الكتاب: أهمية دراسة السيرة النبوية والعناية بها في حياة المسلمين المؤلف: محمد بن محمد العواجي الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- أهمية دراسة السيرة النبوية والعناية بها في حياة المسلمين محمد بن محمد العواجي الكتاب: أهمية دراسة السيرة النبوية والعناية بها في حياة المسلمين المؤلف: محمد بن محمد العواجي الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ال مقدمة : وفيها: 1- أهمية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأهمية الكتابة في هذا الموضوع، وسبب اختياره. 2- خطة البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 المقدمة: الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد الذي قال الله عنه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 43] وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، وسلَّم تسليماً كثيراً. وبعد: فإن نعم الله على عباده كثيرة جداً، وإن من أجلّ تلك النعم وأعظمها نعمة الإسلام، فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ومما لا ريب فيه أن الدين الإسلامي له شرائع ونظم، منها ما يتعلق بالعبادة ومنها ما يتعلق بالأخلاق والمعاملات والسياسة وغيرها، وهذه كلها مجموعة أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقواله وتقريراته، ولا تُعْرَفُ تلك الشرائع إلا باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال جل شأنه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر، آية 7] . وقال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب، آية: 21] . بل وحَذَّر الله من مخالفته، فقال عز من قائل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور، آية: 63] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وقال صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ " (1) . وقال عليه الصلاة والسلام: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ " (2) . ومما لا شك فيه أيضاً أن سيرته عليه الصلاة والسلام قد اشتملت على أقواله وأفعاله وتقريراته، فهي إذاً التجسيد الحيّ لتعاليم الإسلام، بل هي الصورة المشرقة لسلوكيات النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه. لذلك كانت الكتابة في هذا الموضوع من الأهمية بمكان، والسبب في ذلك ما ذكرت من حاجة الناس في هذا الزمن على وجه التحديد من عمر الرسالة المحمدية، والعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، ففي سيرته امتزجت أقواله بأفعاله، وظهر هديه صلى الله عليه وسلم في دعوته ومراحلها، وسياسته في حروبه وتعامله مع الآخرين، وغير ذلك من أمور الدين والدنيا، لا تعرف إلا من خلال دراسة السيرة النبوية دراسة واعية متأنية، فهي نبراس لكل من أراد النور في الدنيا والآخرة. من هنا حاولت أن أجمع هذا العنوان الواسع "أهمية دراسة السيرة النبوية والعناية بها في حياة المسلمين". وأجعله في مقدمة وتمهيد وخمسة مباحث ثم الخاتمة، فالفهارس. 1- المقدمة وفيها: أهمية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأهمية الكتابة في هذا الموضوع وسبب اختياره. 2- وأما التمهيد ففيه:   (1) أخرجه مسلم رقم (1718) وغيره. (2) أخرجه البخاري رقم (2697) ومسلم رقم (1718) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ـ تعريف السيرة لغة واصطلاحاً. ـ مدلول كلمة "السيرة النبوية". ـ خصوصية السيرة النبوية. وأما المباحث الخمسة فهي: المبحث الأول: أهمية دراسة السيرة النبوية، من الناحية الدينية [المنهج الدعوي] . المبحث الثاني: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاجتماعية. المبحث الثالث: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية السياسية. المبحث الرابع: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاقتصادية. المبحث الخامس: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية العسكرية. ثم الخاتمة، وقد اشتملت على ذكر أهم ما جاء في البحث. فالفهارس العامة. وأخيراً أشكر الله سبحانه وتعالى أن وفقني للكتابة في هذا البحث وإتمامه، وهذا جهد المقل، ثم أشكر ولاة الأمر في هذه البلاد المباركة على ما بذلوه، ويبذلونه من جهود لإقامة شرع الله سبحانه وتعالى، نسأل الله لهم الثبات على الحق. والشكر موصول للقائمين على هذا الصرح العظيم "مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة" لحسن اختيارهم هذه الموضوعات، وفي هذا الوقت، إذ تعصف بالأمة الإسلامية رياح التغيير بصفة عامة وما تتعرض له هذه البلاد بصفة خاصة. نسأل الله أن يردّ المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً وأن يؤلف بين قلوبهم ويصلح ذات بينهم إنه جواد كريم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ال تمهيد : وفيه: 1ـ تعريف السيرة لغة واصطلاحاً. 2ـ مدلول كلمة السيرة النبوية. 3ـ خصوصية السيرة النبوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 التمهيد: 1- تعريف السيرة لغة واصطلاحاً فالسيرة لغة: السُّنَّة، وقد سارت وسِرْ تُها، قال الشاعر: فلا تَجْزَعَن من سُنَّة أنت سرْتهَا فأول راضٍ سنّةً مَنْ يسيرُها (1) والسيرة: الطريقة، يُقال: سار بهم سيرة حسنةً. والسيرة: الهيئة، وفي التنزيل: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه:21] . والسيرة: الضرب من السَّيْر (2) . ويلاحظ أنّ من معاني السيرة لغة: السُّنَّة. والسيرة النبوية اصطلاحاً: هي الترجمة المأثورة لحياة النبي صلى الله عليه وسلم (3) . أو هي: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلْقية أو خُلُقية أو سيرة، سواء كان قبل البعثة أو بعدها (4) . وهذا التعريف ذكره المحدِّثون للسنة، وهو تعريف للسيرة أيضاً؛ لأنّ من معاني السيرة في اللغة: السُّنّة، ولأنّ التعريف اشتمل على ذكر حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها قبل البعثة أي: من ولادته وبعدها حتى وفاته.   (1) البيت: لخالد بن زهير، ابن أخت أبي ذؤيب، انظر: لسان العرب، مادة: سير. (2) لسان العرب، مادة: سير، والقاموس المحيط، مادة: سير. (3) دائرة المعارف الإسلامية (2/152) . (4) قواعد التحديث، للقاسمي ص (35-38) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 2- مدلول كلمة: السيرة النبوية إذا قيل السيرة النبوية، فإنما يراد بها سيرة نبي الله ورسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، والتي تشتمل على ذكر أدق التفاصيل عن حياة سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية والمدنية، وعلى هذا درج المؤلفون عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم بتسمية مؤلفاتهم بالسيرة النبوية، كالسيرة النبوية لابن إسحاق، وتهذيب ابن هشام (1) ، والسيرة النبوية لابن حزم (ت: 456?) ، والسيرة النبوية لعبد الغني المقدسي (ت: 600?) ، والسيرة النبوية لابن عساكر، المطبوعة ضمن تاريخه الشهير بتاريخ ابن عساكر (ت:571?) وغيرها (2) . والملاحظ أنّ هذه المصنفات الموسومة بالسيرة النبوية، جميعها تتحدث عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية والمرحلة المدنية، إلا أن بعضها أكثر تفصيلاً عن حياته عليه الصلاة والسلام من بعض (3) . 3ـ خصوصية السيرة النبوية تمتاز السيرة النبوية بخصائص عدة لا يمكن حصرها منها: كونها ربانية المصدر، بمعنى أنّ صاحبها وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه إلى الناس كافة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ   (1) وفيات الأعيان، لابن خلكان (3/177) . (2) هناك مؤلفات أخرى كثيرة تحمل عناوين أخرى، مثل: تسمية البعض لسيرة ابن إسحاق بالمغازي والسير، انظر: فهرسة ابن خير الإشبيلي ص (232) ، ومغازي عروة بن الزبير (ت: 94?) ، ومغازي موسى بن عقبة (ت: 141?) وهي تتحدث عن حياة النبي (في المرحلة المكية والمدنية، انظر: مرويات عروة بن الزبير ص (46-47) ، لعادل عبد الغفور، ومغازي موسى بن عقبة ص (19) جمع ودراسة وتخريج محمد باقشيش. (3) كالسيرة النبوية لابن إسحاق، تهذيب ابن هشام، والسيرة النبوية لابن عساكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 جَمِيعاً} ويتلقى تعاليمه من الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3، 4] ، ولا يقول شيئاً من ذات نفسه فيما يتعلق بأوامر النبوة والرسالة أبداً {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوِيَتنَ} [الحاقة:44-46] . وهذه الخصوصية وإن كان يشاركه الأنبياء في بعضها إلا أن نبينا انفرد بكونه صلى الله عليه وسلم مرسلاً إلى الناس كافة، فأوامره ونواهيه ملزمة ومقررة للناس جميعاً. 2- ثبوتها وصحة ما جاء فيها: فقد أورد القرآن الكريم صوراً من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال، حيث أشار إلى الحالة التي نشأ عليها صلى الله عليه وسلم في أول حياته: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6-8] ، ثم نزول الوحي عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] . وبداية دعوته: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] ، ثم بعض أخلاقه وشمائله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] ، ثم في جهاده وغزواته، ففي بدر: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وفي أحد: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:121] . وفي الخندق: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10-11] . وفي حنين: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] . فالقرآن الكريم مليء بمثل هذه الإشارات المقتضبة، وعلى هذا فالقرآن الكريم يعدُّ المصدر الأول لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكفاك به صدقاً وعدلاً {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] . كما أنّ كتب السنة قد نقلت لنا معظم سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وبأصح ما جاء فيها، حيث أورد البخاري ومسلم في صحيحيهما جملة كبيرة من السيرة النبوية، وكذا بقية كتب السنة. 