه أيضاً ما وسعته قدرتي، إن شاء الله تعالى: فمن ذلك صرف ما لا ينصرف، وإجراء المعتل مجرى الصحيح؛ فيعرب في حال الرفع والخفض، تقول: هذا القاضي، ومررت بالقاضي، وزيد يقضي ويغزو، ولا يجوز في المنثور من الكلام، وعلى هذا قول قيس بن زهير: ألم يأتيك والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بني زياد كأنه يقول في الرفع يأتيك بضم الياء، فلما جزمها أسكنها. ومنهم من يبدل من الياء همزة، وهو القليل، فيقول: القاضئ، والغازئ، وأنشد: يا دار سلمى بدكاديك البرق ... سقياً وإن هيجت شوق المشتئق همزة الياء، وليس أصلها الهمزة. وله إظهار التضعيف كقوله: يشكو الوجى من أظلل وأظلل وإنما هو الأظل وهو باطن خف البعير. وتثقيل المخفف في وصل الكلام على نية من يقف على التثقيل، وأنشدوا: ببازل وجناء أو عيهل ... كأن مهواها على الكلكل موقع كفي راهب يصلي فثقل العيهل وهي السريعة، والكلكل في صلة الشعر، وهما مخففتان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 وله إدخال النون الخفيفة أو الثقيلة في الواجب، وإنما تدخل فيما ليس بواجب، نحو الأمر والنهي والاستفهام. قال القطامي: وهم الرجال، وكل ذلك منهم ... يحزن في رحب وفي متضيق وأنشدوا لآخر، وهو جذيمة الأبرش: ربما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبي شمالات وله إدخال الفاء في جواب الواجب، والنصب بها على إضمار أن. قال طرفة: لنا هضبة لا ينزل الذل وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما فنصب بالفاء على الجواب. وقال آخر: سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا وقطع ألف الوصل لأنه زيادة حركة، والجزم بحرف وحرفين، وأكثر من ذلك، وقد مضى فيما تقدم من هذا الكتاب. وزيادة حرف في المجموع نحو قول الشاعر: تنفى يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف فزاد ياء في الدراهم وياء في الصياريف إن لم تكن الرواية تختلف، على أن الدراهم لا يضطر فيها إلى زيادة الياء؛ إذ كان الوزن يقوم دونها، وإن قيل في بعض اللغات درهام. وله على مذاهب الكوفيين خاصة مد القصور، وقد ألزم ابن ولادٍ البصريين مده على مذهب سيبويه في امتناع الحركة ويجوز التقديم والتأخير، كما قال العجير السلولي: وما ذاك إن كان ابن عمي ولا أخي ... ولكن متى ما أملك الضر أنفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 بالرفع، أراد ولكن أنفع متى ما أملك الضر، ولا أدري ما الفرق بين هذا وبين إن يصرع أخوك تصرع حيث فرقوا بينهما غير أنا نسلم لهم كما سلم من هو أثقب منا حساً وأذكى خاطراً وقال عمرو بن قميثة: لما رأت ساتيد ما استعبرت ... لله در اليوم من لامها وهذه أشياء من القرآن وقعت فيه بلاغة وإحكاماً لا تصرفاً وضرورة، وإذا وقع مثلها في الشعر لم ينسب إلى قائله عجز ولا تقصير، كما يظن من لا علم له ولا تفتيش عنده: من ذلك أن يذكر شيئين ثم يخبر عن أحدهما دون صاحبه اتساعاً، كما قال الله عز وجل: " وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها ". أو يجعل الفعل لأحدهما ويشرك الآخر معه، أو يذكر شيئاً فيقرن به ما يقار به ويناسبه ولم يذكره، كقوله تعالى في أول سورة الرحمن: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " وقد ذكر الإنسان قبل هذه الآية دون الجان، وذكر الجان بعدها. وقال المثقب العبدي: فما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني فقال أيهما قبل أن يذكر الشر؛ لأن كلامه يقتضي ذلك. وأن يحذف جواب القسم وغيره، نحو قوله عز وجل: " ق والقرآن المجيد، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم " وقوله: " والنازعات غرقاً " إلى قوله: " يوم ترجف الراجفة " فلم يأت بجواب؛ لدلالة الكلام عليه، وقال عز وجل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 " ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم " أراد لعذبكم أو نحوه ومن هذا قول امرئ القيس: ولو أنها نفس تموت جميعة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا وقد تقدم ذكره. ومن ذلك إضمار ما لم يذكر كقوله جل اسمه: " حتى توارت بالحجاب " يعني الشمس، وقوله: " فأثرن نفعاً " ولم يجر للوادي ذكر وقال حاتم طيئ: أماوي، ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر؟ يعني النفس، وأنشد ابن قتيبة عن الفراء: إذا نهى السفيه جرى إليه ... وخالف، والسفيه إلى خلاف يعني جرى إلى السفه وحذف لا من الكلام وأنت تريدها، كقوله تعالى: " كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم " وزيادة لا في الكلام كقوله سبحانه " وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " فزاد لا لأنهم لا يؤمنون، هذا قول ابن قتيبة، وقال جل اسمه: " ما منعك أن لا تسجد " أي: ما منعك أن تسجد، قال: وإنما تزاد لا في الكلام لإباء أو جحد، وقال: " لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله " أي: ليعلم. وقال أبو النجم: فما ألوم النجم أن لا تسهرا يريد أن تسهرا. وحذف المنادى كقوله تعالى: " ألا يا اسجدوا لله " كأنه قال: " ألا يا هؤلاء اسجدوا لله " وقال ذو الرمة في مثل ذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 ألا يا سلمى يا دار مي على البلى ... ولا أزال منهلاً بجرعائك القطر وأن يخاطب الواحد بخطاب الاثنين والجماعة، أو يخبر عنه، كقوله تعالى: " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات " وإنما كان رجلاً واحداً، وقوله " ألقيا في جهنم " وإنما يخاطب مالكاً خازن النار، وقيل: بل أراد ألق ألق، فثنى الفعل، وقوله: " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " فخاطب الاثنين بخطاب الواحد، وقوله: " فقد صغت قلوبكما وقوله: " وألقى الألواح " وهما لوحان فيما زعم المفسرون، حكاه ابن قتيبة؛ وأن يصف الجماعة بصفة الواحد كقوله: " إن كنتم جنباً ". ومن غرائب هذا الباب أن يأتي المفعول بلفظ الفاعل، كقوله تعالى: " لا عاصم اليوم من أمر الله " أي: لا معصوم، وكذلك قوله: " من ماء دافق " أي: مدفوق، وقوله: " في عيشة راضية " أي: مرضي بها، وقوله: " وجعلنا آية النهار مبصرة " أي: مبصر فيها، وأن يأتي الفاعل بلفظ المفعول به كقوله تعالى: " إنه كان وعده مأتيا " أي آتياً. وقد جاء الخصوص في معنى العموم في قوله تعالى: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " وجاء العموم بمعنى الخصوص في قوله: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً " ومن الحمل على المعنى قوله تعالى: " وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم " كأنه قيل: من زينه؟ فقيل: شركاؤهم. والحمل على المعنى في الشعر كثير، ومن أنواعه التذكير والتأنيث، ولا يجوز أن تؤنث مذكراً على الحقيقة من الحيوان، ولا أن تذكر مؤنثاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 قال ابن أبو ربيعة المخزومي: فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر فأنث الشخوص على المعنى. وكل جمع مكسر جائز تأنيثه وإن كان واحده مذكراً حقيقياً. ومما أنث من المذكر حملا على اللفظ قول الشاعر، أنشده الكسائي: أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة، ذاك الكمال ومثل هذا في الشعر كثير وموجود. باب السرقات وما شاكلها وهذا باب متسع جداً، لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعى السلامة منه، وفيه أشياء غامضة، إلا عن البصير الحاذق بالصناعة، وأخر فاضحة لا تخفى على الجاهل المغفل، وقد أتى الحاتمي في حلية المحاضرة بألقاب محدثة تدبرتها ليس لها محصول إذا حققت: كالاصطراف، والاجتلاب، والانتحال، والاهتدام، والإغارة، والمرافدة، والاستلحاق، وكلها قريب، وقد استعمل بعضها في مكان بعض، غير أني ذاكرها على ماخيلت فيما بعد. وقال الجرجاني وهو أصح مذهباً، وأكثر تحقيقاً من كثير ممن نظر في هذا الشأن: ولست تعد من جهابذة الكلام، ولا من نقاد الشعر، حتى تميز بين أصنافه وأقسامه، وتحيط علماً برتبه ومنازله، فتفصل بين السرق والغصب وبين الإغارة والاختلاس، وتعرف الإلمام من الملاحظة، وتفرق بين المشترك الذي لا يجوز ادعاء السرقة فيه والمبتذل الذي ليس واحد أحق به من الآخر، وبين المختص الذي حازه المبتدي فملكه واجتباه السابق فاقتطعه. قال عبد الكريم: قالوا: السرق في الشعر ما نقل معناه دون لفظه، وأبعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 في أخذه، على أن من الناس من بعد ذهنه إلا عن مثل بيت امرئ القيس وطرفة حين لم يختلفا إلا في القافية؛ فقال أحدهما وتحمل، وقال الآخر وتجلد ومنهم من يحتاج إلى دليل من اللفظ مع المعنى، ويكون الغامض عندهم بمنزلة الظاهر، وهم قليل. والسرق أيضاً إنما هو في البديع المخترع الذي يختص به الشاعر، لا في المعاني المشتركة التي هي جارية في عاداتهم ومستعملة في أمثالهم ومحاوراتهم، مما ترتفع الظنة فيه عن الذي يورده أن يقال إنه أخذه من غيره. قال: واتكال الشاعر على السرقة بلادة وعجز، وتركه كل معنى سبق إليه جهل، ولكن المختار له عندي أوسط الحالات. وقال بعض الحذاق من المتأخرين: من أخذ معنى بلفظه كما هو كان سارقاً، فإن غير بعض اللفظ كان سالخا، فإن غير بعض المعنى ليخفيه أو قلبه عن وجهه كان ذلك دليل حذقه. وأما ابن وكيع فقد قدم في صدر كتابه على أبي الطيب مقدمة لا يصح لأحد معها شعر إلا الصدر الأول إن سلم ذلك لهم، وسماه كتاب المنصف مثل ما سمي اللديغ سليما، وما أبعد الإنصاف منه. والاصطراف: أن يعجب الشاعر ببيت من الشعر فيصرفه إلى نفسه، فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 صرفه إليه على جهة المثل فهو اختلاب واستلحاق، وإن ادعاه جملة فهو انتحال، ولا يقال منتحل إلا لمن ادعى شعراً لغيره وهو يقول الشعر، وأما إن كان لا يقول الشعر فهو مدع غير منتحل، وإن كان الشعر لشاعر أخذ منه غلبة فتلك الإغارة والغصب، وبينهما فرق أذكره في موضعه إن شاء الله تعالى، فإن أخذه هبة فتلك المرافدة، ويقال: الاسترفاد، فإن كانت السرقة فيما دون البيت فذلك هو الاهتدام، ويسمى أيضاً النسخ، فإن تساوى المعنيان دون اللفظ وخفي الأخذ فذلك النظر والملاحظة، وكذلك إن تضادا ودل أحدهما على الآخر، ومنهم من يجعل هذا الإلمام، فإن حول المعنى من نسيب إلى مديح فذلك الاختلاس، ويسمى أيضاً نقل المعنى، فإن أخذ بنية الكلام فقط فتلك الموازنة، فإن جعل مكان كل لفظة ضدها فذلك هو العكس، فان صح أن الشاعر لم يسمع بقول الآخر وكانا في عصر واحد فتلك المواردة، وإن ألف البيت من أبيات قد ركب بعضها من بعض فذلك هو الالتقاط والتلفيق، وبعضهم يسميه الاجتذاب والتركيب، ومن هذا الباب كشف المعنى والمحدود من الشعر، وسوء الاتباع، وتقصير الآخذ عن المأخوذ منه، وسأورد عليك مما رويته أو تأدى إلى فهمه لكل واحد من هذه الألقاب مثالا يعرفه العالم، ويقتدي به المتعلم، إن شاء الله تعالى. أما الاصطراف فيقع من الشعر على نوعين: أحدهما: الاجتلاب، وهو الاستلحاق أيضاً كما قدمت، والآخر: الانتحال؛ فأما الاجتلاب فنحو قول النابغة الذبياني: وصهباء لا تخفي القذى وهو دونها ... تصفق في راووقها حين تقطب تمززتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا فاستلحق البيت الخير فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وإجانة ريا السرور كأنها ... إذا غمست فيها الزجاجة كوكب تمززتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا وربما اجتلب الشاعر البيتين على الشريطة التي قدمت؛ فلا يكون في ذلك باس، كما قال عمرو ذو الطوق: صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراه اليمينا وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا فاستلحقهما عمرو بن كلثوم؛ فهما في قصيدته، وكان عمرو بن العلاء وغيره لا يرون ذلك عيباً، وقد يصنع المحدثون مثل هذا. قال زياد الأعجم: أشم إذا ما جئت للعرف طالباً ... حباك بما تحوي عليه أنامله ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله ويروى هذا لأخت يزيد بن الطثرية، فاستلحق البيت الأخير أبو تمام فهو في شعره. وأما قول جرير للفرزدق وكان يرميه بانتحال شعر أخيه الأخطل بن غالب: ستعلم من يكون أبوه قيناً ... ومن كانت قصائده اجتلاباً فإنما وضع الاجتلاب موضع السرق والانتحال لضرورة القافية، هكذا ذكر العلماء من هؤلاء المحدثين، وأما الجمحي فقال: من السرقات ما يأتي على سبيل المثل ليس اجتلاباً، مثل قول أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيباً بماء فعاد بعد أبوالا. ثم قاله بعينه النابغة الجعدي لما أتى موضعه، فبنو عامر ترويه للجعدى، والرواة مجمعون أنه لأبي الصلط؛ فقد ذهب الجمحي في الإجتلاب مذهب جرير أنه انتحال ولم أر محدثاً غيره يقول هذا القول. والانتحال عندهم قول جرير: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا غيضن من عبراتهن وقلن لي: ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟ فإن الرواة مجمعون على أن البيتين للمعلوط السعدي انتحلهما جرير، وانتحل أيضاً قول طفيل الغنوي: ولما التقى الحيان ألقيت العصا ... ومات الهوى لما أصيبت مقاتله ولذلك قال الفرزدق: إن تذكروا كرمي بلؤم أبيكم ... وأوابدي تتنحلوا الأشعارا وكان يتقارضان الهجاء، ويعكس كل واحد منهما المعنى على صاحبه وليس ذلك عيباً في المناقضات، ولما قال الفرزدق في بني ربيع: تمنت ربيع أن يجيء صغارها ... بخير، وقد أعيا ربيعاً كبارها أخذه البعيث بعينه في بني كليب رهط جرير فقال الفرزدق: إذا ما قلت قافية شروداً ... تنحلها ابن حمراء العجان يعني البعيث؛ وكان ابن سرية. وأما قول البحتري: رمتني غواة الشعر من بين مفحم ... ومنتحل ما لم يقله ومدعى فيشهد لك ما قدمت ذكره؛ لأنه قسمهم ثلاثة أقسام: مفحم قد عجز عن الكلام فصلا عن التحلي بالشعر غير أنه يتبع الشعراء؛ والآخر منتحل لأجود من شعره، والثالث مدع جملة لا يحسن شيئاً. والإغارة: أن يصنع الشعر بيتاً ويخترع معنى مليحاً فيتناوله من هو أعظم منه ذكراً وأبعد صوتاً، فيروى له دون قائله، كما فعل الفرزدق بجميل وقد سمعه ينشد: ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 فقال: متى كان الملك في بني عذرة؟ إنما هو في مضر وأنا شاعرها، فغلب الفرزدق على البيت، ولم يتركه جميل ولا أسقطه من شعره. وقد زعم بعض الرواة أنه قد قال له: تجاف لي عنه، فتجافى جميل عنه، والأول أصح؛ فما كان هكذا فهو إغارة، وقوم يرون أن الإغارة أخذ اللفظ بأسره والمعنى بأسره، والسرق أخذ بعض اللفظ أو بعض المعنى، كان ذلك لمعاصر أو قديم. وأما الغصب فمثل صنيعه بالشردل اليربوعي، وقد أنشد في محفل: فما بين من لم يعط سمعاً وطاعةً ... وبين تميم غير حز الحلاقم فقال الفرزدق: والله لتدعنه أو لتدعن عرضك، فقال: خذه لا بارك الله لك فيه. وقال ذو الرمة بحضرته: لقد قلت أبياتاً، إن لها لعروضاً وإن لها لمراداً ومعنى بعيداً، قال: وما قلت؟ فقال: قلت: أحين أعادت بي تميم نسائها ... وجردت تجريد اليماني من الغمد ومدت بضبعي الرباب ومالك ... وعمرو وسالت من ورائي بنو سعد ومن آل يربوع زهاء كأنه ... دجى الليل محمود النكاية والرفد فقال له الفرزدق: إياك وإياها لا تعودن إليها، وأنا أحق بها منك، قال: والله لا أعود فيها ولا أنشدها أبداً إلا لك وسمعت بعض المشايخ يقول: الاصطراف في شعر الأموات كالإغارة على شعر الأحياء، إنما هو أن يرى الشاعر نفسه أولى بذلك الكلام من قائله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وأما المرافدة فأن يعين الشاعر صاحبه بالأبيات يهبها له، كما قال جرير لذي الرمة: أنشدني ما قلت لهشام المرئي، فأنشده قصيدته: نبت عيناك عن طلل بحزوى ... محته الريح وامتنح القطارا فقال: ألا أعينك؟ قال: بلى بأبي وأمي، قال: قل له: يعد الناسبون إلى تميم ... بيوت المجد أربعة كبارا يعدون الرباب وآل سعد ... وعمراً ثم حنظلة الخيارا ويهلك بينها المرئي لغواً ... كما ألغيت في الدية الحوارا فلقيه الفرزدق، فلما بلغ هذه قال: جيد، أعده، فأعاده، فقال: كلا والله، لقد علكهن من هو أشد لحيين منك، هذا شعر ابن المراغة. واسترفد هشام المرئي جريراً على ذي الرمة فقال في أبيات: يماشي عدياً لؤمها ما تجنه ... من الناس ما ماشت عدياً ظلالها فقل لعدي تستعن بنسائها ... علي فقد أعيا عدياً رجالها أذا الرم، قد قلدت قومك رمة ... بطيئاً بأيدي العاقلين انحلالها ويروي بأيدي المطلقين فقال ذو الرمة لما سمعها: يا ويلتنا، هذا والله شعر حنظلي، وغلب هشام على ذي الرمة بعد أن كان ذو الرمة مستعلياً عليه. وقد استرفد نابغة بني ذبيان زهيراً فأمر ابنه كعباً فرفده. والشاعر يستوهب البيت والبيتين والثلاثة وأكثر من ذلك، إذا كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 شبيهة بطريقته، ولا يعد ذلك عيباً؛ لأنه يقدر على عمل مثلها، ولا يجوز ذلك إلا للحاذق المبرز. والاهتدام نحو قول النجاشي: وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمت فيها يد الحدثان فأخذ كثير القسم الأول واهتدم باقي البيت فجاء بالمعنى في غير اللفظ، فقال: ورجل رمى فيها الزمان فشلت وأما النظر والملاحظة فمثل قول مهلهل: أنبضوا معجس القسي وأبرق ... نا كما توعد الفحول الفحولا نظر إليه زهير بقوله: يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا وأبو ذؤيب بقوله: ضروب لهامات الرجال بسيفه ... إذا حن نبع بينهم وشريح والإلمام: ضرب من النظر، وهو مثل قول أبي الشيص: أجد الملامة في هواك لذيذة وقول أبي الطيب: أأحبه وأحب فيه ملامة البيت، وقد تقدم ذكرهما في التغاير. وأما الاختلاس فهو قول أبي نواس: ملك تصور في القلوب مثاله ... فكأنه لم يخل منه مكان اختلسه من قول كثير: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل وقول عبد الله بن مصعب: كأنك كنت محتكماً عليهم ... تخير في الأبوة ما تشاء ويروى كأنك جئت محتكماً عليهم اختلسه من قول أبي نواس: خليت والحسن تأخذه ... تنتقي منه وتنتخب فاكتست منه طرائفه ... ثم زادت فضل ما تهب أردت البيت الأول. ومن هذا النوع قول امرئ القيس: إذا ما ركبنا قال ولدان حينا ... تعالوا إلى أن يأتنا الصيد نحطب نقله ابن مقبل إلى القدح فقال: إذا امتحنته من معد عصابة ... عدارية قبل الإفاضة يقدح نقله ابن المعتز إلى البازي فقال: قد وثق القوم له بما طلب ... فهو إذا عرى لصيد واضطرب عروا سكلكينهم من القرب نقلته أنا إلى قوس البندق فقلت: طير أبابيل جاءتنا فما برحت ... إلا وأقواسنا الطير الأبابيل ترميهم بحصى طير مسمومة ... كأن معدنها للرمي سجيل تعدو على ثقة منا بأطيبها ... فالنار تقدح والطنجير مغسول والموازنة مثل قول كثير: تقول مرضنا فما عدتنا ... وكيف يعود مريض مريضا وازن في القسم الآخر قول نابغة بني تغلب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 بخلنا لبخلك قد تعلمين ... وكيف يعيب بخيلاً بخيلا والعكس قول ابن أبي قيس، ويروى لأبي حفص البصري: ذهب الزمان برهط حسان الأولى ... كانت مناقبهم حديث الغابر وبقيت في خلف يحل ضيوفهم ... منهم بمنزلة اللئيم الغادر سود الوجوه لئيمة أحسابهم ... فطس الأنوف من الطراز الآخر وقد عاب ابن وكيع هذا النوع بقلة تمييز منه أو غفلة عظيمة. وأما الموارد فقد ادعاها قوم في بيت امرئ القيس وطرفة، ولا أظن هذا مما يصح؛ لأن طرفة في زمان عمرو بن هند شاب حول العشرين، وكان امرؤ القيس في زمان المنذر الأكبر كهلاً واسمه وشعره أشهر من الشمس؛ فكيف يكون هذا مواردة؟ إلا أنهم ذكروا أن طرفة لم يثبت له البيت، حتى استحلف أنه لم يسمعه قط فحلف، وإذا صح هذا كان مواردة، وإن لم يكونا في عصر، وسئل أبو عمرو بن العلاء: أرأيت الشاعرين يتفقان في المعنى ويتواردان في اللفظ لم يلق واحد منهما صاحبه ولم يسمع شعره؟ قال: تلك عقول رجال توافت على ألسنتها، وسئل أبو الطيب عن مثل ذلك فقال: الشعر جادة، وربما وقع الحافر على موضع الحافر. وألما الالتقاط والتلفيق فمثل قول يزيد بن الطثرية: إذا ما رآني مقبلاً غض طرفه ... كأن شعاع الشمس دوني مقابله فأوله من قول جميل: إذا ما رأوني طالعاً من ثنية ... يقولون: من هذا؟ وقد عرفوني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 ووسطه من قول جرير: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا وعجزه من قول عنترة الطائي: إذا أبصرتني أعرضت عني ... كأن الشمس من حولي تدور فأما كشف المعنى فنحو قول امرئ القيس: نمشي بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب وقال عبدة بن الطبيب بعده: ثمة قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل فكشف المعنى وأبرزه. وأما المجدود من الشعر فنحو قول عنترة العبسي: وكما علمت شمائلي وتكرمي رزق جداً واشتهاراً على قول امرئ القيس: وشمائلي ما قد علمت، وما ... نبحت كلابك طارقاً مثلي ومنه أخذ عنترة، والمخترع معروف له فضله، متروك له من درجته، غير أن المتبع إذا تناول معنى فأجاده بأن يختصره إن كان طويلاً، أو يبسطه إن كان كزاً، أو يبينه إن كان غامضاً، أو يختار له حسن الكلام إن كان سفسافاً، أو رشيق الوزن إن كان جافياً فهو أولى به من مبتدعه، وكذلك إن قلبه أو صرفه عن وجه إلى وجه آخر، فأما إن ساوى المبتدع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 فله فضيلة حسن الاقتداء لا غيرها، فإن قصر كان ذلك دليلاً على سوء طبعه، وسقوط همته، وضعف قدرته. فمما أجاد فيه المتبع على المبتدع قول الشماخ: إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين فقال أبو النواس: أقول لناقتي إذا بلغتني ... لقد أصبحت مني باليمين فلم أجعلك للغربان نحلاً ... ولا قلت " اشرقي بدم الوتين " وكرره فقال: وإذا المطي بنا بلغن محمداً ... فظهورهن على الرجال حرام قربننا من خير من وطئ الحصى ... فلها علينا حرمة وذمام ومما يتساوى فيه السارق والمسروق منه قول امرئ القيس فلو أنها نفس البيت، وقول عبدة بن الطبيب فما كان قيس البيت. وسوء الاتباع أن يعمل الشاعر معنى ردياً ولفظاً ردياً مستهجناً ثم يأتي من بعده فيتبعه فيه على رداءته، نحو قول أبي تمام: باشرت أسباب الغنى بمدائح ... ضربت بأبواب الملوك طبولا فقال أبو الطيب: إذا كان بعض الناس سيفاً لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 فسرق هذه اللفظة لئلا تفوته. ومما قصر فيه الآخذ عن المأخوذ منه قول أبي دهبل الجمحي في معنى بيت الشماخ: يا ناق سيري واشرقي ... بدم إذا جئت المغيره سيثيبني أخرى سوا ... ك، وتلك لي منه يسيره فأنت ترى أين بلغت همته؟؟ ومما يعد سرقاً وليس بسرق اشتراك اللفظ المتعارف كقول عنترة: وخيل قد دلفت لها بخيل ... عليها الأسد تهتصر اهتصارا وقول عمرو بن معدي كرب: وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع وقول الخنساء ترثي أخاها صخراً: وخيل قد دلفت لها بخيل ... فدارت بين كبشيها رحاها ومثله: وخيل قد دلفت لها بخيل ... ترى فرسانها مثل الأسود وأمثال هذا كثير. وكانوا يقضون في السرقات أن الشاعرين إذا ركبا معنى كان أولاهما به أقدمهما موتاً، وأعلاهما سناً، فإن جمعهما عصر واحد كان ملحقاً بأولاهما بالإحسان، وإن كانا في مرتبة واحدة لهما جميعاً، وإنما هذا فيما سوى المختص الذي حازه قائله، واقتطعه صاحبه، ألا ترى أن الأعشى سبق إلى قوله: وفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا موروثة مجداً، وفي الأصل رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 فأخذ النابغة فقال: شعب العلا فيات بين فروجهم ... والمحصنات عوازب الأطهار وبيت النابغة خير من بيت الأعشى باختصاره، وبما فيه من المناسبة بذكر الشعب بين الفروج وذكره النساء بعد ذلك، وأخذه الناس من بعده، فلم يغلبه على معناه أحد، ولا شاركه فيه، بل جعل مقتدياً تابعاً، وإن كان مقدماً عليه في حياته، وسابقاً له بمماته. وقال أوس بن حجر: كأن هراً جنيباً عند غرضتها ... والتف ديك برجليها وخنزير فلم يقربه أحد، وكذلك سائر المعاني المفردة والتشبيهات العقم تجري هذا المجرى. وأجل السرقات نظم النثر وحل الشعر، وهذه لمحة منه. قال نادب الإسكندر " حركنا الملك بسكونه " فتناوله أبو العتاهية فقال: قد لعمري حكيت لي غصص المو ... ت وحركتني لها وسكنتا وقال أرساطاطاليس يندبه: " قد كان هذا الشخص واعظاً بليغاً، وما وعظ بكلامه عظة قط أبلغ من موعظته بسكوته " وقال أبو العتاهية في ذلك: وكانت في حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حياً وقال عيسى عليه السلام: تعملون السيئات وترجون أن تجازوا عليها بمثل ما يجازى به أهل الحسنات، أجل لا يجنى الشوك من العنب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 فقال ابن عبد القدوس: إذا وترت امرأ فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنباً وأخذ الكتاب قولهم " قدمت قبلك " من قول الأقرع بن حابس، ويروى لحاتم: إذا ما أتى يوم يفرق بيننا ... بموت فكن أنت الذي تتاخر وقولهم " وأتم نعمته عليك " من قول عدي بن الرقاع العاملي: صلى الإله على امرئ ودعته ... وأتم نعمته عليه وزادها فما جرى هذا المجرى لم يكن على سارقه جناح عند الحذاق، وفي أقل ما جئت به منه كفاية. باب الوصف الشعر إلا أقله راجع إلى باب الوصف، ولا سبيل إلى حصره واستقصائه، وهو مناسب للتشبيه، مشتمل عليه، وليس به؛ لأنه كثيراً ما يأتي في أضعافه، والفرق بين الوصف والتشبيه أن هذا إخبار عن حقيقة الشيء، وأن ذلك مجاز وتمثيل. وأحسن الوصف ما نعت به الشيء حتى يكاد يمثله عياناً للسامع، كما قال النابغة الجعدي يصف ذئباً افترس جؤذراً: فبات يذكيه بغير حديدة ... أخو قنص يمسي ويصبح مفطراً إذا ما رأى منه كراعا تحركت ... أصاب مكان القلب منه وفرفرا فأنت ترى كيف قام هذا الوصف بنفسه، ومثل الموصوف في قلب سامعه. قال قدامة: الوصف إنما هو ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 ولما كان أكثر وصف الشعراء إنما يقع على الأشياء المركبة من ضروب المعاني كان أحسنهم وصفا من أتى في شعره أكثر المعاني التي الموصوف بها مركب فيها، ثم بأظهرها فيه، وأولاها به، حتى يحكيه ويمثله للحس بنعته. وقال بعض المتأخرين: أبلغ الوصف ما قلب السمع بصراً. واصل الوصف الكشف والإظهار، يقال: قد وصف الثوب الجسم، إذا نم عليه ولم يستره، ومنه قول ابن الرومي: إذا وصفت ما فوق مجرى وشاحها ... غلائلها ردت شهادتها الأزر إلا أن من الشعراء والبلغاء من إذا وصف شيئاً بلغ في وصفه، وطلب الغاية القصوى التي لا يعدوها شيء: إن مدحا فمدحا، وإن ذما فذما. والناس يتفاضلون في الأوصاف، كما يتفاضلون في سائر الأصناف: فمنهم من يجيد وصف شيء ولا يجيد وصف آخر، ومنهم من يجيد الأوصاف كلها وإن غلبت عليه الإجادة في بعضها: كامرئ القيس قديماً، وأبي نواس في عصره، والبحتري وابن الرومي في وقتهما، وابن المعتز، وكشاجم؛ فإن هؤلاء كانوا متصرفين مجيدين الأوصاف، وليس بالمحدث من الحاجة إلى أوصاف الإبل ونعوتها، والقفار ومياهها، وحمر الوحش، والبقر، والظلمان، والوعول؛ ما بالأعراب وأهل البادية؛ لرغبة الناس في الوقت عن تلك الصفات، وعلمهم أن الشاعر إنما يتكلفها تكلفا ليجري على سنن الشعراء قديما، وقد صنع ابن المعتز وأبو النواس قبله ومن شاكلهما في تلك الطرائق ما هو مشهور في أشعارهم: كرائية الحسن في الخصيب، وجيمية ابن المعتز المردفة في الضرب الثاني من الكامل. والأولى بنا في هذا الوقت صفات الخمر والقيان وما شاكلهما، وما كان مناسباً لهما كالكؤوس والقناني والأباريق، وتفاح التحيات، وباقات الزهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 إلى ما لا بد منه من صفات الخدود، والقدود، والنهود، والوجوه، والشعور، والريق، والثغور، والرداف، والخصور، ثم صفات الرياض والبرك والقصور، وما شاكل المولدين؛ فإن ارتفعت البضاعة فصفات الجيوش وما يتصل بها من ذكر الخيل، والسيوف، والرماح، والدروع، والقسي، والنبل، إلى نحو ذلك من ذكر الطبول، والبنود، والمنحرفات، والمنجنيقات، وليس يتسع بنا هذا الموضع لاستقصاء ما في النفس من هذه الأوصاف؛ فحينئذ أدل على مظانها دلالة مجملة، وأذكر مما قل شكله وعز نظيره شواهد وأمثلة يعرف بها المتعلم كيف العمل فيها ومن حيث المسلك إليها، إن شاء الله تعالى. أما نعات الخيل فامرؤ القيس، وأبو دؤاد، وطفيل الغنوي، والنابغة الجعدي، وأما نعات الإبل فطرفة في معلقته من أفضلهم، وأوس بن حجر، وكعب بن زهير، والشماخ، وأكثر القدماء يجيد وصفها؛ لأنها مراكبهم، ألا ترى رؤبة لما غلط في وصف الفرس كيف قال: أدنني من ذنب البعير، وكان عبيد بن حصين الراعي النميري أوصف الناس للابل، ولذلك سمي راعياً، وأما الحمر الوحشية والقسي فأوصف الناس لها الشماخ، شهد له بذلك الحطيئة والفرزدق، وهذان يجيدان صفات الخيل والقسي أيضاً والنبل، وأما الخمر فمن أوصاف الأعشى والأخطل وأبي نواس وابن المعتز، ولأبي نواس أيضاً وابن المعتز الصيد والطرد، فما شئت من هذه الأوصاف فالتمسها حيث ذكرت، ومن الأوصاف القليلة المثل قول رؤبة يصف الفيل: أجرد الخصر طويل النابين ... مشرب اللحى صغير الفقمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 عليه أذنان كفضل الثوبين