3- شمولها وكمالها: فلا تكاد تجد سيرة لنبي من أنبياء الله السابقين وصفت وصفاً دقيقاً ابتداء من ولادته حتى وفاته وبقيت بعده، فضلاً عن غيرهم من البشر، لكن سيرة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم شملت جميع مراحل حياته، بل وقبل ولادته حتى وفاته عليه الصلاة والسلام، بل وفي بعض أحداثها ذكر اليوم والشهر والسنة، وشاملة لجميع مناحي الحياة الإنسانية، فتجد فيها الوسطية، والعدل والمساواة والحرية، والرفق بالإنسان والحيوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وغيرها. 4- وسطيتها ويسرها: فدين الإسلام عموماً جاء بالوسطية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] . وقال عليه الصلاة والسلام: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" (1) . وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثتم مُيَسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين" (2) . وقال لمعاذ عندما بلغه إطالة صلاته بالناس: "يا معاذ أفتّان أنت، أو أفاتن أنت؟ ثلاث مرات، فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى" (3) . فأمّة الإسلام أمة وسطية معتدلة، قال أبو جعفر الطبري: "فلا هم أهل غُلُوٍّ فيه، غُلُوَّ النصارى الذين غَلَوا بالترهب، وقِيلِهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين أبدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل وسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها" (4) . إلى غير ذلك من خصائص السيرة النبوية.   (1) البخاري، رقم (69) عن أنس، ومسلم، رقم (1732) عن أبي موسى بلفظ ((بشرو ولا تنفروا … )) . (2) البخاري، رقم (220) . (3) البخاري رقم (705) ، ومسلم، رقم (465) . (4) تفسير الطبري (3/142) ، تحقيق، أحمد شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الدينية (المنهج الدعوي) الأمر الأول: في المراحل الدعوية ... المبحث الأول: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الدينية (المنهج الدعوي) والحديث في هذا المبحث يقتصر على ثلاثة أمور: الأمر الأول: في المراحل الدعوية الأمر الثاني: التركيز على الجانب العقدي . الأمر الثالث: أن السيرة النبوية مصدر معين لمن يريد التبحر في علوم الشريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الأمر الأول: في المراحل الدعوية تعدُّ السيرة النبوية لب الإسلام وروحه، وتجسيداً حيًّا لجميع تعاليم الإسلام، فلا يستغني عن النظر فيها أي عالم أو طالب علم، فهي دوحة عظيمة فيها كل الثمار اليانعة، كلُّ يقطف منها ما يناسبه، وكيف لا تكون كذلك وهي ربانية المصدر {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء:170] . فلو أمعن الإنسان النظر في السيرة النبوية لوجدها من الناحية الدينية كاملة المنهج، وأقصد بذلك المنهج الدعوي الذي سار عليه صلى الله عليه وسلم في مكة، فقد وضع صلى الله عليه وسلم أسساً لهذا المنهج يتمثل فيما يلي: 1- دعوة الأقارب من زوجة وأبناء، ومن وضعهم الله تحت يده بادئ ذي بدء؛ ولذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نزل عليه الوحي وأمر بتبليغه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1، 2] . بدأ بأهل بيته، فأسلمت خديجة رضوان الله عليها، بل كانت أول النساء إسلاماً على الإطلاق. ثم أسلم من الصبيان عليّ رضي الله عنه، ثم من الموالي زيد بن حارثة رضي الله عنه. وهذا هو المنهج السليم؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] ، وقوله سبحانه {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] . وقوله عليه الصلاة والسلام: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" (1) . فإذا أصلح الإنسان من نفسه وأهل بيته انتقل إلى المرحلة التالية وهي: 2- إنذار العشيرة، كما قال جل شأنه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] . فنهض النبي صلى الله عليه وسلم وصعد صلى الله عليه وسلم على الصفا منادياً: "يا بني فهر، يا بني عدي … " الحديث (2) . فهذا التدرج في مراحل الدعوة منطقي جدّاً يجب الوقوف عنده، وقد استمر صلى الله عليه وسلم في دعوته لقريش ولم يخرج منها إلى أي بلد حتى أكمل عشر سنين، مواصلاً دعوته لهذا الدين القوي دون كَلَل أو ملل. بعد ذلك انتقل إلى قبيلة أخرى تعد من أقرب القبائل العربية لقريش نسباً وصهراً (3) وجواراً، إنها   (1) صحيح البخاري، رقم (893) ، ومسلم رقم (1829) . (2) البخاري، رقم (4770) ، ومسلم، رقم (508) . (3) أما نسباً، فإن كلاًّ من هوازن وقريش يلتقون في مضر، إذ إن هوازن الجد الأعلى لثقيف هو: هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. وأما قريش: فهو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. انظر: جوامع السيرة لابن حزم ص (4) ، واللباب لابن الأثير (3/112) . وأما صهراً، فقد تزوج النبي (ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية إحدى قبائل ثقيف، وكان العباس قد تزوج أختها لبابة الكبرى، وكذا الوليد بن المغيرة فقد تزوج أختها لبابة الصغرى بنت الحارث الهلالية، وغيرهم. انظر: طبقات خليفة بن خياط ص (4، 10، 20) ، وجمهرة أنساب العرب ص (273،270) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 قبيلة ثقيف في الطائف التي ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوتهم أروع الأمثلة لبذل الجهد وتحمّل الأذى كما سيأتي. 3- بذل الجهد وتحمل الأذى والصبر عليه. انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف بالطائف بعد أن مكث في أهل مكة عشر سنين يدعوهم إلى الله عز وجل إلا أن دعوته عليه الصلاة والسلام قوبلت برفض شديد من أهل الطائف، فأصابه صلى الله عليه وسلم من الهم والغم ما لا يعلمه إلا الله جراء رفضهم لدعوته صلى الله عليه وسلم. 4- لما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وبعد أن فرض الجهاد بدأ عليه الصلاة والسلام يرسل السرايا والبعوث إلى القبائل العربية لنشر الإسلام تارة، ويخرج هوبنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم تارة أخرى، فلم ينتقل إلى الرفيق الأعلى حتى عمَّ الإسلام الجزيرة العربية كافة، بل وكان قد جهز جيشاً لغزو أطراف الشام قبيل وفاته عليه الصلاة والسلام بقيادة أسامة بن زيد رضي الله عنه تمهيداً لفتح الشام والعراق، لكنه توفي صلى الله عليه وسلم قبل إنفاذ هذا الجيش. 5- ثم جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه فأكمل المسيرة، وأنفذ جيش أسامة الذي عقد لواءه النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، وذلك على الرغم من معارضة بعض الصحابة عندما أشاروا على أبي بكر بأن يمسك بعث أسامة؛ خشية أن تميل العرب بعد سماعهم بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة، فقال قولته الشهيرة: "أنا أحبس جيشاً بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ‍‍‍ لقد اجترأتُ على أمر عظيم، والذي نفسي بيده لأن تميل عليّ العرب أحب إليّ أن أحبس جيشاً بعثهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 رسول الله صلى الله عليه وسلم … " (1) ثم أمضاه. وما ذلك إلا لأن الإسلام دين عالمي ولا بد أن يَعُمَّ نفعه أرجاء المعمورة، قال جل شأنه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها … " (2) . ولأنّه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، قال جل شأنه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] . ولأنّ دينه ناسخ لجميع الأديان السماوية السابقة {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] . وهكذا وضعت السيرة النبوية منهجاً متكاملاً للمراحل الدعوية التي مرّ بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وانطلقت الجحافل الإسلامية تنشر الدين في ربوع المعمورة حتى بلغ أقاصي الدنيا شرقاً وغرباً، مما يؤكد عالمية هذا الدين الحنيف. وهكذا وضع صلى الله عليه وسلم منهجاً متكاملاً لمراحل الدعوة الإسلامية، فلم يُقَدِّم مرحلة على أخرى، وليس هذا من قبيل المصادفة، بل كان عملاً مقصوداً. فالعاملون في المجال الدعوي لا يسعهم إلا الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا المجال.   (1) تاريخ الإسلام للذهبي، قسم الخلافة الراشدة ص (20) ، وانظر إنفاذ أبي بكر لجيش أسامة: تاريخ الطبري (3/226) وما بعدها، والمنتظم لابن الجوزي (4/73) وما بعدها، والبداية والنهاية لابن كثير (6/304) وما بعدها. (2) مسند أحمد (28/339-340) ، رقم (17115) ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الأمر الثاني: التركيز على الجانب العقدي ظلّ النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد الخالص. وهذا أمر معلوم، لكن ليس معنى هذا أنه لم يكن يدعو إلا إلى التوحيد فقط، بل كان يدعو إلى صدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، والنهي عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة (1) ، إلاّ أن تركيزه صلى الله عليه وسلم على الجانب العقدي كان أكثر. والحق أن التركيز على الجانب العقدي في غاية الأهمية؛ لأنّ الإيمان إذا وقر في القلب انتفت جميع الشوائب المؤدية إلى زعزعة الإيمان، وقد آتت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المكية وتركيزه على الجانب العقدي ثمارها يلحظ من قرأ تاريخ حروب الردة التي أعقبت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلم نجد أحداً ارتد من المهاجرين والأنصار أبداً، وما ذلك إلا لرسوخ الإيمان في قلوبهم رضوان الله عليهم أجمعين. وعلى هذا فالواجب على الدعاة اليوم غرس العقيدة الصحيحة في النفوس أولاً مع الاهتمام أيضاً بالجوانب الأخرى التي مرّ ذكرها آنفاً. وعندما يركز الداعية اهتمامه على الجانب العقدي، فلا بد أن يدرك معنى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" (2) . والحقّ أنّ تلك المضغة إذا وقر الإيمان فيها، منعت صاحبها من الوقوع في الفواحش بأنواعها.   (1) انظر: مسند أحمد (3/266،263) ، رقم (1740) من حديث أم سلمة، وهو حديث حسن، فقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث. (2) البخاري، رقم (52) ، ومسلم، رقم (4094) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الأمر الثالث: أنّ السيرة النبوية مصدر مَعِين لمن يريد التبحر في علوم الشريعة فعن طريق السيرة تعرف قضية الناسخ والمنسوخ من الآيات والأحاديث، وهي ناحية مهمة جدّاً يترتب عليها كثير من الأحكام الشرعية (1) . كما أن من معرفة نزول الآيات وأسبابها من الأمور المهمة التي بمعرفتها تعرف أحداث السيرة النبوية كتلك التي نزلت في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم. أيضاً هناك بعض الأمور التي لا يستغني عن معرفتها أي طالب علم فضلاً عن العلماء، وذلك مثل المعجزات التي أجراها الله على يدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فمعرفتها تزيد - ولا شك - في الإيمان، وكذا معرفة ما كابده صلى الله عليه وسلم من مشاق في سبيل تبليغ هذا الدين وصبره على ذلك.   (1) مصادر السيرة النبوية وتقويمها، ص (62-63) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 المبحث الثاني: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاجتماعية المطلب الأول: في كيفية تعامله صلى الله عليه وسلم مع خصومه من الكفار وصبره على أذاهم ... المبحث الثاني: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاجتماعية وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: في كيفية تعامله صلى الله عليه وسلم مع خصومه من الكفار وصبره على أذاهم. المطلب الثاني: في كيفية تعليمه صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة وتربيته لهم . المطلب الثالث: في كيفية تعامله صلى الله عليه وسلم مع بعض المشكلات الاجتماعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 المطلب الأول: في كيفية تعامله صلى الله عليه وسلم مع خصومه من الكفار وصبره على أذاهم لقد سلك النبي صلى الله عليه وسلم طريقة عجيبة في كيفية دعوة الناس إلى الإسلام، ستظل نبراساً لكل من أراد الاهتداء بهديه سالكاً طريقته عليه الصلاة والسلام، إنّها طريقة الصابرين {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] . إنّ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام مليئة بالمواقف العجيبة التي تَجَلَّى فيها حلمه عليه الصلاة والسلام وصبره على الأذى من أجل المحافظة على العلاقة الاجتماعية. 1- لما نزلت الآية الكريمة {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] . صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي – لبطون قريش – حتى اجتمعوا، فجعل الرَّجُل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلاً بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدِّقيّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: تبّاً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} (1) [المسد:1-2] .   (1) البخاري رقم (4770) ، ومسلم رقم (204) واللفظ للبخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فانظر إلى موقف أبي لهب العجيب من النبي صلى الله عليه وسلم يصدقه أولاً، ثم يكذبه ويسخر منه ومن مقولته، بل إن مجيئه ابتداء وتلبيته لنداء النبي صلى الله عليه وسلم يدل على تصديقه، لكنه ما تمالك نفسه حتى نال من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام. والحق أن الأعجب من ذلك هو موقف النبي صلى الله عليه وسلم من أبي لهب، فلم يرد عليه مقولته؛ لأنّه يعلم يقيناً إِنْ ردّ عليه فسينقسم الناس إلى قسمين، قسم مؤيد لأبي لهب مستنكرين رَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم بحكم موقع أبي لهب النَّسَبي، فهو عَمُّه، وعمُّ الرجل صنو أبيه (1) ، وقد يَعُدُّ بعضهم ذلك الرد تطاولاً من النبي على عمِّه، وقسم مؤيد للنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يفسد الهدف الذي من أجله كان الاجتماع، وهو دعوتهم إلى الله، وإقامة الحجة عليهم فآثر السكوت عليه الصلاة والسلام، مفوضاً أمره إلى الله سبحانه وتعالى، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فحاشاً ولا صخاباً، فتولى الباري جل وعلا الرد على أبي لهب، فأنزل في شأنه سورة تتلى إلى يوم القيامة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} الآيات [المسد:1-3] . 2- قال ابن إسحاق: ((ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف، والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إليهم وحده (2) ، فلما وصل إليهم ودعاهم إلى الإسلام ردُّوه أقبح رد، وأغلظوا له القول، بل وحرَّشُوا   (1) جزء من حديث، أخرجه مسلم، رقم (983) وغيره. (2) سيرة ابن إسحاق (ابن هشام) (1/419) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 عليه الصبيان والسفهاء، فآذوه ورموه بالحجارة حتى سال الدم من عقبيه الشريفين عليه الصلاة والسلام، فكان موقفاً أليماً، رجل يدعو قومه إلى الله عز وجل، وهم يكذبونه ويتجهمونه، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ((هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على بن عبد ياليل بن عبد كُلال، فلم يُجبني إلى ما أردت، فانطلقتُ، وأنا مهموم على وجهي (1) ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب (2) ، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل"، فنادى فقال: ((إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: ((يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (3) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله مِن أصلابهم مَن يعبده وحده لا يشرك به شيئاً" (4) . فانظر إلى صبر النبي صلى الله عليه وسلم وحلمه، الدم يسيل من عقبيه الشريفين، ويسأله ملَك الجبال إن كان يريد أن يطبق عليهم الأخشبين يفعل، ومع ذلك يتضرع إلى الله سبحانه، ويدعوه أن يخرج مِنْ أصلابهم مَنْ يعبده وحده، لا يشرك به   (1) أي على الجهة المواجهة لي، الفتح (6/315) تحت شرح حديث رقم (3231) . (2) قرن الثعالب، هو ميقات أهل نجد، ويقال له أيضاً قرن المنازل. المصدر السابق. وهو على طريق الطائف من مكة المار بنخلة اليمانية، يبعد عن مكة ثمانين كيلاً، ومن الطائف ثلاثة وخمسين كيلاً. المعالم الأثيرة في السنة النبوية، لمحمد شراب. (3) المراد بالأخشبين: جبلا مكة، أبو قبيس، والذي يقابله وكأنه قُعَيْقِقَان، وسميا بذلك لصلابتهما وغلظ حجارتهما، والمراد بإطباقهما: أن يلتقيا على من بمكة. الفتح (6/316) ، تحت شرح حديث رقم (3231) . (4) البخاري مع الفتح (16/316) حديث رقم (3231) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 شيئاً! سبحان الله! ما أعظمها من دروس، أين دعاة اليوم من هذه الدروس العظيمة في الصبر والحلم والعفو والصفح؟ فلو دعا عليهم ووافق الملَك فيما أُمر به لهلكت قريش، ولكن ثم ماذا؟ فإذا هلكت قريش وهي ريحانة العرب فماذا بقي؟ لكن يظهر أيضاً أن القضية أكبر من ذلك، فهي دروس تعليمية للدعاة من أمته عليه الصلاة والسلام، فلو أن كل من أصابه بلاء انتقم لنفسه لم يبق للصبر ثمرة، كيف وقد رتب الله عليه أعظم الأجر، حيث قال جل شأنه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157] . وما هي إلا سنوات قلائل، وتفتح مكة على يد النبي صلى الله عليه وسلم، في السنة الثامنة من الهجرة وتتحقق دعوته صلى الله عليه وسلم، ويُسْلم بقية أهل مكة بعد أن عفا عن كل من ناصبه العداء، ثم تأتي ثقيف فتدخل في الإسلام، ويعم الخير العظيم هاتين القبيلتين، وشاء الله أن يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم ويتوفاه بعد فترة وجيزة تقارب السنتين، ويرتد كثير من العرب عن الإسلام، لكن العجب أن قبائل قريش وثقيف لم يرتد منهم أحد، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" (1) . فقد كانت قريش من خيار العرب، وكيف لا يكونون كذلك والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم منهم؟ وهكذا نرى آثار تلك الدعوات الصادقة قد آتت ثمارها، وذلك الحِلْم والعفو والصبر والصفح أثمر غراسه، فصلى الله عليه وسلم. 3- خرج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة السابعة من الهجرة لفتح خيبر، وكانت   (1) البخاري، رقم 03353) ، ومسلم، رقم (2378) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 معقل يهود بعد إجلاء بني النضير إليها، فلما وصلها صلى الله عليه وسلم حاولت يهود قتله صلى الله عليه وسلم بطريقة حقيرة ودنيئة تنم عن خبث ومكر اليهود، فعن أنس رضي الله عنه: ((أن امرأة (1) يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك، قال: "ما كان الله ليسلطك على ذاك"، قال: أو قال: "عليّ" قال: قالوا ألا نقتلها؟ قال: "لا" (2) . فانظر إلى سماحة الإسلام، لم يأمر صلى الله عليه وسلم بقتلها مع أنها اعترفت بجريمتها وظفر بها، ومع ذلك عفا عنها؛ لأنّ الإسلام دين السماحة والعفو. 4- لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة في السنة الثامنة (3) من الهجرة وبالتحديد في شهر رمضان (4) كان عدد جيش المسلمين عشرة آلاف رجل، فرأت قريش أنه لا طاقة لها بقتال النبي صلى الله عليه وسلم، وظنت أنه سيبطش بها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن الجميع، فأسلم عدد كبير منهم، بل وعندما جاءت غنائم حنين، جعل صلى الله عليه وسلم يعطي بعضهم عطاء جزلاً، فقد أعطى صفوان بن أمية مائة من النعم، ثم مائة، ثم مائة (5) ، وعندما غضبت الأنصار من ذلك، ذكر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إنما   (1) اسمها: زينب بنت الحارث، أخي مرحب، وهي امرأة سلاَّم بن مِشْكم، ذكر ذلك ابن إسحاق (ابن هشام) (2/337) ، وابن سعد في الطبقات (2/201) . (2) صحيح مسلم، رقم (2190) وقد ذكر عبد الرزاق في المصنف، رقم (19814) عن الزهري أنها أسلمت، وكذلك ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح (7/497-498) نقلاً عن مغازي سليمان التيمي أنها أسلمت أيضاً. (3) صحيح البخاري، رقم (4276) . (4) المصدر السابق. (5) كصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، انظر قصة هروبهما، الموطأ رقم (44) ، وابن إسحاق (ابن هشام) (2/417-418) ، وفيه ضعف لكن قال ابن عبد البر في التمهيد (12/19) : ((وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده» إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 أعطاهم من أجل أنه يتألفهم لأنهم حديثو عهد بكفر (1) . إنّ القصد من ذكر تلك الأمثلة المتقدمة هو أنه صلى الله عليه وسلم كان يحاول جاهداً تجنب المصادمة والمواجهة مع القبائل القرشية في المرحلة المكية، وحرص على تألفهم بعد الهجرة مروراً بقصة الحديبية عندما قال لهم: ”يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة … " الحديث (2) ، وانتهاءً بقصته معهم بعد حنين. هكذا تتجلى سماحة الإسلام في تألُّف الناس، والتودد إليهم، والصفح عن مسيئهم؛ لتقوية آصرة الروابط الاجتماعية.   (1) انظر: صحيح مسلم، رقم (2313) . (2) السيرة النبوية لابن إسحاق (ابن هشام) (2/308-309) بسند جيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 المطلب الثاني: في كيفية تعليمه صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة وتربيته لهم إذا كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حريصاً على تألف الناس للدخول في الإسلام، فإنّه كان أشد حرصاً على تعليم من أسلم منهم بالرفق واللين في حالة حدوث تصرفات من بعضهم بسبب جهلهم بتعاليم الإسلام أو لقربهم من العهد الجاهلي وعاداته السيئة، من ذلك: 1- قصة الأعرابي (1) الذي قدم من البادية ممتطياً بعيره حابساً بوله حتى   (1) اختلف في اسم هذا الأعرابي، فقيل: ذو الخويصرة، وقيل: عيينة بن حصن، وقيل: الأقرع بن حابس، انظر: الفتح (1/323-324) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 قدم المدينة، بل وحتى دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي الكريم عليه الصلاة والسلام جالس مع أصحابه إذ بهذا الأعرابي ينيخ بعيره، ويتوجَّه إلى ناحية من نواحي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمام أعين الناس يرفع ثوبه ويجلس ليتخلص من بوله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه منظر يثير الدهشة، سلك طريقاً طويلة لم يجد مكاناً يتبول فيه إلا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم!! لذلك أثار فعله هذا حفيظة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاموا ليمنعوه وينهروه، ولكن الرجل استمر في بوله غير عابئ بتلك الصرخات التي تعالت عليه من جوانب المسجد تستنكر هذا الفعل، إلا أن النبي الكريم والمربي الحكيم أنقذ الموقف بقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة: "دعوه". عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يتبوَّل في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مَهْ مَهْ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه (1) دعوه" (2) ، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: "إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القَذَر، إنّما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه (3) (4) .   (1) لا تُزْرموه: بضم التاء وإسكان الزاي، وبعدها راء، أي: لا تقطعوا عليه بوله. النووي مع مسلم (3/190) . (2) قال النووي: ((قال العلماء: كان قوله (: دعوه، لمصلحتين: إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله تضرر، وأصل التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به، والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد، فلو أقاموه في أثناء بوله لتنجس ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد، والله أعلم» ا.?. النووي على مسلم (3/191) . (3) فَشَنَّه عليه: أي صَبَّه. المصدر السابق. (4) مسلم، رقم (661) ، والبخاري مختصراً رقم (220) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فانظر إلى هذه الحادثة العجيبة، وكيف ساق الله هذا الأعرابي ليعمل ذلك العمل وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع تلك الحادثة، ليتعلم الصحابة ومن بعدهم إلى يوم الدين الرفق واللين منه عليه الصلاة والسلام. 2- وهناك موقف آخر حدث لبعض الصحابة تجلت فيه حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته في معالجة الأمور، فقد دخل رجل في الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هم كذلك إذ عطس رجل ممن كان يصلي معهم، فَشَمَّت هذا الرجل ذلك العاطس بقوله: ((يرحمك الله)) ويظهر أنه كان قد تعلم أن العاطس يُشَمَّت مطلقاً، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه – أو صاحبه – يرحمك الله … " الحديث (1) . ولا سيما أن الكلام في الصلاة في أول الإسلام كان جائزا ً، فقد قال زيد بن أرقم رضي الله عنه: ((كنّا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فأُمِرنا بالسكوت، ونُهِينا عن الكلام)) (2) . ويظهر أيضاً أنه لم يبلغه النهي، إما لأنه كان يسكن خارج المدينة أو لأمر آخر، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم استدعاه، وعلَّمه تعليماً نبويّاً تجلَّت فيه التربية المحمدية. عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثُكْل (3) أمياه! ما شأنكم تنظرون إليّ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصَمِّتونني لكني سكتّ، فلما صلى   (1) البخاري، رقم (6226) . (2) صحيح مسلم بشرح النووي (5/26) . (3) الثُّكْل: بضم الثاء وإسكان الكاف وبفتحها: فقدان المرأة ولدها. شرح النووي على مسلم (5/20) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كَهَرَني (1) ، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنّما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن" أوكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم … الحديث (2) . قال الإمام النووي في شرحه للحديث: ((فيه بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظيم الخُلُق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته، وشفقته عليهم، وفيه التخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه (3) . هذه هي تعاليم الإسلام التي جاء بها الهادي البشير صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، والتعليم بهذا الأسلوب النبوي العجيب هو المثمر، وهو الذي يجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، أما الغلظة والجفاء والسخرية والاستهزاء والازدراء فليست من الإسلام في شيء. وصدق الله سبحانه إذ يقول في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، والقائل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] فصلوات الله وسلامه عليه.   (1) ما كَهَرَني: أي ما انتهرني. المصدر السابق. (2) صحيح مسلم بشرح النووي (5/20) . (3) المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 المطلب الثالث: في كيفية تعامله صلى الله عليه وسلم مع بعض المشكلات الاجتماعية إنّ التلاحم والترابط الاجتماعي في ظل العقيدة الإسلامية، والأخوة الإيمانية، يولِّد شعوراً كبيراً في نفس المسلم، تجعله يعيش في حياة سعيدة طوال حياته؛ لأنّه فَقِه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (1) . ولا شكّ أن الروابط التي تجمع الناس تختلف من مجتمع لآخر، فهناك روابط مشتركة بين أمة وأخرى بسبب المصالح الدنيوية، فإذا فقدت تلك المصالح انتهت تلك الروابط، وقد تجتمع الروابط بسبب آصرة القربى النَّسبي أو العِرْقي، ولكن رابطة العقيدة تبقى بين المسلمين حتى الموت. ولذلك حصر الله الأخوة والموالاة في المؤمنين فقط، فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخوة} [الحجرات:10] . وقطعها بين المؤمنين والكافرين حتى لو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم (2) قال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23] . وسنرى بعد قليل فهم الصحابة رضوان الله عليهم للإسلام، وذلك عندما   (1) البخاري، رقم الحديث (13) ، ومسلم رقم الحديث (45) . (2) السيرة النبوية الصحيحة، لأكرم العمري (1/251) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 قام النبي صلى الله عليه وسلم بِحَلّ بعض المشكلات الاجتماعية التي واجهته في المدينة والتي تمثلت بتشريعه لنظام المؤاخاة. 1- فقد واجهت النبي صلى الله عليه وسلم مشكلة كبيرة بعد هجرته إلى المدينة تتمثل في عدم وجود مأوى مناسب للمهاجرين بالإضافة إلى عدم تمكنهم، وقدرتهم على شراء بيوت يسكنونها لأن المهاجرين رضوان الله عليهم كانوا قد تركوا ثرواتهم في مكة ولم يتمكنوا من أخذها معهم بسبب مضايقة قريش لهم، فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أَنْ شرع نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار اثنين اثنين. وكان من ضمن بنود المؤاخاة أن يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه (1) ، بالإضافة إلى المواساة في كل أوجه الخير والمحبة. وقد ضرب الأنصار أروع الأمثلة في حبهم وتفانيهم في مواساة إخوانهم المهاجرين، من ذلك قصة سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه، عندما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف وهو من المهاجرين، وكان سعد بن الربيع من أكثر الأنصار مالاً، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ((لما قدم علينا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد ابن الربيع وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلَّت تزوجتها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك … )) (2) ، وفي رواية أنه قال: ((بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقك؟ فدلوه على السوق … )) (3) .   (1) البخاري، رقم (3781) . (2) البخاري، رقم (3781) . (3) البخاري، رقم (3780) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وكان الهدف من هذه المؤاخاة إذهاب الوحشة والغربة التي أصابت المهاجرين بمفارقتهم للأهل والعشيرة، فلمّا عَزَّ الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة، وعرفوا أسباب اكتساب الرزق، أبطل الله التوارث، وبقيت الأخوة في الله، وذلك بنزول قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال:75] . وبهذا النظام الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع وبفضل الله أن يجعل من المهاجرين والأنصار لحمة واحدة، وقد أثرت هذه المواقف العجيبة من الأنصار في نفوس المهاجرين فوقفوا مبهورين من تضحيات إخوانهم الأنصار في سبيل إسعاد إخوانهم المهاجرين، فما ملكوا أنفسهم حتى قالوا: ((يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ، لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: "لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم" (1) . وهكذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم وبفضل الله حل مشكلة من أكبر المشكلات الاجتماعية التي واجهته في المدينة بعد الهجرة. والحق أنّ موقف سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف لا يصدقه العقل، ولو لم يرد في صحيح كتب السنة لما صدقه كثير من الناس، وذلك لما فيه من تضحيات تفوق الخيال، هل يُعقل أن الإسلام والأخوة الإيمانية تجعل الشخص يبذل ماله وأهله لأخيه المسلم دون مقابل؟ نعم، يُعقل وموقف سعد خير شاهد، والله إننا لمشتاقون إلى لقائهم والنظر إليهم. غداً نلقى الأحبة ... محمّداً وصحبه   (1) مسند أحمد (20/360-361) ، رقم 013075) ، وسنده صحيح على شرط الشيخين كما قال المحقق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 المبحث الثالث: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية السياسية [سياسته صلى الله عليه وسلم في تكوين دولة الإسلام في المدينة] كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل العربية في مواسم الحجّ وفي أسواقهم لحمايته حتى يبلغ دين الله الذي أمر بتبليغه وكان يقول لهم: "هل من رجل يحملني إلى قومه فإنّ قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي" (1) وقوله عليه الصلاة والسلام بسوق ذي المجاز: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا … " (2) . ولم يطلب منهم شيئاً غير الحماية والنصرة حتى ينفذ كلام ربه سبحانه وتعالى. ولكن العجب أنّ تلك الدعوة اللطيفة لم تلق آذاناً صاغية من جميع تلك القبائل؛ لأنّ الله لم يرد لها الخير حينئذ، حتى هيأ الله لها نفراً من أهل المدينة قدموا مكة، فعرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام فلم يبعدوا، ثم تتابعت اللقاءات حتى كانت بيعة العقبة الثانية التي بموجب شروطها هاجر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة وجد فيها العزة والقوة والمنعة لكثرة من كان قد أسلم من أهلها من الأوس والخزرج (الأنصار) بالإضافة إلى أعداد المهاجرين، إلا أنه صلى الله عليه وسلم وجد صعوبات في نشر الدعوة، منها القبائل اليهودية الثلاث قريظة والنضير وقينقاع، وكلها تدين باليهودية، ومنها القبائل المجاورة   (1) مسند أحمد (23/370) ، رقم [15195] ، وأبو داود، رقم [346ـ 347] ، وسنده صحيح. (2) مسند أحمد (25/404) رقم [16023] ، وسنده صحيح لغيره كما قال المحقق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 للمدينة وكلها تدين بالوثنية إلا أفراداً قلائل جدّاً دخلوا في الإسلام. فهاتان مشكلتان تعيقان نشر الدعوة، ولا سيما مشكلة القبائل اليهودية التي عرف عنها المكر والخداع وقتل الأنبياء، بالإضافة إلى قوتها الاقتصادية والعسكرية، وتحالفاتها مع بعض القبائل العربية مما قد يسبب في حال مواجهتها عسكريّاً عدم تمكين الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستمرار في نشر دعوته، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن وضع التدابير الكفيلة لحماية الدعوة الإسلامية الناشئة. وقد كان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل المدينة -مقر الدعوة الإسلامية- آمنة، حتى يتفرغ لقريش أعتى قبائل العرب في زمانها، والتي تعد الحاجز الأقوى في وجه الدعوة الإسلامية، فبدأ صلى الله عليه وسلم بموادعة القبائل المجاورة للمدينة والتي كان معظمها يدين بالشرك وهواها مع قريش، إلا أنه صلى الله عليه وسلم قطع الطريق بينها وبين قريش عن طريق الموادعة التي تمت مع بعض القبائل وبخاصة القبائل الواقعة على الطريق التجاري لقريش المؤدية إلى الشام. وقد تمت هذه المعاهدات بطرق عدة، لكن لا نجد تفصيلاً لبعض هذه المعاهدات، ولا سيما القديمة منها إلا ما جاء ذكره في سرية حمزة رضي الله عنه التي أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان من السنة الأولى إلى سيف البحر في ثلاثين راكباً ليعترضوا عيراً لقريش، لكن حجز بين الفريقين مجدي بن عمرو الجهني، وكان حليفاً للفريقين (1) . فهذا يدل على أنّ هذا الحلف قد تمّ في فترة مبكرة، قبل خروج حمزة رضي الله عنه،   (1) انظر: السيرة النبوية لابن إسحاق (ابن هشام) (1/595) ، بدون إسناد، وابن سعد في الطبقات الكبرى (2/6) بدون إسناد أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ومما يدل على قدم تلك المعاهدات مجيء وفد جهينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد مقدمه المدينة يطلبون منه أن يوثق لهم حتى يأمنهم ويأمنوه (1) . وذكر ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لبني زُرْعة وبني الرَّبْعة من جهينة أنّهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، وأنّ لهم النصر على من ظلمهم أو حاربهم إلاّ في الدين والأهل، ولأهل باديتهم مَن بَرّ منهم واتقى ما لحاضرتهم، والله المستعان (2) . ولكن لم تحدد الرواية تاريخ هذه الوثيقة هل كانت بعد الهجرة مباشرة أو لا؟! وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأبواء (3) ، وفيها وادع مخشي بن عمرو الضمري، وكان سيدهم في زمانه على ألا يغزو بني ضمرة ولا يغزوه، ولا يكثروا عليه جمعاً ولا يعينوا عدوّاً، وكتب بينهم وبينه كتاباً (4) . ووادع صلى الله عليه وسلم بني مدلج في غزوة ذي العشيرة التي كانت في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهراً من مهاجره صلى الله عليه وسلم (5) . وبعض هذه المعاهدات كانت في فترة مبكرة وبعضها كان متأخراً (6) ،   (1) انظر: مسند الإمام أحمد (3/118) ، رقم (1539) وفي سنده ضعف كما قال المحقق. (2) الطبقات الكبرى (1/270) بدون إسناد. (3) غزوة الأبواء: كانت في شهر صفر على رأس اثني عشر شهراً من مهاجره (، انظر تفاصيلها في ابن إسحاق (ابن هشام) (1/561) ، والطبقات الكبرى (2/8) ، وتاريخ الطبري (2/407) . (4) المصادر السابقة. (5) انظر تفاصيل هذه الغزوة في: سيرة ابن إسحاق (ابن هشام) (1/598) ، والطبقات الكبرى لابن سعد (2/9-10) . (6) انظر في ذلك: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/264-290) فهناك كتابات ومعاهدات كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 لكنها تدل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالجانب الأمني لنجاح واستمرار الدعوة الإسلامية، والحق أن كل هذه المعاهدات تهدف إلى أن يأمن تلك القبائل المجاورة للمدينة ليتفرغ صلى الله عليه وسلم لقريش واليهود الذين نقضوا العهود والمواثيق التي كانت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم تدريجيّاً، والمهم أنه صلى الله عليه وسلم استطاع أن يحل مشكلة القبائل المجاورة التي لا شك أنّها كانت له صلى الله عليه وسلم هاجساً له شأنه. ثم سارع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حل المشكلة الثانية التي تمثل عائقاً كبيراً في قيام الدولة الإسلامية، وهي مشكلة القبائل اليهودية التي كانت تسكن المدينة إبان هجرته صلى الله عليه وسلم وقد كانت تتبوأ مركزاً مرموقاً في المدينة بسبب ما كانوا عليه من كثرة العدد، وسعة الثروة، والمهارة الزراعية والصناعية والتجارية، ثم بسبب ما كان لهم من مكانة دينية وعلمية مستمدة من كونهم أصحاب كتاب سماوي، وكونهم ذوي صلة بالأنبياء والأمم الغابرة (1) . ولعلم النبي صلى الله عليه وسلم السابق بغدر يهود وخبثهم ومكرهم، سارع صلى الله عليه وسلم إلى إيجاد طريقة وحلّ أمثل تجعل من الطرفين المسلمين واليهود يعيشان في أمن وسلام، هذا الحل تمثل في المعاهدة أو [الوثيقة] (2) التي كتبها صلى الله عليه وسلم بين المسلمين من جهة وبين اليهود من جهة أخرى.   (1) انظر: سيرة الرسول (صورة مقتبسة من القرآن الكريم، محمد عزة دروزة (2/122) . (2) انظر في صحة هذه الوثيقة من عدمها: السيرة النبوية الصحيحة، لأكرم ضياء العمري (1/272-275) ، وصحيفة المدينة دراسة حديثية، تحقيق، هارون رشيد محمد إسحاق، وهي رسالة ماجستير من جامعة الملك سعود، بإشراف الدكتور: مصطفى الأعظمي، وبيان الحقيقة في الحكم على الوثيقة- وثيقة المدينة، لضيدان اليامي، وهي رسالة صغيرة لطيفة قيمة على صغر حجمها، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية من ص (306-313) لمهدي رزق الله أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وقد اشتملت بنود هذه الوثيقة على كثير من الأمور يهمنا هنا الأمور المتعلقة بالناحية الأمنية التي منها: 47ـ وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن برّ واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) . 39ـ وإن يثرب حرام جوفها لأهل الصحيفة. 44ـ وإن بينهم النصر على من دهم يثرب. 43ـ وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها. 42ـ وإن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده، فإنَّ مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة (2) . فهذه البنود الخمسة من أهم البنود التي تحدثت عن الأمن والأمان لأهل المدينة جميعاً مسلمهم وكافرهم. فقد نصت الوثيقة على أنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. ومعنى هذا منع الحروب والقتال بين القبائل والعشائر، وتثبيت السلم في المدينة، وبذلك وضعت حدّاً لأقوى عامل في خلق القلق والاضطراب وما يجره من أمور (3) .   (1) أرقام البنود نقلتها من كتاب: السيرة النبوية الصحيحة، للدكتور أكرم العمري (2/282-285) ، أما ما يتعلق بالتقديم والتأخير في أرقام البنود فبحسب الأهمية. (2) المصدر السابق. (3) دولة الرسول (في المدينة – دراسة في تكوينها وتنظيمها-د. صالح أحمد العلي ص (114) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ونص البند رقم (43) على قطع السبيل على قريش أن تستفيد من المدينة أو من أحد سكانها، حيث حظر على من سكن في المدينة أو يؤوي أحداً من مشركي قريش (1) . ونصت بعض الفقرات في البند ذي الرقم (47) والبند ذي الرقم (42) أن مرد الشجار والتنازع إلى الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. ويفهم من هذا -تصريحاً أو تلميحاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صار بيده زمام الأمور في المدينة، وتولى تصريف شؤونها الداخلية والخارجية. فما من خلاف يحصل من أي قبيلة أو شجار يقع إلا ويرجع فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) . ومن الجدير بالذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعدَّ اليهود أمة واحدة، بل اعتبر كل قبيلة من قبائلها لا علاقة لها بالأخرى، وفي المقابل جعل المسلمين كلهم مهاجرهم وأنصاريهم أمة واحدة وطرفاً واحداً (3) . وبذلك استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم معاقبة كل قبيلة على حِدَة في نقضها للعهد أو قيامها بأعمال مخلة بالأمن (4) . ففي هذا تحقيق لمبدأ العدالة، فحتى لا تؤاخذ قبيلة محافظة على العهد بجريرة قبيلة أخرى نقضت العهد، وهذا ما تم بالفعل، فلم يتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لقبيلة بني النضير أو قريظة حال نقض بني قينقاع عهدهم لبقائهما على   (1) النظام السياسي في الإسلام، محمد عبد القادر أبو فارس ص (139) . (2) النظام السياسي في الإسلام، محمد عبد القادر أبو فارس ص (139) . (3) المصدر السابق بتصرف. (4) النظام السياسي في الإسلام، محمد عبد القادر أبو فارس ص (141) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 عهدهما، ولم يتعرض لقبيلة بني قريظة حال نقض بني النضير عهدهم لبقائهم على عهدهم. فطبَّق الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ العدالة من جهة، ومن جهة أخرى يدل هذا العمل على الحنكة السياسية التي كان يتمتع بها النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا اطمأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الوضع الأمني للمدينة من هجوم القبائل المجاورة لها، ومن فتنة اليهود المتوقعة وإثارتها للفتن والاضطرابات بين أفراد المجتمع المدني، ثم استطاع بعد ذلك وفي فترة وجيزة مواجهة قريش خاصة والتفرغ لها لإنهاكها اقتصاديّاً، فما من قافلة ذاهبة أو قادمة من الشام إلا وتعرض لها بإرسال السرايا أو الخروج إليها بنفسه صلى الله عليه وسلم، ولم يكتف بذلك، بل تعدى خطر المسلمين على تجارة قريش بإرسال السرايا لقوافلها المتجهة إلى الطائف أو القادمة منه مما سبب إزعاجاً كبيراً لقريش، حتى كانت غزوة بدر التي كسرت فيها شوكة قريش لأول مرة وفي أول لقاء بين المسلمين والكفار، وفيها دَوَّى انتصار المسلمين في جميع أرجاء الجزيرة العربية، وقطع دابر القوم الذين كفروا والحمد لله ربِّ العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 المبحث الرابع: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاقتصادية المطلب الأول: في حث الإسلام على العمل والكسب الحلال ... المبحث الرابع: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاقتصادية وفيه مطلبان: المطلب الأول: في حث الإسلام على العمل والكسب الحلال. المطلب الثاني: اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالنواحي الاقتصادية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 المطلب الأول: في حث الإسلام على العمل والكسب الحلال لا شك أن المال عصب الحياة كما يقال، وقد حث الإسلام على العمل والكسب الحلال، قال جل شأنه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ} [الملك:15] . وقال سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى … " (1) . وبما أن الإنسان مأمور بالعمل فلا بد أن يكون كسبه حلالاً حتى يبارك الله له فيه، وإذا أراد الإنسان المسلم تنمية ماله، فلا بد أن يكون خالصاً من الشوائب المحرمة كالربا مثلاً، فإنّه ممحق البركة {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إن الله طيّب لا يقبل إلا طيباً … " (2) . فالإسلام دين متكامل في كل شيء وليس للتواكل فيه مكان، فهو يحث على العمل في كل وقت إلى يوم القيامة، ومما يؤكد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة (3) ، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل" (4) ، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع   (1) البخاري، رقم (1427) ، وأحمد (24/42) رقم (15326) تحقيق الأرناؤوط وآخرين. (2) صحيح مسلم حديث رقم (1015) . (3) الفسيلة: النخلة الصغيرة، القاموس المحيط للفيروزآبادي، مادة: فسل. (4) مسند أحمد (20/296) رقم الحديث (12981) تحقيق الأرناؤوط وآخرين، وسنده صحيح كما قال المحقق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" (1) . فهذه توجيهات نبوية وحث كريم للعمل على إعمار الأرض بالزرع حتى يأكل منه الإنسان والطير والحيوان، وإذا كان الإنسان قد أمر بالعمل وابتغاء الرزق، فإنّه قد أمر بالاقتصاد في ذلك، قال جل شأنه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] . فعدم الإسراف في الشيء يُنمي الاقتصاد، وهو من الأمور المهمة التي عالجها الإسلام مبكراً وهي نبراس لمن أراد العمل والكسب الحلال، وإذا أراد الإنسان المسلم أن ينفع نفسه وأمته فليأخذ بالتوجيهات الربانية في عدم الإسراف، وأيضاً عدم التقتير على حد قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29] . ومما يجب التنبيه له أن الإسلام الذي يأمر بإحياء الأرض ينهى أيضاً عن الغلو في ذلك والإسراف فيه، فمن صرف همّه ووقته وجهده في البحث عن المال فحسب فهو غالٍ في عمله هذا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة (2) ، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سَلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزع حتى ترجعوا إلى دينكم" (3) . ومن هنا نستطيع أن نفهم أن الحديث يحث على العمل، وفي الوقت نفسه يحذر من الإسراف فيه مع ترك الجهاد، لكن إذا كان هذا العمل يخدم المصالح الإسلامية من إعداد العدة للعدو، وإسعاد الآخرين فلا بأس.   (1) مسند أحمد (21/88) رقم (13389) تحقيق الأرناؤوط، وسنده صحيح. (2) العِينَة: أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. النهاية (3/333) . (3) أخرجه أبو داود في السنن رقم (6462) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (2956) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 المطلب الثاني: اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالنواحي الاقتصادية أدت هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة إلى زيادة الأعباء الاقتصادية الملقاة على عاتق أهل المدينة (1) . إلا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم عالج ذلك بنظام المؤاخاة الذي شرعه بين المهاجرين والأنصار حيث كان من بنوده أن يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه، وتقبل الأنصار رضي الله عنهم ذلك تقبّلاً حسناً، واستمر الحال كذلك حتى نسخ التوارث بعد معركة بدر بنزول الآية الكريمة: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75] (2) . وعندما نقض بنو النضير العهد وأجلاهم إلى خيبر، كانت أموالهم خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فقسمها صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، ولم يعط للأنصار شيئاً إلا سماك بن خرشة -أبا دجانة- وسهل بن حُنيف؛ لأنّهما كانا من أشدّ الأنصار فقراً (3) ، وكان إعطاء تلك الأموال للمهاجرين عن طيب خاطر الأنصار، وبذلك تحسنت الظروف الاقتصادية عند المسلمين في المدينة، وتقاربت مستويات المعيشة بين الأنصار والمهاجرين. وبما أن زراعة الأرض كانت من أهم الموارد في العصر النبوي -أو على   (1) في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية جـ (2) ، الحياة الاقتصادية في صدر الإسلام، محمد ضيف الله بطاينة ص (10) . (2) انظر: البخاري رقم (2048) ، وتفسير ابن كثير (4/63) . (3) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (3/471-472) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الأقل في بداية العصر النبوي- فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على استغلالها جيداً حتى يكثر الإنتاج ليسد حاجة الناس، فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم بستان نخل للأنصار، فوجدهم يؤبرونه، فقال:"ماذا لو تركوه؟ " فترك القوم تأبير النخل فلم تحمل ذلك العام، فراجعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "عليكم بما كنتم تصنعون، فإنما قلت لكم ولا أعلم" (1) . وقد استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من هذه التجربة فجعل إصلاح الأرض إلى أهلها، وبهذا يعلم أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذ بها، ولا يحول دون الاستفادة من تجارب الغير شيء أبداً، ولذلك لما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم خيبر أقرهم على إصلاح الأرض وزراعتها على أن يكون ثمرها بينه وبين أهلها بالتساوي (2) . وانتعش الاقتصاد في المدينة، وزاده انتعاشاً إقامة الأسواق التجارية في المدينة، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة سوق مجاور للبقيع (3) ، ثم نقلها إلى غربي المسجد النبوي (4) . وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الأسواق وما يجري فيها من بيع وشراء، ومراقبة ذلك مراقبة شديدة، حتى لا تجلب إليه البضاعة الرديئة إلا إذا عُرِّفت، وإذا عرف عن هذه الأسواق عدم التطفيف في الكيل، وعدم الغش والكذب والخداع أتاه الناس من كل صوب. وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم ضوابط كثيرة للبيع والشراء والسلع المستوردة، كل   (1) الخراج ليحيى بن آدم ص (114) . (2) ابن إسحاق (ابن هشام) (2/356-357) بسند مرسل. (3) وفاء الوفاء للسمهودي (2/747-748) . (4) البلاذري، فتوح البلدان (1/15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ذلك مبثوث في كتب الفقه. هذا، بالإضافة إلى ما كان يأتي المسلمين من غنائم وزكاة وخراج، حتى تحول المجتمع المدني خاصة في أواخر العهد النبوي إلى مجتمع يمكن أن يكون قد استغنى عن الآخرين بما عنده. ومما يجدر ذكره أن المسلمين بالإضافة إلى بيعهم وشرائهم في أسواقهم الخاصة إلا أنهم كانوا يعرضون بضاعتهم في أسواق اليهود (1) ، كما أن اليهود أيضاً كانوا يشاركون المسلمين في أسواقهم بالبيع والشراء بالبضائع التي لا يجيدها غيرهم كأنواع الأسلحة وأنواع الحُلي، ولا سيما بنو قينقاع الذين اشتهروا بذلك. ويستفاد من هذه المعاملات التجارية بين المسلمين واليهود، أن للمسلمين شراء ما يستفيدون منه من اليهود وغيرهم وبخاصة الأسلحة.   (1) البخاري، رقم (2048) ، وابن هشام (2/47-48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 المبحث الخامس: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية العسكرية المطلب الأول: في الغاية من إنشاء الجيوش العسكرية ... المبحث الخامس: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية العسكرية وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: في الغاية من إنشاء الجيوش العسكرية. المطلب الثاني: في الضوابط التي وضعها الشارع للجيش الإسلامي المطلب الثالث: الاهتمام باقتناء السلاح المطلب الرابع: في التنظيم العملي للجيش الإسلامي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 المطلب الأول: في الغاية من إنشاء الجيوش العسكرية تختلف الغايات والأهداف في إنشاء الجيوش العسكرية عند الدول، فمنها: إنشاء الجيوش لحماية الدولة من التدخل الأجنبي فحسب، ومنها إنشاؤها لحماية المقدرات والمكتسبات، ومنها التعدي على الآخرين لزيادة نفوذ الدولة والسيطرة على أكبر قدر ممكن من الأرض؛ وذلك لأطماع اقتصادية في الغالب، ويرجع هذا كله إلى طبيعة تكوين الدول وقوة جيشها وتسليحه … إلخ. وأغلب أهداف كثير من الدول غير شرعية وغير قانونية، وغالباً عند نشوب القتال بين بعض هذه الدول لتحقيق بعض الأهداف السياسية والاقتصادية تكون غير واضحة المعالم لجيشها، ويجهل ما يقاتل من أجله، شأنه في ذلك شأن قتال القبائل العربية قبل الإسلام؛ لأنَّ الهدف في الجملة محدود ودنيوي بحت؛ لذلك يسود القوي ويستعلي على الآخرين، لكن تبقى الاضطرابات مستمرة ولا يستقر الأمن أبداً حتى تسقط تلك الدولة، وتأتي على إثرها أخرى … لكن إنشاء الجيش الإسلامي تختلف أهدافه تماماً، فغاياته سامية، وغرضه نبيل، فالغرض ديني بحت لنشر الإسلام وإقامة شرع الله في الأرض لا لشيء آخر {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء:71] ، ولكن لهذا القتال ضوابط ستأتي في المطلب الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 المطلب الثاني: في الضوابط التي وضعها الشارع للجيش الإسلامي مما يدل على أن الدين الإسلامي دين العدل والرحمة والمساواة تلك الضوابط التي وضعها الشارع على الجيوش الإسلامية، وهي ضوابط وقيود خاصة لا يشاركه فيها أي جيش في العالم، والسيرة النبوية مليئة بذلك، فلا قتال دون سابق إنذار إلا لمن بلغتهم الدعوة، ولا قتال يتسم بالعنف الهمجي الذي يجهز على إزهاق الأنفس بحق وبغير حق. عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش، أو سريّة أوصاه في خاصته بتقوى الله عز وجل، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: "اغزُوهم باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر، اغزوهم فلا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال – أو خلال – فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام … " الحديث (1) . قال النووي رحمه الله: ((وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها، وهي تحريم الغدر، وتحريم الغلول، وتحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا، وكراهية المثلة، واستحباب وصية الإمام أمراءه وجيوشه بتقوى الله تعالى والرفق بأتباعهم وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم وما يجب عليهم ويحل لهم وما يحرم عليهم وما يكره وما يستحب)) (2) .   (1) صحيح مسلم، رقم الحديث (1731) . (2) شرح النووي على مسلم (12/37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فهذه الوصايا الجامعة الشاملة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليست لجيشه فقط، وإنما هي للأمة الإسلامية عامة، فمن تمسك بهذه الضوابط كان الفلاح والنصر حليفه إن شاء الله. وهناك أمثلة أخرى كثيرة، لكن المقام لا يتسع لذكرها، منها قصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع أهل خيبر (1) ، وقصة معاذ بن جبل رضي الله عنه مع أهل اليمن (2) … إلخ.   (1) مسلم، رقم الحديث (2404) . (2) البخاري، رقم الحديث (4347) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 المطلب الثالث: الاهتمام بافتناء السلاح ... المطلب الثالث: الاهتمام باقتناء السلاح كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرك أن قوة السلاح لها أثرها البالغ في إحباط معنويات العدو، ولذلك اهتم صلى الله عليه وسلم باقتناء السلاح، فقد صالح صلى الله عليه وسلم بني النضير عندما أجلاهم إلى خيبر أن لهم ما أقلَّت الإبل من الأمتعة إلا السلاح (1) . وحرص أيضاً على شرائها، فقد أرسل صلى الله عليه وسلم مع سعد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه بعضاً من سبايا بني قريظة وأمره أن يبيعهم من أهل نجد، ويشتري بالثمن خيلاً وسلاحاً (2) . كما صالح صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على أن يُخَلُّوا بينه وبين الصفراء والبيضاء والحلقة … (3) ، واستعار صلى الله عليه وسلم أدرعاً من صفوان بن أمية يوم حنين (4) .   (1) مصنف عبد الرزاق (5/358) رقم (9733) . (2) ابن إسحاق (ابن هشام) (2/245) بدون إسناد. (3) سنن أبي داود رقم (3006) وحسنه الألباني، انظر: صحيح سنن أبي داود (2/583-584) . (4) أخرجه أحمد في المسند (24/12) رقم (15302) ، وأبو داود رقم 03562) ، وقد صححه العلامة الألباني، انظر: إرواء الغليل (5/244) رقم (1513) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وحثّ عليه الصلاة والسلام المسلمين في غزوة تبوك، فقال عليه الصلاة والسلام:"من جهّز جيش العسرة فله الجنة ". فجهزه عثمان رضي الله عنه (1) . وهذا يدلّ دلالة واضحة على أنّ الجندي المسلم لا بد أن يقتنى السلاح ليكون على أُهبة الاستعداد، وفتّاكاً ليرهب به الأعداء، وذلك على ضوء قوله جل شأنه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] . وحشد الجيوش والعتاد الحربي لمجابهة العدو لاتكفي، فلا بد من وجود القوة المعنوية المتمثلة في غرس العقيدة الصحيحة في نفس المسلم، وأن يكون القتال لإعلاء كلمة الله، فلا قتال لحسَب ولا لمال ولا لجاه "مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" (2) . فهذه من الأمور المهمة التي لا بد أن يدركها الجندي المسلم في كل زمان ومكان.   الألباني، انظر: إرواء الغليل (5/244) رقم (1513) . (1) البخاري مع الفتح (5/406-407) ، رقم (2778) . (2) البخاري، رقم الحديث (123) ، ومسلم/ حديث رقم (1904) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 المطلب الرابع: في التنظيم العملي للجيش الإسلامي من الأشياء العجيبة تلك التنظيمات التي كان يتبعها النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك السياسة التي كان ينتهجها عليه الصلاة والسلام في غزواته. 1- فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزو العدو جعل أميراً على المدينة يخلفه عليها حتى يرجع (1) ، وإذا أرسل سرية أمَّر عليهم رجلاً منهم (2) . وهذا يدل على أهمية وجود الأمير في السلم والحرب، وأنّ الأمور لا تنضبط إلا بوجوده. 2- من سياسته العسكرية عليه الصلاة والسلام أنّه لا يريد غزوة إلاّ ورَّى (3) بغيرها (4) ، حتى يباغت الأعداء ويأخذهم على حين غِرَّة، وهذا في حالة إنذارهم من قبل، أما مباغتتهم بدون إنذار فلا، وذلك كتصبيحه صلى الله عليه وسلم بني النضير (5) ، وإخفاء خروجه صلى الله عليه وسلم لفتح مكة وغيرهما (6) . 3- كانت للنبي صلى الله عليه وسلم رايات يحملها جماعة من أصحابه، فقد كانت للمهاجرين راية، وللأنصار رايتان واحدة للأوس، وأخرى للخزرج (7) .   (1) صحيح مسلم، رقم الحديث (1731) . (2) الطبقات الكبرى لابن سعد (2/8، و2/9، 2/12) وغيرها. (3) ورَّى بغيرها: أي أوهم غيرها، والتورية: أن يذكر لفظاً يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر، فيوهم إرادة القريب وهو يريد البعيد، فتح الباري للحافظ ابن حجر (8/117) . (4) صحيح البخاري، رقم (4418) . (5) انظر: مصنف عبد الرزاق (5/358) وما بعدها، رقم الحديث (9733) . (6) انظر: البخاري، رقم الحديث (4274) . (7) انظر في أمر الألوية والرايات: سنن الترمذي (3/115) ، وفتح الباري (7/477) ، والتراتيب الإدارية للكتاني (1/320) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 والهدف من حمل الرايات -والله أعلم- التميّز عن الغير، هذا من جهة، ومن جهة أخرى حتى تقاتل كل فئة تحت رايتها فتستميت دونها، وحتى لا تأتي الهزيمة من قِبَلها، وبما أنّ حامل الراية هو الأكثر عرضة للقتل، فلا بد أن يكون متصفاً بالشجاعة والإقدام؛ لأنّ الراية إذا سقطت انهار الجيش. وقد كانت بعضُ راياتِ النبي مكتوباً عليها: لا إله إلا الله (1) . وهذا يدلّ على أنّ العبارات الإسلامية التي تكتب اليوم على الأعلام لها أصل في السيرة النبوية. 4- كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استنفر الناس وتجهزوا استعرضهم حتى لا يخرج معه إلا من كان قادراً على القتال، فكان صلى الله عليه وسلم لا يسمح باصطحاب الغلمان، والعجزة كما حصل في غزوة أحد (2) ، ولا يسمح للمشركين بالقتال مع المسلمين جنباً إلى جنب (3) . وهذا يدل على أخذ الحيطة والحذر؛ لأنّ المشركين يخشى منهم الغدر والخيانة وهم مظنة ذلك مع إخوانهم المنافقين. 5- كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا وصل أرض المعركة اتخذ له مكاناً مناسباً وجعل جيشه في صفوف حتى لا يخترق، ثم يوصيهم بتقوى الله والصبر والسمع والطاعة، وكان يجعل لهم شعاراً يعرف به بعضهم بعضاً، وهذا الشعار يكون في كلمة أو كلمتين، مثل الشعار الذي كان لهم في غزوة بني المصطلق   (1) فتح الباري (7/477) . (2) البخاري، رقم (4097) ، ومسلم، حديث رقم (1868) . (3) صحيح مسلم، رقم (1817) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ((يا منصور أَمِتْ)) (1) . لأنّ بعض المقاتلين لا يعرف بعضهم بعضاً من تغطية السلاح لأشياء كثيرة من أجسادهم ووجوههم، فقد لا ترى إلا الحدق -العيون- منهم، فحتى لا يضرب بعضهم بعضاً كانت هذه الشعارات، وهي متوارثة بين الجيوش في هذا الزمن، لكن كلمة السر تختلف بالطبع من بلد إلى آخر. 6- مشاورة أصحابه صلى الله عليه وسلم: كان عليه الصلاة والسلام يتخذ كل التدابير وكافة الاحتياطات للعدو، من ذلك مشاوراته لأصحابه مما يجعل الجندي قريباً من الأمير، وفي هذه الحالة يمكن للجندي أن يشارك في صنع بعض القرارات العسكرية ويشير بما يراه، ومن ذلك إشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب (2) . وهذا العمل لم يكن معروفاً عند العرب، ولذلك تفاجأت قريش ومن معها عندما رأت الخندق حول المدينة. 7- أيضاً كانت الحرب الإعلامية لها دور كبير، وإن لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة التي في زمننا، لكنها قريبة منها، وذلك كقصة نعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه في غزوة الخندق عندما خذَّل بين الفريقين المشركين واليهود من بني قريظة بطريقة معينة (3) أدت إلى فشل خطة الفريقين وبالتالي ساهمت في هزيمتهم بفضل الله تعالى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:   (1) المعجم الأوسط للطبراني (6/134-135) رقم (6015) عن سنان بن وبرة، قال: ((كنا مع النبي (في غزوة المريسيع … )) فذكره. (2) الطبقات الكبرى لابن سعد (2/66) معلقاً. (3) انظر تفصيل ذلك في مصنف عبد الرزاق (5/368-369) من طريق الزهري عن ابن المسيب مرسلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 "الحرب خُدعة" (1) . 8- كان النبي عليه الصلاة والسلام يحاول جاهداً معرفة العدو وما يتعلق به من عدة وعتاد، وذلك بإرسال الجواسيس كما حصل في غزوة بدر الكبرى (2) ، وغزوة الخندق (3) ، وبني قريظة (4) ، وغيرها. فمن خلال تلك التنظيمات والتعليمات السائدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن الاستفادة منها في هذا العصر وفي كل عصر، مع الأخذ بعين الاعتبار الاستفادة من التقنيات الحديثة في الكشف عن مخططات الأعداء، وكل ما يتعلق بتنظيماتهم ومخططاتهم ضد الإسلام والمسلمين، فلها أصل أصيل في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. وبهذا يتضح جليّاً أهمية دراسة السيرة النبوية في حياة المسلمين وضرورة العناية بها، وإن كان الموضوع فيه نقص كبير، فالسيرة النبوية هي لُبُّ الإسلام، ولا يمكن أن يفي هذا البحث المتواضع بجميع جوانبها، لكن ذلك جهد المقل، وإلا فالسيرة النبوية معين لا ينضب، وبحر لا تكدِّره الدلاء، والله المستعان، والحمد لله ربِّ العالمين.   (1) البخاري، رقم (3029) ، ومسلم حديث رقم (1740) . (2) صحيح مسلم، حديث رقم (1779) . (3) صحيح مسلم، حديث رقم (1788) . (4) البخاري، حديث رقم (4113) ، ومسلم، حديث رقم (2415) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الخاتمة : الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فأحمد الله عز وجل على إعانته لي لإتمام هذا البحث المتواضع، والذي من خلاله اتضح لي الحاجة الماسة والكبيرة جدّاً لدراسة السيرة النبوية، كيف لا، وقد حوت حياة النبي صلى الله عليه وسلم وما قدم فيها من تضحيات في العهد المكي وتبعها العهد المدني، والذي تجلت فيه شخصيته صلى الله عليه وسلم بشكل واضح، في شتى مجالات الحياة، فكانت أعماله نبراساً للأمة تستضيء بنورها، وترشف من معينها الذي لا ينضب، فلا تبحث عن شيء من مناحي الحياة إلا وله أصل في سيرته صلى الله عليه وسلم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا نعمة الأمن والإيمان تحت قيادة هذه الحكومة المباركة، وأن يجنبنا مسالك السوء، وأن يرينا الحق حقّاً، ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53