وقال آخر يصفه، أنشده عبد الكريم: من يركب الفيل فهذا الفيل ... إن الذي يحمله محمول على تهاويل لها تهويل ... كالطود إلا أنه يجول وأذن كأنها منديل هكذا أنشده، وبين البيتين الأخيرين أبيات كثيرة أسقطتها، وقد أنشدها غلام ثعلب عنه عن ابن الأعرابي. وقال عبد الكريم فجمع ما فرقاه وزاد عليهما: وأضخم هندي النجار تعده ... ملوك بني ساسان إن رابها أمر من الورق لا من ضربه الورق ترتعي ... أضاخ ولا من ضربه الخمس والعشر يجئ كطود جائل فوق أربع ... مضبرة لمت كما لمت الصخر له فخذان كالكثيبين لبدا ... وصدر كما أوغى من الهضبة الصدر ووجه به أنف كراووق خمرة ... ينال به ما تدرك الأنمل العشر وأذن كنصف البرد يسمعه الندا ... خفياً وطرف ينقض الغيب مزور ونابان شقا لا يريك سواهما ... قناتين سمراوين طعنهما نثر له لون ما بين الصباح وليله ... إذا نطق العصفور أو غلس الصقر وصنعت أنا في زرافة أتت في الهدية من مصر إلى مولانا خلد الله ملكه من قصيدة طويلة: أتتك من كسب الملوك زرافة ... شتى الصفات لكونها أثناء جمعت محاسن ما حكت فتناسبت ... في خلقها وتنافت الأعضاء تحتثها بين الخوافق مشية ... باد عليها الكبر والخيلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 وتمد جيداً في الهواء يزينها ... فكأنه تحت اللواء لواء حطت مآخرها وأشرف صدرها ... حتى كأن وقوفها إقعاء وكأن فهر الطيب ما رجمت به ... وجه الثرى لو لمت الأجزاء وتخيرت دون الملابس حلة ... عيت لصنعة مثلها صنعاء لوناً كلون الزبل إلا أنه ... حلي وجزع بعضه الجلاء أو كالسحاب المكفهرة خيطت ... فيه البروق، وميضها إيماء أو مثل ما صدئت صفائح جوشن ... وجرى على حافاتهن جلاء نعم التجافيف التي ادرعت به ... من جلدها لو كان فيه وقاء وصنعت أيضاً: ومجنونة أبداً لم تكن ... مذللة الظهر للراكب قد اتصل الجيد من ظهرها ... بمثل السنام بلا غارب ملمعة مثل ما لمعت ... بجناء وشي يد الكاعب كأن الجواري كنفنها ... لخالخ من كل جانب؟ وقال كشاجم يصف اصطرلاباً: ومستدير كجرم البدر مسطوح ... عن كل رابعة الأشكال مصفوح صلب يدار على قطب يلينه ... تمثال طرف بشكم الحذق مشبوح مثل البنان وقد أوفت صفائحه ... على الأقاليم في أقطارها الفيح كأنما السبعة الأفلاك محدقة ... بالماء والنار والأرضين والريح تنبيك عن طالع الأبراج هيئته ... بالشمس طوراً وطوراً بالمصابيح وإن مضت ساعة أو بعض ثانية ... عرفت ذاك بعلم منه مشروح وإن تعرض في وقت يقدره ... لك التشكك جلاه بتصحيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 مميز في قياسات النجوم لنا ... بين المشائيم منها والمناجيح له على الظهر عيناً حكمة بهما ... يحوي الضياء ويجنيه من اللوح وفي الدوائر من أشكاله حكم ... تلقح الفهم منا أي تلقيح لا يستقل لما فيها بمعرفة ... إلا الحصيف اللطيف الحس والروح حتى ترى الغيب عنه وهو منغلق ال ... أبواب عمن سواه جد مفتوح نتيجة الدهر والتفكير صوره ... ذوو العقول الصحيحات المراجيح وقال أيضاً يصف تحت حساب الهندسة: وقلم مداده تراب ... في صحف سطورها حساب يكثر فيه المحو الإضطراب ... من غير أن يسود الكتاب حتى يبين الحق والصواب ... وليس إعجام ولا إعراب فيه ولا شك ولا ارتياب وقال يستهدي بركارا: جد لي ببركارك الذي صنعت ... فيه يدا قينة أعاجيبا ملأم الشفرتين معتدل ... ماشين من جانب ولا عيبا شخصان في شكل واحد قدرا ... وركبا في العقول تركيبا وأشبه شيئين في اشتباههما ... بصاحب لا يمل مصحوبا أوثق مسماره وغيب عن ... نواظر الناقدين تغييبا فعين من يجتليه تحسبه ... في قالب الاعتدال مصبوبا وضم شطريه محكم لهما ... ضم محب إليه محبوبا يزداد حرصاً عليه مبصره ... ما زاده بالبنان تقليبا فقوله كلما تأمله ... طوبى لمن كان ذاله طوبى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 ذو مقلة بصرته مذهبة ... لم تأله زينة وتذهيبا ينظر منه إلى الصواب به ... فلا يزال الصواب مطلوبا لولاه ما صح شكل دائرة ... ولا وجدنا الحساب محسوبا الحق فيه فإن عدلت إلى ... سواه كان الحساب تقريبا لو عين إقليدس به بصرت ... خر له بالسجود مكبوبا فابعثه واجنبه لي بمسطرة ... تلق الهوى بالثناء محبوبا لا زلت تجدي وتجتدي حكماً ... مستوهباً للصديق موهوبا وقال في صفة البنكام: روح من الماء في جسم من الصفر ... مؤتلف بلطيف الحس والنظر مستعبر لم يغب عن إلفه سكن ... ولم يبت قط من طعن على حذر له على الظهر أجفان محجرة ... ومقلة دمعها يجري على قدر تنشأ له حركات في أسافله ... كأنها حركات الماء في الشجر وفي أعاليه حسبان يفصله ... للناظرين بلا ذهن ولا فكر إذا بكى دار في أحشائه فلك ... خافي المسير وإن لم يبك لم يدر مترجم عن مواقيت تخبرنا ... عنها فيوجد فيها صادق الخبر تقضى به الخمس في وقت الوجوب، وإن ... غطى على الشمس ستر الغيم والمطر وإن سهرت لأسباب تؤرقني ... عرفت مقدار ما ألقى من السهر محرر كل ميقات تخيره ... ذوو التخير للأسفار والحضر ومخرج لك بالإجراء ألطفها ... من النهار وقوس الليل والسحر نتيجة العلم والأفكار صوره ... يا حبذا بدع الأفكار في الصور وقال يصف زرمانج آبنوس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 نعم المعين على الآداب والحكم ... صحائف حلك الألوان كالظلم لا تستمد مدادها غير صبغتها ... فسر ذي اللب منها غير مكتتم خفت وجفت فلم تدنس لحاملها ... ثوباً ولم يخش منها نبوة القلم وأمكن المحو فيها الكف فاتسعت ... لما تضمن من نثر ومنتظم حليتها بلجين وانتخبت لها ... وقاية من ذكي العود لا الأدم فالكم يعبق منها حين تودعه ... عرفاً تنسم منها أطيب النسم لو كن ألواح موسى حين يغضبه ... هارون لم يلقها خوفاً من الندم وله من قصيدة ذكر فيها طاووساً مات له: رزئته روضةً يروق، ولم ... نسمع بروض يمشي على قدم جثل الذنابى كأن سندسة ... زرت عليه موشية العلم متوجاً خلقة حباه بها ... ذو الفطر المعجزات والحكم كأنه يزدجرد منتصباً ... يبني فيعلى مآثر العجم يطبق أجفانه ويحسر عن ... فصين يستصبحان في الظلم أدل بالحسن فاستذال له ... ذيلاً من الكبر غير محتشم ثم مشى مشية العروس؛ فمن ... مستظرف معجب ومبتسم فهذا طرف مما شرطته كاف، يرى به المتعلم نهج هذه الطريقة، إن شاء الله تعالى. باب الشطور وبقية الزحاف القول في الشطور على أحد وجهين: إما أن يراد بالشطر نصف البيت، وإما أن يراد به القصد، وذلك أنهم إذا ذكروا الشطور فربما أنشدوا أبياتاً كاملة، وليست أقسمة؛ فيكون هذا من قوله تعالى: " فول وجهك شطر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 المسجد الحرام " وكذلك القسيم أيضاً: يجوز أن يكون نصف البيت، ويجوز أن يكون بمعنى الحظ من الوزن؛ لأن الحظ يقال له قسيم وقسم. قال جرير: أتاركة أكل الخزيز مجاشع ... وقد خس إلا في الخزيز قسيمها يريد حظها. وقالت ابنة المنذر بن ماء السماء: بعين أباغ قاسمنا المنايا ... فكان قسيمها خير القسيم وهذا حين أبدأ بذكر الشطور على مذهب الجوهري لقلة حشوه. الطويل: مثمن قديم، مسدس محدث، أجزاؤه " فعولن مفاعيلن " ثماني مرات وزحافه: القبض، الثلم، والثرم، الكف، الحذف. ومسدسه أن يحذف منه مفاعيلن الآخرة من كل قسم. المديد: مثمن محدث، مسدس قديم، مربع قديم،، أجزاؤه " فاعلاتن فاعلن " ثماني مرات وعلى ذلم أتى محدثه، وبيت مربعه السالم: بؤس للحرب التي ... غادرت قومي سدى قال: وهذا شعر قديم، إلا أن الخليل لم يذكره. زحافه: الخبن، الكف، الشكل، القصر، الحذف، الصلم. البسيط: مثمن قديم، مسدس قديم، مربع محدث، أجزاؤه " مستفعلن فاعلن " ثماني مرات ومسدسه " مستفعلن فاعلن مستفعلن " مكررة، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 وله مسدس آخر يسميه الخليل السريع، وقد نقص منه " فاعلن " الأولى والثالثة وبيته المربع المحدث: دار عفاها القدم ... بين البلى والعدم زحافه: الخبن، الطي، الخبل، القطع، الإذالة، التخليع. ومعنى التخليع: قطع " مستفعلن " في العروض والضرب جميعاً. الوافر: مسدس قديم، مربع قديم، أجزاؤه " مفاعلتن " ست مرات، ولم يجئ عن العرب في مسدسه بيت صحيح. زحافه: العصب، القطف، النقص، العقل، العضب، القصم، العقص، الجمم. الكامل: مسدس قديم، مربع قديم، أجزاؤه متفاعلن " ست مرات، زحافه: الإضمار، الوقص، الخزل، القطع، الخرم، الترفيل، الإذالة. الهزج: مسدس محدث، مربع قديم، أجزاؤه مفاعيلن " أربع مرات، بيته المسدس المحدث: ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا ... وإذ صاحت بشط البين غربان زحافه: الخزم، الكف، القبض، الحزب، الشتر، الحذف. الرجز: مسدس، مربع، مثلث، مثنى، كله قديم، موحد محدث، أجزاؤه " مستفعلن " ست مرات، زحافه: الخبن، الطي، الخبل، القطع، الفرق، الوقف؛ ومعنى قوله الفرق: أن يفرق الوتد المجموع في حشو مسدسه فيعود مستفعلن مستفعنل بتقديم النون فيكون وزنه مفعولات. قال: وهو الذي يسميه الخليل المنسرح، ولم يجئ ضربه إلا مطوياً، وفي صدر مربعه، قال: وهو الذي يسميه الخليل المقتضب، وفي ضرب مثناه ومثلثه إلا أنه ساكن اللام؛ لأن آخر البيت لا يكون إلا متحركاً، وذلك هو الوقف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 الرمل: مسدس قديم، مربع قديم، أجزاؤه " فاعلاتن " ست مرات، زحافه: الخبن، الكف، الشكل، الحذف، القصر، الإسباغ. الخفيف: مسدس قديم، مربع قديم، أجزاؤه " فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن " مكرر، ومربعه " فاعلاتن مستفعلن " قال: وقد ركب منه مربع آخر، وهو الذي يسميه الخليل مجتثاً، وقد نقص منه " فاعلاتن " الأولى والرابعة. وزحافه: الخبن، الكف، الشكل، الحذف، القطع، التشعيث، الإسباغ، الطي. المضارع: مربع قديم لا غير، أجزاؤه " مفاعلن فاعلاتن " مكرر، ولم يجئ عن العرب فيه بيت صحيح. زحافه: القبض، الكف، الحذف، الشتر، الخبن. المتقارب: مثمن قديم، مسدس مربع محدث، أجزاؤه " فعولن " ثماني مرات. زحافه: القبض، الثلم، الثرم، القصر، الحذف، البتر، وبيت مربعه المحدث: وقفنا هنيه ... بأطلال ميه المتدارك: مثمن قديم، مسدس محدث، أجزاؤه " فاعلن " ثماني مرات، وبيته السالم من مثمنه: لم يدع من مضى للذي قد غبر ... فضل علم سوى أخذه بالأثر وشعر عمرو الجني مخبون. زحافه: الخبن، القطع، الإذالة، الترفيل.. وهذا شرح الألقاب عن أبي زهرة النحوي وغيره. كل ما حذف ثانيه الساكن فهو مخبون، وكل ما حذف رابعه الساكن منه فهو مطوي، وما حذف خامسه الساكن فهو مقبوض، وما حذف سابعه الساكن فهو مكفوف، وما حذف ثانيه ورابعه الساكنان فهو مخبول، وما حذف ثانيه وسابعه الساكنان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 فهو مشكول، وما حذف ثانيه المتحرك فهو موقوص، وما حذف خامسه المتحرك فهو معقول، وما حذف سابعه المتحرك فهو مكشوف عند الخليل، ولم يعتد به الجوهري، وما حذف رابعة الساكن وأسكن ثانية المتحرك فهو مخزول، وما أسكن ثانية المتحرك فهو مضمر، وما أسكن خامسة المتحرك فهو معصوب، وما أسكن سابعه المتحرك فهو موقوف، وما حذف ساكن سببه وأسكن متحركه فهو مقصور، وإن كان هذا العمل في وتد فهو مقطوع، وكل سبب زيد عليه حرف ساكن ليس من الجزء الذي هو فيه فهو مسبغ، وإن كان ذلك في وتد فهو مذيل؛ فإن زيد على الوتد حرفان فهو مرفل، وكل ما حذف منه وتد مجموع فهو أحذ، فإن حذف وتد مفروق فهو أصلم، وإذا حذف من الجزء سبب وأسكن المتحرك الي يليه فهو مقطوف، وكل وتد مجموع كان في مبتدأ البيت فحذف أول الوتد فهو مخروم، وإن كان ذلك في " فعولن " فهو أثلم، فإن كان فيه مع الخرم قبض فهو أثرم، وإن كان الخرم في " مفاعلتن " فهو أعصب وإن كان مع ذلك عصب فهو أقصم، وإن كان فيه مع الخرم قبض فهو أعفص، وإن كان فيه مع الخرم عقل فهو أجم، وإذا خرمت " مفاعيلن " فهو أخرم وإذا كففته مع ذلك فهو أخرب، وإذا خرمته وقبضته فهو أشتر، وما ذهب منه جزآن من العروض والضرب فهو مجزو، وما يذهب منه شطره فهو مشطور، وما ذهب ثلثاه فهو منهمك، ومل سلم من الزحاف وهو يجوز فيه فهو سالم، وما سلم من الخرم فهو موفور، وما استوفى دائرته فهو تام، وما استوفى أجزاء دائرته وكان في بعض الأجزاء نقص فهو وافٍ، وكل جزء كان في ضرب أو عروض فكان بمنزلة الحشو فهو صحيح، وإن خالف الحشو فهو معتل، ومخالفة الحشو: أن يدخل فيه من النقص والزيادة ما لا يدخل الحشو، أو يمتنع من النقص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 الذي يدخل الحشو، والمعتدل على أربعة أوجه: ابتداء، وفصل، وغاية، واعتماد. وقد شرحتها فيما تقدم. باب بيوتات الشعر والمعرقين فيه منها في الجاهلية بيت أبي سلمى: كان شاعراً واسمه ربيعة، وابنه زهير كان شاعراً، وله خؤولة في الشعر: خاله بشامة بن الغدير، وكان كعب وبجير ابنا زهير شاعرين، وجماعة من أبنائهما. ومن المخضرمين حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، وهو وأبوه وجده وأبو جده شعراء، وابنه عبد الرحمن شاعر، ذكر ذلك المبرد وبعد هذين بيت النعمان بن بشير، وبنوه: أبان، وبشير، وشبيب، وابنته حميدة، ومن بني بنيه عبد الخالق بن عبد الواحد، وعبد القدوس بن عبد الواحد بن النعمان، وأم النعمان عمرة بنت رواحة شاعرة، وخاله عبد الله بن رواحة أحد شعراء النبي صلى الله عليه وسلم. ومن المعرقين في الشعر عن عبد الكريم نهشل بن حرى بن ضمرة بن جابر بن قطن، ستة ليس يتوالى في بني تميم مثلهم شعراً وشرفاً وفعالاً. وعن ابن قتيبة القاسم بن أمية بن أبي الصلت، وهو القائل: قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... تركوه رب صواهل وقيان وربيعة بن أمية عن غير ابن قتيبة. ومن بيوتات الشعر في الإسلام بيت جرير: كان هو وأبوه عطية وجده الخطفي شعراء، وكان بنوه وبنو بنيه شعراء.. قال أبو زياد الكلابي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 رأيت باليمامة نوحاً وبلالاً ابني جرير وهما يتسايران ولهما جمال وهيئة وقدر عظيم، وأشعر من باليمامة يومئذ حجناء بن نوح بن جرير، وكان عقيل بن بلال شاعراً، وعمارة ابنه شاعراً، أدرك الطائي حبيباً ولقيه المبرد. ومن المعوقن عقبة بن رؤبة بن العجاج. ومن البيوتات بيت أبي حفصة: كان مروان شاعراً، وجماعة بيته شعراء يضربون بألسنتهم أنوفهم، حكاه الجاحظ، وكان يحيى جد مروان شاعراً يهاجي اللعين المنقري، وأكثر أهل بيته شعراء رجالاً ونساء. وبيت أبي عيينة بيت شعر: منهم مجد وبنوه أبو عيينة وعبد الله وداود وعباد بن داود لقبه المخرق لقوله: أنا المخرق أعراض اللئام كما ... كان الممزق أعراض اللئام أبي وبيت الرفاشيين منهم عبد الصمد بن الفضل وابناه الفضل والعباس، وأكثرهم شعراء. وبيت اللاحقيين: كان حمدان شاعراً، وابنه، وأبوه أبان شاعراً، وجده عبد الحميد شاعراً، ولاحق أبو عبد الحميد شاعر، وإليه نسبوا، وهو مولى الرقاشيين، وأكثر أهل هذا البيت شعراء. وبيت أمية الكاتب ذكرهم دعبل، وهم أمية وإخوته: علي، ومحمد، والعباس وسعيد، ومن أولاد هؤلاء أبو العباس بن أمية وأخواه علي وعبد الله، وابن عمهم محمد بن علي بن أبي أمية. وبيت رزين بيت شعر، منهم عبد الله شاعر، وابنه الشيص شاعر، واسمه محمد، ومنهم علي شاعر، وابناه دعبل وعلي شاعران. وبيت حميد بن عبد الحميد. كان حميد شاعراً، وبنوه أهرم وأبو عبد الله وأبو نصر وأبو نهشل شعراء، ذكرهم دعبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 والفرق بين المعرق وبين ذي البيت أن المعرق من تكرر الأمر فيه وفي أبيه وجده فصاعداً، ولا يكون معرقاً حتى يكون الثالث فما فوقه، وعلى هذا فسر قول أبي الطيب: العارض الهتن ابن العارض الهتن اب ... ن العارض الهتن ابن العارض الهتن قالوا: إنما أراد أنه معرق، وزاد واحداً على الشرط المتعارف، وإنما أخذه أبو الطيب من قول محمد بن عبد الملك الزيات: ما كان ينذرنا ويؤمن سربنا ... ويجيرنا من شر كل مخيفة إلا مقام خليفة لخليفة ... لخليفة لخليفة لخليفة يعني الواثق بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، فصدق وحسن في معناه، ونقص المتنبي بواحد بعد سرقته. وذو البيت من عم الأمر جميع أهل بيته أو أكثرهم، فهذا فرق بينهما. ومن الأخوة ومن لم يعرق: لبيد وأخوه لأمه أربد، والشماخ وأخواه جزء ويزيد وهو مزرد وبنو ابن مقبل وهم عشرة أخوة، تميم، وفضالة وحيان: ورفاعة، ووبرة، والمضاء، وأعقد، وعبد الله، وخفاف، وأبو الشمال، وأم تميم ابنة أمية بن أبي الصلت، وفي أولاد أخوته المذكورين آنفاً شعر؛ وقيس بن عمرو النجاشي وأخوه خديج، وعمرو بن أحمر وأخواه سنان وسيار، وغيلان ذو الرمة وإخوته: أوفى، ومسعود، وهشام، وحرقاس، شعراء خمستهم، ومسلم بن الوليد وأخوه سليمان الكفيف، وأشجع السلمي وأخوه أحمد. وأما الشاعر ابن الشاعر فقط فيقال له الثنيان حكاه عبد الكريم عن غيره، وهو كثير لو أخذنا في ذكرهم لطالت مسافة الباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 باب حكم البسملة قبل الشعر قال أبو جعفر النحاس: اختلف العلماء في كتب " بسم الله الرحمن الرحيم " أمام الشعر؛ فكره ذلك سعيد بن المسيب والزهري، وأجازه النخعي، وكذا يروي عن ابن العباس، قال: اكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " أمام الشعر وغيره؛ قال أبو جعفر: ورأيت علي بن سليمان يميل إلى هذا، وقال: ينبغي أن يكتب أمام الشعر " بسم الله الرحمن الرحيم " لأنه يجيء بعده " قال فلان " وما أشبه ذلك.. قلت أنا: إنما هذا في الشعر إذا دون، فأما قصيدة رفعها الشاعر إلى ممدوحه فلا يكتب قبلها اسم قائلها، لكن بعدها، وإذا كان الأمر هكذا فلا سبيل إلى كتاب البسملة؛ لأن العذر حينئذ ساقط. باب أحكام القوافي في الخط إذا صارت الواو الأصلية والياء الأصلية وصلاً للقافية سقطت في الخط كما تسقط واو الوصل وياؤه، مثل واو يغزو للواحد، ويغزوا للجماعة إذا كانت القافية على الزاي، ألا ترى أنهم أسقطوها في اللفظ فضلاً عن الخط.. قال الراجز: كريمة قدرهم إذا قدر يريد إذا قدروا قال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن السمين وقد سألته عن هذا: لا يجوز حذف هذه الواو في أشد ضرورة، للعرب لا للمولدين؛ لأنها علامة جمع وإضمار؛ فحذفها يلتبس بالواحد، قال: وهذا مذهب سيبويه والبصريين، ومثل واو يغزو وياء يقضي للغائب وتقضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 للمؤنثة الغائبة والمذكر المخاطب. وكذلك ياء القاضي والغازي إذا كانا معرفين بالألف واللام، وهذا هو الوجه، فإن كتب بإثبات الواو والياء فعلى باب المسامحة، والأجود أن تكون الواو والياء خارجاً في الغرض، وكذلك ياء الضمير نحو غلامي إذا كانت القافية الميم فالوجه سقوط الياء، فإن كتبت مسامحة ففي الغرض كما قدمت، وقد أسقطها بعضهم في اللفظ. أنشدني أبو عبد الله للأعشى: ومن شانئ كاسف وجهه ... إذا ما انتسبت له أنكرن قال: يريد أنكرني فحذف الياء، فأما ما يكون منوناً نحو قاضٍ، وغاز، أو مجزوماً نحو لم يقض، ولم يغز، فلا يجوز أن يثبت فيهما الياء والواو على المسامحة؛ لأنهما سقطا بالتنوين والعامل.. ومن العرب من يقول هذا الغاز، ومررت بالقاض، بغير ياء، وهذا تقوية لمذهب من حذفها في الخط إذا كانت وصلاً للقافية. وإن كان في قوافي قصيدة ما يكتب بالياء وما يكتب بالألف كتباً جميعاً بالألف لتستوي القوافي، وتشتبه صورتها في الخط. باب النسبة إلى الروي إذا قلت قصيدة فنسبتها إلى ما كان على حرفين قلت هذه قصيدة بائية وحائية، وكذلك أخواتهما، وإن شئت جعلت الهمزة واواً فقلت: ياوية، وكان أبو جعفر الرقاشي ينسب إلى ما كان على حرفين يقول: هذا يبوي، ويتوي، وكذلك أخواتهما، إلا ما ولا فإنه يقول: مووي، ولووي على فعلي، وتقول على هذا القول: قصيدة مووية ولووية، قال ثعلب: ما كان على ثلاثة أحرف الأوسط ياء فليس فيه إلا وجه واحد، تقول: سينت سيناً، وعينت عيناً، إذا كتبت سيناً وعيناً، فيقول على هذا: قصيدة مسينة ومعينة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 وسينية وعينية، وكذلك قصيدة ميمية، ولا تقول " مؤومة " فإنه خطأ، وتقول في الواو وهي على ثلاثة أحرف الأوسط ألف بالياء لا غير؛ لكثرة الواوات، فتقول: وويت واواً حسنة، وبعضهم يجعل الواو الأولى همزة لاجتماع الواوين فيقول: أويت واواً حسنة، فالقصيدة على هذا واوية ومؤواة وموواة، وقال بعضهم في " ما " و " لا " من بين أخواتهما: مويت ماء حسنة، ولويت لاء حسنة، بالمد؛ لمكان الفتحة من ما ولا. باب الإنشاد وما ناسبه ليس بين العرب اختلاف إذا أرادوا الترنم ومد الصوت في الغناء والحداء في إتباع القافية المطلقة، مثلها من حروف المد واللين في حال الرفع والنصب والخفض، كانت مما ينون أو مما لا ينون، فإذا لم يقصدوا ذلك اختلفوا: فمنهم من يصنع كما يصنع في حال الغناء والترنم؛ ليفصل بين الشعر والكلام المنثور، وهم أهل الحجاز، ومنهم من ينون ما ينون وما لا ينون: إذا وصل الإنشاد أتى بنون خفيفة مكان الوصل فجعل ذلك فصلاً بين كل بيتين فينشد قول النابغة: يا دار مية بالعلياء فالسند منوناً إلى آخر القصيدة، لا يبالي بما فيه ألف ولام، ولا مضاف، ولا بفعل ماض، ولا مستقبل، وهم ناس كثير من بني تميم. ومنهم من يجري القافي مجراها ولو لم تكن قوافي فيقف على المرفوع والمكسور موقوفين ويعوض المنصوب ألفا على كل حال، وهم ناس كثير من قيس وأسد، فينشدون: لا يبعد الله جيراناً لنا ظعنوا ... لم أدر بعد غداة البين ما صنع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 يريد " ما صنعوا ". وكذلك ينشدون: ففاضت دموع العين مني صبابة ... على النحر حتى بل دمعي محمل فإذا وصلوا جعلوه كالكلام وتركوا المدة لعلهم أنها في أصل البناء. قال سيبويه: سمعناهم ينشدون: أقلي اللوم عاذل والعتاب إذا كان منوناً أثبتوا تنوينه ووصلوه كما يفعلون بالكلام المنثور. ومن العرب من في لغته أن يقف على إشباع الحركة: فتجر الضمة واواً، والكسرة ياء، والفتحة ألفا، فينشد هذا كله موصولاً من غير قصد غناء ولا ترنم. ومنهم من في لغته أن لا يعوض شيئاً من النصب فهو ينشد هذا كله موقوفاً من غير اعتقاد تقييد، وإذا كان الشعر مقيداً كان تنويه بإزاء إطلاقه، فهو غير جائز؛ لأن الشعر المقيد يكسر بتنوينه كما يكسر بإطلاقه، ما خلا الأوزان التي قدمنا القول أنها من بين ضروب الشعر يجوز إطلاقها وتقييدها. ويحكى عن رؤبة أنه أنشد قصيدته القافية المقيدة منونة، فرد ذلك الزجاجي وأنكره، وذكر أنه وهم من السامع، وأن الوجه فيه أن من العرب من يزيد بعد كل قافية " إن " الخفيفة المكسورة إعلاماً بانقضاء البيت، فينشد: وقاتم الأعماق خاوي المخترق ان ... مشتبه الأعلام لماع الخفق ان يكل وفد الريح من حيث انخرق ان وإذا كان ما قبل حرف الروي ساكناً وكانت لغة منشده الوقوف على المضموم والمكسور بنقل الحركة كما أنشد أعرابي من بني سنبس قول ذي الرمة: ولا زال منهلاً يجرعائك القطر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 بضم الطاء وإسكان الراء لما وقف حكى ذلك عبد الكريم، وعلى هذا قال الآخر: أنا ابن ماوية إذ جد النفر أراد " النفر " بالخيل. وأنشد أبو العباس ثعلب: أرتني حجلاً على ساقها ... فهش الفؤاد لذاك الحجل فقلت ولم أخف من صاحبي: ... ألا بأبي أصل تلك الرجل وقال: نقل لاضطرار القافية. ومما يدخل في شفاعة هذا الباب: الغناء، والحداء، والتغبير، قال الشاعر: تغن بالشعر إما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار ويقولون: فلان يتغنى بفلان أو بفلانة، إذا صنع فيه شعراً. قال ذو الرمة: أحب المكان القفر من أجلي أنني ... به أتغنى باسمها غير معجم وكذلك يقولون: حدا به، إذا عمل فيه شعراً. قال المرار الأسدي: ولو أني حدوت به أرفأنت ... نعامته وأبصر ما يقول وغناء العرب قديماً على ثلاثة اوجه: النصب، والسناد، والهزج. فأما النصب فغناء الركبان والفتيان، قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: وهو الذي يقال له المرائي، وهو الغناء الجنابي، اشتقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبد الله بن هبل، فنسب إليه، ومنه كان أصل الحداء كله، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض. وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع، الكثير النغمات والنبرات، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 على ست طرائق: الثقيل الأول، وخفيفه، والثقيل الثاني، وخفيفه، والرمل، وخفيفه. وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدف والمزمار فيطرب، ويستخف الحليم، قال إسحاق: هذا كان غناء العرب حتى جاء الله بالإسلام، وفتحت العراق، وجلب الغناء الرقيق من فارس والروم، فغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية، وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير. قال الجاحظ: العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزوناً على غير موزون. ويقال: إن أول من أخذ في ترجيعه الحداء مضر بن نزار؛ فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده فحملوه وهو يقول: وايداه، وايداه، وكان أحسن خلق الله جرماً وصوتاً، فأصغت الإبل إليه وجدت في السير، فجعلت العرب مثالاً لقوله هايدا هايدا يحدون به الإبل، حكى ذلك عبد الكريم في كتابه. وزعم ناس من مضر أن أول من حدا رجل منهم، كان في إبله أيام الربيع، فأمر غلاماً له ببعض أمر، فاستبطأه، فضر به بالعصا، فجعل ينشد في الإبل ويقول: يايداه، يايداه، فقال له: إلزم إلزم، واستفتح الناس الحداء من ذلك الوقت. وذكر ابن قتيبة أنهم قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وحكى الزبير بن بكار في حديث يرفعه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم من بني غفار سمع حاديهم بطريق مكة ليلاً فمال إليهم: إن أباكم مضر خرج إلى بعض رعاته فوجدها قد تفرقت، فأخذ عصا فضرب بها كف غلامه، فعدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 الغلام في الوادي وهو يصيح: وايداه، وايداه، فسمعت الإبل ذلك فعطفت، فقال مضر: لو اشتق مثل هذا لانتفعت به الإبل واجتمعت، فاشتق الحداد. وأما التغبير فهو تهليل أو تردد صوت، بقراءة أو غيرها، حكى ذلك ابن دريد، وحكى أبو إسحاق الزجاجي قال: سألني بعض الرؤساء: لما سمي التغبير تغبيراً؟ قلت: لأنه وضع على أنه يرغب في الغابر أي: الباقي، أي: يرغب في نعيم الجنة وفيما يعمل للآخرة وقال غيره: إنما قيل له تغبير لأنه جعل ما يخرج من الفن بمنزلة الغبار، فعرض الجوابان على أحمد بن يحيى فاستجاد جوابي. يقال للمراسل في الغناء: المثالي، حكاه غلام ثعلب باب الجوائز والصلات قال أبو جعفر النحاس: أصل الجائزة أن يعطي الرجل ما يحيزه ليذهب إلى وجهه، وكان الرجل إذا ورد ماء قال لقيمه: أجزني أي: أعطني ماء حتى أذهب لوجهتي وأجوز عنك فكثر حتى جعلت الجائزة عطية. قال الراجز: يا قيم الماء فدتك نفسي ... أحسن جوازي وأقل حبسي قال ابن قتيبة: أصل الجائزة والجوائز أن عبد عوف بن أصرم من بني هلال بن عامر بن صعصعة ولي فارس لعبد الله بن عامر، فمر به الأحنف بن قيس في جيشه غازياً إلى خراسان، فوقف لهم على قنطرة الكر فجعل ينسب الرجل فيعطيه على قدر حسبه، فكان يعطيهم مائة مائة، فلما كثروا عليه قال: أجيزوهم، فأجيزوا؛ فهو أول من سن الجوائز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 قال الشاعر: فدى للأكرمين بني هلال ... على علاتهم عمي وخالي هم سنوا الجوائز في معد ... فصارت سنة أخرى الليالي والبدرة: عشرة آلاف درهم، سميت بذلك لوفورها، قال بعضهم: ومنه سمى القمر ليلة أربعة عشرة بدراً لتمامه وامتلائه من النور، ويقال: لمبادرته الشمس، وقيل: بل البدرة جلدة السخلة إذا فطمت والجذع من المعز يملأ مالاً، فسمى المال بدرة باسم الوعاء مجازاً. والصلة ما أخذه رجل من السلطان أول ما يتصل به، ثم كثر ذلك حتى قيل لهبة الملك صلة. وهذه أبيات كنت صنعتها للسيد أبي الحسن أدام الله عزه ختمت بها الكتاب لما جاء موضعها: إن الذي صاغت يدي وفمي ... وجرى لساني فيه أو قلمي مما عنيت لسبك خالصه ... واخترته من جوهر الكلم لم أهده إلا لتكسوه ... ذكراً تجدده على القدم لسنا نزيدك فضل معرفة ... لكنهن مصائد الكرم فأقبل هدية من أشدت به ... ونسخت عنه آية العدم لا تحسب الدنيا أبا حسن ... تأتي بمثلك فائق الهمم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 الحمد لله الذي بنعمته تكمل الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد أشرف الكائنات، وعلى آله وصحبه نجوم الهداية وأعلام الدرايات، وسلم تسليماً كثيراً. وبعد، فقد نجز كتاب العمدة، في محاسن الشعر وآدابه لأبي علي الحسن بن رشيق الأزدي: المولود في سنةمن الهجرة " 1000 م " المتوفي في ذي القعدة سنةمن الهجرة " 1064م " بعد أن صقله التحقيق، وجلاء حسن الوضع، وزانه رونق الطبع، وبعد أن قضيت نصف حول في المراجعة ومعاودة النظر، وقضيت من بعد ذلك ثلاثة أشهر في الإشراف على طبعه، لا يحملني على تجثم هذه الأهوال إلا الرغبة الصادقة في خدمة العربية، والحرص على أن تكون كتبها صحيحة المعنى جميلة الرواء. وإني أتضرع إلى الله تعالى أن يثيبني على هذا بمقدار إخلاصي فيه لوجهه؛ فهو حسبي ونعم الوكيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317