الكتاب: منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب المؤلف: عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن عثمان آل معمر (المتوفى: 1244هـ) عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب عبد العزيز بن حمد آل معمر الكتاب: منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب المؤلف: عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن عثمان آل معمر (المتوفى: 1244هـ) عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] كتاب منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب [محققا] تأليف العلامة الشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن معمر 1203 هـ - 1244 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أرسل رسوله محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، فصدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وبددهم تبديدا: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} . تفرد بالخلق والتصوير، ويبده الأمر والتدبير، وإليه القضاء والتقدير، فلا يملك أحد من دونه قطميرا: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، تعالى الملك الجبار: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . تفرد بالربوبية في قدمه، وظهرت سمات العبودية على من سوى ذي الجلال والإكرام: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله على حين فترة من الرسل ودروس السبل، وقد مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، فهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي والارتياب، ففتح برسالته أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فاستنارت لها الطرق، وانفتحت الأبواب، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، ففتح القلوب بالإيمان والقرآن. وجاهد أعداء الله باليد والقلب واللسان، ودعا إلى الله على بصيرة جميع العباد إلى أن أشرقت برسالته الأرض بعد ظلامها أي إشراق، وتألفت به القلوب بعد شتاتها والافتراق، وسارت دعوته مسير الشمس في الأقطار، وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار، واستجابت القلوب لدعوته الحق طوعا وإذعانا، وامتلأت بعد خوفها وكفرها أمنا وإيمانا، فجزاه الله عن أمته خير الجزاء، وصلى الله عليه صلاة تملأ أقطار الأرض والسماء، وعلى إخوانه من الرسل والأنبياء وعلى آل كل، وأصحاب كل والأولياء. وبعد: فقد سألني بعض الإخوان -أيدهم الله تعالى بروح منه، وكتب في قلوبهم الإيمان والفهم عنه- أن أكتب جوابا عن أباطيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الكتاب الذي صنفه بعض الضالين من النصارى الجهلة المغالين، وسماه " مفتاح الخزائن ومصباح الدفائن "، وضمن بعض فصوله الرد على المسلمين والاعتراض على نبوة سيد المرسلين، وقد بث منه النصارى نسخا كثيرة، ليلبسوا الأمر على ضعفاء البصيرة، ويلقوا عليهم الشكوك والشبهات بما لفقوه من أباطيل الترهات: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} . وقد وفى -سبحانه- بما وعد، وأظهر دينه على رغم من كفر وجحد، فأظهره بالحجة والبيان، ونصره بالسيف والسنان، وأيد أهله على سواهم، ونصرهم بالحجة على من ناوأهم، كما أظهرهم بالسيف على من كانوا له يحاربون، وذلك مصداق قوله تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وأيد رسوله وأتباعه بالحجج الصحيحة العلمية، والبراهين القاطعة العقلية والنقلية بما لم يبق بعده للمخالف إلا محض العناد، وحينئذ فالدواء الشافي من هذا الداء سيف الجهاد، وكفى لمن جانب جانب الاعتساف، وسلك طريق العدل والإنصاف ما تضمنه القرآن العربي المبين من البينات والحجج والبراهين، فهو الشفاء النافع لمن استشفى، والكفاية التامة لمن به استكفى، وهو الهدى والنور وشفاء وسوسة الصدور، وهو الكفيل بالانتصار على المبطلين لمن كان به خبيرا. كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} ، فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما يبطلها ويلقيها من شاهق كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} . وفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 صفة القرآن: «فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} ، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» . ولما كان الله -تعالى- قد أمر رسوله بإقامة الحجة على الكافرين بطريق الجدال، وشرع ذلك في السور المكية والمدنية حتى بعد فرض القتال. كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وأمره بعد إقامة الحجة على النصارى بالمجادلة، أن يدعوهم إلى الملاعنة والمباهلة، فقال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} . فلم يزل صلى الله عليه وسلم في جدال الكفار على اختلاف مللهم، وتباين نحلهم، إلى حين وفاته، وكذلك أصحابه من بعده ومن تبعهم من أئمة الدين وحماته، وبهذا الأمر قام الدين واتضح منهاجه للعابدين، وإنما جعل السيف ناصرا للحجة والبرهان مسهلا طريق البلاغ إلى المكلفين بالسنة والقرآن، وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته، وهو سيف رسوله وأتباعه الذين بذلوا نفوسهم لله ابتغاء مرضاته. فعند ذلك رأيت الإجابة إلى الجواب أولى، فاستعنت بالله، فنعم المعين، ونعم المولى، رجاء الدخول في زمرة المجاهدين والانتظام في مسلك أنصار الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 واعلم أن الكتاب الذي قصدنا الرد لباطله يشتمل على مقالتين: المقالة الأولى منها تنقسم إلى قسمين: الأول: في صحة الشريعة المسيحية. الثاني: في إثبات صحة كتب العهد الجديد، يعني: الأناجيل التي يعتمدها أهل النصرانية. المقالة الثانية تنقسم -أيضا- إلى قسمين: القسم الأول: في الرد على اليهود المكذبين. القسم الثاني: في الرد على المسلمين، وهذا القسم -أرشدك الله لما يرضيه- هو الذي قصدنا الرد عليه فيه. وأما ما قبله من الأقسام فهو إما في صحة رسالة المسيح، وأن دينه دين صحيح، وهذا متفق عليه بين المسلمين قبل التبديل والنسخ بشريعة خاتم النبيين. وإما في الرد على اليهود في كفرهم بالإنجيل، وقولهم بالزور في المسيح ابن البتول. وهذا -أيضا- على الجملة صحيح مقبول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 لكن تلك الأقسام قد ضمنها النصراني -أيضا- باطلا كثيرا، ومزج بها بهتانا وزورا، وسيمر عليك -إن شاء الله- الرد عليه في ذلك ضمن ما كتبناه. وذلك القسم الذي نقضناه يشتمل على خمسة فصول من الكلام؛ فجعلنا الرد عليها في خمسة مقامات، لكل فصل منها مقام، وسميته "منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب". ومن الله نستمد الإعانة على ما أردناه، والتوفيق لإصابة الغرض بما أوردناه، فهو الذي يهدي إلى سواء السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 المقام الأول قال النصراني: "فصل في ابتداء ظهور دين الإسلام: معلوم مشهور مما وجد مسطورا في كتب التواريخ، وأخبار أحوال الزمان أن التقوى الصحيحة الخالصة التي شهرت أولا في المسيحيين حين كانوا مبتلين بأشد البلايا، ومظلومين في غاية الظلم، قد أخذت أن تنقص أولا فأول بعد أن كان بواسطة قسطنطين ومن بعده من الملوك، وصار ذلك الاعتقاد ليس أمنا فقط بل ومكرا". ثم ذكر أن سبب ذلك هو الاختلاف والفتن بين الأساقفة من أجل الرئاسة وعلو المرتبة، إذ قدموا الافتخار بالعلم على تقوى الله، وجعلوا الدين حيلة، وأن ذلك صار سبب اختلاف الأقوال والآراء. قال: "وإذا رأى عامة الناس ذلك لم يدروا ما يختارون لأنفسهم، يلومون الكتب المقدسة كأنها سبب تلك الفتنة، وينفرون عنها كأنها سم زعاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وأما فغالب الأمر قد بدا الدين أن يجعل ليس في طهارة النفس بل في ظاهر السنن، كما صار في اليهودية وفي حفظ الأشياء التي مقصودها تهذيب الأبدان أكثر من صلاح الأنفس بها، وفي السعي في إثبات الدعاوى التي اختاروها. والذي آل الأمر إليه أنه قد وجد في جميع البلاد عدة من المسيحيين اسما، وأقل من القليل حقا وفعلا .... " إلى آخر كلامه الآتي. ونقول - وبالله التوفيق -: حقيقة ما ذكره هو الاعتراف بتبديل النصارى دين المسيح -عليه السلام-، وتغييرهم له، وتفريقهم فيه في تلك الأزمان القريبة من زمن المسيح -عليه السلام-، فهو من الحجج على صحة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، لأنها قد مضت سنة الله في خلقه ببعثة الرسل عند خفاء الحق وظهور الضلال إعذارا وإنذارا: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فأرسل -تبارك وتعالى- الرسل في بني آدم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، كلما درست رسالة رسول وخفيت آثارها بعث رسولا بتجديد الرسالة وإقامة الحجة، إلى أن وصلت النبوة إلى بني إسرائيل، فبعث الله فيهم عبده ورسوله الكريم ونجيه المقرب الكليم موسى بن عمران -عليه الصلاة والتسليم-، وأنزل عليه التوراة فيها هدى ونور، يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، فساسهم موسى -عليه السلام- بسياسة النبوة، وشرع لهم شرائع الدين، وحد لهم حدوده. ثم كانت فيهم الأنبياء بعده تسوسهم بأحكام التوراة وشريعة موسى، ثم حدثت فيهم الأحداث، وتفرقوا في الدين، واتبعوا الأهواء، وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا، وأفسدوا في الأرض، وتعدوا حدود الله، وغيروا دينه، وقتلوا أنبياءه، فسلط عليهم الأعداء مرة بعد أخرى، فجاسوا خلال ديارهم، وتبروا ما علوا تتبيرا. وفي كل ذلك يبعث الله فيهم الأنبياء ويجدون لهم ما درس من الدين ويقيمون ما غيروا، إلى أن كان آخر أنبيائهم عبد الله ورسوله وكلمته عيسى ابن مريم -عليهما السلام-، فجدد لهم الدين، وبين معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده والتبري من الأحداث والآراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الباطلة، فعادوه، وكذبوه، ورموه بالعظائم، وراموا قتله وصلبه فطهره الله، ورفعه، فلم يصلوا إليه بسوء. كما سيأتي تفصيل القصة فيما بعد -إن شاء الله تعالى-. فلما رفع تفرق أتباعه شيعا، فمنهم من آمن بما بعثه الله به، وأنه عبد الله ورسوله، وابن أمته، ومنهم من غلا فيه وتجاوز به حد العبودية إلى منزلة الربوبية والإلهية، وقد حكى الله عنهم في كتابه ثلاث مقالات من الكفر، فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ... . وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} ... . وقال تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} .... . وقد اختلف العلماء في هذه المقالات الثلاث التي ذكرها الله عن النصارى: هل هي مقالات لثلاث طوائف منهم؟ أو أنها مقالة لجميعهم؟ أعني: كفرت النصارى على قولين. والتحقيق الثاني كما سيأتي إيضاحه -إن شاء الله تعالى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 واعلم أن النصارى من أجهل الناس بالعلم الصحيح، وأضلهم في أصول دينهم وفروعه، وهم وإن ادعوا أنهم على دين عيسى -عليه السلام -، وأنهم أتباعه، وعلى شريعته، فقد كذبوا وضلوا ضلالا بعيدا، بل بدلوا دين عيسى وغيروه، ولم يبق بأيديهم منه شيء، وإنما اتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. وسنذكر -بعون الله- ما ذكر علماؤنا الذين هم أهل العلم الصحيح، والعقل الرجيح، والتمييز بين صحيح النقل وسقيمه ومقبوله ومردوده. ما نقل إليهم من أمر هذه الأمة الضالة في ابتداء أمرها، ووصل إليهم علمه من ثقات المخبرين من مؤرخي أهل الكتاب وغيرهم ممن له تمام المعرفة بأيامهم واجتماعهم وافتراقهم. ونبدأ بذكر حديث في ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تيمنا وتبركا، قال الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: حدثنا إسحاق ابن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي قال: حدثنا السري بن عبد ربه، حدثنا بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قال: «قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا ابن مسعود. قلت: لبيك يا رسول الله، قال: علمت أن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة لم ينج منها إلا ثلاث فرق، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم -عليه السلام-، فدعت إلى دين الله، ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة، فقتلت وصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال، فقامت بين الملوك والجبابرة تدعو إلى دين الله، ودين عيسى ابن مريم، فقتلت، وقطعت بالمناشير، وحرقت بالنيران، فصبرت ونجت. ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال، ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال، فتعبدت، وترهبت، وهم الذين ذكرهم الله -عز وجل- بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} » . ورواه ابن جرير وأبو يعلى من طريق أخرى. وقال ابن كثير: روي عن قتادة قال: "اجتمع بنو إسرائيل، فأخرجوا أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فقال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض، فأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية. فقال الثلاثة: كذبت، ثم قال الاثنان منهم للثالث: قل أنت، قال: هو ابن الله، وهم النسطورية. فقال الاثنان: كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه، قال: هو ثالث ثلاثة: الله إله، وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى. فقال الرابع: كذبت. هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته، وهم المسلمون. فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا، فاقتتلوا، فظهروا على المسلمين. وذلك قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} .... . قال قتادة: وهم الذين قال الله فيهم: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} .... . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وعن عروة بن الزبير عن بعض أهل العلم قريبا من ذلك. قال ابن كثير بعد أن ذكر مقالاتهم الثلاث: فاستمروا كذلك قريبا من ثلاثمائة سنة. ثم نبغ فيهم ملك من ملوك اليونان يقال له: قسطنطين، فدخل في دين النصرانية، قيل: حيلة؛ ليفسده، فإنه كان فيلسوفا، وقيل: جهلا منه. إلا أنه بدل دين المسيح، وحرفه، وزاد فيه ونقص، ووضعت له القوانين والأمانة الكبيرة، بل هي الخيانة الحقيرة، وصلوا له إلى المشرق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وصور لهم الصور، وبنى لهم الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح دين قسطنطين، لأنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، وتبعته طائفته الملكية منهم. وأخرج النسائي في سننه وابن جرير في تفسيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 كانت ملوك بعد عيسى -عليه السلام- بدلوا التوراة والإنجيل، وكان بينهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل، فقيل لملوكهم: ما نجد شتما أشد من شتم يشتمونا هؤلاء، إنهم يقرؤون: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . مع ما يعيبونا به في أعمالنا في قراءتهم، فادعهم، فليقرؤوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما نؤمن. فدعاهم، فعرض عليهم القتل، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا فيها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك، دعونا. فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانا، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا، ولا نرد عليكم. وقالت طائفة منهم: دعونا نسيح في الأرض، ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وقالت طائفة: ابنوا لنا دورا في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحترث البقول، ولا نرد عليكم، ولا نمر بكم، وليس أحد من القبائل إلا وله فيهم حميم. ففعلوا ذلك، فأنزل الله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} ... . وآخرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته، وجاء رجل من سياحته، وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدقوه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} ، يعني: أجرين بإيمانهم بعيسى -عليه السلام- وبالتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وتصديقهم {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} القرآن واتباعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال - {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الذين يتشبهون بكم: {أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وقد ذكر الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن القيم طرفا من شرح هذه الجملة، وأن دين المسيح تناسخ واضمحل. قال: ولم يبق بأيدي النصارى منه شيء، بل ركبوا دينا بين دين المسيح ودين الفلاسفة عباد الأصنام، وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يدخلوا في النصرانية. فنقلوهم من عبادة الأصنام المجسدة إلى الصور التي لا أصل لها، ونقلوهم من السجود للشمس إلى السجود إلى جهة المشرق، ونقلوهم من القول باتحاد العاقل والمعقول والعقل، إلى القول باتحاد الآب والابن وروح القدس. هذا ومعهم بقايا من دين المسيح كالختان، والاغتسال من الجنابة، وتعظيم السبت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة إلا ما أحل لهم بنص الإنجيل، ثم تناسخت الشريعة إلى أن استحلوا الخنزير، وأحلوا السبت، وعوضوا منه يوم الأحد، وتركوا الختان والاغتسال من الجنابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وكان المسيح يصلي إلى بيت المقدس، فصلوا هم إلى المشرق، ولم يعظم المسيح صليبا قط، فعظموا هم الصليب وعبدوه، ولم يصم المسيح صومهم هذا أبدا، ولا شرعه، ولا أمر به ألبتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 بل هم وضعوه على العدد ونقلوه إلى زمن الربيع، فجعلوا ما زادوا فيه من العدد عوضا عن نقله من الشهور الهلالية إلى الشهور الرومية، وتعبدوا بالنجاسات. وكان المسيح في غاية الطهارة والطيب والنظافة، وأبعد الخلق عن النجاسة، فقصدوا بذلك تغيير دين اليهود ومراغمتهم، فغيروا دين المسيح، وتقربوا إلى الفلاسفة عباد الأصنام بأن وافقوهم في بعض الأمر، ليرضوهم به، وليستنصروا بذلك على اليهود. ولما أخذ دين المسيح في التغير والفساد اجتمعت النصارى عدة مجامع تزيد على ثمانين مجمعا. ثم تفرقوا على الاختلاف والتلاعن يلعن بعضهم بعضا، حتى قال فيهم بعض العقلاء: لو اجتمع عشرة من النصارى يتكلمون في حقيقة ما هم عليه لتفرقوا عن أحد عشر مذهبا. حتى جمعهم قسطنطين الملك آخر ذلك من الجزائر والبلاد وسائر الأقطار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فجمع كل بترك وأسقف وعالم، فاختار منهم ثلاثمائة وثمانية عشر. فقال: أنتم اليوم علماء النصرانية وأكابر النصارى، فاتفقوا على أمر تجتمع عليه كلمة النصرانية، ومن خالفه لعنتموه، وحرمتموه. فقاموا وقعدوا وفكروا وقدروا، واتفقوا على وضع الأمانة التي بأيديهم اليوم، وذلك سنة خمس عشرة من ملك قسطنطين. وكان سبب ذلك أن بطريق الإسكندرية منع أريوس من دخول الكنيسة ولعنه. فخرج أريوس إلى قسطنطين الملك مستعديا عليه ومعه أسقفان، فشكوه إليه، وطلبوا منه مناظرته بين يدي الملك. فاستحضر الملك، وقال لأريوس: اشرح مقالتك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فقال أريوس: أقر أن الآب كان إذ لم يكن الابن، فكان له إلا أنه محدث مخلوق، ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة. فكان هو خالق السماوات والأرض وما بينهما، كما قال في إنجيله إذ يقول: (وهب لي سلطانا على السماء والأرض) فكان هو الخالق لهما بما أعطي من ذلك. ثم إن تلك الكلمة بعد اتحدت من مريم العذراء ومن روح القدس، فصار ذلك مسيحا واحدا. فالمسيح إذن معنيان: كلمة وجسد، إلا أنهما جميعا مخلوقان. فقال بطريق الإسكندرية: خبرنا أيما أوجب علينا عندك: عبادة من خلقنا، أو عبادة من لم يخلقنا؟. فقال أريوس: بل عبادة من خلقنا. فقال: فعبادة الابن الذي خلقنا وهو مخلوق أوجب من عبادة الآب الذي هو ليس بمخلوق، بل تصير عبادة الآب الخالق كفرا، وعبادة الابن إيمانا. فاستحسن الملك والحاضرون مقالته، وأمرهم الملك أن يلعنوا أريوس ومن يقول بمقالته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فلما انتصر البطريق، قال للملك: استحضر البطارقة والأساقفة حتى يكون لنا مجمع، ونضع قصة نشرح فيها الدين، ونوضحه للناس، فحشرهم قسطنطين من سائر الآفاق، فاجتمع عنده بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفا، وكانوا مختلفي الآراء متباينين في أديانهم. فلما اجتمعوا كثر اللغط بينهم، وارتفعت الأصوات، وعظم الاختلاف، فتعجب الملك من شدة اختلافهم، فأجرى عليهم الأنزال، وأمرهم أن يتناظروا حتى يعلم الدين الصحيح مع من منهم، فطالت المناظرة بينهم، فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على رأي واحد، فناظروا بقية الأساقفة، وظهروا عليهم. فعقد الملك لهؤلاء الثلاثمائة مجلسا خاصا، وجلس في وسطه، وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه، ودفعه إليهم، وقال لهم: (قد سلطتكم على المملكة، فاصنعوا ما بدا لكم مما فيه قوام دينكم، وصلاح أمتكم) . فباركوا عليه، وقلدوه سيفه، وقالوا له: أظهر دين النصرانية وذد عنه. ودفعوا إليه الأمانة التي اتفقوا على وضعها، فلا يكون عندهم نصرانيا من لم يقر بها، ولا يتم له قربان إلا بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وهي هذه: (نؤمن بالله الواحد الآب، خالق كل شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابنه الأحد بكر الخلائق كلها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق من جوهر أبيه. وهو الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء، الذي من أجلنا -معشر الناس- ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا، وحمل به، ثم ولد من مريم البتول، وألم وشج، وقتل وصلب ودفن، وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحق الصادر من الآب والابن، الذي يتكلم على ألسنة الأنبياء، وبمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وبكنيسة واحدة جامعة رسولية، وبقيامة أبداننا والحياة الدائمة إلى أبد الآبدين) . فهذا هو العقد الذي أجمع عليه الملكية، والنسطورية، واليعقوبية، وهذه الأمانة هي الأمانة التي ألفها أولئك البتاركة والأساقفة والعلماء، وجعلوها شعار النصرانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وكان رؤساء هذا المجمع: بترك الإسكندرية، وبترك أنطاكية، وبترك بيت المقدس، فافترقوا عليها، وعلى لعن من خالفها، والتبري منه، وتكفيره. ثم ذهب أريوس يدعو إلى مقالته، وينفر النصارى عن أولئك الثلاثمائة، فجمع جمعا عظيما، وصار إلى بيت المقدس، وخالف بكثير من النصارى لأولئك المجمع، فلما اجتمعوا قال أريوس: إن أولئك النفر تعدوا علي، وظلموني، ولم ينصفوني في الحجاج، وحرموني ظلما وعدوانا. فوافقه كثير من الذين معه، وقالوا: صدق. فوثبوا عليه، فضربوه حتى كاد أن يقتل لولا أن ابن أخت الملك خلصه. وافترقوا على هذه الحال. ثم كان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الأول اجتمع الوزراء والقواد إلى الملك، وقالوا: إن مقالة الناس قد فسدت، وغلب عليهم مقالة أريوس، فاكتب إلى جميع البتاركة والأساقفة أن يجتمعوا، ويوضحوا دين النصرانية، فكتب الملك إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 سائر بلاده، فاجتمع بقسطنطينية خمسمائة وخمسون أسقفا. وكان مقدموهم بترك الإسكندرية وبترك أنطاكية وبترك بيت المقدس، فنظروا في مقالة أريوس، وكان من مقالته: (أن روح القدس مخلوق، مصنوع، ليس بإله، وليس روح الله) . فقال بترك الإسكندرية: ليس لروح القدس عندنا معنى غير روح الله، وليس روح الله شيئا غير حياته، فإن قلنا: إن روح الله مخلوقة، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة، فقد جعلناه غير حي، ومن جعله غير حي فقد كفر، ومن كفر فقد وجب عليه اللعن. فلعنوا بأجمعهم أريوس وأشياخه، وأتباعه، والبتاركة الذين قالوا بمقالته، وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق، إله حق من طبيعية الآب والابن، جوهر واحد، وطبيعة واحدة، وزادوا في الأمانة التي وضعتها الثلاثمائة وثمانية عشر: (ونؤمن بروح القدس الرب المحيي الصادر من الآب والابن الذي يمجد ويعبد مع الابن والآب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وكان في الأمانة الأولى: (بروح القدس) فقط. وبينوا أن الآب والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم، وثلاثة وجوه، وثلاثة خواص، وحدة في تثليث، وتثليث في وحدة. وزادوا ونقصوا في الشريعة، وأطلق بترك الإسكندرية للرهبان والأساقفة والبتاركة أكل اللحم. وكانوا على مذهب (ماني) لا يرون أكل ذوات الأرواح، فانفض هذا المجمع وقد لعنوا فيه أكثر أساقفهم وبتاركتهم، ومضوا على تلك الأمانة. ثم كان لهم مجمع رابع، بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع على نسطورس، وكان مذهبه: (أن مريم ليست بوالدة الإله على الحقيقة، ولكن ثمة اثنان: الإله الذي هو موجود من الآب، والآخر الإنسان الذي هو موجود من مريم، وأن هذا الإنسان الذي نقول: إنه المسيح متوحد مع أب الإله، وابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الإله ليس ابنا على الحقيقة، ولكن على سبيل الموهبة، والكرامة واتفاق الاسمين) . فبلغ ذلك بتاركة سائر البلاد، فجرت بينهم مراسلات، واتفقوا على تخطئته، واجتمع منهم مائتا أسقف في مدينة "أفسس"، وأرسلوا إلى نسطورس للمناظرة، فامتنع ثلاث مرات، فأوجبوا عليه الكفر، ولعنوه، ونفوه، وحرموه، وثبتوا: أن مريم ولدت إلها، وأن المسيح إله حق، وإنسان معروف بطبيعتين، متوحد في الأقنوم. فلما لعنوا نسطورس غضب له بترك أنطاكية، فجمع أساقفته الذين قدموا معه، وناظرهم، فقطعهم، فتقاتلوا، ووقع الحرب والشر بينهم، وتفاقم أمرهم، فلم يزل الملك حتى أصلح بينهم، فكتب أولئك صحيفة بـ (أن مريم القديسة ولدت إلها، هو ربنا يسوع المسيح الذي هو مع أبيه في الطبيعة، ومع الناس في الناسوت) . وأنفذوا لعن نسطورس. فلما نفي نسطورس سار إلى أرض مصر، وأقام بأخميم سبع سنين، ومات بها، ودرست مقالته، إلى أن أحياها ابن صرما -مطران نصيبين -، وبثها في بلاد المشرق، فأكثر نصارى العراق والمشرق نسطورية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وانفض ذلك المجمع -أيضا- على لعن نسطورس ومن قال بقوله. وكل مجامعهم كانت تجتمع على الضلال، وتفترق على اللعن فلا ينفض المجمع إلا وهم بين لاعن وملعون. ثم كان لهم مجمع خامس. وذلك أنه كان بقسطنطينية طبيب راهب يقال له: أوطيوس، يقول: (إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا في الطبيعة، وأن للمسيح قبل التجسد طبيعتين، وبعد التجسد طبيعة واحدة) . وهذه مقالة اليعقوبية، فرحل إليه أسقف دولته، فناظره، فقطعه، ودحض حجته. ثم صار إلى قسطنطينية، فأخبر بتركها بالمناظرة، وبانقطاعه، فأرسل بترك الإسكندرية إليه، فاستحضره، وجمع جمعا عظيما، وسأله عن قوله، فقال: إن قلنا: إن المسيح طبيعتان فقد قلنا بقول نسطورس، ولكنا نقول: إن المسيح طبيعة واحدة، وأقنوم واحد، لأنه من طبيعتين كانتا قبل التجسد، لما تجسد زالت الاثنينية، وصار طبيعة واحدة، وأقنوما واحدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فقال له بترك القسطنطنية: إن كان المسيح طبيعة واحدة فالطبيعة القديمة هي الطبيعة المحدثة، وإن كان القديم هو المحدث، فالذي لم يزل هو الذي لم يكن، ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث، لكان القائم هو القاعد، والحار هو البارد. فأبى أن يرجع عن مقالته فلعنوه، فاستعدى إلى الملك، وزعم أنهم ظلموه، وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة، فاستحضر الملك البتاركة والأساقفة من سائر البلاد إلى مدينة "أفسس"، فثبت بطريق الإسكندرية مقالة أوطيوس، وقطع بتاركة الإسكندرية، وأنطاكية، وبيت المقدس، وسائر البتاركة والأساقفة. وكتب إلى بترك رومية، وإلى جميع البتاركة والأساقفة، فحرمهم ومنعهم من القربان إن لم يقبلوا مقالة أوطيسوس، ففسدت الأمانة، وصارت المقالة مقالة أوطيسوس، وخاصة في مصر والإسكندرية، وهو مذهب اليعقوبية. فافترق هذا المجمع الخامس وهو بين لاعن وملعون، وضال ومضل، وقائل يقول: الصواب مع اللاعنين، وقائل يقول: الحق مع الملعونين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 ثم كان لهم بعد ذلك مجمع سادس، في دولة مرقيون، فإنه اجتمع إليه الأساقفة من سائر البلاد، فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع، وقلة الإنصاف، وأن مقالة أوطيسوس قد غلبت على الناس، وأفسدت دين النصرانية، فأمر الملك باستحضار سائر البطارقة والأساقفة إلى حضرته، فاجتمع عنده ست مائة وثلاثون أسقفا، فنظروا في مقالة أوطيسوس وبترك الإسكندرية، التي قطعا بها جميع البتاركة، فأفسدوا مقالتيهما، ولعنوهما، وأثبتوا (أن المسيح إله وإنسان، فهو مع الله في اللاهوت، ومعنا في الناسوت، له طبيعتان تامتان، فهو تام باللاهوت، تام بالناسوت، وهو مسيح واحد) . وثبتوا أقوال الثلاث مائة وثمانية عشر أسقفا، وقبلوا قولهم بـ (أن الابن مع الله في المكان، وأنه إله حق من إله حق) . ولعنوا أريوس، وقالوا: (إن روح القدس إله) ، وقالوا: (إن الآب، والابن، وروح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 القدس واحد بطبيعة واحدة، وأقانيم ثلاثة) . وثبتوا أقوال أهل المجمع الثالث. وقالوا: (إن مريم العذراء ولدت إلها ربنا يسوع المسيح الذي هو مع الله في الطبيعة، ومعنا في الناسوت) . وقالوا: (إن المسيح طبيعتان وأقنوم واحد) . ولعنوا نسطورس وبترك الإسكندرية، فانفض هذا المجمع بين لاعن وملعون. ثم كان لهم بعد هذا مجمع سابع في أيام أنسطاس الملك، ذلك أن سورس القسطنطيني جاء إلى الملك فقال: إن أصحاب ذلك المجمع الست مائة والثلاثين أخطؤوا. والصواب ما قاله أوطيسوس وبترك الإسكندرية، فلا تقبل ممن سواهما، واكتب إلى جميع بلادك أن يلعنوا الست مائة والثلاثين، وأن يأخذوا الناس بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وأقنوم واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فأجاب الملك إلى ذلك. فلما بلغ ذلك بترك بيت المقدس جمع الرهبان، فلعنوا أنسطاس الملك، وسورس، ومن يقول بمقالتهما. فبلغ ذلك الملك، فغضب، وبعث، فنفى البترك إلى أيلة، وبعث يوحنا بتركا على بيت المقدس، لأنه كان قد ضمن للملك أن يلعن الستمائة والثلاثين. فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع الرهبان، وقالوا: إياك أن تقبل من سورس، ولكن اقبل من الستمائة والثلاثين، ونحن معك. ففعل وخالف الملك، فلما بلغه أرسل قائدا، وأمره أن يأخذ يوحنا بلعنة أولئك. فإن لم يفعل أنزله عن الكرسي، ونفاه. فقدم القائد، وطرح يوحنا في الحبس، فصار إليه الرهبان في الحبس، وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك، فإذا حضر فليقر بلعنة كل من لعنه الرهبان. فاجتمع الرهبان فكانوا عشرة آلاف راهب، فلعنوا أوطيسوس، ونسطورس وسورس ومن لا يقبل من أولئك الستمائة والثلاثين، ففزع رسول الملك من الرهبان. وبلغ ذلك الملك فهم بنفي يوحنا، فاجتمع الرهبان والأساقفة، فكتبوا إلى الملك أنهم لا يقبلون مقالة سورس ولو أريقت دماؤهم، وسألوه أن يكف أذاه عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وكتب بترك رومية بقبح فعله وبلعنه، فانفض هذا المجمع على اللعنة أيضا. وكان لسورس تلميذ يقال له يعقوب البراذعي، لأنه كان يلبس من قطع براذع الدواب، ويرقع بعضها ببعض، وإليه تنسب اليعاقبة. فأفسد أمانة القوم. ثم هلك أنسطاس. فولي بعده قسطنطين، فرد كل من نفاه أنسطاس إلى موضعه، وكتب إلى بيت المقدس بأمانته، فاجتمع الرهبان، وأظهروا كتابه، وفرحوا به، وأثبتوا قول الستمائة وثلاثين أسقفا، وغلبت اليعقوبية على الإسكندرية، وقتلوا بتركا لهم -يقال له: بولس -، وكان ملكانيا، فولي الملك أسطيانوس، فأرسل قائدا، ومعه عسكر عظيم إلى الإسكندرية، فدخل الكنيسة في ثياب البترك، وتقدم، وقدس، فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه، فانصرف وتوارى عنهم، ثم ظهر لهم بعد ثلاثة أيام، وأظهر لهم أنه أتاه كتاب الملك، وأمر الحراس أن يجمعوا الناس لسماعه، فلم يبق أحد بالإسكندرية إلا حضر لسماعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وكان قد جعل بينه وبين جنده علامة إذا هو فعلها وضعوا السيوف في الناس، فصعد المنبر، وقال: يا أهل الإسكندرية، إن رجعتم إلى الحق، وتركتم مقالة اليعاقبة، وإلا لم تأمنوا أن تأمنوا أن يوجه الملك إليكم من يسفك دماءكم. فرموه بالحجارة حتى خاف على نفسه، فأظهر العلامة، فوضعوا السيوف على من بالكنيسة، فقتل خلق لا يحصيهم إلا الله، حتى خاض الجند في الدماء، وظهرت مقالة الملكانية بالإسكندرية. ثم كان لهم بعد ذلك مجمع ثامن. وذلك أن أسقف منبج كان يقول بالتناسخ، وأنه ليس ثم قيامة، ولا بعث، وكان أسقف الرهاء وأسقف المصيصة وأسقف ثالث يقولون: إن جسد المسيح خيال غير حقيقة. فحشرهم الملك إلى قسطنطينية، فقال لهم بتركها: إن كان جسده خيالا فيجب أن يكون فعله خيالا وقوله خيالا، وكل جسد نعاينه لأحد من الناس أو فعل أو قول فهو كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وقال له: إن المسيح قد قام من الأموات، وعلمنا أنه كذلك يقوم الناس يوم الدين، واحتج بنصوص من الإنجيل كقوله: (إن كل من في القبور إذا سمعوا الله سبحانه يحيون) . فأوجب عليه اللعن، وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه، واستحضر بتاركة البلاد، فاجتمع عنده مائة وأربعة وستون أسقفا، فلعنوا أسقف منبج، وأسقف المصيصة، وأثبتوا على (أن جسد المسيح حقيقة لا خيال، وأنه إله تام وإنسان تام، معروف بطبيعتين ومشيئتين وفعلين، أقنوم واحد، وأن الدنيا زائلة، وأن القيامة كائنة، وأن المسيح يأتي بمجد عظيم، فيدين الأحياء والأموات) . كما قال الثلاثمائة وثمانية عشر الأوائل، فتفرقوا على ذلك. ثم كان لهم مجمع تاسع على عهد معاوية بن أبي سفيان تلاعنوا فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وذلك أنه كان برومية راهب له تلميذان، فجاء إلى قسطا الوالي، فوبخه على قبح مذهبه وشناعة كفره، فأمر به قسطا؛ فقطعت يداه ورجلاه، ونزع لسانه، وفعل بأحد التلميذين كذلك، وضرب الآخر بالسياط، ونفاه. فبلغ ذلك ملك قسطنطينية، فأرسل إليه أن يوجه إليه من أفاضل الأساقفة، ليعلم وجه هذه الشبهة، وما كان ابتداؤها، ويعلم من يستحق اللعن. فبعث إليه مائة وأربعين أسقفا وثلاثمائة شماسا، فلما وصلوا إليه جمع الملك مائة وثمانية وخمسين أسقفا، فصادروا مائتين وثمانية وتسعين، وأسقطوا الشماسة. وكان رئيس هذا المجمع بترك قسطنطينية وبترك أنطاكية. فلعنوا من تقدم من القسيسين والبتاركة واحدا واحدا، وجلسوا، فلخصوا الأمانة، وزادوا فيها ونقصوا. فقالوا: (نؤمن أن الواحد من الناسوت الابن الوحيد الذي هو الكلمة الأزلية، الدائم، المستوي مع الآب، الإله في الجوهر، الذي هو ربنا يسوع المسيح بطبيعتين تامتين، وفعلين، ومشيئتين، في أقنوم واحد، ووجه واحد، تاما بلاهوته، تامة بناسوته، وشهدت بأن الإله الابن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 آخر الأيام اتخذ من العذراء السيدة مريم القديسة جسدا إنسانا بنفس [ناطقة عقلية وذلك برحمة الله -تعالى- محب البشر] ، ولم يلحقه اختلاط ولا فساد [ولا فرقة ولا فصل] ، ولكن هو واحد يعمل بما يشبه الإنسان أن يعمله في طبيعته، [وما يشبه الإله أن يعمله في طبيعته] الذي هو الابن الوحيد والكلمة الأزلية المتجسدة، التي صارت في الحقيقة لحما كما يقول الإنجيل المقدس من غير أن ينتقل من مجده الأزلي، وليست بمتغيرة، ولكنها بفعلين ومشيئتين وطبيعتين: إلهي وإنسي، الذي بهما يكمل قول الحق، وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبها مشيئتين غير مضادتين ولا متصارعتين، ولكن مع المشيئة الإنسية المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء) . هذه أمانة هذا المجمع، فوضعوها، ولعنوا من لعنوه. وبين المجمع الخامس الذي اجتمع فيه الستمائة والثلاثون وبين هذا المجمع مائة سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ثم كان لهم بعد ذلك مجمع عاشر. وذلك لما مات الملك، وولي ابنه بعده، اجتمع أهل المجمع السادس، وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل، فجمع الملك مائة وثلاثين أسقفا، فثبتوا قول أهل المجامع الخمسة، ولعنوا من لعنهم وخالفهم، وانصرفوا بين لاعن وملعون. فهذه عشرة مجامع كبار من مجامعهم مشهورة، اشتملت على أكثر من أربعة عشر ألفا من البتاركة والأساقفة والرهبان كلهم ما بين لاعن وملعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فهذه حال المتقدمين مع قرب زمانهم من أيام المسيح ووجود أخباره فيهم، والدولة دولتهم، والكلمة كلمتهم، وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا، واهتمامهم بأمر دينهم واحتفالهم به كما ترى. وهم حيارى تائهون ضالون مضلون، لا يثبت لهم قدم، ولا يستقر لهم قول في إلههم، بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه، وصرح بالكفر والتبري ممن اتبع سواه، قد تفرقت بهم في نبيهم وإلههم الأقاويل، وهم كما قال الله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . فلو سألت أهل البيت عن دينهم ومعتقدهم في ربهم ونبيهم لأجابك الرجل بجواب وامرأته بجواب وابنه بجواب والخادم بجواب، فما ظنك بمن في عصرنا هذا؟ وهم نخالة الماضين، وزبالة الغابرين، وثفالة المتحيرين، وقد طال عليهم الأمد، وبعد عهدهم بالمسيح ودينه. وهؤلاء هم الذين أوجبوا لأعداء الرسل من الفلاسفة والملاحدة أن يتمسكوا بما هم عليه، فإنهم شرحوا لهم دينهم الذي جاء به المسيح على هذا الوجه. ولا ريب أن هذا دين لا يقبله عاقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فتواصى أولئك بينهم أن يتمسكوا بما هم عليه، وساءت ظنونهم بالكتب والرسل، ورأوا أن ما هم عليه من آراء أقرب إلى العقول من هذا الدين. وقال لهم هؤلاء الحيارى الضلال: إن هذا هو الحق الذي جاء به المسيح، فتركب من هذين الظنين الفاسدين إساءة الظن بالرسل، وإحسان الظن بما هم عليه. قلت: وهذا القدر قد اعترف به النصراني في هذا الفصل الذي نتكلم عليه، حيث ذكر ما وقع من الاختلاف بين الأساقفة، وأن ذلك صار سبب وقوع عامة الناس في الحيرة حتى لا يدرون ما يختارون لأنفسهم، وينفرون عن الكتب المقدسة كأنها سم زعاف. ومعلوم أنه لا يمكن أن يدعي أن النصارى صلحوا بعد أولئك الذين وصفهم من أسلافهم الضلال التائهين، بل دينهم الذي هم عليه الآن هو دين أولئك الحيارى، بل إنهم زادوا عليهم بالضلال الكثير، واتبعوا أهواءهم، وجادلوا في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. فقد سجلوا على أنفسهم بمخالفة كتب الله، واعترفوا بذنبهم، فسحقا لأصحاب السعير. والمقصود أنهم كما خالفوا في دينهم منهج الرسل، فقد عاندوا -أيضا- صريح العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 قال ابن القيم: ولهذا قال بعض ملوك الهند وقد ذكرت له الملل الثلاث، فقال: أما النصارى فإن كان محاربوهم من أهل الملل يحاربونهم بحكم شرعي، فإني أرى ذلك بحكم عقلي، وإن كنا لا نرى بحكم عقولنا قتالا. ولكن أستثني هؤلاء القوم من بين جميع العوالم، لأنهم قصدوا مضادة العقل، وناصبوه العداوة، وحلوا ببيت الاستحالات، وحادوا عن المسلك الذي انتهجه غيرهم من أهل الشرائع، فشذوا عن جميع مناهج العالم الصالحة العقلية والشرعية، واعتقدوا كل مستحيل ممكنا، وبنوا على ذلك شريعة لا تؤدي ألبتة إلى صلاح نوع من أنواع العالم، إلا أنها تصير العاقل إذا تشرع بها أخرقا، والرشيد سفيها، والمحسن مسيئا، لأن من كان أصل عقيدته التي نشأ عليها الإساءة إلى الخالق والنيل منه، ووصفه بضد صفاته الحسنى، فأخلق به أن يستسهل الإساءة إلى المخلوق، مع ما بلغنا عنهم من الجهل وضعف العقل وقلة الحياء وخساسة المهمة. هذا وقد ظهر له من باطلهم وضلالهم غيض من فيض، وكانوا إذ ذاك أقرب عهدا بالنبوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 قال أفلاطون رئيس سدنة الهياكل بمصر، وليس بأفلاطون تلميذ سقراط؛ ذاك أقدم من هذا: لما ظهر محمد بتهامة، ورأينا أمره يعلو على الأمم المجاورة له، رأينا أن نقصد أسقطر البابلي، لنعلم ما عنده، ونأخذ برأيه فلما اجتمعنا على الخروج من مصر، رأينا أن نصير إلى أقراطيس معلمنا وحكيمنا، لنودعه، فلما دخلنا عليه، ورأى جمعنا أيقن أن الهياكل قد خلت منا فغشي عليه حينا غشية ظننا أنه فارق الحياة فيها، فبكينا، فأومأ إلينا أن كفوا عن البكاء، فتصبرنا جهدنا حتى هدأ وفتح عينيه، فقال: هذا ما كنت أنهاكم عنه، وأحذركم منه، إنكم قوم غيرتم، فغير بكم، أطعتم جهالا من ملوككم، فخلطوا عليكم في الأدعية، فقصدتكم البشر من التعظيم بما هو للخالق [وحده، فكنتم في ذلك كمن أعطى القلم مدح الكاتب، وإنما حركة القلم بالكاتب] ..... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ومن المعلوم أن هذه الأمة ارتكبت محذورين عظيمين لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة: أحدهما: الغلو في المخلوق حتى جعلوه شريكا للخالق وجزءا منه، إلها آخر معه، ونفوا أن يكون عبدا له. والثاني: تنقص الخالق وسبه ورميه بالعظائم، حيث زعموا أن الله -سبحانه وتعالى عن قولهم علوا كبيرا- نزل من العرش وكرسي عظمته، ودخل في فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر، يتخبط بين البول والدم والنجو قد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل رضيعا صغيرا يمص الثدي، ولف في القمط، وأودع السرير يبكي، ويجوع، ويعطش، ويبول، ويتغوط، ويحمل على الأيدي والعواتق!. ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه، وصفعوا قفاه، وصلبوه جهرا بين لصين، وألبسوه إكليلا من الشوك، وسمروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام!. هذا هو الإله الحق الذي بيده أتقنت العوالم، وهو المعبود المسجود له!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ولعمر الله، إن هذه مسبة لله -سبحانه- ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم، كما قال -تعالى- فيما حكاه عنه رسوله الذي نزهه، ونزه أخاه المسيح عن هذا الباطل الذي تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا، فقال: «شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك: أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد. وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون من إعادته» . وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في هذه الأمة: "أهينوهم ولا تظلموهم، فقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر". ولعمر الله، إن عباد الأصنام -مع أنهم أعداء الله على الحقيقة وأعداء رسله وأشد الكفار كفرا- يأنفون أن يصفوا آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وهي من الحجارة والحديد والخشب بمثل ما وصفت هذه الأمة رب العالمين، وإله السماوات والأرضين، وكان الله في قلوبهم أجل وأعظم من أن يصفوه بذلك بما يقاربه، وإنما شرك القوم أنهم عبدوا من دونه آلهة مخلوقة مربوبة محدثة، زعموا أنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 تقربهم إليه زلفى، لم يجعلوا شيئا من آلهتهم كفوا له، ولا نظيرا، ولا ولدا، ولم ينالوا من الرب -تعالى- ما نالت منه هذه الأمة. وعذرهم في ذلك أقبح من قولهم، فإن أصل معتقدهم أن أرواح الأنبياء كانت في الجحيم في سجن إبليس من عهد آدم إلى زمن المسيح، فكان إبراهيم وموسى ونوح وصالح وهود معذبين مسجونين في النار بسبب خطيئة آدم وأكله من الشجرة، وكان كلما مات واحد من بني آدم أخذه إبليس، وسجنه بذنب أبيه، ثم إن الله -سبحانه- لما أراد رحمتهم وخلاصهم من العذاب تحيل على إبليس بحيلة، فنزل عن كرسي عظمته، والتحم ببطن مريم حتى ولد، وكبر، وصار رجلا، فمكن أعداءه اليهود من نفسه، حتى صلبوه، وسمروه، وتوجوه بالشوك على رأسه، فخلص أنبياءه ورسله، وفداهم بنفسه ودمه، فهرق دمه في مرضاة جميع ولد آدم، إذ كان ذنبه باقيا في أعناق جميعهم، فخلصهم منه بأن مكن أعداءه من صلبه وتسميره وصفعه إلا من أنكر صلبه أو شك فيه. وقال: إن الإله يجل عن ذلك، فهو في سجن إبليس معذب حتى يقر بذلك، وأن إلهه صلب وصفع وسمر، فنسبوا الإله الحق -سبحانه- إلى ما يأنف أسقط الناس أن ينسبه إليه مملوكه وعبده، وإلى ما يأنف عباد الأصنام أن تنسب إليه أوثانهم. وكذبوا الله -سبحانه- في كونه تاب على آدم، وغفر له خطيئته، ونسبوه إلى أقبح الظلم، حيث زعموا أنه سجن أنبياءه ورسله وأولياءه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 في الجحيم بسبب خطيئة أبيهم، ونسبوه إلى غاية النقص، حيث سلط أعداءه على نفسه وابنه، ففعلوا ما فعلوا. وبالجملة، فلا نعلم أمة من الأمم سبت ربها ومعبودها وإلهها بما سبه به هذه الأمة، كما قال عمر: "إنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر". وكان بعض أئمة الإسلام إذا رأى نصرانيا أغمض عينه عنه، وقال: "لا أستطيع أملأ عيني ممن سب إلهه ومعبوده أقبح السب". ولهذا قال عقلاء الملوك: "إن جهاد هؤلاء واجب شرعا وعقلا، فإنهم عار على بني آدم مفسدون للعقول والشرائع". انتهى. وسيأتي شرح مذهبهم في التثليث فيما بعد -إن شاء الله تعالى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فصل قال النصراني: "والذي آل إليه أنه قد وجد في جميع البلاد عدة من المسيحيين اسما وأقل من القليل حقا وفعلا، ولكن الله لم يكن يتغافل عن هذه الخطايا في قومه بل من أقصى أطراف أفاض كالطوفان جنودا لا تحصى عددا إلى بلاد النصارى. وإذا لم يتعظ الباقون بما لقوا من هؤلاء من القتل والشدائد، ولم يعودوا للحق أذن بعدله أن يظهر محمد، ويدعو الناس إلى الشريعة الجديدة، التي مع أنها مخالفة لدين المسيح، مضادة له، لكنها في ظاهر الألفاظ كانت تحاكي سيرة كثيرين من النصارى. وكان أول المدعوين إلى هذه الشريعة العرب الذين على أيديهم فتحت -في مدة يسيرة من الزمان- بلاد العرب والشام ومصر وبلاد الفرس، ثم ملكت المغرب والأندلس أيضا. وأما دولة العرب فقد انتقلت إلى غيرهم من الأمم، وبالخصوص إلى الأتراك الذين هم أمة ذات بأس وقوة في الحرب، وهم بعد طول محاربة المسلمين دعوا إلى العهد، وقبلوا الشريعة الموافقة لأخلاقهم بغير امتناع، ونقلوا حكم الدولة لأنفسهم. ثم فتحت على أيديهم بلاد الروم وبإقبال سعادتهم في الحروب وصلوا إلى حدود بلاد النمسا أيضا" انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ونقول وبالله التوفيق: إن ما ذكره من قلة الدين قبل ظهور محمد -صلى الله عليه وسلم- دليل ظاهر، وحجة واضحة، وبرهان قاطع على نبوته، وصحة رسالته كما أشرنا إليه فيما تقدم، وذلك أن سنة الله في أوقات فترات الرسالة، وإعراض الناس عما جاءت به الرسل إعذارا منه -تعالى- إلى الخلق، ورحمة بمن أراد به خيرا. فلما كانت الشرائع قد اندرست قبل مبعث - محمد صلى الله عليه وسلم-، لتقادم عهدها، وطول زمانها، واختلط بسبب ذلك الحق بالباطل والهدى بالضلال، والصدق بالكذب، وصار ذلك سببا لإعراض الخلق عن العبادات، وأن يقولوا: يا إلهنا قد عرفنا أنه لا بد من عبادتك، ولكنا لا نعرف كيف عبادتك. فلا بد أن يزيح الله عذرهم ببعثة الرسل إليهم. ولهذا قال -تعالى- في كتابه العزيز: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . فخاطب -سبحانه- أهل الكتاب من اليهود والنصارى في هذه الآية بأنه بعث إليهم رسوله محمدا -صلى الله عليه وسلم- على حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فترة من الرسل، ودروس من السبل، وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم، والحاجة إليه أعم. فإن الفساد قد عم البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد، إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين من بعض أحبار اليهود، وعباد النصارى والصابئين. وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، والنسائي في سننه من غير وجه عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار المجاشعي -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب ذات يوم، فقال في خطبته: «» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 «إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا، كل مال أنحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله -سبحانه- نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل، وقال: إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظانا. ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشا، فقلت: يا رب، إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، فقال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جندا نبعث خمسة أمثاله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك. وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف فقير ذو عيال. وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلا ولا مالا، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، والرجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعكم عن أهلك ومالك، وذكر البخل والكذب، والشنظير الفاحش» . والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله: «إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل» . وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 لفظ مسلم: «إلا بقايا من أهل الكتاب» فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله رسوله محمدا، خاتم النبيين الذي لا نبي بعده، بل هو المعقب لجميعهم، فهدى الخلائق، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء. ولهذا قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} أي: بشير بالخير ونذير عن الشر {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} يعني: محمدا -صلى الله عليه وسلم- {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . فثبت بمقتضى هذه المقدمة التي قررناها، واعترف الخصم بصحة معناها، وهو حصول غربة الدين قبل ظهور محمد -صلى الله عليه وسلم - حتى عند النصارى، الذين هم أقرب الناس عهدا بالكتب والرسل، أن بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- كانت رحمة من الله لخلقه، هداهم الله بها بعد الضلالة، وبصرهم بها بعد العمى، وأرشدهم بها بعد الغي، وأخرجهم بها من الظلمات إلى النور. وهذا هو اللائق بحكمته، ورحمته، وما مضى في خلقه من سابق سنته، لا ما يقول أعداؤه الكاذبون عليه، المكذبون رسوله، الزاعمون أنه كاذب عليه متقول على الله ما لم ينزل إليه، فإنه لا يليق بحكمة الرب الحكيم، ورحمة الملك القادر الرحيم، أن يؤيد من هذا شأنه أعظم التأييد، ويمكن له في الأرض غاية التمكين، بل كان اللائق به أن يأخذه ويجعله نكالا وعبرة للمعتبرين، كما قال -سبحانه وتعالى-: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} فأقام -سبحانه- في هذه الآية البرهان القاطع على صدق رسوله، وأنه لم يتقول عليه فيما قاله، وأنه لو تقول عليه لما أقره، ولعاجله بالإهلاك، فإن كمال علمه وقدرته وحكمته تأبى أن يقر من تقول عليه، وافترى، وأضل عباده، واستباح دماء من كذبه وحريمهم وأموالهم، وأظهر في الأرض الفساد والجور والكذب وخلاف الحق. فكيف يليق بأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأقدر القادرين أن يقدره على ذلك؟ !. بل كيف يليق به أن يؤيده وينصره ويعليه ويظهره، ويظفره، بأهل الحق يسفك دماءهم ويستبيح أموالهم وأولادهم ونساءهم قائلا: إن الله أمرني بذلك، وأباحه لي؟. بل كيف يليق به أن يصدقه بأنواع التصديق كلها، فيصدقه بإقراره، وبالآيات المستلزمة لصدقه التي دلالتها على التصديق كدلالة التصديق بالقول أو أظهر، ثم يصدقه بأنواعها كلها على اختلافها، فكل آية على انفرادها مصدقة له، ثم يحصل باجتماع تلك الآيات تصديق فوق كل آية على انفرادها، ثم يعجز الخلق عن معارضته، ثم يصدقه بكلامه وقوله، ثم يقيم الدلالة القاطعة على أن هذا قوله وكلامه، فيشهد له بإقراره وفعله وقوله؟. فمن أعظم المحال وأبطل الباطل وأبين البهتان أن يجوز على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أحكم الحاكمين ورب العالمين أن يفعل ذلك بالكاذب المفتري عليه الذي هو شر الخلق على الإطلاق. فمن جوز ذلك، على الله أن يفعل هذا بشر خلقه وأكذبهم عليه فما آمن بالله قطعا، ولا عرف الله وأنه رب العالمين، ولا يحسن نسبة ذلك إلى من له مسكة من عقل وحكمة وحجا. ومن فعل ذلك فقد أزرى على نفسه، ونادى على جهله. وقد ذكر الإمام أبو عبد الله ابن القيم مناظرة جرت له مع بعض علماء أهل الكتاب تتعلق بهذا المقام، قال: قلت له بعد أن أفضى في نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن قلت له: إنكار نبوته يتضمن القدح في رب العالمين وتنقصه بأقبح التنقص، فكان الكلام معكم في الرسول والكلام الآن في تنزيه الرب -تعالى-. فقال: كيف تقول مثال هذا الكلام؟ فقلت له: بيانه علي فاسمع الآن: أنتم تزعمون أنه لم يكن رسولا، وإنما كان ملكا قاهرا قهر الناس بسيفه حتى دانوا له، ومكث ثلاثا وعشرين سنة يكذب على الله، ويقول: أوحي إلي، ولم يوح إليه، وأمرني، ولم يأمره، ونهاني، ولم ينهه، وقال الله كذا، ولم يقل ذلك، وأحل كذا، وحرم كذا، وأوجب كذا، وكره كذا، ولم يحل ذلك ولا حرمه ولا أوجبه ولا كرهه، بل هو فعل ذلك من تلقاء نفسه كاذبا مفتريا على الله وعلى أنبيائه وعلى رسله وملائكته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ثم مكث على ذلك عشر سنين يستعرض عباده، يسفك دماءهم، ويأخذ أموالهم، ويسترق نساءهم وأبناءهم، ولا ذنب لهم إلا الرد عليه ومخالفته، وهو في ذلك كله يقول: الله أمرني بذلك ولم يأمره، ومع ذلك فهو ساع في تبديل أديان الرسل، ونسخ شرائعهم، وحل نواميسهم، فهذه حاله عندكم. فلا يخلو: إما أن يكون الرب -تعالى- عالما بذلك مطلعا عليه من حالة يراه ويشاهده أو لا. فإن قلتم: إن ذلك جميعه غائب عن الله لم يعلمه قدحتم في الرب -تعالى-، ونسبتموه إلى الجهل المفرط، إذ لم يطلع على هذا الحادث العظيم، ولا علمه، ولا رآه. وإن قلتم: بل كان بعلمه واطلاعه ومشاهدته، قيل لكم: فهل كان قادرا على أن يغير ذلك، ويأخذ على يده ويحول بينه وبينه أم لا؟ فإن قلتم: ليس قادرا على ذلك، نسبتموه إلى العجز المنافي للربوبية، وكان هذا الإنسان هو وأتباعه أقدر منه على تنفيذ إرادتهم. وإن قلتم: بل كان قادرا، ولكن مكنه ونصره وسلطه على الخلق، ولم ينصر أولياءه وأتباع رسله نسبتموه إلى أعظم السفه والظلم والإخلال بالحكمة. هذا لو كان مخليا بينه وبين ما فعله، فكيف وهو في ذلك كله ناصره ومؤيده، ومجيب دعواته ومهلك من خالفه وكذبه، ومصدقه بأنواع التصديق كلها، ومظهر الآيات على يديه التي لو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يأتوا بواحدة منها لما أمكنهم، ولعجزوا عن ذلك، وكل وقت من الأوقات يحدث له من أسباب النصر والتمكين والظهور والعلو وكثرة الأتباع أمرا خارجا عن العادة؟ !. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فظهر أن من أنكر كونه رسولا نبيا فقد سب الله -تعالى-، وقدح فيه، ونسبه إلى الجهل والعجز والسفه. قلت له: ولا ينتقض هذا بالملوك الظلمة الذين مكنهم في الأرض وقتا ما ثم قطع دابرهم، وأبطل سنتهم، ومحا آثارهم ووجودهم، فإن أولئك لم يدعوا شيئا من هذا، ولا أيدوا، ونصروا، وظهرت على أيديهم الآيات، ولا صدقهم الرب -تعالى- بإقراره ولا بفعله، ولا بقوله. بل كان أمرهم بالضد من دين الرسول كفرعون ونمرود وأضرابهما. ولا ينتقض هذا بمن ادعى النبوة من الكذابين، فإن حاله كانت بضد حال الرسول، ومن حكمة الله -سبحانه- أن أخرج مثل هؤلاء في الوجود ليعلم حال الكذابين، وحال الصادقين، فكان ظهورهم من أبين الأدلة على صدق الرسل والفرق بين هؤلاء وبينهم ( فبضدها تتبين الأشياء ) ، ( والضد يظهر حسنه الضد ) . فمعرفة أدلة الباطل وشبهه من أنواع أدلة الحق وبراهينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فلما سمع مني ذلك قال: معاذ الله، لا نقول: إنه ملك ظالم، بل نبي كريم، من اتبعه فهو من السعداء، وكذلك من اتبع موسى فهو كمن اتبع محمدا. قلت له: بطل كل ما تموهون به بعد هذا، فإنكم إذا أقررتم بأنه نبي صادق فلا بد من تصديقه في جميع ما أخبر به، وقد علم أتباعه وأعداؤه بالضرورة أنه دعا الناس كلهم إلى الإيمان به، وأخبر أن من لم يؤمن به فهو مخلد في النار، وقاتل من لم يؤمن به من أهل الكتاب، واستباح دماءهم ونساءهم وأبناءهم. فإن كان ذلك عدوانا منه وجورا لم يكن نبيا، وعاد الأمر إلى القدح في الرب -تعالى-، وإن كان ذلك بأمر الله ووحيه لم يسع مخالفته وترك اتباعه، ولزم تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر. انتهى. وأما قول النصراني: " إنها - يعني: شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- مخالفة لدين المسيح مضادة له ". فهذا الإطلاق والعموم باطل، فإن دين المسيح، بل وجميع أديان الرسل من أولهم إلى آخرهم خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم - متفقة في قواعد الدين وأصول الإيمان: من توحيد الله -تعالى-، ونفي الشريك له، وتنزيهه عن النقائص المتضمن لنفي الصاحبة والولد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وعلى إفراده -سبحانه- بالعبادة، وتصديق جميع رسله، والإيمان بملائكته، وكتبه، والإيمان باليوم الآخر، والجنة والنار، وغير ذلك من أصول الإيمان وقواعد الدين. كما قال -تعالى- في كتابه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .... . وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .... . وقال -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «نحن - معشر الأنبياء - إخوة العلات، ديننا واحد» ... ، يعني: ذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما، ثم يحل في الشريعة الأخرى وبالعكس، وخفيفا فيزاد بالشدة في هذه دون هذه، وذلك لما لله -تعالى- في ذلك من الحكمة البالغة والحجة الدامغة. قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قول الله -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} يقول: " السنن مختلفة: في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي القرآن شريعة، يحل فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. والدين الذي لا يقبل غيره: التوحيد والإخلاص الذي جاءت به الرسل ". والمقصود: أن شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- موافقة لدين المسيح في التوحيد وأصول الديانات، وإن خالفته في بعض ما دون ذلك من الشرائع، لكنها مخالفة لما ابتدعه ضلال النصارى، واخترعوه من قبل أنفسهم، وبدلوا به دين المسيح، من الغلو في المخلوق حتى أنزلوه منزلة الخالق، وادعوا أنه الله، وأنه ابن الله - تعالى الله، وتقدس، وتنزه عن قولهم علوا كبيرا -، وكذا ما بدلوه من فروع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 دين المسيح -عليه السلام- كاستحلال الميتة والخنزير، وإحداث البدع في العبادات مما نسخوا به دين المسيح -عليه السلام-، فبعث الله رسوله محمدا -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى متابعة عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم وتصديقه في بشارته بخاتم الرسل، وسيدهم في الدنيا والآخرة - الذي هو أولى الناس به، كما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء إخوة أبناء علات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد» . أخرجه البخاري ومسلم. (وإخوة العلات: أبناء أمهات شتى من رجل واحد) . أما ما ذكره النصراني من وقوع الفتوحات على أيدي العرب، ثم انتقال الدولة إلى غيرهم، ففي ضمنه دليلان من أدلة الرسالة المحمدية، وعلمان من أعلامها: الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بتلك الفتوحات، وبلوغ دينه إلى المشارق والمغارب، وظهور أمته على فارس والروم، فوقع ذلك على وفق ما أخبر، كما سيأتي ذكر الأحاديث بذلك -إن شاء الله تعالى-، فكان ذلك دليلا على صدقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الثاني: أنه -صلى الله عليه وسلم- أنذر بانتقال الأمر من قريش الذين هم السادة العرب وقادتها إذا وقع منهم الخلل في إقامة الدين، كما أخرج البخاري في صحيحه، وغيره عن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه في النار ما أقاموا الدين» . وهذا يدل على أنهم إذا لم يقيموا الدين يخرج الأمر عنهم. وأخرج الطبراني عن علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا إن الأمراء من قريش ما أقاموا ثلاثا» .... الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وأخرج الطيالسي والبزار والبخاري في التاريخ من طريق سعد بن إبراهيم عن أنس بلفظ: .... «ما إذا حكموا فعدلوا» .... الحديث، وله طرق متعددة. وأخرج الإمام أحمد بن حنبل وأبو يعلى الموصلي من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 «يا معشر قريش، إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا، فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب» . قال الحافظ ابن حجر: "ورجاله ثقات". وأخرج الشافعي والبيهقي من طريقه بسند صحيح إلى عطاء بن يسار يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لقريش: «أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم على الحق إلا أن تعدلوا عنه، فتلحون كما تلحى هذه الجريدة» . فقد دلت هذه الأحاديث وما ورد في معناها من منطوق أو مفهوم على خروج الأمر عن قريش الذين هم أئمة العرب والعرب لهم تبع، وأن ذلك إنما يكون إذا وقع منهم التغيير، ولم يستقيموا على السنن القويم، وأنه يتقدم ذلك ما هددوا به من تسليط من يؤذيهم عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 قال ابن حجر: "فوجد ذلك في الدولة العباسية، بغلبة مواليهم بحيث صاروا معهم كالصبي المحجور عليه، يتمتع بلذاته، ويباشر الأمور غيره. ثم اشتد الخطب، فغلب عليهم الديلم، فضايقوهم في كل شيء حتى لم يبق للخليفة إلا الخطبة، واقتسم المتغلبون الممالك في جميع الأقاليم، ثم طرأ عليهم طائفة بعد طائفة حتى انتزع الأمر منهم في جميع الأقطار، ولم يبق للخليفة إلا مجرد الاسم في بعض الأمصار". انتهى. وهذا، لأن الذي نالته العرب من العز والظهور والغلبة إنما حصل لهم ببركة اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وطاعتهم له كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» . فلما كانت الخلفاء على الاستقامة والسداد في أمر الدين كان لهم في الأرض غاية التمكين تصديقا لما أخبر به الصادق الأمين. فلما غيروا بمخالفته بعض أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وقع بهم ما هددوا به، حيث كانت نعم الله عليهم أعظم منها على غيرهم، وكان الواجب عليهم من شكرها بحسب ما خصوا به منها. فكان في أول الأمر وآخره براهين ساطعة وأدلة قاطعة على أن محمدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من جهة وقوع ما أخبر به مطابقا لخبره، ومن جهة اقتران العز والظهور والسعادة باتباع سنته، واقتران الذل والخذلان بترك أمره ومخالفته، فقد تضافرت حجج الله وبيناته على صدق هذا الرسول الكريم في كل عصر على ممر الدهور والأزمان. ثم إن الفتوحات التي حصلت على أيدي غير العرب من الأمم الذين دخلوا في الإسلام، وانتموا إلى الملة وقاموا بجهاد الأعداء المضادين لها هي من آثار الوعد الصادق من التمكين لهذه الأمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الإسلامية في الأرض، وظهور دينهم على غيره من الأديان، وانتصارهم على عبدة الأوثان والصلبان، فليس في خروج الأمر عن العرب في بعض الأزمان وبعض الأقطار إلى غيرهم من هذه الأمة ما يقتضي نقصا في الدين ووهنا في الملة، فإن كل خير حصل لهذه الأمة من العرب وغير العرب، فهو من بركة اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- والانتماء إلى ملته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فصل وأما قول النصراني: " وهم - يعني الأتراك - بعد طول محاربة للمسلمين، دعوا إلى العهد وقبلوا الشريعة الموافقة لأخلاقهم بغير امتناع، ونقلوا حكم الدولة لأنفسهم ..... " إلى آخره. فهذا فيه نوعان من الخطأ: الأول منهما: ما دل عليه كلامه من أن الأتراك الذين حاربوا المسلمين أولا هم الذين كانت لهم الولة آخرا. وهذا باطل وجهل بالدول وأخبارها، فإن الأتراك الذين حاربوا المسلمين في الحوادث المشهورة هم التتار الذين خرجوا من أطراف بادية الصين، فأفسدوا في الأرض، وأبادوا البلاد والعباد، وكانت منهم الحادثة العظمى على بغداد سنة 654 هـ، وبها زالت دولة بني العباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 من بغداد وكان رئيسهم (جنكيزخان) ، ثم (هولاكو) بعده، ووصلوا إلى حلب وأطراف الشام، فالتقوا هناك بالعسكر المصري، فهزمهم الله -تعالى- شر هزيمة في سنة ثمان وخمسين وستمائة، قال السخاوي المؤرخ: " ثم لم يزل لهم بقايا يخرجون إلى أن كان آخرهم تيمور لنك الأعرج، الذي خرج سنة ثلاث وسبعين وسبع مائة. وبالجملة فلم يبق لهم على المسلمين سلطنة، ولم تستقر لهم دولة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وأما الأتراك الذين كانت لهم سلطنة على المسلمين فهم طوائف، وأول حدوثهم في دول الإسلام أيام المعتصم العباسي لكون السبي كثر فيهم إذ ذاك، فاستكثر المعتصم منهم المماليك، حتى كان أكثر عسكره منهم. ثم غلبوا على الملك - كما أشرنا إليه قريبا - حتى قتلوا ابن سيدهم المتوكل ابن المعتصم، ثم خالطت المملكة بنو بويه ملوك الديلم، ثم كانت الملوك السامانية من الترك أيضا، ثم غلب على الممالك آل سبكتكين غلام معز الدولة ابن بويه الديلمي، ثم آل سلجوق، فامتدت مملكتهم من خراسان إلى العراق والشام والروم، ثم كانت حادثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 التتار التي زالت بها الخلافة من بغداد. ثم كانت بقايا أتباع آل سلجوق بالشام، ثم كان أتباع آل زنكي - بنو أيوب اكراد -، فاستكثر بنو أيوب من المماليك الأتراك، فغلبوهم بالديار المصرية والشامية. وكان من هؤلاء الأتراك السلطان الملك المظفر قطز الذي خرج بالعساكر المصرية إلى ملاقاة التتار بالشام في الواقعة التي أشرنا إليها، ثم كانت بعدهم الدولة الجاركسية، وكانوا مماليك للأتراك المذكورين، استكثروا منهم، ثم غلبوهم على المملكة، وهم الذين أخرجهم السلطان الغوري، وكانوا أيضا من الأتراك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 فهذه دولة الأتراك المشهورة في الإسلام، لم يكن ملكهم ودولتهم إلا بالطريق الذي ذكرناها. وأما التتار فهم - وإن كان قد دخل في الإسلام منهم من شاء الله - فلم يبق لهم على المسلمين دولة، ولم يستقر لهم سلطنة، بل كان آخر أمرهم الدمار والبوار. ومنشأ غلط النصراني هو من جهة ما يقال: إن سلاطين بني عثمان كانوا في الأصل من التتار، كما هو أحد الأقوال في نسبهم، وهذا وإن كان هو الأصح في نسبهم عند البعض، لكن دولتهم لم تنشأ من جهة التتار ولا كان لهم بها تعلق، وإنما كان ابتداؤها في أطراف الروم مما يلي الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وسبب ذلك أن السلطان عثمان - وهو الذي ينسبون إليه - كان هو وأبوه في خدمة السلطان علاء الدين السلجوقي - ملك تلك الناحية - فترقت بهم الأحوال في خدمته، فتوفي السلطان السلجوقي -، وعثمان في خدمته، ومن أعيان دولته -، ولم يكن بعد السلطان من أهل بيته من يقوم مقامه، فاتفق العسكر على تولية عثمان وتقديمه، فتم له الأمر ولأولاده من بعده، فافتتحوا الديار الرومية، واستقرت بها سلطنتهم، ثم أخذوا ممالك الشام ومصر والحرمين من الجراكسة فيما بعد العشرين وتسعمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 النوع الثاني: قوله: " وقبلوا الشريعة الموافقة لأخلاقهم بغير امتناع ". فتحت هذا الكلام تمويه باطل، وهو خطأ ظاهر، ثم هو مناقض لما يأتي من كلامه: " أن الشريعة الإسلامية متعلقة بالكلية بالسيف والقتال ". ولكنه لما سمع بدخول من دخل في الإسلام من التتار بغير إكراه ولا قتال، حاول أن يجعل ذلك ليس من باب الاختيار الذي دعاهم إليه ما عرفوه بعقولهم من صحة دين الإسلام وشرفه، حتى اختاروه على دينهم، وعلى اليهودية والنصرانية، فأحال ذلك على موافقة أخلاقهم. ومن المعلوم أن من نشأ على دين وجد عليه آباءه وأسلافه والمعظمين عنده، فإنه لا يدعه ويؤثر غيره عليه إلا أن يحمله على ذلك رغبة أو رهبة، أو يدله العقل على فضيلة ما اختاره، فأما خلقه الموافق لهواه فإنه لا يدعوه إلى اختيار دين غير آبائه لا سيما والدين الذي اختاره يتضمن من التكاليف الشاقة على الأنفس ما هو مضاد لهوى النفس. ولا ريب أن الذين دخلوا في الإسلام من أولئك التتار - وقد كانوا أهل شوكة ودولة - لم يكن لهم داع إلى ذلك من رغبة ولا رهبة، وإنما دخلوا في الإسلام لما رأوا من شرفه وفضله بعد مخالطة المسلمين. وهذا يدل على معنى ما أشرنا إليه فيما تقدم، ويأتي إيضاحه فيما بعد - إن شاء الله - من أن من الحكمة في شرع الجهاد ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 إجبار الناس على الدخول في الإسلام بالظاهر دون الباطن، وإنما سيف الجهاد منفذ للشريعة موصل لها إلى أسماع المكلفين؛ حتى يصغوا إليها، فيعلموا أنها الحق، فيعملوا بها باطنا وظاهرا. ولما كان هؤلاء القوم خالطوا المسلمين، وسمعوا القرآن، ورأوا محاسن الإسلام دعتهم عقولهم إلى استحسانه من غير داع آخر، ولا رغبة ولا رهبة، مع أن إسلام أكثرهم ضعيف من جهة تساهلهم في فعل المأمورات، وترك المحظورات، كما ذكر العلماء بأحوالهم. واعلم أن السنة النبوية قد أشارت إلى قتال الترك وفتنتهم، فهو من الأعلام الظاهرة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر، وحتى تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة، صغار الأعين، ذلف الأنوف» . أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وفي رواية: «حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين، حمر الوجوه، فطس الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وفي رواية للبخاري: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، وجوههم كالمجان المطرقة، نعالهم الشعر» . وفي لفظ: عراض الوجوه. وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أخبر: «بأن الترك ستغلب على العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح والقيصوم» ، وورد عنه في حديثه: «اتركوا الترك ما تركوكم، فإن أول من يسلب أمتي ملكها بنو قنطوراء» . فقد ظهر مصداق ما أخبر به -صلى الله عليه وسلم- في هذه الواقعة كغيرها من الغيوب التي أطلعه الله عليها فوقعت على وفق ما أخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 المقام الثاني قال النصراني: " فصل في الرد على المسلمين بحجة مأخوذة من الكتب المقدسة التي لليهود والنصارى، وأنهم لم تتغير. من المشهور المجتمع عليه عند المسلمين، وما قد شهد له محمد أن الله بعث موسى، ويشوع، الذي اسمه في العربية عيسى. وأن الذين دعوا الناس في أول الأمر إلى قبول شريعة يشوع كانوا من أهل الصلاح، ولكن مع ذلك توجد في القرآن أخبار عدة مخالفة لما أتى به موسى وتلاميذ يشوع. ومن جملة تلك الأخبار نقتصر على ما أوتي به من أمر يشوع: فأما الذي حقق رسله وتلاميذه بإجماع منهم كلهم أنه صلب، ومات، وفي اليوم الثالث قام من بين الأموات وشاهده عدة من الناس، وأما المسلمون يزعمون بخلاف ذلك، أنه رفع إلى السماء خفية، وأن المصلوب هو الشخص المشبه به ظنه اليهود أنه هو، وأما يشوع فلم يصلب، ولم يقتل. ولا سبيل إلى فك هذا الاعتراض إلا أن يقولوا - وهو قولهم -: إن كتب موسى وتلاميذ يشوع لم تبق على ما كانت عليه أولا، إنها تغيرت. وقولهم هذا مما أبطلناه فيما تقدم. وإنما لو قال أحد: " إن القرآن قد تغير " لأنكر المسلمون ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وقالوا: إن في إنكارهم ذلك ما يكفي ردا على من يقول: " إنه بدل " ما لم يكن له حجة يستدل بها على صحة قوله. مع أنهم لا يمكنهم أن يستدلوا على صحة كتابهم بما يعادل دلالتنا على صحة كتابنا من حيث انتشار عدة نسخ منذ أول الأمر في جميع الآفاق، لا كحال كتابهم بلسان واحد، بل بلغات عدة، وأنها محفوظة عند الفرق المختلفة. هذا كلامه. والجواب عنه من وجوه: الأول: أن هذا الاعتراض وأمثاله نظير اعتراض اليهود على نبوة عيسى -عليه السلام- واحتجاجهم بأشياء من التوراة التي بأيديهم. كاعتراضهم في إحلال السبت بأن في التوراة الأمر بالتمسك بالسبت ما دامت السماوات والأرض. وكاعتراضهم بما في التوراة من وصف زمن المسيح مثل: أنه سيسكن الذئب مع الجمل، والنمر مع الجدي، والأسد مع الضأن وأن الطفل يلاعب الحية، وأن جبل الله سيعلو على سائر الجبال، وأن غير اليهود من الأمم سيأتون ويسجدون لله فيه ... ، إلى غير ذلك من اعتراضات اليهود على نبوة عيسى -عليه السلام -. وليس عند النصارى جواب عن اعتراضهم إلا وعند المسلمين من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الأجوبة عن اعتراض الطائفتين ما هو أظهر وأوضح، كما سيأتي ما يتيسر من ذلك مما يتعلق بغرضنا - إن شاء الله -. الوجه الثاني: أن المعجزات الظاهرة والأدلة القاطعة قد قامت على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وبعد ثبوت المعجزات فلا التفات إلى مثل هذه الاعتراضات. كما قد أجاب به النصراني عن شبهات اليهود فلا يبقى إلا التسليم لخبر من قامت المعجزة على صدقه. فلما ثبت بالأدلة القاطعة صدق محمد -صلى الله عليه وسلم- في خبره عن الله علم قطعا كذب كل خبر يخالف ما جاء به. يوضح ذلك الوجه الثالث: وهو أن دعوى النصارى قتل المسيح، وصلبه مستندة إلى أخبار من وضع الكتب التي بأيدي النصارى، وهي غير موثوق بها، لما سنبينه من أمرها، ولأنها كانت في أول الأمر بأيدي عدد قليل لا يستبعد تواطؤهم على الكذب والتبديل والتغيير، فلا يعارض بها خبر من جاء بالمعجزات التي لا مرية معها أنه أخبر بما أخبر به عن وحي من الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وقد قال الله -تعالى- في الكتاب الذي أنزل عليه فيما ذم به اليهود: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} . وكان من خبر اليهود أنهم لما بعث الله عيسى بالبينات والهدى حسدوه على ما آتاه الله من النبوة والمعجزات الباهرات التي منها: أنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى - بإذن الله -، ويصور من الطين طائرا، ثم ينفخ فيه، فيكون طائرا يشاهد طيرانه - بإذن الله عز وجل - ... ، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها، فأجراها على يديه. ومع هذا كذبوه وخالفوه ورموه بالعظائم كما قال -تعالى- في الآية: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} . قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس:" إنهم رموها بالزنا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وكذا قال غير واحد من السلف، وهو ظاهر من الآية، فجعلوها زانية قد حملت بولدها من ذلك. زاد بعضهم: وهي حائض {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} . أي: هذا الذي يدعي لنفسه هذا المنصب وقد قتلناه، وهذا من باب التهكم والاستهزاء كقول المشركين: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} أي: يا ذا الذي يدعي لنفسه ذلك، إنك لمجنون. والمقصود أن اليهود آذوا نبي الله -عليه السلام- بكل ممكن حتى جعل لا يساكنهم في بلد، بل كان يكثر السياحة هو وأمه - عليهما السلام - حتى كان آخر ذلك أن سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان، وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب من اليونان، وأنهوا إليه أن ببيت المقدس رجلا يفتن الناس، ويضلهم، ويفسد على الملك رعاياه، فغضب الملك، وكتب إلى نائب بيت المقدس: " أن يحتاط على هذا المذكور، ويصلبه، ويضع الشوك على رأسه، ويكف أذاه عن الناس ". فامتثل والي بيت المقدس ذلك. وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى -عليه السلام - وهو في جماعة: اثنا عشر، أو ثلاثة عشر، وقيل: سبعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 عشر نفرا، وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر إقبال السبت فحصروه، فلما أحس بهم، وأنه لا محالة من دخولهم إليه، أو خروجه إليهم قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة؟ فابتدر لذلك شاب منهم، فاستصغره عن ذلك، فأعادها ثانية، فكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب، فقال: أنت هو، وألقي عليه شبه عيسى حتى كأنه هو، وفتحت روزنة في سقف الباب، وأخذت عيسى -عليه السلام- سنة من النوم، فرفع إلى السماء، وهو كذلك كما قال -تعالى-: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ... . فلما دخل أولئك النفر ورأوا ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى -عليه السلام-؛ فأخذوه في الليل، وصلبوه، ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم قتلوه، وتبجحوا بذلك، وسلم لهم طوائف من النصارى، ذلك بجهلهم وقلة عقلهم ما عدا من كان في بيت المسيح؛ فإنهم شاهدوا رفعه، وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح ابن مريم، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت. ويقال: إنه خاطبها. والله أعلم. وهذا كله امتحان من الله لعباده لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وقد وضح الله الأمر، وجلاه، وبينه، وأظهره في القرآن الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 أنزله على رسوله المؤيد بالمعجزات، والبينات، والدلائل الواضحات، فقال -تعالى- وهو أصدق القائلين، ورب العالمين المطلع على السرائر والضمائر الذي يعلم السر في السماوات والأرض، العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أي: رأوا شبهه؛ فظنوا أنه إياه {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} يعني: من ادعى قتله من اليهود ومن سلمه لهم من جهلة النصارى كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: " لما أراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج عيسى على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين - يعني فخرج عليهم - من عين في البيت ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة. ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي؛ فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال: أنا، فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا، فقال أنت هو ذاك، فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزتة في البيت إلى السماء، وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشبيه، فقتلوه، ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة من بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق: فقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء، ثم صعد إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان عبد الله ورسوله، ثم رفعه إليه، وهؤلاء المسلمون. وقالت طائفة: هو ابن الله، كان فينا ما شاء، ثم رفعه إليه، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- ". وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، قاله الحافظ ابن كثير. قال " ورواه النسائي عن أبي كريب عن أبي معاوية بنحوه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وكذا ذكر غير واحد من السلف أنه قال: أيكم يلقى عليه شبهي؛ فيقتل مكاني وهو رفيقي في الجنة؟. وللقصة طرق كثيرة ملخص الصحيح منها ما قدمنا. ثم قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} . قال ابن عباس في قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} قال: " قبل موت عيسى ". قال العوفي عنه: " عند نزول عيسى لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به "، وقيل: " قبل موت الكتابي ". والصحيح القول الأول؛ لأن المقصود من سياق الآية كما قال ابن كثير: تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم ذلك من النصارى. فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شبه لهم، فقتلوا الشبيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وأنه رفعه إليه، وأنه باق حي، وأنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية؛ أي: لا يقبلها من أحد، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف. وأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم، ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} أي: بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه وبعد نزوله إلى الأرض. وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل عيسى ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى تكون السجدة خيرا من الدنيا وما فيها. ثم قال أبو هريرة اقرؤوا: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وروى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الأنبياء إخوة العلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن نبي بيني وبينه، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان مخضران، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيقذف الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة في الأرض، ثم ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الصبيان بالحيات، لا تضرهم، فيمكث في الأرض أربعين سنة، فيتوفى، ويصلي عليه المسلمون» . والأحاديث في هذا المعنى والأخبار بنزول عيسى كثيرة مقطوع بها، وهذا كله معلوم من نعته عند أهل الكتاب. لكن النصارى ظنوا أن نزوله ومجيئه مرة أخرى إنما يكون يوم القيامة، فغلطوا في مجيئه الثاني، كما غلطوا في مجيئه الأول حيث ظنوا أنه الله. واليهود أنكروا مجيئه الأول وظنوا أنه غير المبشر به، وصاروا ينتظرون غيره، وإنما بعث إليهم أولا، فكذبوه، فجاء القرآن بالحق من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 أمره وبقاء حياته في السماء، وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، ليكذب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت فيه أقوالهم، وخرجوا عن الحق، فتنقصه اليهود، ورموه بالعظائم، وأطراه النصارى، فادعوا فيه الربوبية - تعالى الله عن قول هؤلاء وقول هؤلاء علوا كبيرا -. والنصارى لم يؤمنوا بنزوله قبل يوم القيامة لم ينفصلوا عن شبهة اليهود المأخوذة من نعت زمان المسيح المذكور في التوراة - كما أشرنا إليه قريبا -، واضطروا إلى تأويل ذلك الوصف على المجاز البعيد الذي يعلم كل أحد أنه غير مراد. قال شيخ الإسلام أبو العباس: والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على أن الأنبياء أنذرت بالمسيح الدجال، وعلى أن الأنبياء بشروا بالمسيح من ولد داود، ومتفقون على أن مسيح الضلالة له آيات، وعلى أن مسيح الهدى سيأتي أيضا. ثم المسلمون والنصارى متفقون على أنه عيسى، واليهود تنكر ذلك مع إقرارهم أنه من ولد داود. قالوا: لأنه تؤمن به الأمم كلها، والنصارى مقرون بأنه بعث، وأنه سيأتي، لكن يقولون: يوم القيامة، ليجزي الناس بأعمالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وأما المسلمون فآمنوا بما أخبرت به الأنبياء على وجهه. وهو موافق لما أخبر به خاتم الرسل في الأحاديث المشار إليها. الوجه الرابع: ما اعترف به النصراني في المقالة الأولى من كتابه من حصول الاختلاف بين النصارى في صحة بعض هذه الكتب التي هي عمدتهم في الدين - بزعمهم -، وأنهم في أول الأمر شاكون فيها، كرسالة بطرس الثانية، ورسالتي يعقوب ويهوذا، والرسالتان المنسوبتان إلى يوحنا، أي: الرؤيا والرسالة إلى العبرانيين. ولم يجب النصراني عن هذا الإيراد إلا بأنها كانت مقبولة في بعض الكنائس، ثم بعد ذلك حصل اتفاق النصارى عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ولا ريب عند كل ذي لب صحيح أن هذا يمنع الثقة بشيء من كتبهم، حيث قبلوا ما كان مشكوكا فيه عند أوائلهم أو مردودا مكذوبا، ثم عمدوا إليه، فألحقوه بإنجيل المسيح الذي زعموا أنه لم يغير، ولم يبدل، فإن مثل هذا لا يرتضيه ثقات المؤرخين أن يضعوا في كتبهم ما يكون مستندا إلى الشك وعدم الثقة، فكيف بكتب الشريعة المنسوبة إلى الأنبياء المجعولة عمدة في الدين؟ فهذا أوضح دليل وأظهر برهان على جهالة الأمة الضالة بالعلم الصحيح الموروث عن المسيح -عليه السلام-، بل قد التبس عليهم الصدق بالكذب، والصحيح بالسقيم، لأنه ليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين، كما لهذه الأمة الإسلامية من الأئمة العلماء والسادة الأتقياء، والبررة النجباء، من الجهابذة النقاد، والحفاظ الجياد الذين دونوا الحديث، وحرروه، وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه ومنكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ومتروكه ومكذوبه، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال. كل ذلك صيانة للجناب النبوي، والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر -صلى الله عليه وسلم- أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس عنه. فضلا عن عنايتهم بنقل القرآن وحفظه حتى لا يشك في حرف من حروفه أنه من عند الله، فرضي الله عنهم، وأرضاهم، وجعل جنة الفردوس مأواهم، وقد فعل. الوجه الخامس: أن هذه الكتب كما يدل عليه صريح كلام النصراني لم تتلق إلا من صحف وجدت بأيدي النصارى، لا كحال المسلمين في تلقي القرآن من أفواه الثقات المتقنين قرنا بعد قرن، حتى لم يقع اختلاف بينهم في حرف واحد أنه من القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ولا كنقلهم لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأخباره وسيرته وسيرة أصحابه، حيث رووا ذلك كله بالأسانيد الصحيحة الموثوق برجالها، المعروفين بالصدق والأمانة وتمام الثقة، وميزوا الصحيح من المعلول والمجروح من المقبول كما قال أبو العباس الدغولي: " سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إن الله -تعالى- قد أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد، إنما هي صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، فليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل، وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي اتخذوها عن غير الثقات. وهذه الأمة الشريفة - زادها الله شرفا بنبيها - إنما تنص الحديث عن الثقة المعروف في زمانه بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول فالأطول مجالسة لمن فوقه ممن هو أقصر مجالسة، ثم يكتبون الحديث الواحد من عشرين وجها فأكثر، حتى هذبوه من الغلط والزلل، وضبطوا حروفه، وعدوه عدا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فهذا من فضل الله على هذه الأمة، فنستودع الله -تعالى- شكر هذه النعمة وغيرها من نعمه. قال أبو حاتم الرازي: " لم يكن في أمة من الأمم - منذ خلق الله آدم - أئمة يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة فقال له رجل: يا أبا حاتم ربما رووا حديثا لا أصل له؟ فقال: علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم ". الوجه السادس: أن الاختلاف والتناقض والإخبار بأشياء على غير ما هي عليه واقع في هذه الكتب، فكان ذلك دليلا على التغيير والتبديل، فإن ما كان من عند الله لا يكون فيه اختلاف ولا تناقض. ومن أمثلة ذلك ما وقع في " إنجيل متى "، وهو عند النصارى أصح الأناجيل وعمدتها، فإنه بعد أن ذكر فيه أن الذي دل اليهود على عيسى بما بذلوا له من الفضة ندم وطرح الفضة في الهيكل عند اليهود ومضى، وخنق نفسه، وأن اليهود قالوا: هذه الفضة لا تحل لنا، فابتاعوا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 قال: (حينئذ ثم قيل في أرميا النبي القائل: وأخذوا الثلاثين فضة ثمن المثمن الذي أثمنوه من بني إسرائيل، وجعلوها لحقل الفخاري كما أمرني به الرب) . انتهى. وهذا المذكور لا وجود له في " صحيفة أرميا " التي بأيدي اليهود، كما حقق ذلك من له خبرة بكتبهم. وحينئذ فلا يخلو: إما أن يكون هذا الكلام لا وجود له في " صحيفة أرميا " أصلا، فتكون نسبته إليها من الزيادة في " إنجيل متى ". أو أن يكون قد نقص وحذف من " صحيفة أرميا "، فيكون من تحريف النقصان. فقد ثبت التحريف إما في العهد العتيق بالنقصان أو في الجديد بالزيادة، وهو المطلوب. وعندهم مما يدل على التحريف أشياء كثيرة، ولم ينفصلوا عن هذا الإيراد إلا باحتمال أن يكون ذلك من غلط الكاتب، وحينئذ فنقول: إذا احتمل أن يكون من غلط الكاتب، ولم يكن في النصارى إذ ذاك من يبين الغلط، وينفي التحريف، ويصلح التصحيف دل على أنهم قبلوا من ذلك الكاتب ما ألقاه إليهم من هذه الكتب من غير علم بصحتها عمن نسبت إليه، فسقطت الثقة بها. يقرر ذلك الوجه السابع: وهو أن هذه الكتب لما لم تتلق إلا من الصحف التي وصفناها كما اعترف به الخصم، وليست بيد من هو معلوم الثقة والأمانة، ولم تنقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 من طريق أهل التواتر، الذي ينفي عنها تطرق التهمة، لم يصح أن يستند إليها في دين الله وشرعه، فكيف يعارض بها ما جاء به صاحب المعجزات القاطعة الذي ظهرت أدلة صدقة أعظم من ظهور الشمس، فقد علم يقينا أن كل ما خالف خبر من دلت المعجزة على صدقه فهو كذب مردود. وأما ما احتج به النصراني من انتشار نسخ هذه الكتب في الآفاق، فهو غير مفيد للعلم بصحة أصلها، لأنا نقول: لما خالف بعض ما فيها خبر صاحب المعجزة، علمنا أن التغيير قد حصل فيها قبل الانتشار المانع من حصول التواطؤ على الكذب. وهذا بخلاف ما وقع في نقل القرآن العزيز، فإن الله - تعالى، وله الحمد - قيض له من أسباب الحفظ والضبط ما لم يقع نظيره لغيره من الكتب، حتى حصل تمام اليقين الذي لا يخالجه شك، ولا يرد عليه شبهة أن القرآن الذي تضمنه المصحف هو القرآن الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا مما يعترف به الموافق والمخالف. والقول بخلاف ذلك قدح في الضروريات، لأنه من المعلوم بالتواتر الذي لا مرية فيه أن الصحابة تلقوه عن نبيهم، وكتبوه في الصحف في حياته، وإن لم يكن إذ ذاك مجموعا في مصحف واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وأيضا فقد حفظه كله عن ظهر قلب جماعة من الصحابة تلقوه من فم محمد -صلى الله عليه وسلم- من أوله إلى آخره، وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه متوافرون، فألهم الله خليفة رسوله أبا بكر الصديق أن يجمع القرآن في المصحف حداثة العهد بوفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه متوافرون، فجمعوه بحضور علمائهم، وسباقهم من المهاجرين والأنصار الذين عرفوا كل آية منه، وكل سورة متى نزلت، وفي أي شيء نزلت، وتلقوه غضا طريا عن نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وأتقنوه علما وعملا. كما قال الأعمش: عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 حتى يعملوا بما فيها من العلم قال: فتعلمنا القرآن والعمل جميعا. والمقصود أن القرآن نقل بالتواتر عن محمد -صلى الله عليه وسلم- من أول الأمر حتى لا يتطرق الشك إلى حرف واحد منه أنه من القرآن. ولم يقيض لمن قبلنا من حفظ الكتب وضبطها ما يقارب ذلك، فإنا قد دللنا على وقوع التحريف والتصحيف في كتب النصارى بما لا يمكنهم دفعه، فضلا عما اعترفوا به من الشك في بعضها من أصله. وأما كتابنا فإن أحدا لو حاول أن يغير حرفا أو نقطة منه لقال له أهل الدنيا: هذا كذاب، حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له تغيير في حرف منه لقال الصبيان كلهم: أخطأت أيها الشيخ، وصوابه كذا. ولم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الكتاب العزيز الذي صانه الله عن التحريف، وحفظه عن التغيير والتصحيف، مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوافرة على إفساده وإبطاله، وانقضى الآن ما ينيف على ألف ومائتين وأربعين سنة من أول نزوله وهو بحمد الله في زيادة من الحفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الوجه الثامن أن دعوى النصارى قتل المسيح وصلبه يناقض دعواهم ربوبيته، حتى صاروا ضحكة للسفهاء، ومثلة عند العقلاء في جمعهم بين النقيضين. وقد قال أبو العلاء المعري: عجبا للمسيح بين النصارى ... وإلى أي والد نسبوه! أسلموه إلى اليهود وقالوا: ... إنهم بعد قتله صلبوه فإن كان ما يقولون حقا ... فسلوهم في اين كان أبوه؟ فإن كان ساخطا بأذاهم ... فاعبدوهم لأنهم غلبوه! هذا وقد زعموا أن كتابهم الذي بأيديهم تضمن هذين الأمرين الباطلين، واجتماعهما أفسد شيء ببديهة العقل، مع أن كلا منهما باطل وضلال. فبحيث زعموا أن كتابهم تضمن هذا المحال علمنا قطعا وقوع التغيير والتبديل فيه، وأيضا فدعوى إلهية المخلوق محال في العقل على انفرادها. وأما عدم قتله وصلبه فإنما علمناه بالسمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الوجه التاسع: أن القرآن جاء بموافقة التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الأنبياء في الخبر عن الله -تعالى- وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك تفصيلا وبيانا، وبين الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعثت بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم، ونصره لأهل الكتب المتبعين لها. وهذا معنى كون القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب كما قال -تعالى-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} .. . وقال -تعالى-: {الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} . والآيات في هذا المعنى كثيرة، وذلك برهان عظيم على أنه من عند الله، وأن الرسول الذي جاء به صادق. فإنه لما جاء يطابق ما جاء به من قبله من الرسل مع تباعد الزمان وشهادة أعدائه، وإقرارهم بأنه لم يتلقه من بشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ولهذا يمتحنونه بأشياء كانوا يعلمون أنه لا يخبر بها إلا نبي أو من قد أخذ عنه، وهم يعلمون أنه لم يأخذ عن أحد البتة، ولو كان ذلك لوجد أعداؤه السبيل إلى الطعن عليه ومعارضته بمثل ما جاء به، إذ من الممكن أن لو كان ما جاء به مأخوذا عن بشر أن يأخذوا هم عن ذلك البشر أو عن نظيره، فيعارضوا ما جاء به. وسيأتي مزيد لهذا المعنى فيما بعد -إن شاء الله تعالى-. والمقصود أنه لما طابق الكتب المتقدمة وصدقها وشهد بصحة ما أنزل الله فيها من غير مواطأة ولا اقتباس منها، دل على أن الذي جاء به رسول صادق، كما أن الذي جاء به كذلك، وأن مخرجها من مشكاة واحدة. كما قال النجاشي - ملك الحبشة وأحد علماء النصارى - حين قرئ عليه القرآن: " هذا والذي جاء به موسى يخرج من مشكاة واحدة "، يعني فإذا كان موسى صادقا وكتابه حقا فهذا كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 حيث أخبر بما أخبر به من غير مواطأة ولا تساعد ولا تلقي عمن أخذ عنه، ويكون ذلك دليلا على صدق الرسول الأول أيضا. ونظير هذا أن يشهد رجل بشهادة فيخبر فيها بما يقطع معه بأنه صادق في شهادته صدقا لا تتطرق إليه شبهة، فيجيء آخر من بلاد أخرى لم يجتمع بالأول ولم يتواطأ معه، فيخبر بمثل تلك الشهادة سواء، مع القطع بأنه لم يجتمع به ولا تلقاها من أحد اجتمع به. فهذا يكفي في صدقه إذا تجرد الإخبار، فكيف إذا اقترن بأدلة قطع بها بأنه صادق أعظم من الدلالة التي اقترنت بخبر الأول، فكيف إذا بشر به الأول، فكيف إذا اقترن بالثاني من البراهين الدالة على صدقه نظير ما اقترن بالأول وأقوى منها؟ وكثيرا ما يتكرر هذا المعنى في القرآن، إذ في ضمنه الاحتجاج على أهل الكتابين على صحة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذا الطريق. وهو حجة -أيضا- على غيرهم بطريق اللزوم، لأنه لما جاء بمثل ما جاءوا به من غير أن يتعلم منهم حرفا واحدا دل على أنه من عند الله، وحتى لو أنكروا رسالة من تقدم لكان في مجيئه بمثل ما جاءوا به إثبات لرسالته ورسالة من تقدمه، ودليل على صحة الكتابين، وصدق الرسولين، لا سيما والكتاب الثاني جاء على يد أمي لم يقرأ كتابا، ولا خطه بيمينه، ولا عاشر أحدا من أهل الكتاب، بل نشأ بين قوم أميين يشاهدون حاله حضرا وسفرا وإقامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فهذا من أكبر الأدلة على أن ما جاء به ليس من عند البشر، ولا في قدرتهم فهو برهان أبين من الشمس، فقد تضمن ما جاء به تصديق من تقدمه، وتصديق من تقدمت البشارة به، فتطابقت حجج الله به وبيناته على أيد أنبيائه ورسله، وانقطعت المعذرة، وثبت الحق، وقامت الحجة، فلم يبق إلا العناد المحض، والإعراض والصد. وأما مخالفة القرآن بعض ما تضمنته بعض تلك الكتب فهو غير قادح في الدليل، فإنه لما جاء القرآن بما فيها من أصول دين الأنبياء والشرائع الكلية، وغير ذلك من سائر ما تضمنته من حجج الله وبيناته كان ذلك دليلا على وقوع التغيير فيها والتبديل، وعلمنا قطعا أن ذلك واقع في الجزء الذي خالف ما جاء به القرآن، إما بزيادة ونقصان في الألفاظ، وإما بتحريف التأويل وإخراج اللفظ عن مدلوله: إما في أصل لفظ لغة ذلك الكتاب، أو في الترجمة باللغة التي نقل إليها. فالقرآن هو المهيمن على تلك الكتب الشاهد بصدقها وكذب ما حرف فيها. الوجه العاشر: أن أهل الكتاب قد مزجوا أخبارهم بكتب أنبيائهم، كما هو مشاهد في الإنجيل الذي بيد النصارى، كقصة اليهود مع المسيح، وما زعمه النصارى من قتله وصلبه ودفنه، ثم قيامه من بين الأموات وغير ذلك من الأخبار التي إنما هي محكية عن تلاميذ عيسى وأتباعه، وقد خلطوها مع كتاب الله من غير تمييز بين ما هو عن الأنبياء - عليهم السلام -، وبين غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وأما كتابنا الذي تكفل الله بحفظه بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، فلم يقع فيه زيادة ولا نقص، ولم يختلط كتاب الله بغيره بما قيض الله له من أسباب الحفظ على أيدي نقلته العلماء الأبرار والأتقياء الأخيار؛ فقد كان من تمام اعتنائهم بحفظه أنهم تركوا تدوين أحاديث السنة وكتابتها حذر اختلاط شيء منها بالقرآن حتى انقرض العصر الأول وأمن هذا المحذور. وإذا أردت أن تعلم سخافة علم النصارى وقلة معرفتهم، فانظر إلى ما أورده هذا النصراني من الانتصار لصحة كتبهم كقوله عند ذكر قتل المسيح وصلبه: " وحيث إنا نصدق المؤرخين فيما أخبروا به عن الأمور التي جرت في زمان طويل قبل ميلادهم معتمدين على اجتهادهم في البحث عنها؛ فبالحري أن يصدق هذا الذي يدعي أنه أخذ جميع ما قال من الذين شاهدوه عيانا ". انتهى. فانظر إلى سخافة هذا الانتصار لتصحيح الكتب التي جعلوها عمدة للدين أن جعلها أسوة كتب المؤرخين التي يكتب مؤلفوها ما سمعوه من صحيح وسقيم!، فإن العلم الحاصل بذلك لا يفيد يقينا، وإنما يقبل من المؤرخين ما أخبروا به لكون ذلك لا يتعلق به حكم ديني، فتتلقى عنهم تلك الكتب للاطلاع على أحوال الزمان، لا لإثبات قواعد الدين وتصحيح عقائد الملة وأحكام الشريعة. وبمثل هذه الحجة الواهية احتج على قبول الكتب التي هي من أناجيلهم لم تنسب إلى شخص معين حين قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 " ولأجل هذا نقبل عدة من كتب التواريخ من حيث إننا ننظر أن مؤلفيها مع أنا نجهل أسماءهم، قد عاشوا في ذلك الزمان، وشاهدوا الأمور التي أتوا بذكرها في كتابهم، وكذلك إن الذين ألفوا الكتب التي نتكلم عنها ادعوا لأنفسهم أنهم عاشوا في الأزمنة الأولى، وأنهم منحوا من الله المواهب الرسولية، فيجب أن يقتنع بهذا " انتهى. وله في الاحتجاج على صحة كتبهم من هذا النمط من الحجج الواهية ما يكفي سماعه عن الاشتغال برده. وهو من أكبر الحجج عليهم في ضد ما قصدوه، وقد نبهنا على مقاصدها في هذا الفصل بما فيه مقنع لذوي الألباب. والمقصود من هذا كله أن كتب اليهود والنصارى وما عندهم من العلم قد اختلط فيه الحق بالباطل، والصدق بالكذب فلا نقبل منه إلا ما وافق الحق الذي بأيدينا عمن شهدت بصدقه المعجزات، والأدلة القاطعات، فما وافقه فهو الحق، وما خالفه فهو الباطل، وما أخبروا به مما لم يشهد له بصدق ولا كذب فهذا لا يقدم على تكذيبه؛ لأنه قد يكون حقا، ولا على تصديقه؛ فلعله يكون باطلا، ولكن يؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط، وهو أن يكون منزلا لا مبدلا. وقد أخرج البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة قال: " «كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 «الإسلام فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون» . وفي حديث آخر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم» . أخرجه الإمام أحمد. وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء؛ فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق، أو تصدقوا بباطل» . وروى البخاري عن ابن عباس قال: " كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدث تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا به ثمنا قليلا. ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟ ! لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فصل قال النصراني: " وأما المسلمون فإنهم يدعون أن في الفصل الرابع عشر من إنجيل يوحنا الذي فيه يوعد بإرسال فرقليط قد كان مسطورا ما وصف به نبيهم، وأن النصارى محوه وبدلوه. ويا ليت شعري، هذا التعبير وقع فيما بعد ظهور نبيهم أو قبل ظهوره: أما بعد ظهوره فما أمكن تغييره، إذ وجدت - إذ ذاك - عدة نسخ في جميع آفاق الأرض باللغات المختلفة، وهذه النسخ كلها يوافق بعضها بعضا في ذلك الفصل لا خلاف بينها فيه. وأما قبل ظهوره فلا كان لهم ما يدعوهم إلى التغيير والتبديل؛ إذ لم يمكنهم - بسابق علمهم - أن يعرفوا ما كان محمد مزمعا أن يأتي به ". الجواب - وبالله نستعين -: اعلم أن في الفصل المذكور مما هو موجود بأيدي النصارى الآن من الدلالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، والبشارة به ما هو من أوضح الأدلة. كما سنذكره إن شاء الله -تعالى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وقبل ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في معنى التحريف الذي ذكر الله عن أهل الكتاب، فقيل: إنهم كانوا يحرفون اللفظ بلفظ آخر بدليل قوله -تعالى-: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} . قال أبو العالية: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد -صلى الله عليه وسلم-، فحرفوه عن مواضعه. وتقدم قريبا من كلام ابن عباس من رواية البخاري. وروى ابن جرير عن كنانة العدوي عن عثمان بن عفان «عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} الآية. » الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 «قال: الويل جبل في النار وهو الذي أنزل في اليهود، وهم الذين حرفوا التوراة؛ زادوا فيها ما أحبوا، ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد من التوراة. ولذلك غضب الله عليهم ورفع بعض التوراة، وقال: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} » . قال ابن كثير: " وهذا غريب جدا ". وقال السدي: كان أناس من اليهود كتبوا كتابا عندهم يبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند الله فيأخذون به ثمنا قليلا. وكلام السدي هذا يدل على أن ذلك في قوم مخصوصين كما قال تعالى في موضع آخر: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . قال مجاهد والشعبي والحسن وقتادة والربيع بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 أنس {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} يحرفونه. وقيل: إن التحريف الذي ذكر الله عنهم هو تحريف المعنى بإلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، وجر اللفظ من معناه الحق إلى الباطل بوجوده من الحيل اللفظية، كما يفعله أهل الأهواء والبدع من هذه الأمة بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وذلك أن النصوص التي فيها نعت النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست ظاهرة لكل أحد، بل هي مما يحتاج إلى التفسير والبيان من أهل العلم الذين هم أهل الخبرة بالكتاب ومعانيه. قال وهب بن منبه: "إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله لم يغير منهما حرف؛ ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل، وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم، ويقولون: هو من عند الله، وما هو من عند الله، وأما كتب الله فإنها محفوظة لا تحول". رواه ابن أبي حاتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 قال ابن كثير: "إن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك، فلا شك أنه قد دخلها التبديل، والتحريف، والزيادة، والنقص، وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير، وزيادات كثيرة، ووهم فاحش، وفهم كثير منهم، بل أكثرهم بل جميعهم فاسد، وأما إن عنى كتب الله التي هي كتبه عنده فتلك -كما قال- محفوظة لم يدخلها شيء". انتهى. قلت: لا يخفى أن كلام وهب لا ينفي وقوع الزيادة فيها، كما لا ينفي التفسير في التراجم باللغات التي نقلت إليها، وإنما يدل على عدم تغيير ألفاظها الأصلية التي بها نزلت. والله أعلم. إذا عرفت ذلك فلا يلزم من وقوع التغيير في بعض ألفاظ نصوص الإنجيل قبل ظهور نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن يكون المغير قد علم ما يكون منه؛ إذ يمكن أن يقع ذلك جهلا ممن أبرز هذه الكتب إلى النصارى، فإنه كما علمنا يقينا أنهم زادوا فيها، فلا يستبعد أن يكونوا نقصوا منها، وإن لم يكن ذلك منهم عن تعمد؛ حيث غلب عليهم الجهل والضلال، وعدم التمييز بين الصحيح والكذب، وأما بعد مبعث نبينا -صلى الله عليه وسلم- فالتغيير ممكن أيضا؛ حيث إن أمة الضلال قد بنوا دينهم على ما تهوى أنفسهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وكلهم متفقون على الكفر بخاتم الرسل - إلا من هدى الله منهم من خيارهم الذين أسلموا - فيمكن أن يكونوا غيروا نعت محمد - صلى الله عليه وسلم -، لا سيما وكتابهم ليس انتشاره كانتشار القرآن حتى يستحيل الاتفاق على تغييره، فيحتمل أن يكون في تلك الأعصار عند جماعة محصورين؛ فيمكن اتفاقهم على الكذب والتبديل. ثم إن فيما بأيديهم من نعوته - صلى الله عليه وسلم -، ونعوت أمته مما يذكر بعضه - إن شاء الله - ما يكفي حجة على المعاند فإنها أدلة قاطعة لا محيد عنها. وقد قال الله -تعالى- في كتابه الذي أنزله على هذا النبي الكريم: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . ولا ريب أنه لو لم يكن مكتوبا عندهم لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبوله قوله؛ لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات، والعاقل لا يسعى فيما يوجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 نقصان حاله، وينفر الناس عن مقاله، فلما قال لهم -عليه السلام- هذا دل على أن ذلك النعت كان مذكورا في التوراة والإنجيل، وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته. ولكن أهل الكتاب كما قال الله -تعالى-: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} و {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} وإلا فهم - قاتلهم الله - قد عرفوا محمدا -صلى الله عليه وسلم- كما يعرفون أبناءهم، ووجدوه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، لكنهم حرفوها وبدلوها، ليطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. قال شيخ الإسلام أبو العباس: وقد ناظرنا غير واحد من أهل الكتاب، وبينا لهم تلك الدلائل، فأسلم من علمائهم وخيارهم طوائف، وصاروا يناظرون أهل دينهم، ويبينون لهم ما عندهم من الدلائل على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وهذا من الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية؛ إذ هم من الشواهد والدلائل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعندهم من الشواهد على ما أخبر به من الإيمان بالله واليوم الآخر ما يبين أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- جاء بالدين الذي بعث الله به الرسل قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن حمزة بن عبد الله بن سلام عن جده عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - «أنه لما سمع بمخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة خرج فلقيه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنت ابن سلام عالم يثرب؟ قال: نعم، قال: ناشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد صفتي في كتاب الله؟ قال: انسب ربك، يا محمد. فارتج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له جبرئيل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . قال له ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وأن الله مظهرك، ومظهر دينك على الأديان، وإني لأجد صفتك في كتاب الله» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 « {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} : أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو، ويصفح، ولن يقبضه الله حتى تستقيم به الملة المعوجة، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا» . وأخرج البيهقي وأبو نعيم «عن أم الدرداء امرأة أبي الدرداء -رضي الله عنهما- قالت: قلت لكعب: كيف تجدون صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التوراة؟ قال: كنا نجده موصوفا فيها، محمد رسول الله، اسمه المتوكل ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، وأعطي المفاتيح ليبصر الله به أعينا عورا، ويسمع به آذانا صما، ويقيم به ألسنة معوجة، حتى يشهدوا: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم، ويمنعه من أن يستضعف» .. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وفي صحيح البخاري عن عطاء بن يسار، قال: " لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أجل والله، إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل. ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا ". وفي أثر رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليماني: " أن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: (شعيا) أن قم في قومك بني إسرائيل؛ فإني منطق لسانك بوحي أو نعت أميا من أميين أبعثه، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 في الأسواق، أبعثه مبشرا ونذيرا، لا يقول الخنا، أفتح به أعينا كمها، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، أسدده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأعرف به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين أمم متفرقة، وقلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، أستنقذ به فئاما من الناس عظيمة من المهلكة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ". وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «قدم الجارود فأسلم، وقال: والذي بعثك بالحق، لقد وجدت وصفك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول» . أخرجه البيهقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ولنذكر من نصوص التوراة والإنجيل مما هو الآن موجود بأيدي اليهود والنصارى، مما يدل على نبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ونعوته، وصفاته ما هو دليل على ما وراءه، ومصداق ما تقدم ذكرنا له. فمن الدلائل في " الإنجيل " على ذلك ما ورد في الفصل الذي أشار إليه النصراني وهو الفصل الرابع عشر من " إنجيل يوحنا " الذي يرويه عن المسيح -عليه السلام- قال فيه: " إن كنتم تحبوني فحافظوا على كلامي، وأنا ألتمس الآب فيرسل إليكم فارقليط آخر؛ ليمكث معكم إلى أبد الآبدين ". فهذا من الأدلة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم -، فإنه يدل على أن الله سيبعث إليهم من يقوم مقامه، وينوب عنه في تبليغ رسالة ربه وسياسة خلقه منابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدا. فهل هذا إلا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ !. وقد اختلف النصارى في تفسير " الفارقليط "، فقيل: هو الحامد، وقيل: المخلص. فإن وافقناهم على أنه المخلص اقتضى أن المخلص رسول يأتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 لخلاص العالم، وذلك من غرضنا؛ لأن كل نبي مخلص لأمته من الكفر، ويشهد له قول المسيح -عليه السلام- في الإنجيل: " إني جئت بخلاص العالم ". فإذا ثبت أن المسيح هو الذي وصف نفسه بأنه مخلص العالم، وهو الذي سأل لهم فارقليط آخر، ففي مقتضى اللفظ ما يدل على أنه قد تقدم فارقليط أول حتى يأتي فارقليط آخر. وإن وافقناهم على القول بأنه الحامد، فأي لفظ أقرب إلى أحمد ومحمد من هذا. وهو موافق لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} . قال أبو ظفر: " وفي الإنجيل مما ترجموه ما يدل على أن " الفارقليط " الرسول، فإنه قال: إن الكلام الذي تسمعونه ليس هو لي، بل الآب الذي أرسلني بهذا الكلام لكم، وأما الفارقليط روح القدس الذي يرسله أبي باسمي فهو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم ". فهل بعد هذا البيان؟ أليس هذا صريحا في أن الفارقليط رسول يرسله الله، وهو روح القدس، وهو يصدق بالمسيح، ويظهر اسمه أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 رسول حق من الله، وليس بإله، وهو يعلم الخلق كل شيء، ويذكرهم كل ما قاله المسيح -عليه السلام- لهم، وكل ما أمرهم به من توحيد الله. وأما قوله: "أبي" فهذه اللفظة مبدلة محرفة، وليست منكرة الاستعمال عند أهل الكتابين إشارة إلى الرب -سبحانه وتعالى-؛ لأنها عندهم لفظة تعظيم يخاطب بها المتعلم معلمه الذي يستمد منه العلم. ومن المشهور مخاطبة النصارى عظماء دينهم بالآباء الروحانية، ولم يزل بنو إسرائيل وبنو عيصو يقولون: نحن أبناء الله؛ لسوء فهمهم عن الله -تعالى-. وأما قوله: "يرسله أبي باسمي" فهو إشارة إلى شهادة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- له بالصدق والرسالة، وما تضمنه القرآن من مدحه وتبرئته مما افتري في أمره. قال في المواهب: "وفي ترجمة أخرى للإنجيل في وصف الفارقليط: إذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، بل يتكلم بكل ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 بالحوادث". وهو عند ابن ظفر بلفظ: "فإذا جاء روح القدس ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي، وهو يمجدني". فقوله: "ليس ينطق من عنده"، وفي الرواية الأخرى: "ولا يقول من تلقاء نفسه، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي"؛ أي: من الله الذي أرسله. وهذا كما قال الله -تعالى- في حقه -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . وقوله: "وهو يمجدني" فلم يمجده حق تمجيده إلا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه وصفه بأنه رسول الله، وبرأه، وبرأ أمه -عليهما السلام- مما نسب إليهما. قال ابن ظفر: "ومن الذي وبخ العلماء على كتمان الحق، وتحريف الكلم عن مواضعه، وبيع الدين بالثمن البخس، ومن الذي أنذر بالحوادث، وأخبر بالغيوب إلا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ " انتهى. و"روح القدس" من أسمائه -عليه الصلاة والسلام - وبكل منهما جاء الإنجيل. وكذلك "روح الحق" كما ذكره صاحب المواهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وقد سمى الله -سبحانه- الكتاب الذي أنزله عليه روحا، فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . وقد قيل في تفسير (الفارقليط) : معناه روح الحق. وفي نهاية ابن الأثير في صفته - عليه الصلاة والسلام -: " أن اسمه في الكتب السالفة (فارقليط) ؛ أي: يفرق بين الحق والباطل قال: ومنه الحديث: " محمد فرق بين الناس "؛ أي يفرق بين المؤمنين والكافرين بتصديقه وتكذيبه ". وللنصارى في تفسير روح القدس من الكلام الباطل ما هو مقتضى كفرهم بالله وشركهم به - تعالى الله عما يشركون -. فقد عرفت بما ذكرناه من النص الذي بأيديهم في ذكر (الفارقليط) أنه من أدلة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يحتمل وجها آخر. وبذلك تعلم أن إحالة النصراني صفته -صلى الله عليه وسلم- التي ادعاها المسلمون في الفصل الذي ذكره على ما قد محاه النصارى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 مغالطة وتعمية عن الدلالة التي قررناها، وهذا من تمويههم على ضعفاء العقول، كما هو دأبهم في كل نص في صفته -صلى الله عليه وسلم-. ومن الأدلة في الإنجيل ما ورد في الفصل الثالث من أخبار الرسل وهو أحد الأناجيل التي بأيدي النصارى مما يرونه عن المسيح -عليه السلام-، ولفظه: أن موسى قال: " إن الرب إلهكم يقيم لكم نبيا من إخوتكم مثلي، له تسمعون في كل ما يكلمكم به، وتكون كل نفس لا تسمع ذلك النبي تستأصل من بين القوم ". وهذا النص أيضا في " سفر الاستثناء " من التوراة، وهو صريح في الدلالة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد حرفه اليهود والنصارى، وتأولوه على غير تأويله، فزعمت اليهود أن المراد به يوشع بن نون، وزعمت النصارى أن المراد به المسيح. ودعوى الكل واضحة البطلان؛ فإنه قال: " من إخوتكم " والخطاب لبني إسرائيل، ولو كان المراد يوشع أو عيسى لكان من أنفسهم؛ لأنهم من بني إسحاق، فدل على أن هذا النبي الموعود به ليس من أنفسهم، بل من إخوتهم، وهو من بني إسماعيل. وأيضا فقد وصف هذا النبي بقوله: " مثلي " ولفظ هذا النص في التوراة مما ترجموه: " أن الله -تعالى- قال لموسى: " وسأقيم لهم نبيا " وأيضا فقد وصف هذا النبي بقوله: " مثلي " ولفظ هذا النص في التوراة مما ترجموه: " أن الله -تعالى- قال لموسى: " وسأقيم لهم نبيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 مثلك من إخوتهم، وأجعل كلامي في فمه، فيقول لهم كل ما أمرت به "، فهو صريح في أن النبي الموعود به مثل موسى. وقد قال في التوراة: " لا يقوم في بني إسرائيل أحد مثل موسى أبدا ". فتعين أن يكون المراد به محمدا -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه كفء موسى - عليه السلام؛ فإنه ماثله في منصب الدعوة، والتحدي بالمعجزة، وشرع الأحكام، وإجراء النسخ على الشرائع السالفة. وقوله -تعالى-: " وأجعل كلامي في فمه " صريح في أن المقصود به محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن معناه أوحي إليه بكلامي، فينطق به على نحو ما سمعه، ولا أنزل عليه صحفا ولا ألواحا؛ لأنه لا يحسن أن يقرأ المكتوب. ويدل على فساد تأويل اليهود -أيضا- أن (يوشع) ليس كفؤا لموسى - عليهما السلام - بل كان خادما له في حياته، ومؤكدا لدعوته بعد وفاته. فكيف يصح أن يوصف بأنه مثل موسى؟ !. وعلى فساد تأويل النصارى قوله: " كل نفس لا تسمع ذلك النبي تستأصل من بين القوم "؛ فإن الذي عليه النصارى ألا يتعرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 للنصراني إذا انتقل عن دينه إلى غيره سواء إلى الإسلام أو اليهودية أو غير ذلك. وكذلك المرأة إذا زنت لا يتعرضون لها، ويزعمون أن شريعة المسيح ليس فيها إقامة الحدود، والجهاد ليس مشروعا في ملتهم، بل هم به عصاة. وهذا كله مناقض لهذا النص، فدل على بطلان كون المراد به المسيح، بل هو مطابق لصفة محمد -صلى الله عليه وسلم- وشريعته، فإن مخالفة بعض أوامره يوجب سفك الدم، وإزهاق النفوس؛ فتعين أنه هو المراد. ومن ذلك ما ورد في " رسالة يهوذا " من الإنجيل، وهو في " صحيفة زكريا " من كتب العهد العتيق الذي عند اليهود، قال: " إن الرب قد جاء أو سيجيء بربوات مقدسة؛ ليقضي على جميع الناس، ويوبخ المنافقين لجميع أعمالهم التي نافقوا بها، وجميع الأقوال الصعبة التي تكلم بها عليه الخاطئون ". وهذا من الأدلة الواضحة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم - وزعمت النصارى أن المراد به المسيح. وهو زعم باطل، فإنه لا دلالة فيه على المسيح بوجه؛ لأن هذا المنصوص عليه بالإتيان بالربوات المقدسة، والقضاء على جميع الناس، وتوبيخ المنافقين ينبغي أن يقوم بحد الحديد والبأس الشديد، ولا دلالة في شيء من هذه الصفات على المسيح -عليه السلام-؛ لأنه لم يأت إلا في زي يخالف هذا الوصف، ولم يشرع له الجهاد في ملته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وأما دلالته على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- فواضحة لا تحتاج إلى مزيد تأمل، فإنه هو المتصف بهذه الصفات، كما في الحديث عن عبد الله بن عمر أن: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم» . أخرجه الإمام أحمد في المسند. وهو الذي وثب بربوات العرب، وقضى على جميع الناس بعموم رسالته، ووبخ المنافقين - والله أعلم - يشمل توبيخه المنافقين من أتباعه، ويشمل -أيضا- توبيخه لليهود والنصارى؛ فإنهم يدعون أنهم يؤمنون بالكتب التي بأيديهم، ويتبعون أنبياءهم، وقد كذبوا في ذلك، بل نقضوا العهود والمواثيق، وكذبوا بالحق المصدق لما في أيديهم، فجاء القرآن بتوبيخهم وعيبهم بالغضب والضلال واللعن: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} . ومن ذلك ما ورد في الفصل الحادي والعشرين من "إنجيل متى " وهو -أيضا- في إنجيل مرقس " قال: " ثم طفق يضرب لهم الأمثال ويقول: اغترس رجل كرما، وحوطه بحائط، وبحث فيه معصرة، وبني يرجا، وأجره للفلاحين، وسافر، ولما جاء الموسم أرسل إلى الفلاحين خادما؛ لينال من ثمرة الكرم، شيئا فأخذوه، وضربوه، وردوه خائبا، فأرسل إليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 خادما ثانيا، فرجموه، وشجوه، وردوه محقرا، ثم أرسل ثالثا فقتلوه، وكثيرين آخرين ضربوا بعضهم وقتلوا بعضا، وكان قد بقي له ابن وحيد هو محبوبه، فأرسله إليهم آخر الأمر. وقال: إنهم سيكرمون ابني، فقال الفلاحون فيما بينهم: إن هذا الوارث؛ فهلموا بنا نقتله، فيصير الميراث لنا، فأخذوه، وقتلوه، وأخرجوه خارج الكرم. فماذا يفعل رب الكرم؟ نعم، إنه سيأتي، ويهلك الفلاحين، ويسلم الكرم إلى آخرين. ألم تقرؤوا هذا المرقوم؟. قوله: إن الحجرة التي رفض البناؤون صارت رأس الزاوية. هذا ما وقع عند الرب، وهو في نظركم عجيب ". فسياق هذا المثل من أظهر الأمثال المضروبة في الإنجيل لنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم - وهو أول الفصل في إنجيل مرقس ". وتقرير دلالته أن الغارس هو الباري -تعالى-، والمغرسة الدنيا، والكرم بنو آدم، والحائط الناموس الذي جاءت به الرسل، والمعصرة الأحكام الناموسية، والفلاحون الذين بلغتهم الدعوة. فالذي ضرب به المثل بالخادم الأول يناسب حال موسى -عليه السلام-، والثاني يناسب حال يوشع بن نون، والثالث يناسب حال بعض أكابر الأنبياء بعده، والمجهولون هم المتوسطون من موسى إلى زمان عيسى - عليهم السلام -، والابن الوحيد يناسب حال عيسى -عليه السلام-، لأنه آخر أنبياء بني إسرائيل، والآخرون الذين يسلم إليهم الكرم هم العرب الذين بعث فيهم محمد -صلى الله عليه وسلم-. وفي قوله: " ويسلم الكرم إلى آخرين " فضيلة عظيمة لهذه الأمة توافق قول الله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وكما في مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي وسنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " «أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل» ". وأخرج الترمذي من حديث معاذ وأبي سعيد نحوه، يوضح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 المعنى الذي قررناه ما ختم به المثل من قوله: " ألم تقرؤوا هذا المرقوم ... " إلى آخره، فإنه إشارة إلى ما ورد في الفصل الثامن والعشرين من " صحيفة إشعيا " -عليه السلام-. ولفظه كما في بعض التراجم: " أن تلك الحجرة التي رفض البناؤون صارت رأس الزاوية، هذا هو عمل الرب، وهو في أعيننا عجيب ". وقد ذهب النصارى إلى تأويل هذا النص في شأن المسيح -عليه السلام-، وهي دعوى باطلة؛ فإن سياق الكلام يأباه، والوصف يخالفه؛ فإن المسيح لم يكن في بني إسرائيل محتقرا ولا مرفوضا من حيث كونه من بني إسرائيل، وإنما يدل دلالة ظاهرة على محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي هو من بني إسماعيل، وهم كانوا مرفوضين عند بني إسرائيل مع كونهم إخوتهم، ولا يرونهم أهلا للفضائل. وسياق الكلام يدل على أن تلك الحجرة كانت مرفوضة في زمان موسى والأنبياء بعده، والنصارى لا يدعون هذه الصفة في المسيح؛ فدل على ما قلناه. وقيل: ما عبر عنه بالحجرة المرفوضة من أجل ما جرى لسارة مع إبراهيم - عليهما السلام - في شأن إسماعيل وأمه من أجل غيرة سارة؛ فنقلهما بأمر الله -تعالى- إلى مكة. فالله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 و "رأس الزاوية" هو ملتقى الخطين فيكون هو الخاتم؛ لأن الخطين يذهبان إلى حيثما يذهبان إليه، فيكون ملتقاهما هو منتهاهما. وهذا هو محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي ختم الله به رسله. وفي معنى هذا المثل ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة!، فأنا تلك اللبنة، وأنا خاتم النبيين» . أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما. وقوله: "هذا ما وقع عند الرب، وهو في نظركم عجيب"، وفي بعض التراجم "هذا هو عمل الرب" جواب سؤال مقدر تقديره: هل يمكن أن تستقر الحجرة المرفوضة في رأس الزاوية؟ أو هل يجوز أن يقوم من أولاد الجارية هاجر نبي؟. فيكون الجواب: هذا هو عمل الرب. ومما يزيد ذلك بيانا ما جاء في التوراة من بيان ما عهد الله به إلى إبراهيم -عليه السلام- في ابنه إسماعيل كما جاء في "سفر التكوين"، قال فيه: "وأما إسماعيل فإني قد سمعت دعاءك له، وها أنا ذا قد باركت فيه، وجعلته مثمرا، وسأكثره تكثيرا، وسيلد اثني عشر ملكا، وسأصيرهم أمة عظيمة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وقد ذهب اليهود والنصارى إلى أن المراد بالملوك الاثني عشر أولاد إسماعيل الاثني عشر وهو باطل؛ لأنهم لم يتملكوا، ولم يدعوا الملكية. ولكن هذا مطابق لما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر بن سمرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش» . ولا ريب أن بني إسماعيل إنما صاروا أمة عظيمة بحيث ارتفع شأنهم بين الأمم، وظهرت فيهم الفضائل التي هي ثمرة البركة الموعودة من الله -تعالى- لإبراهيم، إنما حصل ذلك ببعثة محمد -صلى الله عليه وسلم-. وأيضا فلو كان كما يدعي اليهود والنصارى -لعنهم الله- من أن العرب تابعوا متقولا على الله كاذبا عليه، وحاربوا أولياء الله وأتباع رسله، وانتهكوا حرماتهم هذه القرون المتطاولة، لكان ذلك مناقضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 لذلك الوعد الجميل من الله لإبراهيم -عليه السلام- فقد ظهر أن هذا النص من أوضح الأدلة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم -. ومن الأدلة في الإنجيل -أيضا- ما جاء في "رسالة بولس إلى أهل رومية"، وهو- أيضا - في "صحيفة إشعيا " من العهد العتيق، قال: "سأدعو الذين ليسوا من شيعتي لي شيعة، والتي ليست بمحبوبتي لي محبوبة". وقد ادعى النصارى أن ذلك في شأن أتباع المسيح، وادعوا أن رسالته عامة، وهو خلاف ما تواتر عليه نص الإنجيل. كما ورد في الفصل الخامس عشر من "إنجيل متى"، قال: "إني لم أرسل إلا لغنم بني إسرائيل الضالة". وفي الفصل العاشر منه -أيضا- أن المسيح لما أرسل الحواريين للدعوة قال: "سيروا إلى غنم بني إسرائيل الضالة". إلى غير ذلك مما دل على أن رسالته مختصة ببني إسرائيل، وهو موافق لما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 إذ عرفت هذا فلا ريب أن ذلك الوصف إنما ينطبق على العرب، فإنهم كانوا قبل مبعث محمد -صلى الله عليه وسلم- من أجهل الخلق بالله، وبما جاءت به الرسل، لا يعرفون كتابا، ولا يؤمنون بالرسل، ولا يصدقون بالبعث، فمقتضى هذا النص أن هؤلاء الغافلين الجهال بالله، وما جاءت به رسله سيجعلهم الرب تعالى من شيعة الحق، ويجعلهم له أهلا، وينقلهم إلى القرب منه، ويكونون له أحبابا. ومما يوافق هذا النص ويوضح دلالته ما ورد في الفصل العاشر من " رسالة بولس إلى أهل رومية "، قال: " إني سأعيركم بأمة أخرى، وأغيظكم بأمة لا فهم لها ". انتهى. وهذا النص -أيضا- في " سفر الاستثناء " من التوراة، وقد ساقه بولس في جملة ما وعظ به اليهود حتى يرتدعوا عما كانوا عليه، ويذكروا يوم يعيرهم الله بأمة أخرى، ويغيظهم بأمة لا فهم لها. وهذا الوصف لا ينطبق على غير العرب البتة، وإن حمله النصارى على من دخل في النصرانية من اليونان والروم فهو باطل. فإن عند أولئك علوما كثيرة وأفهاما قوية، بل هم أعلم من اليهود في جميع العلوم العقلية بكثير، وفيهم الحكماء الذين استنبطوا فنونا كثيرة ودونوها، وعرفت عنهم. وأما العرب فما كانوا قبل مبعث محمد -صلى الله عليه وسلم- يتعاطون شيئا من العلوم العقلية أو النقلية، وغاية ما عندهم علم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الشعر والبلاغة، وإن كانوا قد منحوا من صحة الأذهان، وقوة العقول في أصل الجبلة ما فاقوا به غيرهم، لكن غلبت عليهم الغفلة، فاستولى عليهم الجهل، فدل على أنهم المعنيون بهذا النص. ومن هذا المعنى في صفة هذه الأمة ما جاء من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله -تعالى- قال لعيسى ابن مريم: إني باعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم. قال: يا رب كيف ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي» . أخرجه البزار في مسنده وغيره. وأيضا فلم يغظ اليهود أمة كما أغاظهم محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمته. ومن ذلك ما ورد في الفصل العاشر من رسالة بولس إلى أهل رومية من كتب النصارى، وهو -أيضا- في " صحيفة إشعياء " من كتب اليهود. " إني وجدت عند من لم يطلبني، وظهرت عند من لم يسأل عني ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وقد تأول النصارى هذا النص في اليونانيين الذين دخلوا في النصرانية زمن الفترة، وهو من جنس تحريفهم للنص قبله، وإلا فهو صريح في حق العرب كما أشرنا في الذي قبله. وأيضا فاليونان لهم من الكلام في الإلهيات والبحث عنها ما هو مشهور، لكن بالطرق العقلية، لم يأخذوا ذلك من جهة الأنبياء. وأما العرب فكانوا في غفلة عن ذلك سوى ما بقي في فطرهم من الإقرار بالله، وأنه خالق كل شيء. ومما يوضح دلالة هذا النص سياقه في " صحيفة إشعياء "، ولفظه: " إني أصبت عند من لم يسأل عني، ووجدت عند من لم يطلبني، وقلت لأمة لم تدع باسمي: انظري إلي، لأني قد أظهرت يدي طول النهار إلى فئة طاغية سالكة في سبيل سيئ ممتثلة لأهوائها. وفئة أي فئة تغيظني أمام وجهي، وتقرب قرابينها في البساتين، وتبخر في مباخر الشياطين التي تسكن المقابر، وتأكل لحم الخنازير، ومرق النجاسة في أوانيها ". فمن قوله: " أصبت " إلى قوله: " انظري إلي " إشارة إلى صفة العرب وبعثه محمد -صلى الله عليه وسلم- فيهم بالهدى ودين الحق. ومن قوله: " لأني " إلى قوله: " ممتثلة لأهوائها " إشارة إلى اليهود، وقد جاء القرآن من وصفهم بما يوافق هذا كوصفهم باتباع الأهواء، وتركهم الحق على علم، وغير ذلك من أخلاقهم الذميمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ومن قوله: " وفئة " إلى قوله: " في أوانيها " إشارة ظاهرة في حق النصارى متضمنة وصفهم بالضلال والجهل بما هو طبق صفتهم في القرآن. فقد تضمن هذا النص وصف الأمم الثلاث بمثل ما وصفهم القرآن، وجاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، فكان دليلا من أدلة نبوته كما هو دليل على صدق من قبله حيث تطابق الوصفان من غير تواطؤ ولا اقتباس. ومن ذلك ما ورد في الفصل الثالث عشر من " إنجيل متى " والثامن من " إنجيل لوقا ": " انظروا إلى زارع خرج للزرع، وبينما هو يزرع سقط بعض البذر في الطريق، فجاءت الطيور فلقطته، وسقط بعضه على الصخر حيث لم يكن التراب كثيرا، وفي ساعته نبت، لأنه لم يكن له في الأرض عمق، ولما طلعت الشمس احترق، ويبس، لأنه لم يكن له أصل، وسقط بعضه في الشوك، فنما الشوك وخنقه، وسقط بعضه في الأرض الطيبة، فأثمر مائة ضعف وبعضه ستين وبعضه ثلاثين، فمن كانت له أذن سامعة فليسمع ". وهذا المثل - والله أعلم - يتضمن وصف الأمم الثلاث بما يظهر للمتأمل. والمقصود منه قوله: " وسقط بعضه في الأرض الطيبة ... " إلى آخره، فإنه موافق لما أخبر الله به في صفة أصحاب النبي - صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 عليه وسلم - في قوله -تعالى-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} . فذكر صفاتهم في التوراة والإنجيل فكان في هذا أعظم البراهين على صدق ما جاء بالتوراة والإنجيل والقرآن، وأن هؤلاء هم المذكورون في الكتب المتقدمة بهذه الصفات المشهورة فيهم، لا كما يقول الكفار عنهم إنهم متغلبون طالبو ملك ودنيا. ولهذا لما رآهم نصارى الشام، وشاهدوا هديهم وسيرتهم وعدلهم، وعملهم ورحمتهم، وزهدهم في الدنيا، ورغبتهم في الآخرة قالوا: " ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فكان هؤلاء النصارى أعرف بالصحابة وفضلهم من الرافضة أعدائهم، والرافضة تصفهم بضد ما وصفهم الله به في هذه الآية وغيرها!. فهذه عدة أدلة مما جاء به الإنجيل في البشارة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وذكر صفته وصفة أمته. وقد ذكر العلماء كثيرا في هذا المعنى، اقتصرنا منها على ما قدمناه إيثارا للاختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فصل ومن الأدلة الواردة في التوراة: ما ذكره غير واحد من العلماء منهم ابن قتيبة في " أعلام النبوة ": " تجلى الله - وفي رواية: جاء الله - من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران ". فسينا: هو الجبل الذي كلم الله فيه موسى -عليه السلام-. وساعير: هو الجبل الذي أرسل الله فيه عيسى -عليه السلام-، وظهرت فيه نبوته. وجبال فاران: هو اسم عبراني، وليس ألفه الأولى همزة، وهي جبال بني هاشم التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتحنث في أحدها، وفيه فاتحة الوحي. قال ابن قتيبة: " وليس بعد هذا غموض، لأن مجيء الله من سينا إنزاله التوراة على موسى -عليه السلام- بطور سيناء، فيجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على المسيح -عليه السلام-، والمسيح يسكن من ساعير أرض الخليل بقرية تدعى (ناصرة) ، وباسمها سمي من اتبعه " نصارى ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على عيسى -عليه السلام-، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من فاران بإنزاله القرآن على محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهي جبال مكة. وليس بين المسلمين وأهل الكتاب اختلاف أن فاران هي مكة، وإن ادعى مدع أنها غير مكة. قلنا: أليس في التوراة أن الله أسكن هاجر وإسماعيل فاران، وقلنا: دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه، واسمه فاران، والنبي الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح -عليه السلام-! ". قال شيخ الإسلام أبو العباس: وهذه الكتب نور الله، وهداه، ففي الأول جاء، والثاني أشرق والثالث استعلن، فمجيء التوراة كطلوع الفجر، والإنجيل مثل إشراق الشمس، والقرآن بمنزلة ظهور الشمس في السماء، فظهر به نور الله في المشارق والمغارب أعظم مما ظهر بالكتابين، ولهذا سماه الله تعالى سراجا منيرا، وسمى الشمس سراجا وهاجا، والخلق محتاجون إلى الأول أعظم من الثاني. وهذه الثلاثة أقسم الله بها في قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 فالأول الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك -ومنها بعث المسيح -، والثاني الجبل الذي كلم الله عليه موسى، والبلد الأمين مكة. ولما كان ما في التوراة خبرا عنها أخبر بها على الترتيب الزماني، وأما القرآن فأقسم بها تعظيما لشأنها، فأتى بها على وجه التدريج درجة بعد درجة، فهو من باب الترقي إلى الأعلى مما دونه. ومن ذلك ما جاء في زبور داود -عليه السلام - في مزمور أربعة وأربعين: "فاضت النعمة من شفتيك، من أجل هذا بارك الله لك إلى آخر الأبد. تقلد أيها الجبار بالسيف، فإن شريعتك وسنتك مقرونة بهيبة يمينك وسهامك مسنونة، وجميع الأمم يخرون تحتك". فهذا من أظهر الأدلة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فالنعمة التي فاضت من شفتيه هو القول الذي يقوله، وهو الكتاب الذي أنزل عليه والسنة التي سنها، وليس يتقلد بالسيف من الأنبياء بعد داود إلا محمدا -صلى الله عليه وسلم-، وقرنت شرائعه بالهيبة كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «نصرت بالرعب» . وهو صريح أنه صاحب شريعة وسنة، وأنها تقوم بسيفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وخاطبه بلفظ " الجبار " إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله، وأنه يجبر الخلق بالسيف على الحق، ويصرفهم عن الكفر جبرا - بخلاف المستضعف -، فهو نبي الرحمة، ونبي الملحمة، وأمته أشداء على الكفار رحماء بينهم. بخلاف من كان ذليلا للطائفتين من النصارى أو عزيزا على المؤمنين من اليهود، بل مستكبر. وجاء في الزبور -أيضا- في صفاتهم: " يكبرون الله بأصوات مرتفعة، ويسبحونه على مضاجعهم بأيديهم سيوف ذات شفرتين ". قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية: وهذه الصفات إنما تنطبق على محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمته، فهم الذين يكبرون الله بأصوات مرتفعة، في أذانهم، وعلى الأماكن العالية، كما قال جابر: «كنا إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا، فوضعت الصلاة على ذلك» . وهم يكبرون بأصوات مرتفعة، في أعيادهم، وفي أيام منى، وعقيب الصلوات، وعلى قرابينهم، وعلى الصفا والمروة وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وليس هذا لغيرهم، فإن موسى يجمعهم بالبوق، والنصارى لهم ناقوس، والسيوف ذات الشفرتين هي العربية التي فتح بها الصحابة وأتباعهم البلاد. وقوله: " يسبحون على مضاجعهم: أي: يذكرون الله حتى في هذه الحال، ويصلون في البيوت على المضاجع - بخلاف أهل الكتاب -، والصلاة أعظم التسبيح. واليهود لا يكبرون بأصوات مرتفعة، ولا بأيديهم سيوف ذات شفرتين، بل هم مغلوبون مع الأمم، والنصارى تعيب من يقاتل الكفار، وفيهم من يجعله من معايب محمد وأمته. ومن ذلك ما جاء في كتاب إشعياء -عليه السلام- من البشارة به -صلى الله عليه وسلم - يفتح العيون العور، والآذان الصم، ويحيي القلوب الغلف، وما أعطيه لا يعطى أحد، مشفح يحمد الله حمدا جديدا ". فمشمح: محمد بغير شك، كما قال ابن القيم، قال: " واعتباره أنهم يقولون: شفحا لا ها، إذا أرادوا أن يقولوا: الحمد لله، وإذا كان الحمد شفحا، فمشفح محمد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 والأدلة على نبوته -صلى الله عليه وسلم- من الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى أكثر مما ذكرناه، فلو أنهم تركوا الهوى، واتبعوا الهدى، وصدقوا كتب الله لعرفوا أن محمدا رسول الله، وأن نعوته وصفاته وصفات أمته مسطرة في الكتب التي بأيديهم، وأنه لا عذر لهم في إصرارهم على الكفر به ومخالفته: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} . على أنا لو لم نأت بهذه الأنباء والقصص من كتبهم، ألم يك فيما أودع الله - عز وجل - القرآن دليل على ذلك؟، وفي تركهم جحد ذلك وإنكاره وهو يقرعهم به دليل على اعترافهم له فإنه يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} . ويقول حكاية عن المسيح -عليه السلام-: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} . ويقول: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ويقول: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} . وكما قد كان -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى اتباعه وتصديقه فكيف يجوز أن يحتج بباطل من الحجج، ثم يحيل ذلك على ما عندهم وما في أيديهم، ويقول: من علامة نبوتي وصدقي أنكم تجدوني عندكم مكتوبا، وهم لا يجدونه كما ذكر؟ !، أوليس ذلك مما يزيدهم عنه بعدا، وقد كان غنيا عن أن يدعوهم بما ينفرهم، ويستميلهم بما يوحشهم؟ !. ولو أنهم وجدوا خلاف قوله لكان إظهاره أهون عليهم من إتلاف النفوس والأموال، وتخريب الديار!. وكم أسلم من علمائهم، كعبد الله بن سلام، وابني سعنة، وابن يامين، ومخيريق، وكعب الأحبار، وأشباههم من علماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 اليهود، وبحيرى، ونسطور، وصاحب بصرى، وأسقف الشام، والجارود العبدي، وسلمان الفارسي، ونصارى الحبشة، وأساقف نجران، وغيرهم ممن أسلم من علماء النصارى، وكلهم قد وقفوا منه على مثل هذه الدعاوى. فلولا أنهم يعلمون صدقه فيما قال، ويجدون صفته في الكتب التي بأيديهم، وإلا لكان ذلك مما ينفرهم، ويبعدهم عنه. وقد اعترف بنبوته هرقل، وصاحب دومة عالما النصارى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ورئيساهم، والمقوقس صاحب مصر، وابن صورى، وابن أخطب، وأخوه، وكعب بن أسد، والزبير بن باطيا، وغيرهم من علماء أهل الكتاب ممن حمله حب الرئاسة أو الحسد والنفاسة على البقاء على الشقاء. والأخبار في هذا كثيرة لا تنحصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وقد قال الحارث بن عوف لعيينة بن حصن - ورآه جادا في عداوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يحصل على شيء -: " ألم أقل لك إنك توضع في غير شيء، والله، ليظهرن محمد على ما بين المشرق والمغرب، يهود كانوا يخبروننا بهذا، أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول: إنا نحسد محمدا على النبوة، حيث خرجت من بني هارون، وهو نبي مرسل، ويهود لا تطاوعني على هذا، ولنا منه ذبحان: واحد بيثرب وآخر بخيابر. قال الحارث قلت لسلام: يملك الأرض جميعا؟ قال: نعم، والتوراة التي أنزلت على موسى، وما أحب أن تعلم بقولي فيه ". ومن هذا استفتاح اليهود على مخالفيهم عند القتال بمجيئه كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 قال محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن أشياخ منهم قالوا: " فينا - والله - وفيهم - يعني: اليهود الذي كانوا جيرانهم - نزلت هذه القصة: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} إلى قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . قالوا: كنا قد علوناهم دهرا في الجاهلية، وكنا أهل شرك، وهم أهل الكتاب، فكانوا يقولون: إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به، يقول الله، تعالى -: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ". وقال ابن اسحاق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 أخبرني محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور، وداود بن سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله، وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال بشر بن مشكم - أخو بني النضير -: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره، فأنزل الله في ذلك حين قولهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 إذا عرف ذلك فهو من أوضح الأدلة وأكبر الحجج على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم -، لأنهم ما كانوا يستفتحون به إلا لما يعلمون من نعته وصفاته وزمانه، فلما ظهر -صلى الله عليه وسلم- كفروا به حسدا وبغيا، وجحدوا نبوته. ولا ريب أن استفتاحهم به وجحد نبوته لا يجتمعان، فإن كان استفتاحهم به؛ لأنه نبي كان جحد نبوته محالا، وإن كان جحد نبوته - كما يزعمون - حقا كان استفتاحهم به باطلا. وهذا مما لا جواب لأعداء الله عنه البتة، سوى أن يقولوا: إن هذا الموجود ليس بالذي كنا نستفتح به. وهذا من أعظم الجحد والعناد، فإن الصفات والعلامات التي فيه طابقت ما كان عندهم مطابقة المعلوم لعلمه، فإنكارهم أن يكون هو هذا جحد باللسان مع أن القلب يعرفه معرفة تامة. ولهذا قال -تعالى-: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . ثم قال -تعالى-: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . قال السدي: " {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} يقول: بئسما باعوه به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم، ورضوا به، وعدلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد من تصديقه ومؤازرته ونصرته. وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، ولا حسد أعظم من هذا {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} ". قال ابن عباس: غضب بما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم. ثم قال: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} لما كان كفرهم سببه البغي - ومنشأ ذلك الكبر - قوبلوا بالإهانة، والصغار في الدنيا والآخرة. ثم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . قال أبو عبد الله ابن القيم في هذه الآية: " هذه حكاية مناظرة بين الرسول وبين اليهود لما قال لهم: آمنوا بما أنزل الله، فأجابوه بأن قالوا: نؤمن بما أنزل علينا. ومرادهم التخصيص، أي: نؤمن بالمنزل علينا غيره، فظهرت عليهم الحجة بقولهم هذا من وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 أحدهما: أنه إن كان إيمانكم به لأنه حق فقد وجب عليكم أن تؤمنوا بما أنزل على محمد، لأنه حق مصدق لما معكم، وحكم الحق الإيمان به أين كان، ومع من كان، فلزمكم الإيمان بالحقين جميعا أو الكفر الصريح، ففي ضمن هذا الشهادة عليهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الأول، ولا بالثاني. وهذا الحكم في كل من فرق الحق، فآمن ببعضه، وكفر ببعضه، كمن آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض، وكمن آمن ببعض الأنبياء، وكفر ببعض، لم ينفعه إيمانه حتى يؤمن بالجميع. ونظير هذا التفريق تفريق من يرد آيات الصفات وأخبارها، ويقبل آيات الأوامر والنواهي، فإن ذلك لا ينفعه، لأنه آمن ببعض الرسالة، وكفر ببعض، فإن كانت الشبهة التي عرضت لمن كفر ببعض الأنبياء غير نافعة، فالشبهة التي عرضت لمن رد بعض ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى ألا تكون نافعة، وإن كانت هذه عذرا فشبهة من كذب ببعض الأنبياء مثلها. وكما أنه لا يكون مؤمنا حتى يؤمن بجميع الأنبياء، ومن كفر بنبي من الأنبياء فهو كمن كفر بجميعهم، فكذلك لا يكون مؤمنا حتى يؤمن بجميع ما جاء به الرسول، فإذا آمن ببعضه ورد بعضه فهو كمن كفر به كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 فتأمل هذا الموضع، واعتبر به الناس على اختلاف طرائقهم يتبين لك أن أكثر من يدعي الإيمان بريء من الإيمان -ولا حول ولا قوة إلا بالله-. الوجه الثاني من النقض: قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . ووجه النقض أنكم تزعمون أنكم تؤمنون بما أنزل إليكم وبالأنبياء الذين بعثوا فيكم، فلم قتلتموهم، وفيما أنزل إليكم الإيمان بهم وتصديقهم؟ فلا آمنتم بما أنزل إليكم، ولا ما أنزل على محمد. ثم كأنه توقع منهم الجواب بأنا لم نقتل من ثبتت نبوته، ولم نكذبه، فأجيبوا على تقدير هذا الجواب الباطل منهم بأن موسى قد جاءكم بالبينات وما لا ريب معه في صحة نبوته، ثم عبدتم العجل بعد غيبته عنكم، وأشركتم بالله، وكفرتم به، وقد علمتم نبوة موسى وقيام البراهين على صدقه، فقال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} . فهكذا تكون الحجج، والبراهين، ومناظرة الأنبياء لخصومهم ". انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 قال محمد بن إسحاق: "حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد -أخي عبد الأشهل - عن سلمة بن سلامة بن وقش -وكان سلمة من أصحاب بدر-، قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال: فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنا، فذكر القيامة، والبعث والحساب، والميزان، والجنة، والنار، قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك وأصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك -يا فلان- أوتراها كائنة أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يحلف به، ولود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبقونه عليه بأن ينجو من تلك النار غدا. قالوا له: ويحك -يا فلان- فما آية ذلك؟ قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد -وأشار بيده إلى مكة واليمن-. قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا، فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه. قال سلمة: فوالله، ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله، وهو حي بين أظهرنا فآمنا به، وكفر به بغيا وحسدا. قال: فقلنا له: ويحك -يا فلان- ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى، ولكن ليس به". وأخرج ابن إسحاق أيضا قصة ابن الهيبان، وهو رجل من أهل الشام من اليهود، قدم المدينة على بني قريظة في الجاهلية، ووصف الراوي من فضله، وأنهم كانوا يستسقون به المطر. قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر اليهود، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: فقلنا: أنت أعلم. قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه وهذه البلدة مهاجره، وكنت أرجو أن يبعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فأتبعه، وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه، يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وبسبي الذراري ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. فلما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية، وهم ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعنة وأسد بن عبيد - وكانوا شبابا أحداثا -: يا بني قريظة، والله، إنه للنبي الذي كان عهد إليكم ابن الهيبان. قالوا: ليس به. قالوا: بلى والله، إنه لهو بصفته، فنزلوا، فأسلموا، فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم. وأخرج الحاكم - صاحب المستدرك -، والبيهقي في " دلائل النبوة " من طريقه بسند لا بأس به كما قال ابن كثير، عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 أبي أمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل - صاحب الروم -، ندعوه إلى الإسلام. فذكر الحديث. وأنه أرسل إليهما ليلا. قال: فدخلنا عليه، فدعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح، واستخراج حريرة سوداء، فنشرها، فإذا صورة حمراء، وإذا رجل ضخم العينين عظيم الإليتين لم أر مثل طول عنقه، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله. قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا آدم -عليه السلام-. ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا رجل أحمر العينين ضخم الهامة حسن اللحية. فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا نوح -عليه السلام-. قال: ثم فتح بابا آخر، وأخرج حريرة فيه صورة بيضاء وإذا فيها - والله - رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، محمد رسول الله، وبكينا. قال: والله إنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 قام قائما، ثم جلس، وقال: إنه لهو. قلنا: نعم، إنه لهو كأنك تنظر إليه. فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما والله إنه آخر البيوت، ولكني عجلته لأنظر ما عندكم .... الحديث، وفيه ذكر صور الأنبياء إبراهيم، وموسى، وعيسى، وسليمان، وغيرهم. قال: فقلنا له: من أين هذه الصور؟ قال: إن آدم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم. فكان في خزانة آدم -عليه السلام- عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس، فدفعها إلى دانيال. ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإني كنت عبدا لأشركم، ملكه حتى أموت. ثم أجازنا، فأحسن جوائزنا، فسرحنا. فلما أتينا أبا بكر الصديق فحدثنا بما رأينا وبما قال لنا وبما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر، وقال: مسكين، لو أراد الله به خيرا لفعل. ثم قال: أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم واليهود يجدون نعت محمد -صلى الله عليه وسلم- عندهم. وبالجملة، فالأخبار باعتراف كثير من اليهود، والنصارى بنبوته والإقرار بصدقه ممن قدمنا ذكرهم، وغيرهم كثيرة مشهورة في كتب الأحاديث والسير. تركنا إيرادها قصد الاختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 المقام الثالث قال النصراني: " فصل في الترجيح بين المسيح ومحمد. ولنقيس الآن الخصال، والأحوال المتعلقة بالشريعتين، لننظر أيهما أشرف، وأولى بأن تتبع. ووجه امتحان ذلك هو اعتبار كمال ذلك الشخص، وتعقب أفعاله، وتأمل سيرته، وأكبر علاماتك اطراح اللذات البدنية، والتهاون بها. فإن هذا أول درجات أهل العلم، فناهيك الأنبياء، وبخاصة التي هي عار علينا كما ذكر أرسطو، ولا سيما قذارة النكاح. ولذلك فضح الله بها كل مدع، ليتبين الحق للمحقين، ولا يضلوا، ولا يغلطوا. وإنما يشوع فهو على ما يعترف به المسلمون المسيح الموعود به في التوراة وكتب الأنبياء، ويسميه محمد بكلمة الله وروحه، ويقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 إنه لم يكن له أب من البشر، وأما محمد فهو مولود على الطريق المعتاد به في الطبيعة. وكان يشوع ذا صلاح تام في سيرته، حتى لم يطعن في عرضه بشيء. أما محمد فهو صاحب الغزاة والقتال، مغرما بالنساء، كثير النكاح. وكان يشوع قد ارتفع إلى السماء. وأما محمد فهو بقي محبوسا في القبر. فمن ذا الذي لا ينظر أيهما أولى بأن يتبع ". هذا كلامه. فنقول - وبالله التوفيق -: لا ريب أن النظر في التفضيل إنما يكون بين شيئين متقاربين في الفضل مع ثبوت الفضل في كل منهما، فيكون النظر حينئذ نظر ترجيح، بحسب كثرة الفضائل والمحاسن في أحد الشقين. ومعلوم أنه لا نسبة بوجه من الوجوه بين أنبياء الله ورسله وبين الكذبة على الله المتقولين، ولا بين الشرائع التي شرعها -تعالى-، وفرض فرائضها وحدودها على أكمل وجوه الحكمة والمصلحة، وبين مخترعات المخلوقين ومبتدعاتهم، إلا عند أهل الضلالة والجهالة، كهؤلاء النصارى الذين اتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 والمقصود أن نصبه الترجيح بين محمد والمسيح -عليهما الصلاة والسلام- وشريعتيهما دليل على اعترافه بفضل محمد -صلى الله عليه وسلم- وشريعته، وهذا يلزم منه أن محمدا حق، ودينه حق، وإلا فأين النسبة بين الحق والباطل، والصدق والكذب؟ !. فهذا الطريق في الترجيح إنما يتوجه مع الاعتراف بحقية كل من الشريعتين، كأن يرجح المسلمون ما هو الحق من أفضلية محمد -صلى الله عليه وسلم- على من سواه من الرسل، وشريعته على ما عداها من شرائع الأنبياء، مع الإيمان بأن كلا منهما من عند الله، وأن الله -تعالى- هو الذي فضل من شاء بما شاء، ورفع بعض الرسل فوق بعض درجات. ولكنه لما كانت شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- شريعة باهرة، وفضائلها ظاهرة، لم يمكن الخصوم إلا الاعتراف بفضلها، وفضل من جاء بها، لما بهرهم من أنوار النبوة، وبهتهم من عظمة نواميس هذه الشريعة الكاملة التي اختارها الله لخيرته من خلقه ولأمته -خير أمة أخرجت للناس-، وجعلها حجة باقية إلى قيام الساعة، لا يتطرق إليها النسخ، ولا يعتريها التبديل والتغيير الذي وقع في الشرائع قبلها، فلا تجتمع هذه الأمة على ضلالة، بل لا تزال فيها طائفة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 ولهذا المعنى الذي ذكرناه، كان كل عاقل من اليهود والنصارى -كما قال شيخ الإسلام أبو العباس - يعترف بأن دين الإسلام حق، وأن محمدا رسول الله، وأن من أطاعه منهم دخل الجنة، بل كثير منهم يعترفون أن دين الإسلام خير من دينهم. كما أطبقت على ذلك الفلاسفة، كما قال ابن سينا وغيره: أجمع فلاسفة العالم على أنه لم يطرق العالم ناموس أعظم من هذا الناموس. انتهى. إذا عرف هذا فالله -سبحانه وتعالى- اختار الأنبياء من ولد آدم وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. واختار الرسل منهم، وهم ثلاث مائة وثلاثة عشر، على ما دل عليه من عددهم حديث أبي ذر الذي رواه الإمام أحمد وابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 حبان في صحيحه. ثم اختار منهم أولي العزم الخمسة، وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وذكرهم -أيضا- في سورة الشورى. ثم اختار منهم الخليلين: إبراهيم، ومحمدا - صلى الله عليهما وسلم -. واختار منهما محمدا -صلى الله عليه وسلم-. وهو سيد ولد آدم، وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا، وصاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب لواء الحمد، وصاحب الحوض المورود، وشفيع الخلائق يوم القيامة، وصاحب الوسيلة والفضيلة الذي بعثه الله بأفضل كتبه، وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم، وهم آخر الأمم خلقا، وأولهم بعثا، فهم كما قال -صلى الله عليه وسلم- في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الحديث الصحيح: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة. بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم. فهذا - يعني يوم الجمعة - يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس فيه تبع، غدا لليهود وبعد غد للنصارى» . وقال -صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من تنشق عنه الأرض» . وقال: «آتي باب الجنة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك» . وفضائله وفضائل أمته كثيرة دل عليها خبر صاحب المعجزات الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. ونطقت بها الكتب السالفة، وأخبر بها الأنبياء الأقدمون، ودل عليها استقراء سيرهم وأخبارهم. وهذه الجملة مجمع عليها بين المسلمين، وهي أن الله فضل بعض الرسل على بعض، وفضل على الجميع محمدا -صلى الله عليه وسلم-، كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وكذلك أجمعوا على محبتهم وموالاتهم، والإيمان بهم كلهم، لا يفرقون بين أحد منهم، فيؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض كحال أهل الكتاب الذين يدعون الإيمان ببعض الرسل، ويكفرون ببعض، ويعظمون بعضهم حتى يجعلوهم آلهة مع الله، ويتنقصون بعضهم، كما فعل هذا النصراني فيما تقدم من كتابه. حيث لم يقتصر على الطعن في سيد المرسلين، إذ كفره سابق على ذلك. بل اعترض -أيضا- على موسى - كليم الرحمن -، ونسبه إلى الشك فيما جاءه من الحق، وارتكاب ما يستحق عليه اللوم، مع اعترافه بأنه رسول الله. فليعتبر الموقن بالله أي الفريقين أولى بالله وبرسله. وقد أجمع المسلمون على أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - معصومون فيما يخبرون به عن الله وفي تبليغ رسالاته، لا خلاف بينهم في ذلك، وإن وقع خلاف فيما دونه. والذي عليه الجمهور من المتقدمين والمتأخرين أنهم معصومون -أيضا- من الإقرار على الذنوب مطلقا، والمسألة طويلة الأذيال فلا نطيل بذكرها. والمقصود أن الله -تعالى- كما اختار الأنبياء على من سواهم اصطفى لهم من الأخلاق أزكاها، واختار لهم أفضلها وأولاها، وجمع الفضائل التي فرقها فيهم لخاتمهم وسيدهم وأفضلهم محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 - صلى الله عليه وسلم -، كما قال -تعالى- في خطابه له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . قال ابن عباس وغيره: أي على دين عظيم، وسمى الدين خلقا، لأن الخلق هيئة مركبة من علوم صادقة، وإرادة زاكية، وأعمال ظاهرة وباطنة، موافقة للعدل والحكمة والمصلحة، وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات، فتكتسب النفس بها أخلاقا هي أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها. وهذه كانت أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- المقتبسة من القرآن، وهذا من أعظم آيات نبوته، وأدلة رسالته. «ولما سئلت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} » . فكان كلامه مطابقا للقرآن تفصيلا وتبيينا، علومه علوم القرآن، وإرادته وأعماله ما أوجبه وندب إليه القرآن، وإعراضه وتركه لما منع منه القرآن، ورغبته فيما رغب فيه، وزهده فيما زهد فيه، وكراهته لما كرهه، ومحبته لما أحبه، وسعيه في تنفيذ أوامره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 فترجمت أم المؤمنين لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول، وحسن تعبيرها عن هذا كله بقولها: «كان خلقه القرآن» . وفهم السائل عنها هذا المعنى، فاكتفى به، واشتفى. فهو -صلى الله عليه وسلم- في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين. وقد خرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن رسول لله -صلى الله عليه وسلم- قال: «بعثت لأتمم صالح الأخلاق» . واعلم أن خصال الفضل والكمال في البشر نوعان، كما قال بعض العلماء: أحدهما: ضروري دنيوي، اقتضته الجبلة وضرورة الحياة الدنيا. والثاني: مكتسب ديني، وهو ما يحمد فاعله ويقرب إلى الله زلفى. ثم هي على قسمين: منها ما يتخلص لأحد الوصفين. ومنها ما يتداخل ويتمازج. فأما الضروري المحض فما ليس للمرء فيه اختيار، ولا اكتساب ككمال الخلقة، وجمال الصورة، وقوة العقل، وصحة الفهم، وفصاحة اللسان، وقوة الحواس والأعضاء، واعتدال الحركات، وشرف النسب، وعزة العشيرة، وكرم الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ويلحق بذلك ما تدعو ضرورة الحياة إليه من غذائه، ونومه، وملبسه، وسكنه، ومنكحه، وماله، وجاهه. وقد تلحق هذه الخصال الآخرة بالأخروية إذا قصد بها التقوى، ومعونة البدن على طريقها، وكانت على قوانين الشريعة. وأما الخصال المكتسبة الأخروية فسائر الأخلاق العلية، والآداب الشرعية من الدين، والعلم، والحلم، والصبر، والشكر، والعدل، والزهد، والتواضع، والعفو، والعفة، والجود، والشجاعة، والحياء، والمروءة، والصمت، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحسن الأدب والمعاشرة، ونحوها من الخصال التي جماعها حسن الخلق. وتكون هذه الأخلاق دنيوية إذا لم يرد بها وجه الله والدار الآخرة، ولكنها كلها محاسن وفضائل باتفاق أصحاب العقول السليمة. وإذا نظرت في جميع هذه الخصال بنوعيها وجدت نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- حائزا لجميعها محيطا بشتات محاسنها من غير خلاف بين نقلة الأخبار بل قد بلغ مبلغ القطع من طرق التواتر الذي لا يمكن القدح فيه. كما نقلت -أيضا- معجزاته -صلى الله عليه وسلم- النقل المتواتر الذي هو الطريق الذي علمت به نبوة موسى وعيسى ومعجزاتهما، وما كان من أخبارهما. فالذي عند المسلمين من العلم بنبيهم -صلى الله عليه وسلم-، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وشمائله ومعجزاته وسيرته قد حصل عندهم من طريق القطع، فلا يمكن المعارض أن يقدح في ذلك إلا بالقدح في جميع ما جاء عن الأنبياء عليهم السلام. وأما ما فضله الله به من الفضائل التي لا تنال بالاكتساب، ولا تحصل إلا بتخصص منزل الكتاب من فضيلة ختم الأنبياء، ومن الخلة، والمحبة، والاصطفاء، والإسراء، والرؤية، والقرب، والدنو، والوحي والشفاعة، والوسيلة، والفضيلة، والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود، والبراق والمعراج، والبعث إلى الأحمر والأسود، والصلاة بالأنبياء، والشهادة بين الأنبياء والأمم، وسيادة ولد آدم، ولواء الحمد، والبشارة، والنذارة، والمكانة عند ذي العرش، والأمانة، والهداية، وكونه رحمة للعالمين، وإعطاء الرضى والسؤال والكوثر، وسماع القول، وإتمام النعمة، والعفو عما تقدم وتأخر، وشرح الصدر، ووضع الوزر، والتأييد بالملائكة، وإيتاء الكتاب والحكمة والسبع المثاني والقرآن العظيم، وتزكية الأمة، والدعاء إلى الله، وصلاة الله والملائكة، والحكم بين الناس بما أراده الله، ووضع الإصر والأغلال عنهم ... إلى ما لا يحويه كتاب، ولا يحيط به إلا مانحه ذلك ومفضله به - لا إله غيره -، إلى ما أعد له في الدار الآخرة من منازل الكرامة ودرجات القدس ومراتب السعادة والحسنى والزيادة. فكل ذلك إنما علمناه من طريقه، حيث بلغه عن الله مخبرا ومؤديا لأمانته لا مفتخرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وطريق إثباته أدلة الرسالة وأعلام النبوة، إذ هو من علم الغيب الذي لا يعلم إلا من طريق الوحي على ألسنة الرسل. ولولا خوف الإطالة لذكرنا من تفاصيل ما أجملناه من أخلاقه الزاكية ما تنشرح به صدور أهل الإيمان، وترغم به أنوف عبدة الصلبان. ولكنا قد بنينا هذا الكتاب على الاختصار، وقصدنا به تحصيل المراد من غير إكثار، فمن أراد التفصيل لهذه الخصال السنية فعليه بمظانها من كتب الشمائل والسير النبوية. ولكنا نذكر من ذلك ما يختص وما تدعو ضرورة الحياة إليه مما يقال: إنه من باب اللذات البدنية، ليتبين أنه -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب - كما هو في غيره - على وفق الكمال البشري المرضي من جميع الوجوه. فاعلم أن الذي تدعو ضرورة الحياة إليه مما أشرنا إليه قبل ثلاثة أقسام: قسم الفضل في قلته. وقسم الفضل في كثرته. وقسم تختلف الأحوال فيه. فاما ما المدح والكمال في قلته اتفاقا عادة وشريعة، كالغذاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 والنوم، فلم تزل العلماء والحكماء والعرب تتمادح بقلتهما، وتذم بكثرتهما، لأن كثرة الأكل والشرب دليل على النهم والحرص والشره وغلبة الشهوة، وسبب لمضار في الدنيا والدين. وقلته دليل على القناعة وملك النفس، وقمع الشهوة سبب لحفظ الصحة، وصفاء الخاطر وحدة الذهن. كما أن كثرة النوم دليل على الضعف، وقلة الذكاء والفطنة، سبب للكسل والعجز، وتضييع العمر في غير نفع، وقساوة القلب وغفلته وموته. وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم - قد أخذ من هذين الفنين بالأقل. هذا ما لا يدفع من سيرته وهو الذي أمر به، وحض عليه، وعلى ذلك كان أصحابه - رضي الله عنهم - والصدر الأول من أمته. ولهذا قال العلماء: " إن الشبع بدعة ظهرت بعد القرن الأول، وقد وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- الخلف بعد القرون الفاضلة من أمته بأنه يظهر فيهم السمن ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وروى الإمام أحمد والنسائي والترمذي، وصححه الحاكم، من حديث المقدام بن معد يكرب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه. فإن كان فاعلا لا محالة: فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» . وقال الترمذي: " حديث حسن ". قال القرطبي: " لو سمع بقراط بهذه القسمة لعجب من هذه الحكمة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وروى الطبراني عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا في الآخرة» . وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام تباعا حتى قبض» . رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا، إنما هو التمر والماء. إلا أن نؤتى باللحيم» . أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وفي رواية: «ما شبع آل محمد من خبز البر ثلاثا حتى مضى لسبيله» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وفي أخرى: «ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا إحداهما تمر» . وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: «ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا، قال: لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يظل اليوم يلتوي من الجوع، ما يجد من الدقل ما يملاء بطنه» . أخرجه مسلم. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: «مشيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخبز شعير وإهالة سنخة. ولقد سمعته يقول: ما أمسى عند آل محمد صاع تمر، ولا صاع حب، وإن عنده يومئذ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 «لتسع نسوة» أخرجه البخاري والنسائي والترمذي. وفي الصحيحين عن عروة عن عائشة قالت: «إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال وما أوقدت في أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نار. قال: فقلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء» . وقال أنس - خادمه -: «ما أعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى رغيفا مرققا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه حتى لحق بالله» . رواه البخاري. وعن عائشة - أم المؤمنين - قالت: «توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس عندي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 «لي فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني» . رواه البخاري ومسلم. ولهما أيضا عنها، قالت: «توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير» . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا، وهي تدل دلالة واضحة على تقلله -صلى الله عليه وسلم- من تناول الطعام سوى ما تدعو إليه ضرورة البشرية. وكذلك نومه -صلى الله عليه وسلم - كان قليلا، شهدت بذلك الآثار الصحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وكان -صلى الله عليه وسلم- ينام أول الليل، ويستيقظ في أول النصف الثاني، فيقوم ويتوضأ. ولم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج إليه، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه تشريعا للأمة، ليقتدوا به، ولا يكلفوا من العمل ما لا يطيقونه، أو يشق عليهم مشقة تحملهم على السآمة من العمل. وكان يحب من العمل ما داوم عليه صاحبه وإن قل، وعلى ذلك حث أمته. وكان ينهاهم عن التشديد على أنفسهم. وفي السنن والمساند عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «بعثت بالحنيفية السمحة» . وكان يقول: «يسروا ولا تعسروا» . وعنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إنكم أمة أريد بكم» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 «اليسر» . أخرجه الإمام أحمد. وقال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . «وقد أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على من عزم على التبتل، والاختصاء، وقيام الليل، وصيام النهار، وقراءة القرآن كل ليلة، كعبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون، والمقداد وغيرهم. وقال: لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني» . وأما لباسه -صلى الله عليه وسلم- فهو كما قال القاضي عياض: "كان قد اقتصر منه ما تدعو ضرورته إليه، وزهد فيما سواه. فكان يلبس ما وجد، فيلبس في غالب أحواله الشملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 والكساء والأردية والإزار، ويقسم على من حضره أقبية الديباج المخوصة بالذهب، ويرفع لمن لم يحضر. إذ المباهاة في الملابس والتزين بها ليست من خصال الشرف والجلالة، بل هي من سمات النساء. والمحمود منها نقاوة الثوب، والمتوسط في جنسه، وكون لبس مثله غير مسقط لمروءة جنسه". انتهى. وكان -صلى الله عليه وسلم- ينام على الفراش تارة، وعلى النطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة. وفي الصحيحين: «أنه كان فراشه أدما حشوه ليف» . وفي الصحيح: «أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- دخل» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 «على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تلك المشربة، فرآه متوسدا مضطجعا على رمال حصير وليس في البيت إلا صبرة من قرظ واهية معلقة، فابتدرت عينا عمر بالبكاء. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما يبكيك؟ فقال: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة الله من خلقه!. فقال: أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» . فكان -صلى الله عليه وسلم- أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله، ولم يدخر لنفسه شيئا لغد. وخرج الترمذي وصححه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد نام على رمال حصير وقد أثر في جنبه، فقلت: يا رسول الله: لو اتخذنا لك وطاء» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 «تجعله بينك وبين الحصير يقيك منه؟ فقال ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها» . «ولما بنى -صلى الله عليه وسلم- مسجده ومساكن أزواجه، قالوا: ألا تسقفه؟ فقال: عريشا كعريش موسى خشبات، تمام الأمر أعجل من ذلك» . فكان حاله -صلى الله عليه وسلم- في مأكله ومشربه ولباسه ومساكنه حال مسافر يقنع في مدة سفره بمثل زاد الراكب من الدنيا، ولا يلتفت إلى فضولها. وحسبك من تقلله منها وإعراضه عن زهرتها وقد سيقت إليه بحذافيرها وترادفت عليه فتوحها أن «توفي -صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله» كما تقدم الحديث بذلك، وتقدم -أيضا- قول عائشة - رضي الله عنها -: «لقد توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي» . وقالت أيضا: «ما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 القسم الثاني: ما اتفق على التمدح بكثرته والفخر بوفوره كالنكاح والجاه. أما النكاح فمتفق عليه شرعا وعادة، فإنه دليل الكمال، وصحة الذكورية. ولم يزل التفاخر عادة معروفة، والتمادح به سيرة ماضية. وأما في الشرع فسنة مأثورة من سنن المرسلين، معلومة من سيرتهم عند المتقدمين والمتأخرين من الموافقين والمخالفين. وله مصالح عديدة لأجلها شرعه الله -تعالى-، ومقاصده الأصلية ثلاثة: أحدها: حفظ النسل، ودوام النوع الإنساني إلى أن تتكامل المدة التي قدر الله تعالى - بروزها إلى هذا العالم. وهذه مصلحة عظيمة دالة على فضيلة النكاح، والشرائع جاءت بتحصيل المصالح. الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتقانه واحتباسه بجملة البدن وهذا فيه من حفظ الصحة ما تقتضي الحكمة مشروعيته، واستحسانه من أجله. الثالث: قضاء الوطر، ونيل اللذة، والتمتع بالنعمة. وهذه هي الفائدة التي في الجنة؛ إذ لا تناسل هناك يستفرغه الإنزال. لكن النصارى ينكرون النعيم الجسماني في الجنة، وما أخبرت به الأنبياء من المآكل والمشارب والملابس والمناكح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 فحقيقة قولهم إنكار المعاد الذي أخبرت به الرسل، فقد كفروا بالله وبرسله وباليوم الآخر. والمقصود: التنبيه على فضيلة النكاح، وكان فضلاء الأطباء يرون أن الجماع أحد أسباب حفظ الصحة، وقد قالوا: إن المني إذا دام احتقانه أحدث أمراضا رديئة، منها: الوسواس، والجنون، والصرع وغير ذلك، وقد يبرئ استعماله من هذه الأمراض كثيرا، فإنه إذا طال احتباسه فسد، واستحال إلى كيفية رديئة توجب أمراضا رديئة، ولذلك تدفعه الطبيعة إذا كثر عندها من غير جماع. وقال محمد بن زكريا: " من ترك الجماع مدة طويلة ضعفت قوى أعصابه، واستدت مجاريها، وتقلص ذكره "، قال: " ورأيت جماعة تركوه لنوع من التقشف، فبردت أبدانهم، وعسرت حركاتهم، ووقعت عليهم كآبة بلا سبب، وقلت شهواتهم وهضمهم " انتهى. ومن منافعه غض البصر، وكف النفس، والقدرة على العفة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه في دنياه وآخرته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وينفع المرأة، فمشروعيته للأنبياء ومحبتهم له يحمل المقتدي بهم على تحصيله، فيترتب عليه ما ذكرنا من المصالح وغيرها. فقد ظهر بما قررناه أن النكاح فضيلة يرغب فيها الأفاضل، ولا يقدح في فضله إلا غبي جاهل، ولذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتعاهده، ويحبه، ويقول: «حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» . وحث على التزويج أمته فقال: «تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم» . «وأنكر على النفر من أصحابه الذين قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء، ولا أتزوج أبدا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» . أخرجه البخاري ومسلم. «وقال لعثمان بن مظعون: أرغبة عن سنتي؟ قال: لا والله، يا رسول» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 «الله، ولكن سنتك أطلب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فإني أنام وأصلي، وأصوم، وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، فصم وأفطر، وصل ونم» . أخرجه أبو داود. فحب النساء والنكاح من كمال الإنسان، ولو كان نقيصة أو قدحا في الفضيلة لصان الله عنه أنبياءه ورسله الذين اصطفاهم على العالمين. هذا خليل الله إبراهيم - إمام الحنفاء - كانت عنده سارة أجمل نساء العالمين، وأحب هاجر، وتسرى بها. وهذا داود -عليه السلام- على زهده وأكله من عمل يده - كان عنده تسع وتسعون امرأة، فأحب تلك المرأة، وتزوج بها، فكمل المائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وهذا سليمان ابنه -عليه السلام- كان يطوف في الليلة على تسعين امرأة. قال ابن عباس: " كان في ظهر سليمان مائة مائة رجل، وكان له ثلاث مائة امرأة وثلاث مائة سرية ". وحكى النقاش وغيره: " سبع مائة امرأة وثلاث مائة سرية ". ذكره القاضي. ولكون النكاح بهذه المثابة من الفضيلة، وقال بعض العلماء: إن ثناء الله على يحيى -عليه السلام- بأنه حصور ليس كما قال بعضهم: إنه كان هيوبا، لا ذكر معه. قال عياض: " أنكر هذا حذاق المفسرين، ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب، ولا تليق بالأنبياء. وإنما معناه أنه معصوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 من الذنوب، أي: لا يأتيها، كأنه حصر عنها. وقيل: مانعا نفسه من الشهوات، وقيل: ليس له شهوة في النساء ". انتهى. وأما ما أشار إليه النصراني من ترك عيسى -عليه السلام- للتزويج فليس فيه دلالة على أن ذلك أفضل، لأنا قد بينا بالأدلة الواضحة شرعا وعقلا أفضلية التزويج، وأن عدم القدرة على النكاح ليس فضيلة، فالفضل في كونها موجودة. ثم يختلف حال الشخص فمن يتسع وقته للقيام بحقوق الزوجية فقمع نفسه إما بالمجاهدة كعيسى -عليه السلام- أو بكفاية من الله -تعالى- كيحيى بن زكريا - عليهما السلام - فذلك فضيلة من هذا الوجه، لكون التزويج شاغلا في كثير من الأوقات حاطا إلى الدنيا، أو معرضا لتضييع الحقوق الواجبة فيه. ثم هو في حق من قدر عليه وقام بالواجب فيه ولم يشغله عن ربه درجة عليها وهي درجة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي لم تشغله كثرة النساء عن عبادة ربه - عز وجل -، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن، وقيامه بحقوقهن، واكتسابه لهن، وهدايته إياهن، ونقلهن للأمة محاسنه الباطنة، بل صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 «حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» . فدل على أن حبه للنساء والطيب اللذين هما من أمور دنيا غيره، واستعماله لذلك ليس لدنياه بل لآخرته، للفوائد التي ذكرناها في التزويج، وللقاء الملائكة في الطيب، ولغير ذلك. وكان حبه الحقيقي المختص بذاته في مشاهدة جبروت مولاه، ومناجاته، ولذلك ميز بين الحبين، وفصل بين الحالتين، فقال: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» . فقد ساوى يحيى وعيسى في كفايته فتنتهن، وزاد فضيلة في القيام بهن. وأما الجاه - فهو كما قال القاضي أبو الفضل - " محمود عند العقلاء عادة، وبقدر جاهه تكون عظمته في القلوب، لكن آفاته كثيرة، فهو مضر لبعض الناس لعقبى الآخرة، فلذلك ذمه من ذمه، ومدح ضده، وورد في الشرع مدح الخمول، وذم العلو في الأرض. وكان -صلى الله عليه وسلم- قد رزق من الحشمة والمكانة في القلوب والعظمة قبل النبوة عند أهل الجاهلية وبعدها، وهم يكذبونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ويؤذون أصحابه، ويقصدون أذاه في نفسه خفية، حتى إذا واجههم أعظموا أمره وقضوا حاجته، وأخباره في ذلك معروفة. وقد كان يبهت، ويفرق لرؤيته من لم يره، كما «روي عن قيلة أنها لما رأته أرعدت من الفرق، فقال: يا مسكينة، عليك السكينة» . وفي حديث ابن مسعود: «أن رجلا قام بين يديه فأرعد، فقال -صلى الله عليه وسلم-: هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» . وأما عظيم قدره بالنبوة، وشريف منزلته بالرسالة، وأنافة رتبته بالاصطفاء والكرامة في الدنيا، فأمر هو مبلغ النهاية، ثم هو في الآخرة سيد ولد آدم ". انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وكان -صلى الله عليه وسلم- على ما أعطاه الله من الجاه العريض، ونفوذ الكلمة، وعلو المنصب، ورفعة الرتبة في غاية التواضع لربه -تعالى-. وكن ينهى أصحابه أن يقوموا له، ويقول: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا» . وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» . وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم، حيثما انتهى به المجلس جلس. وعن عائشة والحسن وأبي سعيد وغيرهم في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعضهم يزيد على بعض: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 " «كان في بيته في مهنة أهله: يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعلف ناضحه، ويقم البيت، ويعقل البعير، ويأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته من السوق» ". وستأتي الإشارة إلى حمله واحتماله، وعفوه بعد القدرة - فيما بعد إن شاء الله -. القسم الثالث: وهو ما تختلف الحال في التمدح به، والتفاخر بسببه، والتفضيل لأجله. ككثرة المال: فمتى كان صاحبه منفقا له في مهماته، مشتريا به المعالي والثناء الحسن والمنزلة في القلوب، كان فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا. وإذا صرفه في وجوه البر وقصد به وجه الله والدار الآخرة كان فضيلة عند الكل. ومتى كان صاحبه ممسكا له عاد كثره كالعدم، وكان منقصة في صاحبه، يشبه خازن المال ولا مال له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 فانظر سيرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- في المال تجده قد أوتي خزائن الأرض ومفاتيح البلاد، وأحلت له الغنائم، وفتح عليه -صلى الله عليه وسلم- بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق، وجبي إليه من جزيتها وأخماسها وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إلا بعضه، وهادته جماعة من ملوك الأقاليم فما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهما، بل صرفه في مصارفه، وأغنى به غيره، وقوى به المسلمين. وقال -عليه الصلاة والسلام-: «ما يسرني أن لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين» . «وأتته دنانير فقسمها، وبقيت منها ستة، فدفعها لبعض نسوته، فلم يأخذه نوم حتى قام وقسمها، وقال: الآن استرحت» . وبالجملة، فتفاصيل أخلاقه الكريمة وأوصافه العظيمة تقصر دونها الأفهام، وتكل عن تدوينها الأقلام، وإنما أثبتنا في هذا الفصل ما اقتضاه الحال على سبيل الاختصار في المقال جوابا عن قول المعترض: "وأكبر علاماتك اطراح اللذات البدنية" بما فيه مقنع لذوي الفطن والعقول الزكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 فصل وأما قول النصراني: "إن يشوع هو على ما يعترف به المسلمون المسيح الموعود به في التوراة وكتب الأنبياء، ويسميه محمد بكلمة الله وروحه، ويقول: إنه لم يكن له أب من البشر، وأما محمد فهو مولود على الطريق المعتاد في الطبيعة". فالجواب عنه -ومن الله التأييد- أن نقول: أما الثناء على عيسى -عليه السلام- وتنزيهه وتنزيه أمه -عليهما السلام- عن فرية المفترين وكذب الكاذبين فقد جاء بذلك نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وذلك تصديق نص الإنجيل الذي قدمنا ذكره في وصف الفارقليط، حيث قال: "وهو يمجدني". فلم يمجده تمجيده الحق إلا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإنه جاء بتنزيه أخيه المسيح عن فرية المكذبين له وفرية المغالين فيه، وأتى فيه بالقول الحق والمذهب الوسط بين غلو النصارى وإطرائهم، وبين تكذيب اليهود وجفائهم. قال الله -تعالى- في كتابه: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وقال -تعالى-: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} . وقال -تعالى-: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة. وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من شهد أن لا إله» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 «إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» . فهذا ما يعترف به المسلمون من أمر المسيح -عليه السلام -. وأما كون ذلك يقتضي تفضيله على خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم فكلا ولما. ولكنه آية من آيات الله الدالة على قدرته على ما يشاء، حيث أوجده من أم بلا أب، بل خلقه بكلمة "كن" كما قال -تعالى-: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . فالله -تعالى- خلق البشر على أربعة أنواع من الخلق: فخلق آدم -عليه السلام- من تراب من غير أب ولا أم، وخلق حواء من أب لا أم، حيث خلقها من ضلع آدم، وخلق عيسى -عليه السلام- من أم بلا أب، وخلق سائر البشر من بين الأم والأب -فتبارك الله أحسن الخالقين-. وهذا التنويع في الخلق دال على قدرة الخلاق وكمال ربوبيته، وأنه ما شاء كان، وأنه المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له، وألا يجعل له ند من خلقه -تعالى الله عما يشركون-. وليس في خلق عيسى -عليه السلام- من أم بلا أب ما يقتضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 تفضيله على إبراهيم -إمام الحنفاء وخليل الرحمن-، ولا على موسى -كليم الله ونجيه-، فضلا عن أن يدل على تفضيله على خاتم الأنبياء وسيد الخلق في الدنيا والآخرة. وكما أن تخصيص آدم من تراب لا يقتضي تفضيله على غيره، فكذلك عيسى -عليه السلام-. وأيضا فخلق حواء - عليها السلام - من غير أم لا يقتضي تفضيلها على مريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد، وأمها خديجة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وعائشة، وآسية امرأة فرعون، فقد جاءت الأحاديث بفضلهن على سائر النساء. فعرفت أنه ليس في ولادة محمد -صلى الله عليه وسلم- على الطريق المعتاد في الطبيعة ما يحط رتبته أو يقدح في فضيلته أو يقتضي تفضيل مخلوق عليه، فإن الكل اشتركوا في أن الله -تعالى- أوجدهم من العدم، وخلقهم بعد أن لم يكونوا على ما اقتضته حكمته، ثم اختص من شاء منهم بما شاء، وفضل بعضهم على بعض، ورفع بعضهم فوق بعض درجات على وفق ما قضاه في الأزل، وجرى به قلم التقدير، واقتضاه اختيار الرب -تعالى- اصطفاءه. كما قال -تعالى-: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} . وأيضا فعيسى -عليه السلام- حملت به أمه، وتقلب في رحمها، ووضعته على الطريق المعتاد في حمل النساء وولادتهن، فهل كان ذلك نقصا في حقه وحطا لرتبته؟ !. وإذا لم يكن كذلك تحقق أن ميلاد محمد -صلى الله عليه وسلم- بين أبوين لا نقص فيه، إذ خصائص البشرية من خلقته من ضعف، ثم حاجته إلى الطعام والشراب أمر لا ينفك منه بشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وهذا برهان قاطع على بطلان ربوبية المسيح وأمه، كما نبه -تعالى- على ذلك في قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} . فليس من تعظيم الأنبياء الغلو فيهم ومجاوزة الحد برفعهم عن منزلة العبودية إلى منزلة الألوهية والربوبية، كما هو مذهب النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى، حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، بل غلوا في أتباعه، وادعوا فيهم العصمة، اتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادا، أو صدقا أو كذبا، ولهذا قال -تعالى-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وفسر النبي -صلى الله عليه وسلم- لعدي بن حاتم عبادتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 إياهم: بأنهم كانوا يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه، ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه. وقال الله -تعالى-: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} الآية. وقال -تعالى-: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . ومعنى الآية: لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تطروا ابن مريم حتى تبالغوا في تعظيمه، حتى تخرجوه من حيز النبوة إلى مقام الإلهية، وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديما، وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل، أي: وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من الغلو، وأن يصنعوا مثل صنيعهم، ففي مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله» . ولفظ البخاري: «فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» . وقال الإمام أحمد: ثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس: «أن رجلا قال: يا محمد،» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 «يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا. فقال رسوله الله -صلى الله عليه وسلم-: يا أيها الناس، عليكم بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 فصل وأما ما وصف الله به المسيح في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} فمعناه: إنما هو عبد من عباد الله، وخلق من خلقه، قال له: كن فيكون، فكان رسولا من رسله. ومعنى قوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبرئيل -عليه السلام-، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه -عز وجل-، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتى ولجت الفرج، فكانت بمنزلة لقاح الأب والأم، والجميع مخلوق لله -عز وجل-. ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، إنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال الله بها: كن، فكان، والروح التي أرسل بها جبرئيل. قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} هو قوله: "كن" فكان. وعن بعض السلف قال: "ليست الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى ". قال ابن كثير: "وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله: {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي: علمها بها، كما زعمه في قوله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} ، أي: يعلمك بكلمة منه، ويجعل ذلك كقوله: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبرئيل إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى -عليه السلام-" انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 فإن قيل: الكون بكلمة "كن" ليس مختصا بعيسى، بل هو عام في كل مخلوق، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . أجيب بأنه لما كان السبب المتعارف مفقودا في حق عيسى -وهو الأب- كان اتصاف حدوثه بالكلمة أكمل وأتم، فجعل بهذا التأويل كأنه نفس الكلمة. كما أن من ظهر عليه الجود والكرم والإقبال يقال فيه على سبيل المبالغة: إنه نفس الجود، ومحض الكرم، وصريح الإقبال، فكذا هاهنا. وأما "من": في قوله {وَرُوحٌ مِنْهُ} فليست للتبعيض كما تقوله النصارى، بل لابتداء الغاية، كما في قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} ، أي: من خلقه ومن عنده، فهو مخلوق من روح مخلوق. وأضيفت الروح إلى الله -عز وجل- على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} ، وفي قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وكما في الحديث الصحيح: «وأدخل على ربي في داره» ، أضافها إليه إضافة تشريف لها. وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد، قاله ابن كثير. وقال غيره: قد جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى لم يتكون عن نطفة الأب، وإنما تكون عن نفخة جبرئيل، لا جرم وصف بأنه روح. وقيل: صف بأنه روح؛ لأنه كان سببا لإحياء الخلق في أديانهم، ومن كان كذلك وصف بأنه روح، كما قال -تعالى- في صفة القرآن: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} . وقيل: روح منه، أي: رحمة منه، كما قيل في تفسير قوله -تعالى-: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} ، أي: رحمة منه، وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا رحمة مهداة» . فلما كان عيسى -عليه السلام- رحمة من الله على الخلق من حيث إنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سماه روحا منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 قال ابن كثير: والأول أظهر، يعني أنه مخلوق من روح مخلوق، وأن الإضافة للتشريف، وتقدمت شواهده. فهذا مذهب الحق واعتقاد المسلمين في وصف المسيح بأنه كلمة الله وروح منه. وأما مذهب النصارى المبدلين فقد حكى الله عنهم في كتابه ثلاث مقالات من الكفر. فقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وقال -تعالى- في خطاب أهل الكتاب: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} . وقال -تعالى-: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} في آيات معلومة في هذا المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 قال شيخ الإسلام أبو العباس: واعلم أن من الناس من يزعم أن هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها الله -تعالى- عن النصارى هي قول الأصناف الثلاثة: " اليعقوبية " - وهم شرهم - وهم السودان من الحبشة والقبط. ثم " الملكية " وهم أهل الشمال من الشام والروم. ثم " النسطورية " وهم نشؤوا في دولة الإسلام في زمن المأمون وهم قليل. فاليعقوبية تزعم أن اللاهوت والناسوت اتحدا، وامتزجا كامتزاج الماء واللبن، فهما جوهر واحد، وأقنوم واحد، وطبيعة واحدة، فصار عين الناسوت عين اللاهوت، وأن المصلوب هو عين اللاهوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 والملكية تزعم أنهما صارا جوهرا واحدا، له أقنومان، وقيل: أقنوم واحد، له جوهران. والنسطورية يقولون: هما جوهران أقنومان، وإنما اتحدا في المشيئة، وهذا قول من يقول بالاتحاد. وأما القول بالحلول فمن المتكلمين كأبي المعالي من يذكر الخلاف فيه عن فرقهم الثلاث. وذكر طوائف من المتكلمين كابن الزاغوني عنهم أنهم جميعا يقولون بالاتحاد والحلول، لكن الاتحاد بالمسيح، والحلول في مريم، فقالوا: اتفقت طوائف النصارى على أن الله جوهر واحد، له ثلاثة أقانيم، وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام، وذكروا اختلافا بينهم. ثم ذكروا اليعقوبية والنسطورية والملكية. قال الناقلون عنهم: واختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم، فقالت طائفة منهم: إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة، كما يحل الماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 في اللبن، فيمازجه، ويخالطه، وقالت طائفة منهم: إنما حلت في مريم من غير ممازجة، كما أن شخص الإنسان يحل في المرآة وفي الأجسام الصقيلة من غير ممازجة. وزعمت طائفة أن اللاهوت مع الناسوت كمثل الخاتم مع الشمع يؤثر فيه بالنقش، ثم لا يبقى فيه شيء إلا أثر فيه. ثم ذكر هؤلاء عنهم في الاتحاد نحو ما حكى الأولون، فقالوا: قد اختلف قولهم في الاتحاد اختلافا متباينا: فزعم قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة التي هي الابن حلت جسد المسيح وهذا قول الأكثرين منهم. وزعم قوم منهم أن الاتحاد هو الاختلاط والامتزاج. وقال قوم من اليعقوبية: هو أن كلمة الله انقلبت لحما ودما بالاتحاد. وقال كثير من اليعقوبية والنسطورية: الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اختلطا فامتزجا كاختلاط الماء بالخمر. وقال قوم منهم: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة، كما نقول: إن الله في السماء وعلى العرش من غير مماسة ولا ممازجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وقالت الملكية: الاتحاد هو الاثنين صارا واحدا، وصارت الكثرة قلة. فزعم بعض الناس أن الذين قالوا: هو المسيح ابن مريم هم الذين قالوا: اتحدا حتى صارا شيئا واحدا، والذين قالوا: هما جوهر واحد له طبيعتان يقولون: هو وولده بمنزلة الشعاع المتولد عن الشمس، والذين قالوا: بجوهرين وطبيعتين وأقنومين مع الرب قالوا: ثالث ثلاثة. وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بشيء، فإن الله أخبر أن النصارى يقولون: إنه ثالث ثلاثة، وأنهم يقولون: إنه الله، وأنهم يقولون: إنه ابن الله. وقال لهم: لا تقولوا ثلاثة. مع إخباره أن النصارى افترقوا، وألقى بينهم العداوة والبغضاء بقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} . وقد ذكر هذا إخبارا بتفرقهم إلى هذه الأصناف الثلاثة وغير ذلك. وقد أخبر -سبحانه- عقب قولهم: ثالث ثلاثة بما يقتضي أن هؤلاء اتخذوا له ولدا، فقال: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وقد ذكر - أيضا - ما يقتضي أن قولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم من الشرك، فقال -تعالى-: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . فهذا يقتضي أن هذا القول من الشرك، وذلك لأنهم مع قولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم لا يخصونه بالمسيح، بل يثبتون أن له موجدا وهو الأب، وليس هو الكلمة التي في المسيح، فعبادتهم إياه معه إشراك، وذلك مضموم إلى قولهم: إنه ولده. وقد نزه الله -تعالى- نفسه عن هذا وهذا في غير موضع من القرآن، كما قال -تعالى- {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} . وأيضا فهذه الأقوال لا تنطبق على ما ذكر فإن الذين يقولون: إنهما اتحدوا وصارا شيئا واحدا يقولون أيضا: إنما اتحد به الكلمة التي هي الابن. والذين يقولون: هما جوهر واحد له طبيعتان يقولون: إن المسيح إله وأنه الله، والذين يقولون: إنه حل فيه يقولون: حلت فيه الكلمة التي هي الابن وهي الله -أيضا- بوجه آخر كما سنذكره. وأيضا فقولهم: ثالث ثلاثة ليس المراد به الله، واللاهوت الذي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 المسيح، وجسد المسيح، فإن أحدا من النصارى لا يجعل لاهوت المسيح وناسوته إلهين، ويفصل الناسوت عن اللاهوت، بل سواء قال بالاتحاد أو بالحلول فهو تابع للاهوت. وأيضا فقوله -تعالى- عن النصارى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} ، و {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} . قد قيل: إن المراد به قول النصارى: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وهو قولهم بالجوهر الواحد الذي له ثلاثة أقانيم، أي ثلاث صفات وخواص. وقولهم: إنه هو الله، وابن الله، هو الاتحاد والحلول. فعلى هذا تكون تلك الآية على قولهم بتثليث الأقانيم، وهاتان في قولهم بالحلول والاتحاد. فالقرآن على هذا القول رد في كل آية بعض قولهم: كما أنه على القول رد في كل آية على صنف منهم. وقيل: إن المراد بذلك جعلهم المسيح إلها وأمه إلها مع الله كما ذكر الله ذلك في قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ويدل على ذلك قوله -تعالى-: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} .... . فقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} عقب قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} يدل على أن التثليث الذي ذكره الله عنهم اتخاذ المسيح ومريم إلهين. وهذا واضح على قول من حكى عن النصارى أنهم يقولون بالحلول في مريم والاتحاد بالمسيح، وهو أقرب إلى تحقيق مذهبهم. وعلى هذا فتكون كل آية مما ذكره الله في أقوالهم تعم جميع طوائفهم، وتعم -أيضا- قولهم بتثليث الأقانيم، والاتحاد والحلول، فتعم أصنافهم وأصناف كفرهم، ليس يختص كل آية بصنف، كما قال من يزعم ذلك. ولا تختص آية بتثليث الأقانيم، وآية بالحلول والاتحاد، بل هو -سبحانه- ذكر في كل آية كفرهم المشترك، ولكن وصف كفرهم بثلاث صفات، وكل صفة تستلزم الأخرى، إنهم يقولون: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 المسيح هو الله، ويقولون: هو ابن الله، ويقولون: إن الله ثالث ثلاثة، حيث اتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله، هذا بالاتحاد، وهذا بالحلول. ويبين بذلك إثبات ثلاثة آلهة منفصلة غير الأقانيم، وذلك يتضمن جميع كفر النصارى، وذلك أنهم يقولون: الإله جوهر واحد له ثلاثة أقانيم. وهذه الأقانيم يجعلونها تارة جواهر وأشخاصا وتارة صفات وخواص، فيقولون: الوجود الذي هو الآب، والابن الذي هو العلم، وروح القدس التي هي الحياة عند متقدميهم، والقدرة عند متأخريهم. لكن يقولون - أيضا -: إن الوجود الذي هو الآب جوهر، والكلمة التي هي الابن جوهر، وروح القدس - أيضا - جوهر، وأن المتحد بالمسيح هو جوهر الكلمة دون جوهر الأب وروح القدس، وهذا مما لا نزاع بينهم فيه. قلت: وبيان هذا الاعتقاد بعبارة أخرى من كرم بعض المحققين أن النصارى اعتقدوا أن معبودهم جوهر - أي: أصل للأقانيم -، وذلك أن له عندهم ثلاثة أقانيم: أقنوم الوجود، ويعبرون عنه بالآب. وأقنوم العلم، ويعبرون عنه بالابن والكلمة. وأقنوم الحياة، ويعبرون عنه بالروح القدس. ثم قالوا: مجموع الثلاثة إله واحد. والأقنوم: كلمة يونانية، والمراد بها في تلك اللغة أصل الشيء، ويعني بها النصارى: الأصل الذي كانت عليه حقيقة إلههم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وقد طولبوا في دليل الحصر في الثلاثة، فقالوا: لأن الخلق والإبداع لا يتأتى إلا بها، فقيل لهم: والإرادة، والقدرة لا يتأتى الخلق إلا بهما، فيلزم الحكم بأن الأقانيم خمسة، وهو باطل، فكذا التثليث ... والله أعلم. قال أبو العباس: ومن هاهنا قالوا كلهم: المسيح هو الله، وقالوا كلهم: هو ابن الله، لأنه من حيث إن الآب والابن وروح القدس إله واحد، وقد اتحد بالمسيح كان المسيح هو الله، ومن حيث إن الأب جوهر والابن جوهر وروح القدس جوهر، والذي اتحد به هو جوهر الابن الذي هو الكلمة كان المسيح هو ابن الله عندهم. ولا ريب أن هذين القولين وإن كان كل منهما متضمنا لكفرهم - كما ذكره الله - فإنهما متناقضان، إذ كونه هو ينافي كونه ابنه، لكن النصارى يقولون هذا كلهم، ويقولون هذا كلهم، كما ذكر الله ذلك عنهم، ولهذا كان قولهم معلوم التناقض في بديهة العقول عند كل من تصوره، فإن الأقانيم إذا كانت صفات أو خواص، وقدر أن الموصوف له بكل صفة اسم كما مثلوه بقولهم: زيد الطبيب، وزيد الحاسب، وزيد الكاتب، لكن لا يمكن أن بعض هذه الصفات يتحد بشيء دون الجوهر، ولا أن بعض هذه يفارق بعضا، فلا يتصور مفارقة بعضها بعضا، ولا مفارقة شيء منها للموصوف، حتى يقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 المتحد بالمسيح بعض هذه الصفات، وهم لا يقولون ذلك - أيضا -، بل هم متفقون على أن المتحد به جوهر قائم لنفسه: فإن لم يكن جوهرا إلا جوهر الآب كان جوهر الآب هو المتحد، وإن كان جوهر الابن غيره فهما جوهران منفصلان، وهم لا يقولون بذلك. والموصوف -أيضا- لا يفارق صفاته كما لا تفارقه فلا يمكن أن يقال: اتحد الجوهر بالمسيح بأقنوم العلم دون الحياة، إذ العلم والحياة لا زمان للذات لا يتصور أن تفارقهما الذات، ولا أن يفارقها واحد منهما، ومن هنا قيل: النصارى غلطوا في أول مسألة من الحساب الذي يعلمه كل أحد، وهو قولهم: الواحد ثلاثة. وأما قول بعضهم: " أحدي الذات ثلاثي الصفات " فهم لا يكتفون بذلك كما تقدم، بل يقولون: الثلاثة جواهر، والمتحد بالمسيح واحد منها دون الآخر. وبهذا يتبين أن كل من أراد أن يذكر قولهم على وجه يعقل فقد قال الباطل كقول المتكايسين منهم: هذا كما تقول: زيد الطبيب، وزيد الحاسب، وزيد الكاتب، فهم ثلاثة رجال باعتبار الصفات، وهم رجل واحد باعتبار الذات. فإنه يقال: من يقول هذا لا يقول بأن زيدا الطبيب فعل كذا أو اتحد بكذا، أو حل به دون زيد الحاسب والكاتب، بل أي شيء فعله أو وصف به زيد الطبيب في هذا المثال فهو الموصوف به زيد الحاسب الكاتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 قلت: ونظير هذا المثل ما قاله بعضهم: إنك إذا فرضت مثلثا متساوي الأضلاع، كانت الأضلاع ثلاثة والمثلث واحد، وكان للمثلث الواحد ثلاثة أضلاع. وهذا من نمط ما قبله في الفساد، وذلك أن كل واحد من الأضلاع على انفراده ليس هو المثلث المفروض، بل إن اعتبرت الأضلاع الثلاثة شيئا واحدا انتفى التثليث، لأن الواحد لا يكون ثلاثة، وإن اعتبر أحد الأضلاع على انفراد انتفت الوحدة، فالجمع بينهما جمع بين النقيضين. والله أعلم. قال: والنصارى يثبتون هذا المثلث في الأقانيم مع قولهم: إن المتحد هو الواحد، فيجعلون المسيح هو الله، لأنهم يقولون الموصوف اتحد به، ويجعلون المسيح هو ابن الله، لأنهم يقولون: إنما اتحد به الجوهر الذي هو الكلمة، أو إنما اتحد به الكلمة دون الآب الذي هو الوجود، ودون روح القدس، وهما -أيضا- جوهران. فقد تبين أن قول النصارى بهذا وبهذا جمع بين النقيضين، وهو من أفسد شيء في بداية العقول وكل منهما كفر، كما كفرهم الله. وأما قولهم: " ثالث ثلاثة " فإنهم مع ذلك يعبدون الأم التي هي والدة الإله عندهم، وهذا كفر آخر مستقل بنفسه غير تثليث الأقانيم والاتحاد بالمسيح. فالقرآن يتناول جميع أصناف كفرهم في هذا الباب تناولا تاما. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 فصل وقد أقام الله -تعالى- أنواع الأدلة والبراهين على بطلان دعوى هؤلاء الجهلة الضلال واعتقادهم في المسيح، وبين ذلك في كتابه العزيز في مواضع كثيرة بطرق عقلية، وحجج واضحة جلية، فنذكر منها أنموذجا يدل على ما وراءه. فمن ذلك قوله -تعالى-: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . فاشتملت هاتان الآيتان على الرد عليهم دعواهم الولد له، ونزه نفسه عنه، فقال: سُبْحَانَهُ أي: تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك، ثم ذكر عدة حجج على استحالة اتخاذه الولد: إحداها: كون ما في السماوات والأرض ملكا له، وهذا ينافي أن يكون فيهما ولد له، لأن الولد بعض الوالد وشريكه، فلا يكون مخلوقا له مملوكا، لأن المملوك مربوب عبد من العبيد، والابن نظير الأب، فكيف يكون عبده ومخلوقه ومملوكه بعضه ونظيره؟ فهذا من أبطل الباطل. وأكد مضمون هذه الحجة بقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} ، فهذا تقرير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 لعبوديتهم له، وأنهم مملوكين مربوبون، ليس فيهم شريك ولا نظير ولا ولد، فإثبات الولد له من أعظم الإشراك به. فإن المشرك به جعل له شريكا من مخلوقاته مع اعترافه بأنه مملوكه، كما كان المشركون من العرب يقولون في تلبيتهم: " لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ". فكانوا يجعلون ما أشركوا به مملوكا له عبدا مخلوقا. والنصارى جعلوا له شريكا هو نظير وجزء من أجزائه، كما جعل بعض المشركين الملائكة بناته، فقال -تعالى-: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} ، فإذا كان له ما في السماوات وما في الأرض وهم عبيده قانتون مملوكون استحال أن يكون له منهم شريكا. وكل من أقر بأن لله ما في السماوات وما في الأرض يلزمه أن يقر بالتوحيد ولا بد. الحجة الثانية: قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وهذه من أبلغ الحجج على استحالة نسبة الولد إليه، ولهذا قال في سورة الأنعام: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 أي: من أين يكون لبديع السماوات والأرض ولد؟ ! ووجه هذه الحجة أن من اخترع السماوات والأرض مع عظمهما وآياتهما وفطرهما وابتداعهما، فهو قادر على اختراع ما هو دونهما ولا نسبة له إليهما البتة. فكيف يخرجون هذا الشخص عن قدرته وإبداعه، ويجعلونه نظيرا وشريكا وجزءا من الله بديع العالم العلوي والسفلي فاطره ومخترعه وباريه!!، فكيف يعجزه أن يوجد هذا الشخص من غير أب حتى يقولوا: إنه ولده؟ فمن نسب الولد لله فما عرف الرب ولا آمن به ولا عبده. فظهر أن هذه الحجة من أبلغ الحجج على استحالة نسبة الولد إليه. وبهذا الوجه قرر الاستدلال بهذه الحجة غير واحد من المفسرين، قال ابن القيم: وإن شئت تقرير الاستدلال بوجه آخر، وهو أن يقال: إذا كان نسبة السماوات والأرض وما فيهما إليه إنما هي بالاختراع والخلق والإبداع، أنشأ ذلك وأبدعه من العدم إلى الوجود. فكيف يصح نسبة شيء من ذلك إليه بالنبوة، وقدرته على اختراع العالم وما فيه لم يزل، ولم يحتج فيه إلى معاون ولا صاحب ولا شريك؟ ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وإن شئت أن تقريرها بوجه آخر، فتقول: النسبة إليه بالنبوة مستلزمة حاجته وفقره إلى محل الولادة، وذلك ينافي غناه وإفراده بإبداع السماوات والأرض. وقد أشار -تعالى- إلى هذا المعنى بقوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . فكمال قدرته وكمال غناه وكمال ربوبيته يحيل نسبة الولد إليه، ونسبته إليه يقدح في كمال ربوبيته، وكمال غناه، وكمال قدرته. ولهذا كان نسبة الولد إليه مسبة له -تبارك وتعالى- كما في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «قال الله -تعالى-: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك؛ فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدا، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا» . أخرجه في الصحيحين، واللفظ للبخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وقال عمر بن الخطاب في النصارى: " أذلوهم، ولا تظلموهم؛ فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياه أحد من البشر ". وقال -تعالى-: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} . وأخبر -تعالى- أن السماوات كادت تنفطر من قولهم، وتنشق الأرض منه، وتخر الجبال هدا، وما ذاك إلا لتضمنه شتم الرب -تعالى- والتنقص به، ونسبة ما يمنع كمال ربوبيته وقدرته وغناه إليه. الحجة الثالثة: قوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وتفسير هذه الحجة: أن من كانت قدرته كافية في الإيجاد بمجرد أمره وقوله: " كن " فأي حاجة به إلى وهو لا يتكثر به من قلة، ولا يتعزز به من ذلة، ولا يستعين به من عجز، وإنما يحتاج إلى الولد من لا يخلق، ولا إذا أراد شيئا يقول له: كن فيكون، وهو المخلوق العاجز المحتاج الذي لا يقدر على تكوين ما أراد. ومن ذلك قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 ففي هذه الآية أربع حجج تدل على استحالة نسبة الولد إليه، ومنافاتها كماله المقدس. الحجة الأولى: ما تضمنه قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وتقدم تقريرها قريبا. الثانية: قوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} ، والمعنى أنه يلزم من نسبة الولد إليه نسبة الصاحبة إليه -أيضا-، وهو محال؛ فنسبة الولد كذلك. ووجه التلازم ظاهر؛ لأن الولد إنما يتولد من أصلين: فاعل، ومحل قابل، يتصلان اتصالا خاصا، فينفصل عن أحدهما جزء في الآخر يكون منه الولد. والله -تعالى- ليس له صاحبة، فكيف يكون له ولد؟ قال ابن القيم: ولذلك لما فهم عوام النصارى أن الابن يستلزم الصاحبة لم يستنكفوا من دعوى كون مريم إلها، وأنها والدة الإله عيسى، فيقول عوامهم: يا والدة الإله، اغفري لي، ويصرح بعضهم بأنها زوجة الرب. ولا ريب أن القول بالإيلاد يستلزم ذلك إثبات إيلاد لا يعقل، ولا يتوهم محال. فخواص النصارى في حيرة وضلال، وعوامهم لا يستنكفون أن يقولوا بالزوجة والإيلاد، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 والقوم في هذا المذهب الخبيث أضل خلق الله، فهم كما وصفهم الله بأنهم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل. وقال غيره: إن النصارى يقولون: إن الآب ولدت منه الكلمة، ومريم ولد منها الناسوت، فاتحد الناسوت باللاهوت، فكان المسيح. فالمسيح عندهم إله تام، وإنسان تام، فلاهوته من الله وناسوته من مريم، فهو من أصلين لاهوت وناسوت، فإذا كان أحد الأصلين أباه، والآخر أمه؛ فلم لا تكون أمه زوجة أبيه؟، وإذا اتحد اللاهوت بناسوت المسيح مدة طويلة فلماذا يمتنع أن يجتمع اللاهوت بناسوت مريم مدة قصيرة؟، وإذا جعل الناسوت الذي ولدته ابنا للاهوت فلأي شيء لا تجعل صاحبة وزوجة للاهوت!. تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا. الحجة الثالثة: قوله -تعالى-: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ، وتقرير الحجة أنه قد ثبت بالبراهين القاطعة أنه -تعالى- خلق كل شيء، فنسبة الولد إليه تنافي عموم خلقه، فإنه لو كان له ولد لم يكن مخلوقا له، بل جزءا منه. وهذا ينافي كونه خالق كل شيء. وبهذا يعلم أن الفلاسفة الذين قالوا بتولد العقول والنفوس عنه بواسطة أو بغير واسطة شر من النصارى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وأن من زعم أن العالم قديم فقد أخرجه عن كونه مخلوقا لله. والنصارى لم يصل كفرهم إلى هذا الحد، قاله ابن القيم. الحجة الرابعة: قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وتقرير الدلالة أنه -تعالى- لا يعلم له ولدا، فيستحيل نسبته إليه، فإنه لو كان له ولد لعلمه، لأنه بكل شيء عليم، ونظير هذا قوله -تعالى-: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . فهذا نفي لما ادعوه من الشفعاء ينفي علم الرب بهم المستلزم لنفي المعلوم. ومن ذلك قوله -تعالى-: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . وهاتان الآيتان ذكرهما الله -تعالى- بعد إكفاره النصارى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 قولهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ، وقولهم: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} . وأبطل فيهما قولهم بعدة من الأدلة: الأول: التنبيه على أن المسيح -عليه السلام- رسول الله من جنس الرسل الذين خلوا من قبل، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها، فإن الذي أبرأ الأكمة والأبرص، وأحيا الموتى على يده هو الذي هو الذي أحيا العصا، وجعلها حية تسعى، وفلق البحر على يد موسى، إلى غير ذلك من آياته، وهو الذي أخرج الناقة لصالح من صخرة صماء. والذي خلق المسيح من غير ذكر هو الذي خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، فكما لم يكن إتيانهم بالآيات دالا على آلهتهم فكذلك عيسى. الثاني: أن من له أم فقد حدث بعد أن لم يكن، وكل من كان كذلك كان مخلوقا، والمخلوق لا يكون إلها. الثالث: أنهما كانا محتاجين، لأنهما كانا يحتاجان إلى الطعام والشراب أشد الحاجة. والإله هو الذي يكون غنيا عن جميع الأشياء، فكيف يعقل أن يكون المسيح إلها مع حاجته؟. الرابع: قال بعض العلماء إن قوله: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} كناية عن الحدث، لأن من أكل الطعام فلا بد أن يحدث، فهذا أبلغ في إبطال إلهيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 الخامس: أن الإله لا بد أن يكون قادرا على الخلق والإيجاد، فلو كان المسيح إلها لقدر على دفع الجوع عن نفسه بغير الطعام، فلما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه كيف يعقل أن يكون إلها للعالمين؟. ولما كانت هذه الحجج في غاية الجلاء ونهاية الظهور قال -تعالى-: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ} ، أي: نظهرها {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، أي: ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون وبأي شيء يتمسكون؟. السادس: أن اليهود كانوا يعادون المسيح، ويقصدونه بالسوء، فما قدر على الإضرار بهم، وكان أنصاره يحتاجون إلى النفع، فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، والعاجز عن الضر والنفع كيف يجوز أن يكون إلها؟. ولهذا قال -تعالى-: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} . السابع: أن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه، ومزقوا أضلاعه .... إلى غير ذلك من زعمهم. ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إلها؟ !. الثامن: إن إله العالم يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه، وكل ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 سواه يكون محتاجا إليه، فلو كان إلها لامتنع أن يكون مشغولا بعبادة الله، لأن الإله لا يعبد شيئا، إنما العبد هو الذي يعبد الإله. فلما عرف بالتواتر كون عيسى مواظبا على الطاعات والعبادات، دل على أنه إنما كان يفعلها لكونه محتاجا إلى تحصيل المنافع ودفع المضار، وإذا كان كذلك كان عبدا كسائر العبيد. ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، أي: فلم عدلتم عن السميع لأقوال العباد العليم بكل شيء إلى عبادة عبد من العباد لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا؟ !. وقد كان المسيح -عليه السلام- لم يسمع أقوال الذين تمالؤوا عليه، ولم يعلم بهم حتى وصلوا إليه فكيف تجعلونه إلها مع الله - تعالى الله عما يشركون؟ -. ومن ذلك ما تضمنه صدر سورة آل عمران فإنه كان سبب نزوله في وفد نجران النصارى حين قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله -تعالى- صدر السورة إلى آية المباهلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ردا عليهم، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيره، فنذكر طرفا من قصتهم، ثم نتبعه ببعض ما تضمنه صدر السورة من الحجة -إن شاء الله تعالى-. قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره: وقدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفد نصارى نجران ستون راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، في الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم، وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة - أحد بني بكر بن وائل -، أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم. وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم، حتى حسن عمله في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه، ومولوه، وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا له الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما وجهوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها، وإلى جنبه أخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 له - يقال له: كوز بن علقمة -، فعثرت بغلة أبي حارثة، فقال كوز: تعس الأبعد - يريد رسوا الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو حارثة: بل أنت تعست. قال: ولم يا أخي؟ قال: والله، إنه للنبي الذي كنا ننتظر. فقال له كوز: وما منعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا، ومولونا، وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا عوامنا كما ترى، فأضمر عليها منه أخوه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك. فهو كان يحدث عنه هذا الحديث فيما بلغني. قال: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جبب وأردية، في جمال رجال بني الحارث بن كعب. قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذ ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلون، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " دعوهم "، فصلوا إلى المشرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 قال ابن إسحاق: وكان من دين النصرانية على دين الملك مع الاختلاف من أمرهم: يقولون: هو الله، ويقولون: هو ولد الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، وكذلك قول النصرانية. فهم يحتجون في قولهم: هو الله بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا، وذلك كله بأمر الله - تبارك وتعالى -، وليجعله آية للناس. ويحتجون في قولهم: إنه ولد الله بأنهم يقولون: إنه لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد، وهذا شيء لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله. ويحتجون في قولهم: إنه ثالث ثلاثة بقول الله: فعلنا، وأمرنا وقضينا، فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت. ولكنه هو عيسى ومريم. ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن. «فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أسلما، قالا: قد أسلمنا. قال: إنكما لم تسلما، فأسلما، قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهما، فلم يجبهما. فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها، إلى أن قال: «فلما أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر من الله - عز وجل -، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك. فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما تريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. ثم انصرفوا عنه، وخلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: والله - يا معشر النصارى -، لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط، فنما كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم. فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فواعدوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجع على ديننا. ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا. قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ائتوني العشية، أبعث معكم القوي الأمين. » الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 «قال: فكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجرا، فلما صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر سلم، ثم نظر عن يمينه ويساره، فجعلت أتطاول له، ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه، فقال: اخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه. قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة» . وقد رويت هذه القصة بالأسانيد من وجوه أخر بأطول من هذا السياق، أضربنا عن ذكرها خوف الإطالة. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: «جاء العاقب والسيد - صاحبا نجران - إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله، إن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 «من بعدنا. قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف لها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا أمين هذه الأمة» . وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لو خرج الذين يباهلون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا. رواه أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه. رجعنا إلى ما وعدنا من التنبيه على بعض ما في صدر سورة آل عمران من الحجة على بطلان قول النصارى، وما في ضمنه من تقرير نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم - مما استنبطه العلماء من بعض أسرار هذه الآيات وما فيها من العلم. وبسط الكلام على المواضع الدالة يستدعي طولا، فلنقتصر على بعض ما في فاتحة السورة وخاتمة القصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 قال الله -تعالى-: {الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . ففي مطلع هذه السورة الكريمة من إقامة البرهان على وحدانية الله -تعالى- ونفي الولد عنه، وعلى بطلان ربوبية المسيح، وعلى تحقيق نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ما هو من الحجج القواطع لشبه المبطلين والأدلة المنادية بجهالة المجادلين، وذلك أن أولئك النصارى الذين جادلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كأنه قيل لهم: إما أن تجادلوه في معرفة الإله أو في النبوة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 فإن كان النزاع في معرفة الإله، وتقولون: إن المسيح ابن الله، وتقولون: إنه الله، وتقولون: إن الله ثالث فالحق معه بالدلائل القطعية، فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم، والحي القيوم يستحيل نسبة الولد والشريك إليه، لأن ذلك يقدح في حياته وقيوميته. وإن كان النزاع في النبوة فهذا -أيضا- باطل، لأن الطريق الذي عرفتم به أن الله أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى هو بعينه قائم في محمد -صلى الله عليه وسلم-. وما ذاك إلا ما اقترن به من الدلائل والمعجزات، وهو حاصل هاهنا، فكيف يمكن منازعته في صحة نبوته؟! والحاصل أن هذه الآيات الكريمات تضمنت إقامة الحجة في أصلين: الأول: في الإلهيات. والثاني: في النبوات. وتقرير الأول: أنه حي قيوم، وما كان حيا قيوما يمتنع أن يكون له ولد أو مشارك، لأن الحي القيوم هو واجب الوجود لذاته، وحياته وقيوميته لا ابتداء لها ولا انتهاء، فهو الأول فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وأما ما عداه فإنه ممكن الوجود لذاته، حدث بتخليق الحي القيوم وإيجاده وتكوينه، وما كان محدثا مخلوقا لا يكون إلها. وأيضا فنسبة الولد إليه تنافي كمال حياته وقيوميته، وذلك لأن الولد جزء الوالد، وفرع عنه، والولد حادث بعد أن لم يكن، لأنه -بالضرورة- لا بد أن يكون مسبوقا بالأب، فيلزم من ذلك حدوث الأب -أيضا- بالضرورة، للارتباط الذي بين الأب والابن من المشابهة، وهذا هو التعطيل الصرف، فثبت أن دعوى الولد لله تنافي ربوبيته للعالمين. وأيضا لما ثبت أن الإله يجب أن يكون حيا قيوما، وثبت أن عيسى لم يكن حيا قيوما، لأنه ولد، وكان يأكل، ويشرب، ويحدث، والنصارى زعموا أنه قتل وصلب، وما قدر على الدفع عن نفسه، فثبت أنه ما كان حيا قيوما، وذلك يقتضي القطع والجزم بأنه ما كان إلها. فهذه الكلمة، وهي قوله -تعالى-: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى بالتثليث. وأما الأصل الثاني: وهو إثبات النبوة، فقد ذكر الله -تعالى- تقريره هاهنا في غاية الحسن ونهاية الجودة، وذلك أنه قال: {أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} ، وهذا يجري مجرى الدعوى، ثم إنه -تعالى- أتبع ذلك بأدلة تدل على صحتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 الدليل الأول: ما دل عليه قوله: {بِالْحَقِّ} ، وقد قال المفسرون فيه أقوالا، كلها مطابقة لوصف القرآن دالة على المقصود. فقيل: وصفه بقوله بالحق، لأنه يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال، ويمنعه عن سلوك طريق الباطل. وقيل: لأنه قول فصل، وليس بالهزل. وقيل: لأنه -تعالى- أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية وشكر النعمة وإظهار الخضوع، وما يجب لبعضهم على بعض من العدل والإنصاف في المعاملات، ولأنه أنزله يصدق بعضه بعضا، ولا يتناقض. كما قال -تعالى-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} وقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . وهذا كله من صفات القرآن فدل على أنه من عند الله. الدليل الثاني: قوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ، والمعنى أنه مصدق لكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 الأنبياء -عليهم السلام- فيما أخبروا به عن الله -تعالى-، فدل على أنه من عند الله من وجهين: الأول الذي جاء به رجل أمي لم يقرأ شيئا من الكتب، ولا أخذ عن أحد من العلماء، ومع ذلك جاءت أخباره مطابقة لأخبار الأنبياء فيما تضمنه من القصص، ومن الخبر عن الله، وهذا برهان قاطع على أنه لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله -تعالى-. الوجه الثاني: أن الله -تعالى- لم يبعث نبيا قط إلا بدعوة إلى توحيده، والإيمان به، وتنزيهه عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان، وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان. والقرآن جاء بهذه المطالب على أكمل الوجوه وأحسنها، فهو مصدق لتلك الكتب في كل ذلك، فدل على أنه من عند الله. الدليل الثالث: قوله -تعالى-: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} وتقرير الدلالة أن يقال: وافقتمونا - أيها اليهود والنصارى - على أنه -تعالى- أنزل التوراة والإنجيل كتابين إلهيين، وأنه -تعالى- قرن بإنزالهما المعجزة والدلالات الدالة على الفرق بينهما وبين أقوال الكاذبين، فإنه لولا المعجزة لما حصل الفرق بين قول المحق وقول المبطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 التثليث بقوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أتبع ذلك بإبطال شبههم. فالشبهة الأولى - تتعلق بالعلم: وهو أن المسيح -عليه السلام- كان يخبر بالغيوب، قالوا: فوجب أن يكون إلها، فأجاب الله -تعالى- عنه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} . وتقرير الجواب أنه لا يلزم من كونه عالما ببعض المغيبات أن يكون إلها، لأن ذلك إنما كان بوحي من الله إليه وإطلاعه على ذلك دلالة على نبوته، لكن عدم إحاطته ببعض المغيبات دليل قاطع على أنه ليس بإله، لأن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. فإن الإله هو الذي يكون خالقا، والخالق لا بد أن يكون عالما بمخلوقه، وما ذاك إلا الله وحده، كما قال -تعالى-: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . ومن المعلوم -بالضرورة- أن عيسى ما كان عالما بجميع المعلومات والمغيبات، كيف والنصارى يزعمون أنه أظهر الجزع من الموت، فلو كان عالما بالغيب كله لعلم أن القوم يريدون أخذه وقتله، وأنه يتأذى بذلك، ويتألم، وكان يفر منهم قبل وصولهم، فلما لم يعلم هذا الغيب ظهر أنه ما كان عالما بجميع المعلومات والمغيبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 والإله هو الذي لا يخفى عليه شيء من المعلومات، فوجب القطع بأن عيسى ما كان إلها. الشبهة الثانية: قالوا: لما ثبت أنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا وجب أن يكون إلها. فأجاب الله -تعالى- عنها بقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} والمعنى أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قول عيسى في بعض الأحوال لا يدل على كونه إلها، لأنا نقول إن ذلك وقع بإذن الله -تعالى- معجزة دالة على نبوته، لكن عجزه عن الإحياء والإماتة في بعض الصور يدل على عدم إلهيته. وذلك أن الإله هو الذي يكون قادرا على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب والتأليف الغريب، ومعلوم أن عيسى -عليه السلام- ما كان قادرا على خلق الإحياء والإماتة على هذا الوجه. كيف ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين زعم النصارى أنهم أخذوه، وقتلوه، فظهر أن حصول الإحياء والإماتة في بعض الصور على وفق قوله لا يدل على كونه إلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وأيضا فعيسى -عليه السلام- صور في الأرحام، وتقلب فيها كسنة الله في غيره من ذرية آدم، فعلم أنه معلوم كسائر الخليقة، فبطل أن يكون إلها. الشبهة الثالثة: أن النصارى يقولون إنكم أيها المسلمون توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر، فوجب أن يكون ابنا لله -تعالى عن قولهم علوا كبيرا-. فأجاب الله -تعالى- عنها أيضا بقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} لأن هذا التصوير لما كان من الله -تعالى-: فإن شاء صوره من نطفة الأب، وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب. كيف وقد خلق -تعالى- آدم من تراب من غير أب ولا أم، فلما كان مقتدرا على ما شاء من التصوير بطل ما تعلقوا به في ذلك. الشبهة الرابعة: أنه ورد في بعض الروايات أن أولئك النصارى قالوا للرسول -صلى الله عليه وسلم-: ألست تقول: إن عيسى كلمة الله وروحه؟، فهذا يدل على أنه ابن الله، وفي بعض الروايات: أنهم احتجوا على التثليث بقول الله -تعالى-: قضينا، وأمرنا ونحوه. فأجاب الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 -تعالى- بقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} . والمعنى -كما قال محمد بن إسحاق - {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} لهن تصريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام أن لا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرفن عن الحق. يقول الله -عز وجل-: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي: ميل عن الحق إلى الهوى {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي: ما تصرف ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا ليكون لهم حجة ولهم على ما قالوا شبهة {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي: اللبس {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} على ما ركبوا من الضلالة في قوله: خلقن وقضينا. يقول الله -تعالى-: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فكيف يختلف وهو قول واحد من رب واحد؟ !. ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمات التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتسق بقولهم الكتاب، وصدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 بعضه بعضا، فنفذت به الحجة، وظهر به العذر، وانزاح به الباطل، ودمغ به الكفر، يقول الله -تعالى-: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . وهذا الكلام من ابن إسحاق من أحسن ما قيل في الآية وأبينه. وحاصل الجواب عن الشبهة أن النصارى تعلقوا بظاهر لفظ من القرآن يحتمل عدة معان من الحقيقة والمجاز، فهو من المتشابه الذي يجب رده إلى المحكم الذي لا يحتمل غير معناه الظاهر لكل أحد، فتعلقوا بقوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} ، وغفلوا عن قوله في عيسى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} ، وقوله: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} ، وقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} . فأخبر الله -تعالى- أن ذلك لما في قلوبهم من الزيغ. وهكذا من شابههم من هذه الأمة، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الآية قال: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» . هذا لفظ البخاري. وقد كان الذين أنكروا الحلول والاتحاد من النصارى الذين يصدقون بلفظ الآب والابن وروح القدس، وأن تلك العبارة مأخوذة عن إنجيل المسيح يقولون -مع ذلك-: إن المسيح عبد مرسل كسائر الرسل، فوافقوهم على اللفظ، ولم يفسروا ذلك بما يقوله منازعوهم من الحلول والاتحاد. كما أن النسطورية يوافقونهم -أيضا- على هذا اللفظ، وينازعونهم في الاتحاد الذي يقوله اليعقوبية والملكية. فلما كانوا متفقين على اللفظ، متنازعين في معناه علم أنهم صدقوا باللفظ أولا لأجل اعتقادهم مجيء الشرع، ثم تنازعوا بعد ذلك في تفسيره، كما يختلفون هم وسائر أهل الملل في تفسير بعض الكلام الذي يعتقدون أنه منقول عن الأنبياء -عليهم السلام-. وكل ما صح عنهم أنهم قالوه فهو حق، لأنهم لا يقولون إلا الحق، ولا بد له -إذا كان صحيحا عنهم- من معنى صحيح يوافق اللفظ المحكم الذي لا يحتمل غير معناه الظاهر لكل أحد. فظهر بما قرر من قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إشارة إلى ما يدل على أن المسيح ليس بإله، ولا ابن للإله، وأن قوله: {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم، وقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} جواب عن تمسكهم بقدرته على الإحياء والإماتة، وعن تمسكهم بأنه ما كان له أب من البشر، فيجب أن يكون ابنا لله، وأن قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الآية جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن من الألفاظ المحتملة لعدة من المعاني. ومن تأمل ما ذكرناه علم أنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة ولا سؤال ولا جواب إلا وقد اشتملت عليه هذه الآيات، فالحمد لله الذي أغنى عباده المؤمنين بكتابه، وما أودعه من حججه، وبيناته عن شقائق المتكلمين، وهذيانات المنهوكين، فلقد عظمت نعمة الله على عبد أغناه بفهم كتابه عن الفقر إلى غيره: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} . ثم ذكر -تعالى- أنواعا من الحجج، وشرح قصة مريم وعيسى - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 عليهما السلام - شرحا جليا متضمنا لأنواع من الأدلة على بطلان قول النصارى بما لا يتسع هذا المختصر لشرحه إلى أن قال -تعالى-: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وفي هذه الآية إبطال شبهة النصارى في قولهم: لما لم يكن له أب من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله -تعالى -. فبين -تعالى- أنه خلق آدم من تراب، ولم يكن له أب ولا أم، ولم يلزم من ذلك أن يكون ابنا لله، فكذا القول في عيسى. وأيضا فلما جاز أن يخلق الله آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟ بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم المرأة أقرب من تولده من التراب اليابس. ولكن الرب - جل جلاله - أراد أن يظهر قدرته لخلقه في تنويع التخليق، فيعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما. وبعد أن بين -تعالى- أنواع الأدلة القاطعة في صدر السورة، وأجاب عن شبه النصارى على أكمل الوجوه وأحسنها، وكان من أنصف وطلب الحق علم أن البيان قد بلغ الغاية القصوى لا جرم، قال -تعالى- بعد ذلك -: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 يعني فبعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الجواب معهم وعاملهم بها بما يعامل به المعاند، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة، وقد فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ودعاهم إليها، فنكصوا، ورجعوا إلى الصلح، وأقروا بالصغار، وبذلوا الجزية، كما تقدم في القصة. فكان ذلك دليلا على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم - من وجهين: أحدهما: أنه -عليه الصلاة والسلام- خوفهم بنزول العذاب. فلو لم يكن واثقا بذلك لكان ذلك منه سعيا في إظهار كذب نفسه، لأنه بتقدير أن يرغبوا في المباهلة، ثم لا ينزل العذاب يكون ذلك تكذيبا له. ومعلوم أنه كان -صلى الله عليه وسلم- من أعقل الناس، بل هو أعقلهم على الإطلاق، ولا يليق بالعاقل أن يعمل عملا يفضي إلى ظهور كذبه، فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقا بنزول العذاب عليهم لو فعلوا. الثاني: أن القوم تركوا المباهلة، وأعطوا الصغار من أنفسهم. فلولا أنهم علموا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته لما أحجموا عن مباهلته ورضوا لأنفسهم بالذل والصغار، بل قد تقدم في القصة ما يدل صريحا على معرفتهم به، وأنه النبي المبشر به في كتب الأنبياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 فصل ولا بأس بذكر مناظرة حكاها بعض العلماء جرت بينه وبين بعض النصارى ممن يدعي التحقيق والتعمق في مذهبه. قال: قال لي النصراني: ما الدليل على نبوة محمد؟ فقلت له: كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد -صلى الله عليه وسلم-[فإن رددنا التواتر أو قبلناه، لكن قلنا: إن المعجزة لا تدل على الصدق فحينئذ تبطل نبوة سائر الأنبياء، وإن اعترفنا بصحة التواتر، واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق، ثم إنهما حاصلان في حق محمد -صلى الله عليه وسلم- وجب الاعتراف قطعا بنبوته ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول] . فقال النصراني: إني لا أقول في عيسى: إنه كان نبيا، بل أقول: كان إلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 فقلت له: هذا الذي تقوله باطل، لأن الإله هو واجب الوجود لذاته، وعيسى هو هذا الشخص البشري الذي وجد بعد أن كان معدوما، قتل -على قولك- بعد أن كان حيا، فكان أولا طفلا، ثم صار مترعرعا، ثم صار شابا، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ. وقد تقرر في بداية العقول أن المحدث لا يكون قديما، والمحتاج لا يكون غنيا، والممكن لا يكون واجبا، والمتغير لا يكون دائما. هذا وجه. والوجه الثاني: في إبطال هذه المقالة: أنكم معترفون بأن اليهود أخذوه، وصلبوه، وتركوه حيا على الخشبة، وفعلوا معه من الإهانة والأذى ما تدعونه، وأنه كان يحتال في الهرب منهم وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد. فلو كان إلها، أو كان الإله حالا فيه، أو كان جزءا من الإله حالا فيه فلم لم يدفعهم عن نفسه؟ ولم يهلكهم بالكلية؟ وأي حاجة به إلى إظهار الجزع والاحتيال في الفرار منهم؟. الوجه الثالث: وهو أنه إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد، أو يقال حل الإله بكليته فيه، أو حل بعض الإله وجزء منه فيه. والأقسام الثلاثة باطلة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 أما الأول - فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم فحين قتلته اليهود كان ذلك قولا بأن اليهود قتلوا إله العالم فكيف بقي العالم بعد ذلك بغير إله؟. ثم إن أشد الناس ذلا ودناءة اليهود، فالإله الذي يقتله اليهود إله في غاية العجز!. وأما الثاني - وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم - فهو -أيضا- فاسد، لأن الإله إن لم يكن جسما ولا عرضا امتنع حلوله في الجسم. وإن كان جسما فحينئذ يكون حلوله في الجسم عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم. وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله. وإن كان عرضا كان محتاجا إلى غيره. وذلك محال في حق الإله. وأما الثالث - وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله وجزء من أجزائه - فذلك -أيضا- محال، لأن ذلك الجزء إن كان معتبرا في الإلهية فعند انفصاله عن الإله وجب أن لا يبقى الإله إلها، وإن لم يكن معتبرا في تحقيق الإلهية لم يكن جزءا من الإله. فثبت فساد هذه الأقسام، فكان قول النصارى باطلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الوجه الرابع: في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى -عليه السلام- كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله -تعالى-. فلو كان إلها لاستحال ذلك، لأن الإله لا يعبد نفسه. فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور دالة على فساد قولهم. انتهى. وبالجملة، فالأمر كما قال أبو عبد الله ابن القيم: إن دين الأمة الصليبية بعد أن بعث الله محمدا -صلى الله عليه وسلم-، بل قبله بنحو من ثلاثمائة سنة مبني على معاندة العقول والشرائع وتنقص إله العالمين ورميه بالعظائم، فكل نصراني لا يأخذ بحظه من هذه البلية فليس بنصراني على الحقيقة. أفليس هو الدين الذي أسسه أصحاب المجامع المتلاعنين على أن الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد؟ فيا عجبا! كيف يرضى العاقل أن يكون هذا مبلغ علمه ومنتهى عقله؟ أترى لم يكن في هذه الأمة من يرجع إلى عقله وفطرته، ويعلم أن هذا عين المحال، وإن ضربوا له الأمثال، واستخرجوا له الأشباه، فلا يذكرون مثالا ولا شبها إلا وفيه بيان خطئهم وضلالهم كتشبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 بعضهم اتحاد اللاهوت بالناسوت، وامتزاجه به باتحاد النار والحديد، وتمثيل بعضهم ذلك باختلاط الماء باللبن، وتشبيه آخرين ذلك بامتزاج الغذاء واختلاطه بأعضاء البدن ... إلى غير ذلك من الأمثال والمقاييس التي تتضمن امتزاج حقيقتين واختلاطهما حتى صارتا حقيقة أخرى، تعالى الله عن كذبهم وإفكهم. ولم يقنعهم هذا القول في رب السماوات والأرض حتى اتفقوا بأسرهم على أن اليهود أخذوه، وساقوه بينهم ذليلا مقهورا، وهو يحمل خشبته التي صلبوه عليها، وأن اليهود يبصقون في وجهه، ويضربونه، ثم صلبوه، وطعنوه بالحربة حتى مات، وتركوه مصلوبا حتى التصق شعره بجلده لما يبس دمه بحرارة الشمس، ثم دفن، وأقام تحت التراب ثلاثة أيام، ثم قام بلاهوتيته من قبره. هذا قول جميعهم ليس فيهم من ينكر منه شيئا فيا للعقول! كيف كان حال هذا العالم الأعلى والأسفل في هذه الأيام الثلاثة؟ ومن كان يدبر السماوات والأرض؟ ومن الذي خلف الرب -سبحانه- في هذه المدة، ومن كان الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض وهو مدفون في قبره؟. ويا عجبا! هل دفنت الكلمة معه بعد أن قتلت وصلبت أم فارقته وخذلته أحوج ما كان إلى نصرها له كما خذله أبوه وقومه؟، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 كانت فارقته وتجرد منها فليس هو حينئذ المسيح، وإنما هو كغيره من آحاد الناس، وكيف يصح مفارقتها له بعد أن اتحدت به، ومازجت لحمه ودمه؟ ! وأين ذهب الاتحاد والامتزاج؟، وإن كانت لم تفارقه وقتلت وصلبت ودفنت معه فكيف وصل المخلوق إلى قتل الإله وصلبه ودفنه؟. ويا عجبا! أي قبر يسع إله السماوات والأرض؟. هذا وهو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون!. أعباد المسيح لنا سؤال ... نريد جوابه ممن وعاه إذا مات الإله بفعل قوم ... أماتوه فما هذا الإله؟ وهل أرضاه ما نالوه منه ... فبشراهم إذا نالوا رضاه وإن سخط الذي فعلوه فيه ... فقوتهم إذا أوهت قواه وهل بقي الوجود بلا إله ... سميع يستجيب لمن دعاه؟ وهل خلت الطباق السبع لما ... ثوى تحت التراب وقد علاه وهل خلت العوالم من إله ... يدبرها وقد شدت يداه؟ وكيف تخلت الأملاك عنه ... بنصرهم وقد سمعوا بكاه؟ وكيف أطاقت الأخشاب حمل ... إله الحق مشدودا قفاه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وكيف دنا الحديد إليه حتى ... يخالطه ويلحقه أذاه؟ وكيف تمكنت أيدي عداه ... وطالت حيث قد صفعوا قفاه؟ وهل عاد المسيح إلى حياة ... أم المحيي له رب سواه؟ ويا عجبا لقبر ضم ربا ... وأعجب منه بطن قد حواه! أقام هناك تسعا من شهور ... لدى الظلمات من حيض غذاه وشق الفرج مولودا صغيرا ... ضعيفا فاتحا للثدي فاه ويأكل ثم يشرب ثم يأتي ... بلازم ذاك هل هذا إله؟ تعالى الله عن إفك النصارى ... سيسأل كلهم عما افتراه فيا عبد المسيح أفق فهذي ... بدايته وهذا منتهاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فصل وأما قول النصراني: "وكان يشوع ذا صلاح تام في سيرته حتى لم يطعن في عرضه بشيء. أما محمد فهو صاحب الغزاة والقتال، مغرما بالنساء، وكثير النكاح ". فالجواب -وبالله التوفيق-: أما عيسى -عليه السلام- فهو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهو أحد الخمسة أولي العزم من الرسل، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد -صلى الله عليهم وسلم تسليما-. وحاشا رسل الله وأنبيائه أن يطعن عليهم في أعراضهم بشيء، كيف وهم الذين اصطفاهم الله لرسالاته، وجعلهم سفراء بينه وبين عباده، فاعتقاد المسلمين في المسيح كغيره من الرسل هو ما جاء به نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وهو إنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله إياها، فلا يغلون غلو النصارى، ولا يجفون جفاء اليهود. فـ كلا طرفي قصد الأمور ذميم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وأما فضائل نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وصلاح سيرته وعظم أخلاقه وزهادته في الدنيا وإعراضه عن زهرتها فقد قدمنا إشارة يسيرة إلى ذلك، وهو غيض من فيض، ونقطة من بحر، لأنا قد بنينا كتابنا هذا على الاختصار، والتنبيه على مقاصده بأدنى إشارة، فلو تتبعت فضائله، وفصلت شمائله، وشرحت أخلاقه لكان ذلك في مجلدات كثيرة -فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وعباده المؤمنون عليه دائما إلى يوم الدين وأبد الآبدين-. وقوله: "فهو صاحب الغزاة ... " إلى آخره. جوابه: أما النكاح ومحبة النساء فقد قدمنا فيها ما يكفي، وبينا أن ذلك من الفضائل لا من الرذائل، ومن المناقب لا من المثالب، وأنه من سنن الأنبياء والمرسلين، ومن طريق عباد الله الصالحين، فلا يتأتى الطعن بالنكاح وملابسة النساء إلا بتنقص الأنبياء والمرسلين كنوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وهارون، وداود، وسليمان، وغيرهم من أنبياء الله ورسله، وكفى بذلك عماية قلب وسخافة عقل وسمة ضلالة وقبيح جهالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وأما اعتراضه بالغزو والقتال فهو اعتراض باطل من وجوه: الأول: أن الغزو والقتال للأعداء فضيلة متنافس فيها على الجملة، دالة على شرف النفس، وعلو الهمة، ولم يزل التمادح به مشهورا في القديم والحديث. وإنما يذم ما كان منه ظلما وعدوانا، وليس كذلك قتال نبينا -صلى الله عليه وسلم - لما نبينه في الوجه الثاني. وهو أن قتاله -صلى الله عليه وسلم- إنما هو عن أمر الله -تعالى- وشرعه لإقامة دين لله وإبطال عبادة من سواه من الأنداد والأصنام. وهذا من أعظم الفضائل، وأكبر المناقب، وأرفع الرتب، وهو قتال الأنبياء وأتباعهم، ولنبينا -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه من هذه الفضيلة أوفر حظ، وأكمل نصيب. الوجه الثالث: أن قتاله -صلى الله عليه وسلم- من أعلام نبوته، وأدلة رسالته، لأنه مطابق لما جاء من نعته في كتب الأنبياء - عليهم السلام - كما قدمنا من نص الزبور في قوله: (تقلد - أيها الجبار - بالسيف، فإن شريعتك وسنتك مقرونة بهيبة يمينك وسهامك مسنونة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وفي النص الآخر في صفته -صلى الله عليه وسلم-، وصفة أمته: (بأيديهم سيوف ذات شفرتين) . إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أنه يبعث بالسيف والقتال. وتقدم في قصة ابن الهيبان الحبر في وصيته لليهود باتباعهم محمدا -صلى الله عليه وسلم- قوله: (لا تسبقن عليه يا معشر اليهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وبسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه) . الوجه الرابع: أن القتال ليس مختصا بشريعته - صلى الله عليه وسلم -، فقد قاتل كثير من الأنبياء -عليه السلام- بإذن الله لهم في ذلك وأمره، وقد أمر الله بني إسرائيل بقتال الجبارين، ودخول الأرض المقدسة مع موسى -عليه السلام-. فلما عصوا أمر الله عاقبهم بالتيه أربعين سنة، وبعد خروجهم منه توجهوا لقتال الجبارين مع يوشع بن نون -عليه السلام-، ففتح الله عليهم، ولم يزل الجهاد والقتال مشهورا في بني إسرائيل، ومعهم الأنبياء، كما قال الله -تعالى-: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} . وأما كون القتال غير مشروع لعيسى -عليه السلام- فذلك لا يدل على أن تركه أفضل مطلقا، بل هذا من اختلاف الشرائع، كما قال -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} . الوجه الخامس: أن في الجهاد من المصالح العظيمة، والحكم الباهرة فيما يتعلق بأمر الدنيا والآخرة ما لا يحصى: فمنها ما يترتب عليه من إعلاء كلمة الله، وإقامة دينه، وعزة أنصاره، وإنفاذ أحكامه، وقد حصل به من ذلك على يد محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وأتباعه ما شتت شمل الكفر وفرق كلمة الإشراك، وأرغم أنف الشيطان اللعين. ومنها: إنقاذ الهالكين في الكفر، والضلالة، وعبادة الأصنام، والأنداد، وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن طريق النار إلى سبيل الجنان، ومن رق الشيطان إلى عبادة الرحمن. وقد أنقذ بهذه الأمة، وجهادها من شاء الله من الأمم الهالكين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وفي هذا المعنى ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في قول الله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام. ومنها ابتلاء الله -تعالى- عباده، واختبارهم بتكليفهم القتال، وبذلهم - في طاعته - النفوس والأموال، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وقال -تعالى-: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} ، وقال -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} . ومنها ما يترتب على ذلك من عظيم المثوبات ورفعة الدرجات بما بذلوا من مهجهم وأموالهم في طاعة الله ونصرة دينه، فالمجاهدون أرفع الناس درجة في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الوجه السادس: أنه إذا كان قتاله -صلى الله عليه وسلم- عن أمر الله لثبوت رسالته، فالاعتراض عليه في شيء من أمره اعتراض على الله، لأنه الذي شرع وأمر. وهذا نظير اعتراض من يعترض من المكذبين للرسل على ذبح الحيوان للأكل بأن هذا تعذيب للحيوان لا يأذن الله فيه. وإذا كانت شرائع الأنبياء جاءت بذبح بعض الحيوانات للأكل وقتل بعضها دفعا للأذى، مع أنه لا تكليف عليها ولا ذنب لها، فكيف يكون الأمر في قتال أعداء الله الكافرين به المكذبين رسله العابدين معه آلهة أخرى؟. لا جرم أن قتالهم وغزوهم وجهادهم حتى يؤمنوا بالله، ويتابعوا رسوله لفي غاية الصلاح ونهاية السداد وتمام الحكمة. وبالجملة، ففضائل الجهاد في سبيل الله أكثر من أن يأتي عليها الوصف، وما كان هذا شأنه فلا شك أن المتصف به قد حاز فضلا عظيما، واقتنى خيرا كثيرا، وأن مشروعيته في هذه الملة من محاسنها ومحاسن من جاء بها، وفضائل أتباعه الذين هم خير أمة أخرجت للناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 فصل وأما قول النصراني: " وكان يشوع قد ارتفع إلى السماء، وأما محمد فهو بقي محبوسا في القبر ". فجوابه أن الله -تعالى- خص من شاء من رسله بما شاء من الخصائص، وخص نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- بخصائص كثيرة لم يشاركه فيها أحد من الأنبياء، وشارك الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في خصائص كثيرة. بل قال بعض العلماء: " إنه ما خص نبي بشيء إلا كان لنبينا -صلى الله عليه وسلم- مثله زيادة ما اختص به عن جميعهم ". وقد بسط العلماء ذلك بما يبين للمتأمل صحته، ولسنا بصدد تفصيل ذلك خوف الإطالة، فمن ذلك ما ذكر من رفع عيسى -عليه السلام- إلى السماء، فإن نبينا -صلى الله عليه وسلم- قد أعطى ذلك ليلة المعراج إلى السماوات، وزاد في الترقي لمزيد الدرجات، وحظي بسماع المناجات، ومشاهدة الكبرى من الآيات، والوصول إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ذلك المقام الذي سمع فيه صريف الأقلام، وفرضت عليه هناك الصلوات، وخلعت عليه خلع الكرامات. وهذه فضيلة لم تجئ لأحد من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-. وأيضا فلو لم تجئ هذه الفضيلة لنبينا -صلى الله عليه وسلم- لم يكن عدمها دالا على تفضيل عيسى -عليه السلام- عليه، لأن لنبينا -صلى الله عليه وسلم- من الفضائل والخصائص ما هو مقتضى سيادته لولد آدم، فتخصيص المفضول بخصيصة ليست للفاضل أمر معلوم، كما خص داود -عليه السلام- بإلانة الحديد، وتأويب الجبال والطير معه، وسليمان بتسخير الجن والشياطين، وتسخير الريح، غدوها شهر، ورواحها شهر، والملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، وكرفع إدريس -عليه السلام- إلى السماء. وأمثال ذلك، وكل هذا لا يدل على تفضيل هؤلاء الأنبياء -عليهم السلام- على الخمسة أولي العزم الذين هم أفضل الرسل، وإن لم تكن لهم تلك الخصائص، فإن الذي أوتوه من الفضائل والخصائص من وجوه أخر أعظم وأفضل. وقد روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «وأعطيت خمسا لم يعطهن أحد من قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد من قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 «وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل حيث كان، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة» ... أخرجه البخاري وغيره. وفي رواية: ... «وبعثت إلى الناس كافة» . وليس المراد حصر خصائصه -صلى الله عليه وسلم - في هذه الخمس المذكورة، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» . فذكر الخمس المذكورة في حديث جابر، وزاد خصلتين، وهما: «أعطيت جوامع الكلم، وختم بي النبيون» . وله -صلى الله عليه وسلم- من مشاهير الخصائص غير هذا كتخصيص أمته بوضع الآصار، وحط الأثقال التي كانت على من قبلهم، ورفع تحميلهم ما لا يطاق، ورفع الخطأ والنسيان عنهم، وتسميته -صلى الله عليه وسلم- أحمد، وإعطائه مفاتيح خزائن الأرض، وجعل أمته خير الأمم، وغفران ذنبه ما تقدم وما تأخر، وبقاء معجزة القرآن الذي أنزل عليه إلى يوم القيامة، وإعطائه الكوثر، وإعطائه لواء الحمد يوم القيامة، وأن آدم ومن دونه تحت لوائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وبعض العلماء عد خصائصه ستين خصلة، وليس غرضنا استقصاء ذلك؛ فاكتفينا بالتنبيه عليه ردا لكلام المبطل، ونقضا لاعتراضه، وطريق إثبات هذه الخصائص هو طريق إثبات المعجزات كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 فصل وأما قول النصراني: " فمن ذا الذي لا ينظر أيهما أولى أن يتبع ". فالجواب: أن من نظر لنفسه، ونصحها، ونظر بعين البصيرة والعقل الصحيح - في دلائل نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وكثرة فضائله وظهور معجزاته، وشواهد نبوته، وشهادة الله له بالصدق، بما أيده به من عظيم الآيات - لا يعتريه شك، ولا يخالجه ريب، ولا يقف أدنى وقفة في وجوب اتباعه -صلى الله عليه وسلم-، والدخول في دينه، والسلوك على منهاجه، وذلك هو حقيقة اتباع المسيح -عليه السلام-، والإيمان به، لأنه بشر به، وعهد إلى اتباعه بالإيمان به ونصرته، كما أخذ الميثاق بذلك على النبيين، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 قال علي بن أبي طالب، وابن عمه عبد الله بن العباس: " ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ الله عليه الميثاق: لئن بعث محمدا وهو حي ليؤمنن به، ولينصرنه ". وأيضا فالنظر في أيهما أولى أن يتبع فاسد بعد ظهور دلائل نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ظهورا أظهر من شمس الظهيرة. وقد دعا الناس جميعا إلى اتباعه، وأخبر أنه رسول الله إليهم جميعا، وأن شرائع الأنبياء منسوخة بشرعه، وأن من سمع به من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لم يؤمن به فهو من أهل النار. وقد قال الله -تعالى-: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} فأجيبوا عن هذه الدعوى بقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهذا الجواب مع اختصاره قد تضمن المنع والمعارضة: أما المنع فما تضمنه حرف " بل " من الإضراب، أي: ليس الأمر كما قالوا. وأما المعارضة ففي قوله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ، أي: نتبع أو اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وفي ضمن هذه المعارضة إقامة الحجة على أنها أولى بالصواب مما دعوتم إليه من اليهودية أو النصرانية، لأن وصف صاحب الملة بأنه حنيف غير مشرك، ومن كانت ملته الحنيفية والتوحيد فهو أولى بأن يتبع ممن ملته اليهودية أو النصرانية، فإن الحنيفية والتوحيد دين جميع الرسل الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، وهو الفطرة التي فطر الله عليها عباده، فمن كان عليها فهو المهتدي لا من كان يهوديا أو نصرانيا، فإن الحنيفية تتضمن الإقبال على الله بالعبادة، والإجلال، والتعظيم، والمحبة، والذل. والتوحيد يتضمن إفراده بهذا الإقبال دون غيره، فيعبد وحده، ويحب وحده، ويطاع وحده، ولا يجعل معه إله آخر، فمن أولى بالهداية؟ صاحب هذه الملة أو ملة اليهودية والنصرانية؟ ولم يبق بعد هذا للخصوم إلا أن يقولوا: فنحن على ملته -أيضا- لم نخرج عنها، وإبراهيم وبنوه كانوا هودا أو نصارى. فأجيبوا عن هذا السؤال بأنهم كاذبون فيه، وأن الله -تعالى- قد علم أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، فقال: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . وقرر -تعالى- هذا الجواب في سورة آل عمران في قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 أو أن يقولوا: نحن وإن انتحلنا هذا الاسم فنحن على ملته، فأجيبوا عن هذا بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ، فهذه للمؤمنين. ثم قال -تعالى-: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} أي: فإن أتوا من الإيمان بمثل ما أتيتم به فهم على ملة إبراهيم، وهم مهتدون، وإن لم يأتوا بإيمان مثل إيمانكم فليسوا من إبراهيم وملته في شيء، وإنما هم في شقاق وعداوة، لأن ملة إبراهيم الإيمان بالله وكتبه ورسله، وألا يفرق بين أحد منهم، فيؤمن ببعضهم، ويكفر ببعضهم، فإذا لم يأت بهذا الإيمان فهم بريئون من ملة إبراهيم مشاقون لمن هو على ملته. ثم قال: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، فهذا من أعلام نبوته -صلى الله عليه وسلم -، فإنه أخبر بكفاية الله له شقاق اليهود والنصارى وعداوتهم، فوقع كما أخبر، ومكنه الله من ديارهم وأموالهم حتى صاروا أذلاء تحت أمره وأمر أتباعه، فلله الحمد كما هو أهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 فصل قال النصراني: " ولنقيس أيضا أفعال كل منهما، فإن يشوع قد أبرأ الأكمه والأبرص، وأنهض المقعدين، وأحيا الموتى، وأما محمد فهو لم يأت بالمعجزات، بل بالسيف، ولكن نقلت عنه المعجزات - أيضا - ولكنها أي معجزات، وإنما كانت إما مما أمكن فعله بحيلة مما تقوم به القوة البشرية، أو مما لم يكن عليه شهود، أو من المحال، يستفظعه العقل، مثل: ما حكي عن انشقاق القمر، وهي كلها على حالة لا يعتمد عليها. وإذ قد أشكل الأمر فالواجب أن يفزع إلى الشريعة التي شهاداتها المدلة على أنها مرضاة لله أقوى في باب اليقين ". الجواب - وبالله نستعين -: ليس الأمر مشكلا، بل هو بحمد الله واضح جلي، ودلائل نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته، وشواهد رسالته أظهر من كل دلالة وأوضح من كل معجزة، وأكثر من كل شاهد اقترن برسالة غيره من المرسلين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 فقول النصراني: " إنه لم يأت بالمعجزات " جحد عناد اقتضاه الكفر واتباع الهوى، وإلا فقد علموا أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى بالمعجزات، والأدلة القاطعات التي لا عذر لأحد في الإعراض بعدها، هذا ما يجدونه مكتوبا عندهم من صفته في التوراة، والإنجيل ... {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . ثم هذا النصراني حين أنكر الحق والرسالة بقي في الحيرة والضلالة، وزعم أن الأمر مشكل، فصار منتهى قصده، ونهاية رشده أن وقف حيران في ظلمة الإشكال، وسقط في هوة الجهالة والضلال. .... {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . وأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والغي إلا من أشرق عليه نور النبوة، كما في مسند الإمام أحمد وغيره من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:. " «إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور شيء اهتدى، ومن أخطأه ضل» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 فلهذا أقول: جف القلم على علم الله. ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور، ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها، وهي: ظلمة الطبع، وظلمة الجهل، وظلمة الهوى، وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها، فهذه كلها ظلمات خلق فيها العبد، فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى نور العلم، والمعرفة، والإيمان، والهدى الذي لا سعادة للنفس - ألبتة - إلا به. فمن أخطأه هذا النور أخطأه حظه، وكماله، وسعادته، وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض: ... {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . واعلم أن الله - تعالى - أيد الأنبياء بالمعجزات دلالة على صدقهم في دعوى الرسالة، فيجب تصديقهم في جميع ما جاؤوا به، لأن المعجزة مع التحدي من النبي قائم مقام قول الله - تعالى -: صدق عبدي فأطيعوه، واتبعوه، وشاهد على صدقه فيما يقوله. ولما كان كلامنا مع من يثبت معجزات الأنبياء، وأنها تدل على صدقهم اكتفينا بهذه الإشارة في هذا المقام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 وليست أدلة الرسالة منحصرة في المعجزة، بل لها أدلة كثيرة، يعرف بها صدق الرسول غير المعجزات، كما سيأتي إيضاحه، إن شاء الله تعالى. واعلم أن المعجزة على قسمين: قسم هو من نوع قدرة البشر، فعجزوا عنه، فتعجيزهم عنه فعل الله دال على صدق نبيه، كصرفهم عن تمني الموت، وتعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن على قول من قال بالصرفة، وهو قول مرجوح - كما سيأتي - أن القرآن في نفسه معجز لا يستطيعه البشر. وقسم هو خارج عن قدرتهم، فلم يقدروا على الإتيان بمثله، كإحياء الموتى، وقلب العصا حية، وإخراج ناقة من صخرة، وكلام شجرة ونبع الماء من بين الأصابع، وانشقاق القمر ... مما لا يمكن أن يفعله أحد إلا الله تعالى. وكانت معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم - ودلائل نبوته وبراهين صدقه من هذين النوعين معا، سوى ما اقترن بهما من أدلة أخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 وبالجملة، فمعجزاته وأدلة رسالته لا يحيط بها ضبط، فإن القرآن - وهو معجزة من معجزاته - قد احتوى من الإعجاز على ما لا يحصى كثرة، حتى بلغها العلماء إلى ألوف كثيرة. قالوا: وأقصر السور: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فكل آية أو آيات منه بعددها وقدرها معجزة، ثم فيها نفسها معجزات، وقد فصلوا ذلك وبينوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 فصل ومعجزة القرآن هي المعجزة العظيمة، والآية الباقية ما بقيت الدنيا، ولا يشك الموافق والمخالف في مجيء محمد - صلى الله عليه وسلم - به وظهوره من قبله، وإن أنكر هذا معاند جاحد فهو كإنكار وجود محمد - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا. وإنما جاء اعتراض الجاحدين في إعجازه وظهور الحجة به. ومن المعلوم بالضرورة أنه - صلى الله عليه وسلم - تحدى العرب بما فيه من الإعجاز، ودعاهم إلى معارضته، وأن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عن معارضته، وأحجموا عن مساجلته، وهم - كما قال بعض العلماء في وصفهم - كانوا أرباب هذا الشأن، وفرسان الكلام، قد خصوا من البلاغة والحكم ما لا يخص به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان، يأتون من ذلك على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، فيخطبون بدهيا في المقامات، وشدة الخطب، ويرتجزون به بين الطعن والضرب، ويمدحون، ويقدحون، ويتوسلون، ويتوصلون، ويرفعون، ويضعون، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال، ويطوقون من أوصافهم أجمل سمط اللآل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 فيخدعون الألباب، ويذللون الصعاب، لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قد حووا فنونها، واستنبطوا عيونها. فما راعهم إلا رسول كريم بكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، أحكمت آياته، وفصلت كلماته، وبهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول. وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالا، وأشهر في الخطابة رجالا، صارخا بهم في كل حين، ومقرعا لهم بضعة وعشرين عاما على رؤوس الملأ أجمعين: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} ... . {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . ... {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - يقرعهم أشد التقريع، ويوبخهم غاية التوبيخ، ويسفه أحلامهم، ويحط أعلاهم، ويشتت نظامهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 ويذم آلهتهم وآباءهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون عن مماثلته، مخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب والاغتراء بالافتراء. وقولهم: ... {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} و ... {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} و ... {إِفْكٌ افْتَرَاهُ} ... و {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ... . والمباهتة، والرضا بالدنية كقولهم: ... {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ... ، و ... {فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} ... . و ... {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} . والادعاء مع العجز بقولهم ... {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} ... . وقد قال الله: ... {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ... . فما فعلوا، وما قدروا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة، كشف عواره لجميعهم، وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم، وإلا فلم يخف على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم ولا جنس بلاغتهم. انتهى ملخصا. وقد جاء في الأخبار من اعتراف عقلائهم وفصحائهم بالعجز عن معارضته عند سماعه جمل كثيرة. «ففي قصة عتبة بن ربيعة حين قرأ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: حم. فصلت، ورجع عتبة إلى قريش، وقال لهم: " إني - والله - قد سمعت قولا، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا السحر، ولا الكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، أجابني بشيء، والله ما هو بسحر، ولا شعر، ولا كهانة، إنه قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 « {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، حتى بلغ: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} ، فأمسكت، وناشدته الرحم أن يكف. وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب» ". رواه البيهقي وغيره في خبر طويل. وفي حديث إسلام أبي ذر، ووصف أخاه أنيسا، فقال: " والله ما سمعت بأشر من أخي أنيس، لقد ناقض اثني عشر شاعرا في الجاهلية، أنا أحدهم، وأنه انطلق إلى مكة، وجاء إلى أبي ذر بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر. لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم، ولا يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، وإنه لصادق وإنهم لكاذبون ". رواه مسلم والبيهقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 «وعن عكرمة في قصة الوليد بن المغيرة - وكان زعيم قريش في الفصاحة - أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ علي. فقرأ عليه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . قال: أعد. فأعاد - صلى الله عليه وسلم - فقال: " والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر ". ثم قال لقومه: " والله، ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى» ". وفي خبره الآخر حين جمع قريشا عند حضور الموسم، وقال: إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه رأيا لا يكذب بعضكم بعضا. فقالوا: نقول: كاهن. فقال: والله ما هو بزمزمته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون. قال: والله ما هو بمجنون، ولا بخنقه، ولا بوسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه، وقريضه، ومبسوطه، ومقبوضه، ما هو بشاعر. قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، ولا نفثه ولا عقده. قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم قائلون من هذا شيئا إلا وأنا أعرف أنه باطل ... إلى آخر القصة. رواه ابن إسحاق والبيهقي. وما أحسن ما قيل: إن هذا القرآن لو وجد مكتوبا في مصحف في فلاة من الأرض، ولم يعلم من وضعه هناك، لشهدت العقول السليمة أنه منزل من عند الله، وأن االبشر لا قدرة لهم على تاليف ذلك. فكيف إذا جاء على يد أصدق الخلق، وأبرهم، وأتقاهم، وقال: إنه كلام الله، وتحدى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا؟ فكيف يبقى مع هذا شك؟ !. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 واعلم أن وجوه الإعجاز في القرآن كثيرة، وبينها بعض العلماء بما حاصله أنه ينحصر مقصود إعجازه في أمور أربعة، وعدها بعضهم أكثر من ذلك، وهو يرجع إلى ما قلناه. الأول: ما فيه من الإيجاز والبلاغة وحسن التركيب، بحيث وصل في كل منها إلى الرتبة العليا لفظا ومعنى، ولهذا اعترف عقلاؤهم وفصحاؤهم أنه لا يقوله بشر. وذكر أبو عبيد أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} فسجد، وقال: سجدت لفصاحته. وسمع آخر رجلا يقررأ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} ... ، فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. والأخبار عنهم بمثل هذا كثيرة. ولما سمع نصراني قوله - تعالى -: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} . قال: جمعت هذه الآية ما أنزل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 على عيسى من أمر الدنيا والآخرة. ولقد رام بعض سخفاء العقول محاكاة بعض قصار المفصل، فأتى من الهذيان بالعجب العجاب، كقول مسيلمة الكذاب اللعين: " يا ضفدع كم تنقين، أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين ". فلما سمع أبو بكر الصديق هذا الكلام قال: " إنه كلام لم يخرج من إل ". قيل: " الإل " بالكسر هو الله - تعالى - وقيل: " الإل " بالأصل: الجيد. أي لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن. ولما سمع مسيلمة والنازعات قال: " والزارعات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، لقد فضلتم علي أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر ". وقال معارضا لسورة الكوثر: " إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، إن مبغضك رجل كافر ". وكقول الآخر: " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين شراسيف وحشا ". وقال آخر: " الفيل وما الفيل وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، وشفر طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل ". وهذا كلام فيه من السخافة ما لا خفاء به على من لا يعلم، فضلا عمن يعلم. ثم جاء جماعة من المتأخرين ممن انتهت إليهم الرياسة في الفصاحة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 فتعرضوا لمعارضته، كابن المقفع والمعري والمتنبي، ونظراء لهم، فلم يأتوا إلا بما تمجه الأسماع، وتنبو عنه الطباع، ونادى عليهم بالخزي والانقطاع، وصيرهم مثلة وسخرية وضحكة إلى أن تاب أكثرهم، وأظهر ندمه ونسكه. والثاني: أنه مع كونه من جنس كلام العرب قد جاء في نظمه وأسلوبه مخالفا لسائر فنونه من النظم والنثر والخطب والشعر والرجز والسجع؛ فحير عقولهم، حتى لم يهتدوا إلى مثل شيء منه؛ إذ لا مثال له يحتذى عليه، ولا إمام يرجع عند الاشتباه إليه، وقد حكي عن غير واحد ممن تصدى لمعارضته أنه اعترته روعة وهيبة كفته عن ذلك. كما حكي عن يحيى بن حكم الغزال - وكان بليغ الأندلس في زمانه - أنه قد رام شيئا من هذا، فنظر في سورة الإخلاص ليحذو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 على مثالها، وينسج بزعمه على منوالها، فاعترته منه خشية حملته على التوبة والإنابة. وحكي أيضا أن ابن المقفع - وكان أفصح أهل زمانه - طلب ذلك ورامه، ونظم كلاما، وجعله مفصلا، وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرأ في مكتب: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . فرجع، ومحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدا، وما هو من كلام البشر. الثالث: تأثيره في النفوس والقلوب، بحيث تجد من اللذة والحلاوة عند سماعه ما لا تجد عند سماع غيره، ولذلك كان قارئه لا يمله، وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة وطلاوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 قال القاضي عياض: وأما غيره من الكلام - ولو بلغ من الحسن والبلاغة ما بلغ - يمل مع الترديد، ويعادى إذا عيد، وكتابنا يستلذ به في الخلوات، ويؤنس بتلاوته في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك حتى أحدث لها أصحابها لحونا وطرقا، يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها. ولهذا وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن: بأنه " «لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفصل وليس بالهزل، لا تشبع منه العلماء، ولا تزيغ به الأهواء» ". الرابع: ما فيه من الإحاطة بعلوم الأولين والآخرين، والإخبار بالغيوب الماضية والآتية، وجمعه لعلوم كثيرة لم تتعاط العرب الكلام فيها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 ففيه من الإخبار بالغيوب الآتية شيء كثير، فوقع على ما أخبر كقوله: ... {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} ... . وقوله: ... {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} . وقوله ... {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ... . والآيات في هذا كثيرة. وفيه - أيضا - من أخبار الأمم السالفة والقرون الخالية مما لم يكن يعلم القصة الواحدة منه إلا الفرد من أحبار أهل الكتاب، فيأتي به على وجهه، ويعترف العالم بذلك بصحته وصدقه، كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى والخضر، ويوسف وإخوته، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، ولقمان، وأشباه ذلك من الأنبياء. قال القاضي عياض: " ولم يحك عن واحد من اليهود والنصارى على شدة عداوتهم له، وحرصهم على تكذيبه، وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم، وكثرة سؤالهم له - عليه الصلاة والسلام - وتعنتهم إياه عن أخبار أنبيائهم، وأسرار علومهم وإعلامه لهم بمكتوم شرائعهم، مثل: سؤالهم عن الروح، وذي القرنين، وأصحاب الكهف، وعيسى، وحكم الرجم، وما حرم إسرائيل على نفسه، وغير ذلك من أمورهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 التي نزل القرآن، فأجابهم بما أوحي إليه من ذلك - أنه أنكر ذلك أو كذبه، بل أكثرهم صرح بصدق نبوته، وصدق مقالته، واعترف بعناده وحسدهم إياه كأهل نجران وابن صوريا وابني أخطب وغيرهم ". انتهى. ولا يرد على هذا ما قدمناه من خبر عيسى، وما في القرآن من مخالفة ما عند النصارى، وفي أنه ما قتل وما صلب؛ لأن الذي عندهم من خبر قتله وصلبه لا يدعون أنه من أخبار الأنبياء، وإنما يعزونه إلى تلاميذ عيسى، وأنهم نقلوا ذلك عمن شاهده، وهم ليسوا بأنبياء، ولا معصومين عن الخطأ. هذا لو صح أن هذه الكتب محفوظة عنهم، وأنى يعلم ذلك؟ بل فيها من الكذب والتغيير ما أقمنا برهانه فيما تقدم، ولله الحمد. وأما ما في القرآن من العلوم والمعارف - سوى ما تقدم - مما لم تعهده العرب عامة، ولا سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة قبل نبوته، فشيء هو مبلغ النهاية، كما قال الله - تعالى - ... {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ... . وقال عز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 من قائل: ... {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ... وقال: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن تأمل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين، والعلوم الإلهية، وأمور المعاد، والنبوات، والأخلاق، والسياسات، والعبادات، وسائر ما فيه كمال النفوس، وصلاحها وسعادتها ونجاتها، لم يجد عن الأولين والآخرين من أهل النبوات، ومن أهل الرأي كالمتفلسفة وغيرهم إلا بعض ما جاء به القرآن. ولهذا لم تحتج الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر وكتاب آخر، فضلا عن أن تحتاج إلى المحدثين المهلمين، أو إلى أرباب النظر والقياس الذين لا يعتصمون مع ذلك بكتاب منزل من السماء؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " «إنه كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» "، فعلق ذلك تعليقا في أمته، مع جزمه به فيمن تقدم؛ لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 الأمم قبلنا كانوا محتاجين إلى المحدث، كما كانوا محتاجين إلى نبي بعد نبي، وأما أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فأغناهم الله برسولهم وكتابهم عن كل ما سواه، حتى إن المحدث منهم كعمر إنما يؤخذ عنه ما وافق الكتاب والسنة، وإذا حدث شيء في قلبه لم يكن له أن يقبله حتى يعرضه على الكتاب والسنة، فلا يقبله إلا إذا وافقهما. وهذا باب واسع في فضائل القرآن الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - على ما سواه. هذا وهو - صلى الله عليه وسلم - رجل أمي لا يخط كتابا، ولا يقرؤه، ولد في قوم أميين، ونشأ بين أظهرهم في بلد ليس به عالم يعرف أخبار الماضين، ولا خرج في سفر ضاربا إلى عالم، فيعكف عنده، فجاءهم بأخبار التوراة والإنجيل، وعلم الأولين والآخرين، والسابقين واللاحقين. وهذا أدل دليل على أنه أمر جاءه من عند الله؛ ولهذا احتج عليهم بذلك في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} . وقال تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 وهذا من أبلغ الحجج وأظهرها؛ أي: هذا الكلام ليس من قبلي، ولا من عندي، ولا أقدر أن أفتريه على الله، ولو كان ذلك مقدورا لي لكان مقدورا لمن هو من أهل العلم والكتابة ومخالطة العلماء والتعلم منهم. ولكن الله بعثني به، ولو شاء - سبحانه - لم ينزله علي، ولم ييسره بلساني، ولا لسان غيري، ولكنه أوحاه إلي، وأذن لي في تلاوته عليكم، ولا أدراكم به بعد أن لم تكونوا دارين به، فلو كان كذبا وافتراء - كما تقولون - لأمكن غيري أن يتلوه عليكم، وتدرون به من جهته؛ لأن الكذب لا يعجز عنه البشر. وأنتم لم تدروا بهذا، ولم تسمعوه إلا مني، ولم تسمعوه من بشر غيري. ثم أجاب عن سؤال مقدر، وهو أنه تعلمه من غيره، وافتراه من تلقاء نفسه، فقال: ... {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} ... أي: تعلمون حالي، ولا تخفى عليكم سيرتي ومدخلي ومخرجي وصدقي وأمانتي، وتعلمون أني ما طالعت كتابا، ولا تتلمذت لأستاذ، ولا تعلمت من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة من عمري جئتكم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة في الأصول والأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأولين، وقد عجز عن معارضته الفصحاء والبلغاء والعلماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 فكل ذي عقل سليم يعرف أن هذا لا يحصل إلا بالوحي من الله تعالى. ولما كان علم ذلك ضروريا، وكان إنكار المعلوم بالضرورة يقدح في صحة العقل قال تعالى: ... {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . فتأمل صحة هذا الدليل، وحسن تأليفه، وظهور دلالته. قال القاضي أبو الفضل: " كون القرآن من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه أتى به، معلوم ضرورة، وكونه متحديا به معلوم ضرورة، وعجز العرب عن الإتيان بمثله معلوم ضرورة، وكونه في فصاحته خارقا للعادة معلوم ضرورة للعالمين بالفصاحة ووجوة البلاغة، وسبيل من ليس من أهلها علم ذلك بعجز المنكرين من أهلها عن معارضته، واعتراف المقرين بإعجاز بلاغته ". انتهى. فعجز العرب عن معارضته حجة قاطعة، ومحجة ساطعة، ومحال أن يلبثوا ثلاثا وعشرين سنة على السكوت عن معارضة آية منه، تستلزم تلك المعارضة نقض أمره، وتفريق أتباعه، وزوال شوكته، وحيازة مرتبته، مع قدرتهم عليها، وطلبها منهم، وقتل أكابرهم، وسبي ذراريهم، وهو لا يزداد إلا تقريعا لهم بعجزهم عن المعارضة، ويقول لهم: إن زعمتم أني افتريته لعلمي بأخبار الأمم فأتوا بمفترى مثله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 فلم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر، ولا تكلفه مصقع، وإلا لظهر ووجد من يستجيده، ويحامي عليه، ويزعم بمجرد الدعوى أنه عارض وناقض، فلما لم يوجد ذلك - مع أن كثيرا منهم هجاه وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته - قطع بعجزهم وتحيرهم وانقطاعهم. قال أبو سليمان الخطابي: " وقد كان - صلى الله عليه وسلم - أعقل خلق الله، وقد قطع القول بأن ما أتى به من عند ربه، وأنهم لا يأتون بمثل أقصر سورة منه. فلولا أنه على بينة واضحة من ربه - علام الغيوب - وأنه لا يقع فيما أخبر به خلف، وإلا لم يأذن له عقله أن يقطع القول في شيء بأنه لا يكون وهو يمكن أن يكون ". انتهى. قال بعض العلماء: إن الذي أورده - صلى الله عليه وسلم - على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب في الآية وأوضح في الدلالة من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص؛ لأنه أتى أهل البلاغة وأرباب البيان والتقدم في اللسن بكلام مفهم المعنى عندهم، فكان عجزهم عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 أعجب من عجز من شاهد المسيح عند إحياء الموتى؛ لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه، ولا في إبراء الأكمه والأبرص، ولا يتعاطون علمه. وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة، فدل أن العجز عنه إنما كان ليكون علما على رسالته وصحة نبوته. واعلم أن جمهور العلماء وأهل السنة على أن القرآن معجز بذاته، لا يصح أن يكون مقدورا للبشر، وأنه من باب الخوارق الممتنعة عن اقتدار الخلق عليها كإحياء الموتى، وقلب العصا، وتسبيح الحصى. ومن قال: إنه مما تمكن مماثلته، وأنه لا يمتنع أن تأتي به القوة البشرية فهو يقول: أن الله - تعالى - صرف الناس عن معارضته، فالإعجاز في هذا ظاهر - أيضا - لأن الله - تعالى - لما دعا أهل الخطابة والفصاحة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة لسانهم، إلى معارضة القرآن، فعجزوا عن الإتيان بمثله، لم يخف على أولي الألباب أن صارفا إلهيا صرفهم عن ذلك. وعلى الطرفين فعجز العرب عنه ثابت، فالإعجاز به حاصل. ولكن الصحيح هو الأول. {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 فصل ومن وجوه إعجازه كونه آية باقية ما بقيت الدنيا، محفوظا من التغيير والتبديل الواقعين في الكتب قبله، كما قال - تعالى -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وقال: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} . وسائر معجزات الأنبياء انقضت بانقضاء أوقاتها، ولم يبق إلا خبرها. والقرآن العزيز، الباهرة آياته، الظاهرة معجزاته، الذي هو أعظم من كل معجزة، وأبهر من كل آية باق على ما كان، غضا طريا لم يتغير منه شيء، بل كأنه منزل الآن، وجميع وجوه إعجازه التي ذكرناها ثابتة إلى يوم القيامة، بينة الحجة لكل أمة تأتي. لا يخفى وجه ذلك على من نظر إليه، وتأمل وجوه إعجازه. وما أخبر به من الغيوب يقع كل وقت على الوجه الذي أخبر به، حتى كأنه يشاهد عيانا، فيتجدد الإيمان، ويتظاهر البرهان، وليس الخبر كالعيان. والنفس أشد طمأنينة إلى عين اليقين منها إلى علم اليقين، وإن كان كل عندها حقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 وإلى هذا المعنى - كما قال القاضي عياض - أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " «ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيه أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» ". وهذا لفظ مسلم. ومما يلحق بإعجازه إخباره بتعجيز قوم في قضايا، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فعلوا، ولا قدروا على ذلك، كقوله لليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} . والإعجاز في هذا من وجهين: من جهة إخباره بأنه لا يكون أبدا، فلم يكن. وهذا أدخل في باب الإخبار بالغيب. ومن جهة صرف دواعيهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وهذا من أعجب الخوارق، أنهم مع حرصهم على تكذيبه لم تنبعث دواعيهم لإظهار تكذيبه بالتمني، بل صرفهم الله عن تمنيه، ليظهر صدق رسوله، وصحة ما أوحي إليه. قال أبو محمد الأصيلي: من أعجب أمرهم أنه لا توجد منهم جماعة ولا واحد من يوم أمر الله بذلك نبيه - عليه السلام - يقدم عليه، ولا يجيب إليه، وهذا موجود مشاهد لمن أراد أن يمتحنه منهم. وكذلك آية المباهلة التي نزلت في قصة وفد نجران، حيث نكلوا عن المباهلة، ورجعوا إلى الصلح، وبذلوا الجزية. وكذلك قوله - تعالى -: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} .... ، فما فعلوا، ولا قدروا، ولا يفعلون أبدا. واعلم أن آية التمني - على ما قرره الحافظ ابن كثير - هي من باب المباهلة، على معنى أنها تضمنت الدعاء بالموت على أي الفريقين أكذب: من اليهود، ومن المسلمين، فقال: " قال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 بن جبير عن ابن عباس يقول لله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، أي: اعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} ، أي: لعلمهم بما عندهم من العلم بك والكفر بذلك، ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات. قال ابن كثير: وهذا في الآية هو المتعين، وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب. ونقله ابن جرير عن قتادة، وأبي العالية، والربيع بن أنس، رحمهم الله تعالى. والمعنى: إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء وأحباؤه من دون الناس، وأنكم أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار، فباهلوا على ذلك، وادعو على الكاذبين منكم أو من غيركم، واعلموا أن المباهلة لتستأصل الكاذب لا محالة. فلما تيقنوا ذلك، وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة، لما يعلمون من كذبهم، وافترائهم، وكتمانهم الحق من صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. وسميت هذه المباهلة تمنيا، لأن كل محق يتمنى لو أهلك الله المبطل المناظر له، ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره. انتهى. واعلم أن النصراني - فيما تقدم من كلامه - قسم معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى ثلاثة أقسام: قسم زعم أنه مما أمكن فعله بحيلة مما تقوم به القوة البشرية، وأراد أن القرآن من ذلك. وقسم زعم أنه من المحال كانشقاق القمر. وقسم زعم أنه ليس عليه شهود. وقد عرفت بما قدمناه الجواب عن القسم الأول، وأن البراهين القوية، والأدلة الصحيحة العقلية شاهدة أن القرآن غير مقدور للبشر، وأنه مما لا يمكن الإتيان به إلا بالوحي من الله عز وجل. وعلى التنزل إلى أنه مما يمكن البشر الإتيان به فقد ثبت عجزهم عنه وظهر انقطاعهم، ويكون ذلك على هذا القول بصرف الله إياهم عن معارضته، كما صرف اليهود عن تمني الموت تصديقا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في إخباره أنهم لن يتمنوه أبدا. وكما صرف النصارى عن المباهلة، فقامت الحجة، وانقطعت المعذرة، وجاء الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 فصل وأما معجزة انشقاق القمر فهي - كما قال الخطابي - آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السموات خارجا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر. انتهى. وهذه المعجزة دل عليها القرآن، قال الله - تعالى -: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} والمراد وقوع انشقاقه. ويؤيده قوله - تعالى - بعد ذلك: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} ، فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله: (انشق) وقوع انشقاقه، لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة، فدل على أن المراد بالآية وقوع انشقاقه في الدنيا، كما دل عليه صريح الأحاديث الآتية. وقد أجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه لأجل نبينا - صلى الله عليه وسلم - فإن كفار قريش لما كذبوه، ولم يصدقوه أعطاه الله - تعالى - هذه الآية العظيمة المتضمنة لثلاث حكم: الأولى: دلالتها على وحدانية الله - تعالى - وأنه المتفرد بالربوبية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 والإلهية، وأن هذه الآلهة التي يعبدونها من دونه باطلة، لا تنفع ولا تضر، وأن العبادة إنما تكون لله وحده. وهذا على طريق القرآن من الاستدلال بتفرده - تعالى - بالخلق والتدبير على أنه هو المعبود وحده. الثانية: دلالتها على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحة رسالته حيث أراهم هذه الآية جوابا لاقتراحهم. الثالثة: أنها دلت على ما أخبرت به الأنبياء من انشقاق السموات يوم القيامة. قال بعض الأئمة: وجعل الآية فيه دون الشمس والنجوم، لأنه أقرب إلى الأرض، وكان فيه دون سائر أجزاء الفلك، إذ هو الجسم المستدير الذي فيه الانشقاق، فقبول محله أولى. وقد جاءت أحاديث الانشقاق في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - منهم: أنس بن مالك، وعبد الله ابن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعلي بن أبي طالب، وحذيفة بن اليمان، وجبير بن مطعم، وعبد الله بن عمر، وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 ففي الصحيحين من حديث أنس: " «أن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر شقتين، حتى رأوا حراء بينهما» ". وفي الصحيحين - أيضا - من حديث ابن مسعود قال: " «انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشهدوا» ". وروى الإمام أحمد من حديث جبير بن مطعم، قال: " «انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد. فقالوا: إن سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 وعند أبي داود الطيالسي عن ابن مسعود في حديثه قال: " «فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار "، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، قال: فجاء السفار، فأخبروهم بذلك» ". وبالجملة، فالروايات بهذه الواقعة متعددة، وطرقها متعددة، وعلى وقوعها أجمع علماء الأمة وحفاظها، وتلقاه الخلف عن السلف. قال ابن عبد البر: " قد روي هذا الحديث - يعني حديث الانشقاق - عن جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، وتأيد بالآية الكريمة ". وقال غيره: إن لهذا الحديث طرقا شتى بحيث لا يمترى في تواتره. وأما قول النصراني: " ... إنه من المحال يستفظعه العقل ... " فجوابه أن العقل الصحيح المؤيد بنور الإيمان بالله، ورسوله، وأن الله على كل شيء قدير، لا يحيل ذلك، ولا يستبعده، فإن الله - تعالى - هو الذي خلق القمر وجميع المخلوقات، وهي في قبضته وتحت تصرفه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 أوجدها من العدم، وسيعيدها إليه، فلا يستبعد أن يخرق العادة فيها معجزة لرسوله، ودلالة على صدقه، كما جعل العصا حية، وأخرج الناقة من صخرة. واعلم أن شبهة القائلين باستحالة الانشقاق دعواهم أن الأجرام العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام. وكذا قالوه في إنكارهم فتح أبواب السماء لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج. وما ذكرناه من عموم قدرة الله - تعالى - على جميع الممكنات دليل على عدم الإحالة. وبمثل هذا أجاب العلماء، كقول أبي إسحاق الزجاج - وهو من متقدمي العلماء -: أنكر بعض المبتدعة - الموافقين لمخالفي الملة - انشقاق القمر، ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله، يفعل فيه ما يشاء، كما يكون يوم القيامة، ويفنيه. انتهى. ويكفي في الحجة على النصارى في ذلك رفع عيسى - عليه السلام - إلى السماء، فإنهم يعترفون أنه رفع بجسمه فقد حصل برفعه الانخراق والالتئام الذي أنكروه، فبطل قولهم في إحالة الانشقاق، وبقي ثبوته من جهة النقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 وقد قدمنا أنه بلغ مبلغ التواتر الذي لا يشك فيه، وإن أنكره أهل الكفر والعناد. وأما قول بعض الملاحدة: لو وقع هذا لنقل متواترا، واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص به أهل مكة، لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة، فالناس فيه شركاء، والدواعي متوافرة على رواية كل غريب، ونقل ما لم يعهد. ولو كان لذلك أصل لخلد في كتب السير والتنجيم، إذ لا يجوز إطباقهم على تركه، وإغفاله، مع جلالة شأنه ووضوح أمره. فأجاب عنه الخطابي وغيره بأن هذه القصة خرجت عن الأمور التي ذكروها، لأنه شيء طلبه خاص من الناس، فوقع ليلا، لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن يكون الناس فسه نياما ومستكنين في الأبنية، والبارز منهم بالصحراء - إن كان يقظانا - يحتمل أنه اتفق أنه كان في ذلك الوقت مشغولا بما يلهيه من سمر وغيره. ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراكز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فيجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه، ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر. وقد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي يظهر لبعض الآفاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 دون بعض. كما يكون ظاهرا لقوم غائبا عن قوم كما يجد الكسوف أهل بلد دون أهل بلد آخر. وكثيرا ما يحدث الثقات بعجائب يشاهدونها من أنوار ونجوم طوالع عظام، تظهر في الأحيان بالليل في السماء، ولا علم عند أحد منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 فصل وأما ما عدا ما تقدم من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - ودلائل نبوته فكثيرة جدا، وبسطها يحتمل مجلدات، ولكننا نذكر من عيونها ومشهورها ما هو اللائق بما قصدناه من الاختصار. فمن ذلك ما أخبر به من المغيبات المستقبلة في القرآن، من ذلك شيء كثير كقوله: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} . وقوله - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} .... الآية. وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} . وقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} .... الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 وقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} ... الآية. وقال للمسيح: .... {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} . وقال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} . وقال: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} .... . وقال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} .... . وقال في اليهود: .... {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} .... الآية. وقال: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} ... الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وقال: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} ... الآية. وتقدمت القصة. وقال في الوليد بن المغيرة: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} ... إلى قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} . وقال عن أبي لهب: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} .... . فماتا كافرين. وقال - تعالى -: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} .... . وقال: ... {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} .... . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 وقال: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} ... . وهذا كله وقع، وحصلت الغنائم الكثيرة، ودخلوا المسجد آمنين ودعيت الأعراب إلى قتال الروم وفارس. وقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} . وكان ذلك إخبارا من الله لرسوله باقتراب أجله حينئذ، وكذلك وقع، فما مات - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، ولم يبق في بلاد العرب موضع لم يدخله الإسلام. وقال عن المنافقين في أمرهم مع اليهود فيما وعدهم به من أنفسهم: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} .... الآية. وكذلك كان. وضرب الله لهم المثل بالشيطان: ... {إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} ... . وقصتهم مشهورة في التفاسير والسير. وفي الأحاديث الصحيحة مما أخبر بوقوعه فكان ما لا يحصى كثرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 كما في صحيح البخاري عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: " «بينما أنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه رجل، فشكى إليه الفاقة، ثم أتاه آخر، فشكى إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها. فقال: إن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله - قلت في نفسي: فأين ذعار طي الذين سعروا البلاد - ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى. قلت: كنوز كسرى بن هرمز؟ ! قال: كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه ذهبا أو فضة يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحدا يقبله منه ". قال عدي: " فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز. ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - يخرج الرجل ملء كفه ذهبا أو فضة فلا يجد من يقبله منه» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 وفي صحيح مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «وستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها، فإن لهم ذمة ورحما» ". وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين، الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة عامة، ولا يسلط عليهم عدوا من سوى» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 «أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وأن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أني لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا» ". وهذا أخبر به - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر وأصحابه في غاية القلة قبل فتح مكة، فكان كما أخبر، فإن ملكهم انتشر في المشرق والمغرب ما بين أرض الهند - أقصى المشرق - إلى بحر طنجة في المغرب، حيث لا عمارة وراءه. وذلك ما لم تملكه أمة من الأمم، ولم ينتشر في الجنوب والشمال كانتشاره في المشرق والمغرب. قال بعض العلماء: لما كانت أمته أعدل الأمم انتشرت دعوته في الأقاليم التي هي وسط المعمور من الأرض. وفي حديث جابر بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 «فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لينفقن كنوزهما في سبيل الله» ". أخرجاه في الصحيحين. وملك كسرى وقيصر أعز ملك في الأرض، فلم يبق للفرس ملك، وهلك قيصر الذي بالشام وغيرها، فلم يبق من وقت الفتوح العمرية من هو ملك على الشام ولا مصر ولا الجزيرة من النصارى، وهو الذي يدعى قيصر. وقال في قيصر: " «ثبت الله ملكه» "، فثبت ببلاد الروم، وفي كسرى: " «مزق الله ملكه» "، فلم يبق له ملك. وهذا كله يصدق بعضه بعضا. وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم -: " «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين» ... " الحديث. وهذا أخبر به حين كانت أمته أقل الأمم، ثم انتشرت في المشارق والمغارب، وكان كما أخبر، فإنه - ولله الحمد - لم تزل فينا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 طائفة ظاهرة بالعلم والدين والسيف، فلم يصب هذه الأمة ما أصاب من قبلها من بني إسرائيل وغيرها، حيث كانوا مقهورين مع الأعداء، بل إن غلبت في قطر كان في قطر آخر طائفة ظاهرة لم يسلط على مجموعها عدو من غيرهم، ولكن وقع بينهم اختلاف وفتن. وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى» "، فظهرت نار عظيمة على نحو مرحلة من المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة، ودامت نحو أربعة وأربعين يوما، وكانت تحرق الحجر، ولا تنضج اللحم، ورؤيت منها أعناق الإبل ببصرى. وقد أطال المؤرخون في أخبارها بما لا يتسع له هذا الموضع. وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بموت النجاشي يوم موته بالحبشة، وصلى عليه بأصحابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 وأنه وأبا بكر وعمر وعثمان صعدوا أحدا، فتحرك الجبل، فضربه برجله، وقال له: " «اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيد» "، فاستشهدوا. وأنه قال لسراقة بن جعشم: " «كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟» ". فألبسهما عمر له لما زال ملك كسرى في زمنه. وأخبر بأن ابنته فاطمة - رضي الله عنها - أول أهله لحوقا به، فكان كذلك. وأخبر بأن أشقى الأولين عاقر الناقة، والآخرين قاتل علي يضربه في يافوخة، فتبتل من دمها لحيته. فضربه الشقي ابن ملجم ضربة كذلك، فمات منها، رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 وبأن عثمان يقتل ظلما، وبأن المدينة ستغزى، فكانت وقعة الحرة المشهورة على أهل المدينة من جيش يزيد بن معاوية. وأخبر بوقعة الجمل، وصفين، وقتال عائشة والزبير لعلي - رضي الله عنهم - ولذلك «قال علي للزبير لما برز له يومئذ: أنشدك الله، هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إنك تقاتله وأنت له ظالم "؟. فانصرف الزبير، وقال: " بلى، ولكني نسيت» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الحسن - رضي الله عنه -: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» ". فكان كذلك يوم التقى مع معاوية. وأخبر بقتل الحسين - رضي الله عنه - وأخبر ابن عمر أنه سيعمى لما رأى جبرائيل معه في صورة رجل، وأخبر بالخوارج الذين خرجوا على علي، وأن فيهم رجلا إحدى يديه مثل ثدي المرأة، فقاتلهم علي - رضي الله عنه - وأخرج ذلك الرجل من بين القتلى حتى رآه الناس بالوصف الذي وصفه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 وأخبر بالرافضة وبالقدرية، وبأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وبأنها كلها في النار إلا فرقة واحدة، وهم الذين على ما كان عليه هو وأصحابه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 وأخبر أنه ستكون لهم أنماط ويغدو أحدهم في حلة، ويروح في أخرى، وتوضع بين يديه صحفة، وترفع أخرى، ويسترون بيوتهم كما تستر الكعبة، ثم قال في آخر الحديث: " «وأنتم اليوم خير منكم يومئذ» ". وقال: " «يكون في ثقيف كذاب ومبير» ". فرأوهما: المختار بن أبي عبيد الذي ادعى أنه يوحى إليه، والحجاج بن يوسف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 وأنذر بالردة التي وقعت بعد موته. وبأن الخلافة بعده ثلاثون سنة ثم تكون ملكا. فكانت كذلك بمدة الحسن بن علي. وقال: " «إن هذا الأمر بدأ نبوة ورحمة ثم يكون عضوضا، ثم تكون عتوا وجبروتا وفسادا في الأمة» ". وأخبر بشأن أويس القرني، وأنه في أمداد اهل اليمن، وأن له أما هو بار بها، وأخبر عمر بصفته، وقال له: " «إن استطعت أن يستغفر لك فافعل» "، وأخبر بأنه مجاب الدعوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 وأخبر بأمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، وبأنه سيكون في أمته ثلاثون كذابا يدعون النبوة. وعنه - صلى الله عليه وسلم -: " «لو كان الدين بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس» ". وأنه أخبر بالموتان الذي يكون بعد فتح بيت المقدس، وما وعد من سكنى البصرة، وأن أمته يغزون في البحر كالملوك على الأسرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 وقال لسعد: " لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون ". وأخبر أبا ذر بتطريده، فكان كما كان، وبموته وحده، وأنه يشهد جنازته طائفة من المسلمين. وقال لعمر في سهيل بن عمرو: " «عسى أن يقوم مقاما يسرك،» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 «يا عمر» ". فكان كذلك، قام بمكة مقام أبي بكر يوم بلغه موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطب بنحو خطبته، وثبتهم، وقوى بصائرهم. وأخبر - صلى الله عليه وسلم - بأشياء كثيرة وقعت في زمانه، كقوله في الرجل الذي أبلى مع المسلمين في الجهاد: " «إنه من أهل النار» ". فقتل نفسه. وقال في حنظلة الغسيل: " «سلوا زوجته عنه، فإني رأيت الملائكة تغسله» ". فسألوها، فقالت: إنه خرج جنبا، وأعجله الحال عن الغسل. وأخبر بالذي غل خرزا من خرز اليهود، فوجدت في رحله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 وبالذي غل الشملة، وبشأن كتاب حاطب إلى أهل مكة، وبقضية عمير مع صفوان حين ساره، وشارطه على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء عمير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قاصدا لقتله، وأطلعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السر أسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 وأخبر بالمال الذي تركه العباس عند أم الفضل بعد أن كتمه، فقال: ما علمه غيري وغيرها. فأسلم. وأخبر بأنه سيقتل أبي بن خلف، فقتله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 وفي عتبة بن أبي لهب أنه يأكله كلب الله. وعن مصارع أهل بدر. فكان كما قال. وأخبر بقتل أهل مؤتة يوم قتلوا، وبينهم مسيرة شهر فأكثر. وقال لخالد لما وجهه لأكيدر: إنك تجده يصيد البقر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 وأخبر بكثير من أسرار المنافقين وكفرهم وقولهم فيه وفي المؤمنين، حتى إن كان بعضهم ليقول لصاحبه: اسكت، فوالله لو لم يكن عنده من يخبره لأخبرته حجارة البطحاء. وأعلم بصفة السحر الذي سحره لبيد بن الأعصم، وكونه في مشط ومشاطة في جف طلع نخلة ذكر، وأنه ألقي في بئر ذروان. فكان كما قال صلى الله عليه وسلم. ووصف لكفار قريش بيت المقدس حين كذبوه في خبر الإسراء. ونعته لهم نعت من عرفه، وأعلمهم بعيرهم التي مر عليها في طريقه، وأخبرهم بوقت وصولها. فكان ذلك كله كما قال. وأما ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - مما لم يقع إلى الآن فكثير جدا، وبحسب هذا النوع من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - أن يكون المروي فيه ديوانا مفردا يشتمل على عدة أجزاء. وفيما اشرنا إليه من نكت الأحاديث التي ذكرناها كفاية، وأكثرها في الصحيحين والسنن والمسانيد المشهورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 وقد روى البخارى ومسلم وأبو داود عن حذيفة - رضى الله عنه - قال: " «قام فينا رسول - صلى الله عليه وسلم - مقاما، فما ترك شيئا يكون من مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، وقد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته، فأراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم رآه» ". وأخرج مسلم عن أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: " «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما الفجر، وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل، وصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، فنزل، وصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة، فأعلمنا أحفظنا» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 ومن آياته كلام الشجر له، وسلامها عليه، وطواعيتها له، وشهادتها له بالرسالة. أخرج البزار وأبو نعيم من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما أوحى الله إلي جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله» ". وعن علي - رضي الله عنه - قال: " «كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله» ". رواه الترمذي، وقال: " حسن غريب ". وأخرج الحاكم في مستدركه بإسناد جيد «عن ابن عمر، قال: " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأقبل أعرابي، فلما دنا منه قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين تريد؟ قال: » الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 «إلى أهلي. قال: هل لك إلى خير؟ قال: وما هو؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. قال: هل من شاهد على ما تقول؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذه الشجرة. فدعاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي على شاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض خدا، فقامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا، فشهدت، ثم رجعت إلى منبتها» ... الحديث ". رواه الدارمي - أيضا - بنحوه. وفي حديث جابر بن عبد الله قال: " «سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلنا بواد أفيح، فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ير شيئا يستتر به، فإذا شجرتان في شاطئ الوادي، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي علي بإذن الله. فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده. ثم» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 «فعل بالأخرى كذلك. حتى إذا كان بالمنصف بينهما قال: التئما علي بإذن الله - تعالى - فالتأمتا» ". الحديث رواه مسلم. ومن آياته وعجائب معجزاته حنين الجذع شوقا إليه - صلى الله عليه وسلم -. وقد روي عن جماعة من الصحابة من طرق كثيرة تفيد القطع بوقوعه. فأخرج البخاري من طرق عن جابر - رضي الله عنه - " «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار: ألا نجعل لك منبرا. قال: إن شئتم. فجعلوا له منبرا. فلما كان يوم الجمعة رفع إلى المنبر، فصاحت النخلة فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها» ". قال القاضي: حديث حنين الجذع مشهور منتشر، والخبر به متواتر، خرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر، منهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 أبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعد، وأبو سعيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 الخدري، وبريدة، وأم سلمة، والمطلب بن أبي وداعة. وقال البيهقي: " قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف ". وقال الشافعي فيما نقله عنه ابن أبي حاتم في مناقبه: " ما أعطى الله نبيا ما أعطى نبينا محمدا - عليه أفضل الصلاة والسلام -. فقيل له: أعطي عيسى إحياء الموتى، قال: أعطي محمد حنين الجذع حتى سمع صوته فهو أكبر من ذلك ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 ومن آياته كلام الحيوانات وطاعتها له - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك سجود الجمل، وشكواه إليه. أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: " «كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون عليه، وأنه استصعب عليهم، ومنعهم ظهره، وأن الأنصار جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إنه كان لنا جمل نسني عليه، وأنه استصعب علينا، ومنعنا ظهره، وقد عطش النخل والزرع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: قوموا. فقاموا، فدخل الحائط والجمل في ناحية، فمشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوه، فقالت الأنصار: يا رسول الله، قد صار مثل الكلب الكلب، وإنا نخاف عليك صولته. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس علي منه بأس، فلما نظر الجمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل نحوه، حتى خر ساجدا بين يديه، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناصيته أذل ما كان قط،» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 «حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله، هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك؟ ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد لك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها» ". وقد ورد في هذا المعنى عدة أحاديث من طرق تدل على تعدد القصة. ومن ذلك قصة الذئب. أخرج الإمام أحمد بسند جيد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «عدا الذئب على شاة، فأخذها، فطلبه الراعي فأخذها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، وقال: ألا تتقي الله، تنزع مني رزقا ساقه الله إلي. فقال الراعي: يا عجبا! ذئب مقع على ذنبه يكلمني بكلام الإنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق. قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه، حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره» ... الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 واعلم أن قصة كلام الذئب جاءت من عدة طرق - أيضا - من حديث أبي هريرة، وأنس، وابن عمر، وجاءت أحاديث - أيضا - في كلام الحمار وكلام الضب وكلام الغزالة، ولكن لا تخلو أسانيدها عن مقال. ومن آياته نبع الماء من بين أصابعه، صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي: قصة نبع الماء من بين أصابعه قد تكررت في عدة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة، يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي، ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا - صلى الله عليه وسلم -. وقد نقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال: نبع الماء من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم - أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى بالعصا، فتفجرت منه المياه، لأن خروج الماء من الحجارة معهود، بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم ". انتهى. وقد روي حديث نبع الماء عن جماعة من الصحابة، منهم: أنس، وجابر، وابن مسعود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 ففي الصحيحين عن أنس قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحانت صلاة العصر، والتمس الناس الوضوء، فلم يجدوه، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوء، فوضع يده في ذلك الإناء، فأمر الناس أن يتوضؤوا منه، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم» . وفي البخاري أنهم ثمانين رجلا. وفي اللفظ: " «فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى توضأ القوم. قال: فقلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة» . وفي الصحيحين أيضا عن جابر - رضي الله عنه - قال: «عطش الناس يوم الحديبية فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين يديه ركوة، فقالوا: ليس عندنا ما نتوضأ به، ولا نشرب إلا ما في ركوتك. فوضع - صلى الله عليه وسلم - يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فتوضأنا، وشربنا. قيل لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وفي صحيح مسلم عن جابر قصة نبع الماء في غزوة بواط - أيضا - وفيه قال: " «فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة، واستدارت، حتى امتلأت، وأمر الناس بالاستقاء، فاستقوا حتى رووا» ... " الحديث. وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: " «بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر وليس معنا معنا ماء، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اطلبوا من معه فضل ماء، فأتي بماء، فصبه في إناء، ثم وضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل» ". أخرجه البخاري والترمذي والنسائي. ومما يشبه ذلك تفجير الماء ببركته وانبعاثه بمسه ودعوته. وروى مسلم في صحيحه «عن معاذ - رضي الله عنه - قصة عين» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 «تبوك أنهم جاؤوها وهي تبض بشيء من ماء مثل الشراك. قال: " ثم غرفوا من العين قليلا قليلا، حتى اجتمع في شيء، ثم غسل وجهه ويديه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس» ". وعن ابن اسحاق: " «فانخرق من الماء ما له حس كحس الصواعق» ". وفي صحيح البخاري في غزوة الحديبية من حديث المسور بن مخرمة، ومروان: " «أنهم نزلوا بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش بالري، جتى صدرواعنه» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 وفي رواية: " «أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومج في بئر الحديبية من فمه، فجاشت بالماء كذلك» ". وفي بعض الطرق عند غير البخاري: " «أنه توضأ في الدلو ومضمض فاه، ثم مج فيه، وأمر أن يصب في البئر، ونزع سهما من كنانته، فألقاه في البئر، ودعا الله، ففارت بالماء، حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفتها» ". فجمع بين الأمرين. وفي حديث البراء وسلمة بن الأكوع، «مما رواه البخاري في قصة الحديبية، وهم أربع عشرة مائة، وبئرها لا تروي خمسين شاة، فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جباها. قال البراء: وأتي بدلو منها، فبصق، ودعا - وقال سلمة: فإما دعا، وإما بصق فيها - فجاشت، فأرووا أنفسهم وركابهم» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 وفي الصحيحين عن عمران بن حصين قال: " «كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل ودعا فلانا، ودعا عليا، وقال: اذهبا، فاسقيا الماء، فانطلقا، فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء، فجاءا بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بإناء، ففرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين، وأوكى أفواههما، وأطلق العزالى، ونودي في الناس: اسقوا، واستقوا، فسقى من سقى، واستقى من شاء. وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بها، وأيم الله، لقد أقلع عنها وأنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها» .... " الحديث. وفيه: " «أنها لما أتت إلى قومها قالت: والله، إنه لأسحر الناس كلهم، أو إنه رسول الله، وقالت لهم: فهل لكم في الإسلام؟» .... " الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 وعن أنس قال: " «أصاب الناس سنة على عهد رسول - صلى الله عليه وسلم - فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي، فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع لنا. فرفع يديده وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد حتى الجمعة الأخرى. وقام ذلك الأعرابي أو غيره، فقال: يا رسول الله، تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا. فرفع يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا. فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة في مثل الجوبة، وسال وادي قناة شهرا، ولم يجئ أحد من ناحيته إلا حدث بالجود» ". رواه البخاري ومسلم. ومن آياته - صلى الله عليه وسلم - تكثير الطعام القليل ببركته ودعائه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 في الصحيحين عن جابر في حديثه في غزوة الخندق قال: " «فانكفأت إلى أمرأتي، فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - خمصا شديدا، فأخرجت جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي - صلى الله عليه وسلم - فساررته، فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا، وطحنا صاعا من شعير، فتعال أنت ونفر معك، فصاح النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أهل الخندق إن جابرا صنع سؤرا فحي هلا بكم. وقال - صلى الله عليه وسلم -: لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى آتي، فأخرجت له عجينا. فبصق فيه، وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق، وبارك وثم قال: ادع خابزة فلتخبز معك، واقدحي من برمتكم، ولا تنزلوها. وهم ألف. » الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 «فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو» ". وفي الصحيحين - أيضا - قصة إطعام النبي - صلى الله عليه وسلم - القوم الذين كانوا سبعين أو ثمانين رجلا من أقراص شعير أرسلت بها أم سليم تحت يد أنس، وأنهم كلوا حتى شبعوا. وجاءت روايات عدة عن أنس في هذا المعنى تدل على تعدد القصة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: " «لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقال عمر: يا رسول الله، ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم بالبركة، فقال: نعم. فدعا بنطع، فبسط، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 «ذرة، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع من ذلك يسير، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم. فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه. قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك، فيحجب عن الجنة» . وفي الصحيحين عن أنس قصة إطعام النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، وكانوا زهاء ثلاثمائة رجل، من حيس أرسلت به أم سليم مع أنس، وأنهم أكلوا عشرة عشرة حتى شبعوا. قال أنس: " فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت؟ ". وعن سمرة بن جندب، قال: " «كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نتداول من قصعة من غدوة حتى الليل، يقوم عشرة، ويقعد عشرة، قلنا: فما كانت تمد؟ قال: من أي شيء يعجب؟ ما كانت تمد إلا من ههنا. وأشار بيده إلى السماء» ". رواه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 الترمذي والدارمي. وعنه قال: " «أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصعة فيها لحم، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل، يقوم قوم، ويقعد آخرون، فقال رجل لسمرة: هل كانت تمد؟ قال: ما كانت تمد إلا من ههنا. وأشار إلى السماء» ". رواه الدارمي، وابن أبي شيبة، والترمذي، والحاكم، والبيهقي، وصححوه، وأبو نعيم. وفي حديث عبد الرحمن بن أبي بكر: " «كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين ومائة، وذكر الحديث، وأنه عجن صاع،» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 «وصنعت شاة، فشوي سواد بطنها، قال: فما من الثلاثين ومائة إلا وقد حز له من سواد بطنها. ثم جعل منها قصعتين، فأكلنا أجمعون، وفضل في القصعتين، فحملته على البعير» ". رواه البخاري. والأحاديث في مثل هذه كثيرة. ومن آياته إجابة دعائه - صلى الله عليه وسلم - وهذا باب واسع جدا، وإجابة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لجماعة بما دعا لهم متواتر على الجملة، معلوم ضرورة. وقد جاء في حديث حذيفة: " «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا لرجل أدركت الدعوة ولده وولد ولده» ". وأخرج البخاري عن أنس قال: " «قالت أمي: يا رسول الله، خادمك أنس، ادع الله له. قال: اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما آتيته» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 وفي رواية: قال أنس: " فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليعادون اليوم على نحو المائة ". وفي رواية: " وما أعلم أحدا أصاب من رخاء العيش ما أصبت، ولقد دفنت بيدي هاتين مئة من ولدي، لا أقول: سقط، ولا ولد ولد ". قال القاضي أبو الفضل: ومن هذا دعاؤه لمعاوية بالتمكين في البلاد، فنال الخلافة. ولسعد بن أبي وقاص أن يجيب الله دعوته، فما دعا على أحد إلا استجيب له، ودعا بعز الإسلام بعمر أو بأبي جهل، فاستجيب له في عمر. قال ابن مسعود: " ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر ". وأصاب الناس في بعض مغازيه عطش، فسأله عمر الدعاء، فجاءت سحابة، فسقتهم حاجتهم، ثم أقلعت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 ودعا في الاستسقاء، فسقوا، ثم شكوا إليه ضرر المطر، فدعا، فصحوا. وقال للنابغة: " «لا يفضض الله فاك» " فما سقطت له سن. وفي رواية: " «فكان أحسن الناس ثغرا، إذا سقطت له سن نبتت له أخرى» ". وعاش عشرين ومائة، وقيل أكثر من هذا. ودعا لابن عباس: " «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل» ". فسمي بعد الحبر وترجمان القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 ودعا لعبد الله بن جعفر بالبركة في صفقة يمينه، فما اشترى شيئا إلا ربح فيه. ودعا للمقداد بالبركة، فكان عنده غرائر من المال. ودعا بمثله لعروة بن أبي الجعد فقال: " لقد كنت أقوم بالكناسة، فما أرجع حتى أربح أربعين ألفا ". وقال البخاري في حديثه: " فكان لو اشترى التراب ربح فيه ". ودعا لأم أبي هريرة، فأسلمت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 ودعا لعلي - رضي الله عنه - أن يكفى الحر والقر، فكان يلبس في الشتاء ثياب الصيف، وفي الصيف ثياب الشتاء، ولا يصيبه حر، ولا برد. وسأله الطفيل بن عمرو آيه لقومه لما ذهب إليهم يدعوهم إلى الإسلام، فقال: " «اللهم، نور له» " فسطع له نور بين عينيه، فقال: يا رب أخاف أن يقولوا مثلة. فتحول إلى طرف سوطه، فكان يضيء في الليلة المظلمة، فسمي ذا النور. ودعا على مضر، فأقحطوا حتى استعطفته قريش، فدعا لهم، فسقوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 ودعا على كسرى حين مزق كتابه أن يمزق الله ملكه، فلم تبق له باقية. قال القاضي: " ولم يبق لفارس رياسة في أقطار الدنيا ". ودعا على صبي قطع عليه الصلاة أن يقطع الله أثره، فأقعد. وقال لعتبة بن أبي لهب: " «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» ". فأكله الأسد. وحديثه المشهور في الصحيحين من رواية ابن مسعود في دعائه على قريش حين وضعوا السلى على رقبته وهو ساجد، وسماهم، قال: " «فوالذي بعث محمدا بالحق، لقد رأيت الذي سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر» ". ومنها إبراء ذوي العاهات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 أخرج الإمام عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن عباس - رضي الله عنه - " «أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن ابني به جنون، وإنه ليأخذه عند غدائنا وعشائنا. فمسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره فتع تعة وخرج من جوفه مثل الجرو الأسود يسعى» ". وفي حديث أبي سعيد في غزوة خيبر أنه قال: " «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال: فأرسل إليه، فأتي به، فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه، ودعا له فبرئ، حتى كأن لم يكن به وجع» ". أخرجه البخاري. وفي رواية مسلم عن طريق إياس بن سلمة عن أبيه قال: " «فأرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى علي، فجئت به أقوده أرمد، فبصق في عينيه، فبرئ» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 «وأصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فأتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا رسول الله إن لي امرأة أحبها، وأخشى إن رأتني تقذرني، فأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، وردها إلى موضعها، وقال: اللهم اكسه جمالا. فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظرا، وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى» ". وقد وفد على عمر بن عبد العزيز رجل من ذريته، فسأله عمر: من أنت؟ فقال: أبونا الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أيما رد عادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين وياحسن ما خد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 فوصله عمر، وأحسن جائزته. فال السهيلي: وفي رواية: " «أصيبت عيناي يوم أحد، فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعادهما مكانهما، وبصق فيهما، فعادتا تبرقان» ". قال الدارقطني: هذا حديث غريب، وتفرد به عمار بن نصر عن مالك، وهو ثقة. ويجمع بين الروايتين بأن أحد الرواة ظن أن الساقطة واحدة. وبعضهم - إن صحت الرواية عنه - علم أنها ثنتان. ومن قواعدهم أن زيادة الثقة مقبولة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 وأصيب سلمة يوم خيبر بضربة في ساقه، فنفث فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث نفثات، فما اشتكاها قط. رواه البخارى. والأخبار في هذا المعنى أكثر مما ذكرناه. ومن آياته - صلى الله عليه وسلم - عصمته من الناس وكفاية أذاهم، على شدة العداوة، ومع وحدته وقلة عضده وناصره، وكان - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الإيمان بالله وحده. وينادي عليهم في أنديتهم بتسفيه أحلامهم، وسب آلهتهم، ورميها بكل عيب وسوء، فيبالغون - حتى أقرب أقاربه كعمه أبي لهب - في إيذائه والتجري عليه، لكثرتهم ووحدته - صلى الله عليه وسلم - وهو مع ذلك محروس بحراسة الله -تعالى- مكلوء بكلاءته، محفوظ بحفظه، متماد على ما هو عليه، غير ملتفت إلى أذاهم، إلى أن مكنه الله من نواصي أعدائه، فأذاق من بقي منهم على كفره الهوان. فروى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " «قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 «وجهه في التراب. ثم إنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي؛ ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيده، فقيل له: ما لك؟ قال: إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» ". وعن جابر قال: " «غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد، فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة، فعلق سيفه بغصن من أغصانها، وتفرق الناس بالوادي يستظلون بالشجر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن رجلا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، والسيف في يده صلتا، فقال: ما يمنعك مني؟ قلت: الله. فشام السيف، وها هو ذا جالس. ثم لم يعرض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ملك قومه، فانصرف حين عفا عنه، وقال: والله لا أكون في قوم هم حرب لك» ". أخرجه البخاري ومسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 ومن هذا الباب العبرة المشهورة والكفاية التامة عندما أجمعت قريش على قتله وبيتوه لما أراد الهجرة، فخرج عليهم من بيته، فقام على رؤوسهم وقد ضرب الله على أبصارهم، وذرى التراب على رؤوسهم، وخلص منهم. ثم حمايته إذ هو وأبو بكر في الغار وقد وقف الكفار على بابه، بما هيأ الله من الآيات، ومن العنكبوت الذي نسج عليه، حتى قال أمية بن خلف حين قالوا: ندخل الغار: ما إربكم فيه، وعليه من نسج العنكبوت ما أرى أنه قبل يولد محمد؟ !. ووقفت حمامتان على فم الغار، فقالت قريش: لو كان فيه أحد لما كانت هناك الحمام. ثم قصة سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبعه على فرسه؛ ليأسره لقريش حيث جعلوا عليه الجعائل، فلما قرب منه دعا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فساخت قوائم فرسه، ثم دعاه وأبا بكر بالأمان، وقال: ما أصبت إلا من جهتكم، ووقع في نفسه ظهور النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 - صلى الله عليه وسلم - فطلب منه أن يكتب له أمانا. فأمر أبا بكر فكتب له، فانصرف يقول للناس: كفيتم ما هنا. ومن مشهور ذلك خبر عامر بن الطفيل وأربد بن قيس حين وفدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان عامر قال له: أنا أشغل عنك وجه محمد فاضربه أنت، فلم يره فعل شيئا. فلما كلمه في ذلك قال له: والله ما هممت أن أضربه إلا وجدتك بيني وبينه، أفأضربك؟ !. وعن فضالة بن عمرو قال: أردت قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح وهو يطوف بالبيت، فلما دنوت منه قال: فضالة؟ قلت: نعم. قال: ما كنت تحدث به نفسك؟ قلت: لا شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 فضحك واستغفر لي، ووضع يده على صدري فسكن قلبي. فوالله ما رفعها حتى ما خلق الله أحب إلي منه. والأحاديث والأخبار في معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم - كثيرة جدا، قد أفردت بالمصنفات الكبارعند المتقدمين والمتأخرين، وإنما ذكرنا من صحيحها ومشهورها ما هو كالأنموذج الدال على ما وراءه. وبالله التوفيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 فصل في بيان أن هذه الأخبار تفيد العلم؛ ليعرف بطلان قول النصراني: " إن هذه المعجزات مما لم يكن عليه شهود ". فنقول: هذه المعجزات منها ما هو في القرآن. وقد علم بالضرورة عند الموافق والمخالف إتيانه من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قدمنا الإشارة إلى ذلك. ومنها ما هو متواتر، كنبع الماء من بين أصابعه، وحنين الجذع، وتكثير الطعام. فما من طبقة من طبقات الأمة إلا وهذه المعجزات منقولة عنده، وتواترها أعظم من تواتر كثير من الأحكام. فهو أعظم من تواتر سجود السهو؛ فإن سجود السهو متواتر مقطوع به، مع أنه إنما كان مرات قليلة ولا يحضره إلا المصلون خلفه لتلك الصلاة. وكذلك حكمه - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة فيما لم يقسم. وكذلك نقلهم لنصب الزكاة، فإنه مع كونه متواترا مقطوعا به فلم يسمعه منه إلا طائفة قليلة. وأمثال ذلك كثيرة، إنما سمعها طائفة من الأمة هم أقل بكثير ممن شاهد آياته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 قال بعض الأئمة: ومن المعلوم بالضرورة أنه قد جرى على يديه - عليه الصلاة والسلام - آيات، وخوارق عادات، إن لم يبلغ واحد منها معينا القطع فيبلغه جميعها، فلا مرية في جريان معانيها على يديه. ولا يختلف مؤمن ولا كافر أنه جرت على يديه عجائب، وإنما خلاف المعاند في كونها من قبل الله. وقد قدمنا إيضاح الدلالة على كونها من قبل الله، وأن ذلك بمثابة قوله: صدق عبدي؛ فأطيعوه. فهذا أحد الوجوه في إثبات هذه المعجزات وهو التواتر العام. الوجه الثاني: التواتر الخاص. وذلك في كثير من أفراد هذه المعجزات. فإن الأخبار قد تستفيض وتتواتر عند قوم دون قوم بحسب طلبهم لها، وعلمهم بمن أخبر بها، وما دل من الدلائل على صدقهم. وأهل العلم بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم من العلم بهذا ما ليس عند غيرهم. كما أن أصحاب مالك والشافعي وغيرهما، عند كل كل طائفة من أقوال متبوعيهم وأخباره ما يقطعون به، وإن كان غيرهم لا يعرفه. والأطباء عندهم من كلام بقراط وأمثاله كذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 وأهل العلم بأيام الإسلام يعلمون من سيرة الخلفاء ومغازيهم ما يقطعون به، وإن كان غيرهم لا يعرفه. بل أهل العلم بالرجال يعلمون من حال آحاد الصحابة والتابعين ومن بعدهم ما لا يعلمه غيرهم. والنحاة يعلمون من حال سيبويه وأمثاله ما لا يعلمه غيرهم. فكيف بمن هو عند أتباعه أعلى قدرا من كل عالم، وأرفع منزلة من كل ملك، وهم أرغب الخلق في معرفة أحواله، وأعظم الناس تحريا للصدق فيها، ولرد الكذب منها، حتى صنفوا الكتب الكثيرة في أخبار جميع من روى شيئا من أخباره، وذكروا من الجرح والتعديل، ووقعوا في ذلك، وبالغوا مبالغة لا يوجد مثلها لأحد من الأمم، ولا لأحد من هذه الأمة إلا لأهل الحديث، وميزوا في المنقولات بين الصدق والكذب، فيردون الكذب وإن كان فيه من فضائل نبيهم وأعلام نبوته ما هو أعظم مما يقبلون، ويقبلون الصدق وإن كان فيه شبهة يحتج بها المنازع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 قال عبد الرحمن بن مهدي: أهل العلم يثبتون ما لهم وعليهم، وأهل البدع لا يثبتون إلا ما لهم. فإذا كان أولئك فيما ينقلونه عن متبوعهم جازمين به لا يكون إلا صدقا. فهؤلاء مع جزمهم بالصدق واتفاقهم على التصديق أولى. قال شيخ الإسلام أبو العباس: " وعامة أخبار الصحيحين مما اتفق أهل الحديث على التصديق بها، وجزموا بذلك ". الوجه الثالث في تصحيح هذه المعجزات: التواتر المعنوي. وهذا مما اتفق عليه عامة الطوائف، فإن الناس يسمعون أخبارا متفرقة تتضمن شجاعة علي، وعمر، وأمثالهما، وسخاء حاتم ومعن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 وأمثالهما، وحلم الأحنف ومعاوية وأمثالهما، فيحصل علم ضروري بأن الشخص موصوف بهذا وإن كان كل خبر لو تجرد لم يفد العلم. فهذه الأحاديث وأضعاف أضعافها هي أضعاف أضعاف ما نقل عن الواحد من هؤلاء، ونقلتها أجل وأكبر، وعلم المسلمين بها أعظم من علم أهل الكتب بآيات موسى وعيسى، فما يذكرون من حجة في صحة نقلها إلا وحجة المسلمين فيما ينقلونه عن نبيهم وأصحابه أظهر وأقوى. الوجه الرابع: أنها تكون بمحضر من الخلق الكثير، كتكثير الطعام يوم الخندق، ونبع الماء من بين أصابعه يوم الحديبية، وفيضان البئر بها، وكلهم صالحون لا يعرف فيهم من تعمد كذبة واحدة. وكان بعضهم ينقلها قدام آخرين ممن حضرها، فيذهب أولئك، فيخبرون بها أولئك، فيصدق بعضهم بعضا، ويحكي هذا مثل ما حكى هذا، من غير تواطؤ. وأدنى أحواله أن يقرره، ولا ينكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 ونعلم بموجب العادة الفطرية، وبما كان عليه السلف من تحري الصدق، وشدة توقيهم الكذب على نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وروايتهم عنه التحذير من الكذب عليه وتعظيم الوعيد على ذلك، كما في الحديث المتواتر عنه: " ... «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» " أنهم لم يكونوا يقرون من يعلمون أنه يكذب عليه، بل نعلم أنه لو كان ما سمعوه منكرا عندهم وغير معروف لديهم لأنكروه. كما أنكر بعضهم على بعض أشياء رواها في السنن والسير وغير ذلك. وخطأ بعضهم بعضا ووهمه في ذلك في قضايا معلومة. ومن تعقل ما ذكرناه علم قطعا أنهم متفقون على نقل تلك المعجزات. كما اتفقوا على نقل القرآن. ومما يبين ذلك أن ما أنكره بعضهم على الآخر، وإن كانوا متأخرين عن الصحابة أوجب التنازع في حكم ذلك كتنازعهم: هل كان يجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية؟ أو يداوم على القنوت في الفجر. وهو من أهون الأمور؛ إذ كلهم متفقون على صحة صلاة من فعل أو ترك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 ولكن لما تنازعوا في فعله تنازعوا في الحكم، فعلم أن ما كان مشهورا في الأمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكره أحد من علمائها كانت الأمة متفقة على نقله. وكذلك حجة؛ فإنهم متفقون على ما تواتر عنه من أنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة، وأنه عاش بعدها نحو ثلاثة أشهر. قال أبو العباس: " واتفقوا على أنه لما حج أمر أصحابه إلا من ساق الهدي إذا طاف وسعى أن يحل، وأنه لم يعتمر هو وأصحابه الذين حجوا معه بعد الحج إلا عائشة، وأنه لم يحل، ولا من ساق الهدي معه. وإنما اشتبه على بعضهم بعض ألفاظه، أو بعض الأمور التي تخفى على كثير من الناس. وكان الصحابة ينقلون تمتعه، ومرادهم أنه قرن بين العمرة والحج، وبعضهم قال: أفرد الحج، فظن بعض الناس أنه اعتمر بعد الحج. وقال بعضهم: قرن، فظن بعض الناس أنه طاف طوافين، وسعى سعيين. ومن أسباب الغلط أن الصحابة يستعملون تلك الألفاظ في غير المعاني التي استعملها من بعدهم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 قال: "ومن تدبر هذا أفاده علما يقينا بصحة هذه المعجزات عنه ". الوجه الخامس: إن كل طائفة من العلماء ممن صنف في علوم الأثر قد تواتر عندهم من هذه الآيات ما فيه كفاية، فكتب التفسير متواتر فيها. وكذلك كتب الحديث، وكذلك كتب السير، وإن لم يكن هذا مقصودا منها. وإنما المقصود ما أصوله تلك الكتب من الأحكام وغيرها، فنقل كل طائفة يفيد العلم اليقيني، فكيف بنقل الكل!. وهذه الأوجه التي ذكرناها يستدل بها تارة على تواتر الجنس العام. وهذا أقل ما يكون، وعلى تواتر جنس جنس، منها كتكثير الطعام والطهور، وعلى نوع نوع، كنبع الماء من بين أصابعه، وعلى تواتر شخص شخص، كحنين الجذع. وكلما أمعن الإنسان في ذلك النظر واعتبره بأمثاله وأعطاه حقه من النظر والاستدلال ازداد به علما ويقينا، وتبين له أن العلم بذلك أظهر من جميع ما يطلبه بالأخبار المتواترة. فليس في الدنيا علم مطلوب بالأخبار المتواترة إلا والعلم بآيات الرسول وشرائع دينه أظهر من ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 وما من حال أحد من الأنبياء والملوك والعلماء وأقواله وأفعاله وسيرته إلا والعلم بأحوال محمد - صلى الله عليه وسلم - أظهر. وما من علم يعلم بالتواتر مما هو موجود الآن، كالعلم بالبلاد البعيدة، إلا والعلم بحال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وما هم عليه من الدين، وما ينقلونه عن نبيهم من آياته وشرائع دينه أظهر؛ تحقيقا لقوله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} . وظهوره على الدين كله بالعلم والحجة والبيان، إنما هو بما يظهره من آياته، وذلك إنما يتم بما ينقل عن محمد - صلى الله عليه وسلم - من آياته التي هي الأدلة، وشرائعه التي هي المدلول المقصود بالأدلة. فهذا قد أظهره الله علما وحجة وبيانا على كل دين. كما أظهره قوة ونصرا وتأييدا على كل دين، والحمد لله رب العالمين. وكل واحد من هذه الأوجه الخمسة التي ذكرناها يفيد العلم بصحة هذه المعجزات، فكيف وهي كلها متظاهرة متضافرة!. وهذه غير البراهين المستفادة من القرآن، فإن تلك قد تجرد لها طوائف ذكروا من أنواعها وصفاتها كثيرا، حتى بينوا أن ما في القرآن من الآيات يزيد على عشرات الألوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 وقد أشرنا فيما تقدم إلى مجامع ذلك وأصوله التي يرجع إليها. وهذان غير ما في كتب أهل الكتاب من الإخبار به مما قدمنا بعضه. وهذه الثلاثة غير ما في شريعته، وغير صفات أمته، وغير ما يدل على نبوته من المعرفة بسيرته وأخلاقه. وهذا كله غير نصر الله له، وإكرامه لمن آمن به، وعقوبته لمن كفر به. فإن تعداد أعيان دلائل النبوة لا يمكن بشرا الإحاطة به، وذلك أنه لما كان الإيمان به واجبا على كل أحد بين الله لكل قوم - بل لكل شخص - ما لا يبين لآخرين. كما أن دلائل الربوبية أعظم وأكبر من كل مدلول، ولكل قوم بل لكل إنسان من الدلائل التي يريد الله إياها في نفسه وفي الآفاق ما لا يعرف أعيانها قوم آخرون، قال الله - تعالى -: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} . والضمير عائد على القرآن عند المفسرين. كما دل عليه قوله - تعالى -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 ثم قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . فأخبر - تعالى - أنه سيري الناس في أنفسهم، وفي الآفاق من الآيات العيانية ما يبين لهم أن الآيات المسموعة حق، فيتطابق العقل والسمع، ويتفق العيان والقرآن، وتصدق المعاينة الخبر. قاله شيخ الإسلام أبو العباس. وإذ عرف ما قررناه تبين بطلان قول النصراني: " إن هذه المعجزات مما لم يكن عليه شهود "، وقامت الحجة، وانقطعت المعذرة. واعلم أنه لم يبق للمخالف ما يتعلل به سوى العناد المحض والكفر الصراح. وما أحسن ما قال الإمام أبو عبد الله ابن القيم: " إنه لا يمكن ألبتة أن يؤمن يهودي بنبوة موسى إن لم يؤمن بنبوة محمد - عليهما الصلاة والسلام - ولا يمكن نصرانيا أن يقر بنبوة المسيح إلا بعد إقراره بنبوة محمد عليهما الصلاة والسلام. وبيان ذلك أن يقال لهاتين الأمتين: أنتم لم تشاهدوا هذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 الرسولين، ولا شاهدتم آياتهما، وبراهين نبوتهما، فكيف يسع عاقلا أن يكذب نبيا ذا دعوة شائعة وكلمة قائمة وآيات باهرة، ويصدق من ليس مثله ولا قريبا منه في ذلك؛ لأنه لم ير أحد النبيين ولا شاهد معجزاته؟. فإذا كذب بنبوة أحدهما لزمه التكذيب بنبوتهما، وإن صدق أحدهما لزمه التصديق بنبوتهما. فمن كفر بنبي واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم، ولم ينفعه إيمانه. قال الله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . وقال - تعالى -: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} ... . فنقول للمغضوب عليه: هل رأيت موسى وعاينت معجزاته؟ فبالضرورة يقول: لا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 فنقول له: بأي شيء عرفت نبوته وصدقه؟ فله جوابان: أحدهما: أن يقول: أبي عرفني ذلك، وأخبرني به. الثاني: أن يقول: التواتر، وشهادات الأمم حقق ذلك عندي، كما حقق خبرهم وشهادتهم وجود البلاد النائية، والبحار، والأنهارالبعيدة، وإن لم أشاهدها. فإن اختار الجواب الأول، وقال: إن شهادة أبي وإخباره إياي بنبوة موسى كان سبب تصديقي نبوته. فيقال له: فلم كان أبوك عندك صادقا، وكلامه معصوما عن الكذب وأنت ترى الكفار يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك؟ فإذا كنت ترى الأديان الباطلة، والمذاهب الفاسدة قد أخذها أربابها عن آبائهم كأخذك مذهبك عن أبيك، وأنت تعلم أن الذي هم عليه ضلال؛ فيلزمك أن تبحث عما أخذته عن أبيك خوفا أن تكون هذه حاله. فإن قال: إن الذي أخذته عن أبي أصح من الذي أخذه الناس عن آبائهم، كفاه معارضة غيره له بمثل قوله. فإن قال: أبي أصدق من آبائهم، وأعرف، وأفضل، عارضه سائر الناس في آبائهم بنظير ذلك. فإن قال: أنا أعرف حال أبي، ولا أعرف حال غيره. قيل له: فما يؤمنك أن يكون غير أبيك أصدق من أبيك، وأفضل وأعرف؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 وبكل حال فإن كان تقليده لأبيه حجة صحيحة كان تقليد غيره لأبيه كذلك. وإن كان ذلك باطلا كان تقليده لأبيه باطلا. فإن رجع عن هذا الجواب، واختار الجواب الثاني، وقال: إنما علمت نبوة موسى بالتواتر قرنا بعد قرن، فإنهم أخبروا بظهوره ومعجزاته وآياته وبراهين نبوته، التي تضطر إلى تصديقه. فيقال له: لا ينفعك هذا الجواب؛ لأنك قد أبطلت ما شهد به التواتر من نبوة المسيح ومحمد، عليهما الصلاة والسلام. فإن قال: تواتر ظهور موسى ومعجزاته وآياته، ولم يتواتر ذلك في المسيح ومحمد. قيل: هذا هو اللائق ببهت الأمة الغضبية، فإن الأمم جميعهم قد عرفوا أنهم قوم بهت. وإلا فمن المعلوم أن الناقلين لمعجزات المسيح ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - أضعاف أضعافكم بكثير، والمعجزات التي شاهدها أوائلهم لا تنقص عن المعجزات التي أتى بها موسى - عليه السلام - وقد نقلها عنهم أهل التواتر جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، وأنت لا تقبل خبر التواتر في ذلك، وترده، فيلزمك ألا تقبله في أمر موسى. ومن المعلوم بالضروة أن من أثبت شيئا ونفى نظيره فقد تناقض. وإذا اشتهر النبي في عصره، وصحت نبوته في ذلك بالآيات التي ظهرت معه لأهل عصره، ووصل خبره إلى أهل عصر آخر وجب عليهم تصديقه والإيمان به، وموسى والمسيح ومحمد في هذا سواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 ولعل تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادة بنبوة عيسى، لأن الأمة الغضبية قد مزقها الله كل ممزق، وقطعها في الأرض، وسلبها ملكها وعزها، فلا عيش لها إلا تحت قهر سواها من الأمم لها. بخلاف أمة عيسى - عليه السلام - فإنها قد انتشرت في الأرض، وفيهم الملوك، ولهم الممالك. وأما الحنفاء فممالكهم قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها وملؤوا الدنيا سهلا وجبلا، فكيف يكون نقلهم لما نقلوه كذبا، ونقل الأمة الغضبية الجاهلية القليلة الذليلة صدقا؟ !. فثبت أنه لا يمكن يهوديا على وجه الأرض يصدق بنبوة موسى إلا بتصديقه وإقراره بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يمكن نصرانيا ألبتة الإيمان بالمسيح إلا بعد الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. ولا ينفع هاتين الأمتين شهادة المسلمين بنبوة موسى والمسيح لأنهم إنما آمنوا بهما على يد محمد صلى الله عليه وسلم. فكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد وما جاء به، فلولاه ما عرفنا نبوتهما ولا آمنا بهما. ولا سيما فإن أمة الغضب والضلال ليس بأيديهم عن أنبيائهم ما يوجب الإيمان بهم، فلولا القرآن ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ما عرفنا شيئا من آيات الأنبياء المتقدمين؛ فمحمد - صلى الله عليه وسلم - وكتابه هو الذي قرر نبوة موسى ونبوة المسيح، لا اليهود والنصارى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 بل كان نفس ظهوره ومجيئه تصديقا لنبوتهما؛ فإنهما أخبرا به، وبشرا بظهوره. فلما بعث كان بعثه تصديقا لهما، وهذا أحد المعنيين في قوله - تعالى -: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} . أي: مجيؤه تصديق لهم من جهتين: من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه. ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به ومطابقة ما جاء به لما جاءوا به. فإن الرسول الأول إذا أتى بأمر لا يعلم إلا بالوحي، ثم جاء نبي آخر لم يقارنه في الزمان ولا المكان ولا تلقى عنه، بمثل ما جاء به سواء، دل ذلك على صدق الرسولين الأول والآخر. وكان ذلك بمنزلة رجلين أخبر أحدهما بخبر عن عيان، ثم جاء آخر من غير بلده وناحيته بحيث يعلم أنه لم يجتمع به، ولا تلقى عنه، ولا عمن تلقى عنه، فأخبر بمثل ما أخبر به الأول سواء، فإنه يضطر السامع إلى تصديق الأول والثاني. فالمعنى أنه لم يأت مكذبا لمن قبله من الأنبياء مزريا عليهم، كما يفعل الملوك المتغلبة على الناس بمن تقدمهم من الملوك. بل جاء مصدقا لهم شاهدا بنبوتهم. ولو كان كاذبا متقولا منشئا من عنده شيئا مما جاء به لم يصدق من قبله، بل كان يزري بهم، ويطعن عليهم كما يفعل أعداء الأنبياء ". انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 فصل واعلم أن آيات النبوة ومعجزاتها لا تختص بحال التحدي أو حال دعوى النبوة، كما ظنه بعض أهل الكلام، بل تكون في حياة الرسول وقبل مولده وبعد وفاته. لكن لا بد من آيات في حياته تقوم بها الحجة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر» ". وكما قال الله - تعالى -: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} .... الآيات، وقال - تعالى -: {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} ، فأخبر - سبحانه - أنه ضرب الأمثال لجميعهم وأهلكهم بعد إقامة الحجة عليهم. والآيات في هذا كثيرة. وكانت آيات نبينا - صلى الله عليه وسلم - غير مختصة بما بعد البعثة، بل ظهرت آياته قبل مولده وعند مولده وحال نشأته، ثم ظهرت الآيات الكبار بعد بعثته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 منها ما وقع مقارنا للتحدي، ومنها غير ذلك. ثم استمرت آياته ومعجزاته بعد وفاته، وعلى مر السنين وتعاقب الدهور من وقوع ما أخبر به من الغيوب ومن ظهور دينه على الدين كله، واقتران العز والظهور بطاعته واتباع شريعته، والذل والصغار بإضاعة أمره ومخالفته، مما يبين ذلك للمتوسمين في عموم الناس، وفي خاصة أنفسهم. وأكبر ذلك وأعظمه معجزة القرآن المستمرة على مر السنين، وبقاؤه محفوظا كما أنزل غضا طريا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. قال بعض أئمتنا: ومما ينبغي أن يعلم أن الله إذا أرسل نبيا، وأتى بآية دالة على صدقه، قامت بها الحجة وظهرت بها المحجة، فمن طالب بآية ثانية لم تجب إجابته، بل وقد لا تنبغي، لأنه إذا جاء بثانية طولب بثالثة، فإذا جاء بها طولب برابعة، وطلب المتعنتين لا أمد له. ومعلوم أن من قامت عليه الحجة في مسألة أو في حق من حقوق العباد التي يتخاصمون فيها، لو قال: أنا لا أقبل حتى تقوم علي حجة ثانية وثالثة، كان ظالما، ولم تجب إجابته، ولا يمكن الحكام الخصوم من ذلك، فحق الله الذي أوجب على عباده من توحيده والإيمان به وبرسله أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 ثم قد يكون في تتابع الآيات حكمة، فتتابع، كآيات محمد - صلى الله عليه وسلم - لعموم دعوته، فإن الأدلة كلما كثرت كان أظهر، فقد يعرف دلالة أحد الأدلة من لا يعرف دلالة الآخر، وقد يبلغ هذا ما لا يبلغ هذا، وقد يرسل الأنبياء بآيات متتابعة، ويقسي قلوب الكفار عن الإيمان، لينتشر ذلك ويظهر، ويبلغ ذلك قوما آخرين، فيصير سببا لإيمانهم. كما في التوراة: " أنه يقسي قلب فرعون، ليظهر عجائبه وآياته ". وكما صد المكذبين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - حتى يسعوا في معارضته، والقدح في آياته، فيظهر بذلك عجزهم عن معارضة القرآن وغيره من آياته. بخلاف ما لو اتبع ابتداء بدون ذلك، فإنه قد كان يظن أنهم قادرون على معارضته. وكذلك - أيضا - يكون في ذلك من صبره وجهاده ويقينه وصبر أصحابه وأتباعه وجهادهم ما ينالون به عظيم الدرجات في الدنيا والآخرة. وقد تقتضي الحكمة ألا يرسل بالآيات التي توجب عذاب الاستئصال، كما ذكره في كتابه العزيز، وكان الكفار يقترحون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 فتارة يجيبهم، لما فيه من الحكمة، وتارة لا يجيبهم، لما فيه من المضرة. وربما طلب الرسول تلك الآيات رغبة في إيمانهم، فيجاب بأنها لا تسلتزم الهدى، بل تستلزم إقامة الحجة، وتوجب عذاب الاستئصال لمن كذب بها. وقد بين الله - تعالى - أنه لا يظهرها لانتفاء المصلحة أو لوجود المفسدة. قال - تعالى -: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} . وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 وهذا المعنى مذكور في عامة كتب التفسير والحديث وغيرها. كما ذكروا «عن ابن عباس قال: سأله أهل مكة أن يحول لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال، حتى يزرعوا، فقيل: إن شئت تستأني بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا كما أهلك من قبلهم، قال: بل أستأني بهم. فأنزل الله هذه الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} . الآية. » وروى ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: رحمة لكم أيتها الأمة، إنا لو أرسلنا الآيات، فكذبتم بها أصابكم ما أصاب من قبلكم، وقد كانت الآيات تأتيه - صلى الله عليه وسلم - آية بعد آية فلا يؤمنون بها. قال تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 أخبر - سبحانه - أن الآيات تأتيهم فيكذبون بالحق، وأنهم سوف يرون صدق ما جاء به الرسول، كما أهلك من كان قبلهم بذنوبهم التي هي تكذيب الرسول، فإن الله يقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} . وأخبر بشدة كفرهم بأنه لو أنزل عليهم كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين. ويبين - سبحانه - أنه لو جعل الرسول ملكا لجعله على صورة الرجل، إذ كانوا لا يطيقون أن يروا الملائكة في صورهم، وحينئذ فكان اللبس يقع لظنهم أنه بشر لا ملك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} . وهذه الآيات التي اقترحوا لو أجيبوا بها ثم لم يؤمنوا، أتاهم عذاب الاستئصال. وأيضا هي مما لا يصلح، فإن تفجير الينبوع بمكة يصيرها واديا ذا زرع، والله - تعالى - من حكمته جعل بيته بذلك الوادي، لئلا يكون عنده ما ترغب النفوس فيه من الدنيا، فيكون حجه للدنيا لا لله. وإذا كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - جنة كذلك كان فيه من التوسع في الدنيا ما ينقص درجته. وكذلك إذا كان له بيت من زخرف - وهو الذهب - وإسقاط السماء لا يكون إلا يوم القيامة، وهو لم يخبرهم أنه لا يكون إلا يوم القيامة. فقولهم - كما زعمت - كذب منهم، إلا أن يريدوا التمثيل فيكون القياس فاسدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 وأما الإتيان بالله والملائكة قبيلا، فلما سأل قوم موسى ما هو دونه أخذتهم الصاعقة. وأما إنزال الكتاب فقد قال - تعالى -: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} . الآيات. بين - سبحانه - أن المشركين سألوه إنزال الكتاب، وأن أهل الكتاب سألوه ذلك، وبين أن الطائفتين لم يؤمنوا إذ جاءهم ذلك، وإنما سألوه تعنتا. فقال عن المشركين: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 وذكر عن أهل الكتاب أنهم سألوا موسى أكبر من ذلك، وأنهم مع ذلك نقضوا الميثاق، وكفرو بآيات الله، وقتلوا النبيين، إلى أمثال ذلك، وأنه بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله حرم عليهم طيبات. ففيه من الاعتبار لهذه الأمة أن الأمة المكذبة إذا جاءتهم الآيات المقترحة لم يكن فيها منفعة لهم، بل توجب عقوبة الاستئصال، فكان ألا تنزل أعظم رحمة وحكمة. وقد عرض الله - تعالى - على محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يهلك قومه لما كذبوه، فقال: " «بل أستأني بهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا» ". كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: " «قلت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 «رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل - عليه السلام - فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوه عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، وسلم علي، وقال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك، لتأمرني بأمرك فيما شئت، فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين. فقال - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا» ". أخرجه البخاري ومسلم. والأخشبان: جبلا مكة المحيطان بها. ولما طلبت من المسيح المائدة كانت من الآيات الموجبة لمن كفر بها عذابا لم يعذبه أحدا. فكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب الاستئصال. وأظهر - تعالى - آيات كثيرة لما أرسل موسى، ليبقى ذكرها في الأرض، إذ كان بعد نزول التوراة لم يعذب أحدا بعذاب الاستئصال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 بل قال - تعالى -: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} ... . فكان بنو إسرائيل لما كانوا يفعلون ما يفعلون من الكفر والمعاصي يعذب بعضهم ويبقي بعضهم، إذ كانوا لم يتفقوا على الكفر. ولهذا لم يزل في الأرض أمة من بني إسرائيل باقية على الحق. قال - تعالى -: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} ... . وقال - تعالى -: .... {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} ... الآيتين. وكان من حكمته ورحمته - سبحانه وتعالى - لما أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - ألا يهلك قومه بعذاب الاستئصال، بل عذب بعضهم بأنواع العذاب، كالذين قال فيهم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . والذي دعا عليه أن يسلط عليه كلبا، وأمثال ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 قال - تعالى -: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} ... . فأخبر أنه معذبهم تارة بأيدي المؤمنين، وتارة بعذاب غير ذلك. فكان ذلك مما يوجب إيمان أكثرهم، كما جرى لقريش وغيرهم، فإنه لو أهلكهم كالذين قبلهم لبادوا، وانقطعت المنفعة عنهم، ولم يبق لهم ذرية تؤمن، بخلاف الأول، فإن فيه من إذلالهم وقهرهم ما يوجب عجزهم. والنفوس إذا قدرت لا تكاد تنصرف عن مرادها، بخلاف ما إذا عجزت عن كمال أغراضها، فإنه يدعوها إلى التوبة، كما قيل: من العصمة ألا تقدر. ولهذا آمن عامتهم، ولم يقتل منهم إلا القليل، وهم صناديد الكفر الذين كان أحدهم في هذه الأمة كفرعون في تلك الأمة. كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه قال عن أبي جهل: " هذا فرعون هذه الأمة» ". وفي التوراة: (أني أقسي قلب فرعون، لتظهر آياتي وعجائبي) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 بين أن فيه من الحكمة انتشار آياته الدالة على صدق أنبيائه في الأرض، إذ كان موسى قد أخبر بتكليم الله له، وبكتابة التوراة له. فأظهر الله له من الآيات ما يبقي ذكرها في الأرض. وكان في ضمن ذلك من تقسية قلب فرعون ما أوجب أن أهلكه وقومه أجمعين. وفرعون كان منكرا لله جاحدا لربوبيته لا يقر به، فلذلك أوتي من الآيات ما يناسب حاله. وأما بنو إسرائيل مع المسيح فهم مقرون بالكتاب الأول، فلم يحتاجوا إلى مثل ما احتاج إليه موسى عليه السلام. ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن محتاجا إلى تقرير جنس النبوة، إذ كانت الرسل قبله جاءت بما يثبت ذلك. وقومه كانوا مقرين بالله، وإنما الحاجة إلى تثبيت نبوته. ومع هذا فأظهر الله على يديه من الآيات مثل آيات من قبله وأعظم. ومع هذا فلم يأت بآيات الاستئصال التي يستحق مكذبها العذاب العام العاجل. فلهذا بين الله - تعالى - أنها إذا جاءت لا تنفعهم، إذ كانوا لا يؤمنون بها، ولكن تضرهم، ومع وجود المانع وعدم المقتضي لا يصلح الفعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 قال - تعالى -: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} ... الآية. فهو يعلم أن قلوب هؤلاء كقلوب أولئك، قال - تعالى -: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . وقال: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} ... ذكره في السورة التي ذكر فيها انشقاق القمر، وإعراضهم عن الآيات، وقولهم: سحر مستمر، وتكذبيهم، واتباعهم أهواهم، وفيها: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} ، أي: من أنباء الغيب ما يزجر عن الكفر، إذ كان في تلك الآيات بيان صدق الرسول، والإنذار لمن كذبه بالعذاب، كما عذب المتقدمين. ولهذا يقول عقيب القصة: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} ، أي: كيف كان عذابي لمن كذب رسلي، وكيف كان إنذاري بذلك قبل مجيئه!. وفيها: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} .... في قصة آل فرعون، لأنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 كذبوا بجميع آيات موسى وجميع آيات الأنبياء قبله، وكذبوا بجميع الآيات الدالة على وجود الرب - تعالى - وقدرته ومشيئته. ثم قال: .... {أَكُفَّارُكُمْ} .... أي: أيتها الأمة ... {خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} ... الذين كذبوا نوحا، ومن بعده ... {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} . وذلك كونكم لا تعذبون مثلهم، إما لكونكم خيرا منهم لا تستحقون ما استحقوا، أو يكون الله أخبر أنه لا يعذبكم، فإن ما يفعله الله تارة يعلم بخبره، وتارة يعلم بمشيئته، وحكمته وعدله، فإما أن تكونوا علمتم هذا من هذا الوجه، أو من هذا الوجه. هذا إن نظر إلى فعل الله الذي لا طاقة للبشر به. وإن نظر إلى قوة الرسول، فيقولون: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} ، فإنهم أكثر وأقوى، فقال - تعالى -: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} . وهذا أخبر به وهو بمكة في قلة الأتباع، ولا يظن أحد بالعادة المعروفة أن أمره يعلو قبل أن يهاجر ويقاتل، فكان كما أخبر، فإنهم يوم بدر وغيرها هزموا، وتلك سنة الله في المؤمنين والكافرين. وحيث ظهر الكفار فلذنوب المسلمين التي نقصت إيمانهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله، كما قال - تعالى -: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . فإذا كان من تمام الحكمة والرحمة ألا يهلكهم هلاك الاستئصال كالذين قبلهم كان ألا يأتي بموجب ذلك، مع إتيانه - سبحانه - بما يقيم الحجة، ويوضح المحجة أكمل في الحكمة والرحمة. إذ كان ما أتى به من الآيات حصل به كمال الخير والمصلحة والهدى، والبيان والحجة على من كفر. وما امتنع منه دفع به من العذاب العام ما أوجب بقاء جمهور الأمة حتى يهتدوا. وكان في إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - لما كان خاتم الرسل من المنن السابقة ما لم يكن في رسالة رسول غيره صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 فصل قال شيخ الإسلام أبو العباس: " الكلام في النبوة من جنس الكلام في الخبر ، فقول القائل: (إني رسول الله إليكم) خبر من الأخبار، والخبر تارة يكون مطابقا لمخبره كالصدق المعلوم أنه صدق، وتارة لا يكون كالكذب المعلوم أنه كذب ". فإن لم يقم دليل صدقه أو كذبه بقي ما لا نصدقه ولا نكذبه، ولهذا قال - تعالى -: ... {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ... . فأمر بذلك، لأنه قد يصدق، فدل على أنه لا يجوز تصديقه بمجرد إخباره، ولا يجوز - أيضا - تكذيبه قبل أن يعرف أنه كذب. وفي صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا، وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون» ". وهذا مأثور عن غيره من الأنبياء، كما جاء عن المسيح - عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 السلام - أنه قال: " الأمور ثلاثة: أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه ". وعامة عقلاء بني آدم على هذا، وهو مما يجب معرفته. فإن كثيرا من الناس لا يميز بين ما ينفيه لقيام الدليل على نفيه، وبين ما لم يثبته لعدم دليل إثباته، فينفي ما ليس له به علم. ... {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} ... . وكثير من الناس يعلم بالاستدلال والنظر صدق شخص معين. كما أن كثيرا منهم يعلم بالأخبار والنقل والاستدلال بذلك أمورا كثيرة، ومن لم يشاركهم فيما سمعوه، وفيما عرفوه من أحوال المخبرين، وأحوال المخبر به لا يعلم ما علموه. فلهذا كان لأهل النظر العقلي طرق لا يعرفها أهل الأخبار. ولأهل الأخبارالسمعية طرق لا تعرف بمجرد العقول. ولهذا كان لهؤلاء من الطرق الدالة على صدق الرسول ونبوته، والاستدلال على ذلك أمور كثيرة لا يعرفها أهل الأخبار. وعند أهل الأخبار من الأحاديث المتواترة عندهم، والآيات المستبينة ما يعرفون به صدق الرسول، وإن كان أولئك لا يعرفونها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 والناس قد يعلمون أن الخبر الواحد قد يقوم الدليل على كذبه، فيعلم أنه كذب وإن أخبر به ألوف، إذا كان خبرهم عن غير علم أو عن تواطؤ. مثل أخبار أهل الاعتقادات الباطلة بها. وأما إذا أخبروا عن علم منهم فهم صادقون في نفس الأمر. ويعلم صدقهم تارة بتواتر أخبارهم من غير مواطأة، ولو كانا اثنين. فإن الاثنين إذا أخبرا بخبر طويل أسنداه إلى علم، وقد علم أنهما لم يتواطآ عليه، ولا هو مما يتفق في العادة تماثلها فيه في الكذب أو الغلط، علم أنه صدق. وقد يعلم صدق الخبر الواحد بأنواع من الدلائل وبقرائن تقترن به تكون صفات في المخبر من علمه ودينه وتحريه الصدق، أو تكون صفات في المخبر به مختصة بذلك الخبر أو بنوعه، كحاجب الأمير إذا قال بحضرته لعسكره: إن الأمير قد أذن لكم في الانصراف، وأمركم أن تركبوا غدا، أو أمر عليكم فلانا، ونحو ذلك. فإن العادة كما قد تمنع التواطؤ على الكذب، فإنها قد تمنع التواطؤ على الكتمان وإقرار الكذب، فما توفرت الهمم والدواعي على ذكره يمتنع أن يتواطأ أهل المكان على كتمانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 كما يمتنع في العادة أن تحدث حادثة عظيمة تتوافر الهمم والدواعي على نقلها في الحج أو المجامع أو العسكر. وإذا امتنع السكوت عن إظهارها، فالسكوت عن تكذيب الكاذب فيها أشد امتناعا. وقد تكون الدلائل صفات في المخبر تقترن بخبره. فإن الإنسان قد ترى حمرة وجهه، فيميز بين حمرته من الخجل والحياء وبين حمرته من الحمى وزيادة الدم، وبين حمرته من الحمام وبين حمرته من الغضب. وكذلك يميز بين صفرته من الفزع وصفرته من الحزن وصفرته من المرض. حتى إن الأطباء الحذاق يعلمون حال المريض بمجرد رؤيته لا يحتاجون مع ذلك إلى نبض وقارورة. وكذلك تعرف أحواله النفسانية هل هو فرح أو محزون، وهل هو محب مريد للخير أو مبغض مريد للشر؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 كما قيل: تحدثني العينان ما القلب كاتم ... من الغل والبغضاء بالنظر الشزر وكما قيل: والعين تنظر من عيني محدثها ... هل كان من حزبها أو من أعاديها ثم إذا تكلم مع ذلك دل كلامه على أبلغ مما تدل عليه سيما وجهه. وقد روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال: " ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه ". وقال عمر بن الخطاب للعابث في صلاته: " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 والرجل الصادق البر يظهر على وجهه من نور صدقه وبهجة وجهه سيما يعرف بها، وكذلك الكاذب الفاجر. وكلما طال عمر الإنسان ظهر هذا فيه، حتى إن الرجل في صغره يكون جميل الوجه، فيظهر في آخر عمره من قبح وجهه ما أثره باطنه وبالعكس. وروي عن ابن عباس أنه قال: " إن للحسنة نورا في القلب وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة ظلمة في القلب، وسوادا في الوجه، ووهنا في البدن، وبغضة في قلوب الخلق ". وقد يكون الرجل ممن لا يتعمد الكذب، لكن يعتقد اعتقادات باطلة في الله ورسله ودينه وعباده الصالحين، ويكون له زهادة وعبادة واجتهاد مع ذلك، فيؤثر ذلك الذي ظنه صدقا وتوابعه في باطنه، ويظهر ذلك على وجهه، فيعلوه من القترة والسواد ما يناسب حاله. كما قال بعض السلف: " لو ادهن صاحب البدعة كل يوم بدهان فإن سواد البدعة لفي وجهه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 وهذه تظهر يوم القيامة ظهورا تاما، قال - تعالى -: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} ... الآيتين. وقال - تعالى -: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} ... الآيتين. والمقصود أن ما في القلب من قصد الصدق والمحبة والبر ونحو ذلك قد يظهر على الوجه، حتى يعلم ذلك علما ضروريا من أبلغ العلوم الضرورية، وكذلك العكس. وإذا كان كذلك؛ فمن نبأه الله واصطفاه لرسالته كان قلبه من أفضل القلوب صدقا وبرا. ومن افترى على الله الكذب كان قلبه من أشر القلوب كذبا وفجورا. كما قال ابن مسعود: " إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لرسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فاتخذهم الله لصحبة نبيه. فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون سيئا فهو عند الله سيئ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 وإذا كان من أعظم زمانه صدقا وبرا فلا بد أن يظهر على لسانه وعلى صفحات وجهه ما يناسب ذلك. كما أن الكاذب الكافر لابد أن يظهر عليه ما يناسبه. وهذا يكون تارة حين إخباره، وتارة في غير تلك الحال. فإن الرجل إذا جاء، وقال: إن الأمير أرسلني إليكم بكذا، فقد يقترن بإخباره من كيفيته وحاله ما يعلم به أنه صادق أو كاذب. وإن كان معروفا قبل ذلك بالصدق أو الكذب، كان ذلك دلالة أخرى. وقد يكون ممن يكذب، ولكن يعرف أنه صادق في ذلك الخبر. دع من يستمر على عادة واحدة بضعا وعشرين سنة مع أصناف الناس واختلاف أحوالهم. والمقصود أن العلم بصدق الصادق، وكذب الكاذب كغيرهما من المعلومات، قد يكون ضروريا، وقد يكون نظريا. وهو ليس من الضروريات الكلية، كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين. بل من العلم بالأمور الغيبية، كالعلم بحمرة الخجل، وصفرة الوجل، وعدل العادل، وظلم الظالم، مما يعرفه الخبير به علما ضروريا، وإن كان استدلاليا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 وإذا كان القائل: إني رسول الله، إما أن يكون من خيار الناس وأصدقهم وأبرهم وأفضلهم، وإما أن يكون من شرار الناس وأكذبهم وأفجرهم، فالفرق بين هذين يكون من وجوه كثيرة لا تكاد تنضبط. وقد تحصل المعرفة عند سماع خبر هذا ورؤية وجهه وسماع كلامه، وما يلزم ذلك، ويقترن به من بهجة الصدق ونوره، ومن ظلمة الكذب وسواده وقبحه. فتبين بذلك أن كثيرا من الناس إذا رأوا الكاذب وسمعوا كلامه، تبين لهم كذبه، تارة بعلم ضروري، وتارة باستدلالي، وتارة بظن قوي. وكذلك النبي الصادق إذا رأوه وسمعوا كلامه، تبين لهم صدقه بعلم ضروري أو نظري قبل أن يروا خارقا. وقد يكون أولا بظن قوي، ثم يقوى حتى يصير يقينا، كما في المعلوم بالأخبار المتواترة والتجارب. قال أبو العباس: وهذه الطريقة سلكها طوائف، منهم القاضي عياض، فقال: " إذا تأمل المنصف أحوال نبينا - صلى الله عليه وسلم - من جميل أثره، وحميد سيرته، وبراعة علمه، ورجاحة عقله، وحلمه، وكماله، وشاهد حاله وصواب مقاله لم يمتر في صحة نبوته وصدق دعوته ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 قال: وقد كفى هذا غير واحد في إسلامه والإيمان به، فروينا عن الترمذي وابن قانع وغيرهما بأسانيدهم أن عبد الله بن سلام قال: " «لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة جئت لأنظر إليه، فلما استبنت وجهه عرفت أنه ليس وجه كذاب» ". رواه غير واحد عن عوف الأعرابي عن زرارة بن أوفى عن عبد الله بن سلام. وعن أبي رمثة قال: " «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعي» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 «ابن لي، فلما رأيته قلت: هذا نبي الله» ". وفي صحيح مسلم «أن ضمادا لما قدم مكة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع أن محمدا مجنون قال: " فأتيته، فقلت: إني أرقى من هذه الريح، وإن الله شفى على يدي من شفى، فهل لك؟ فقال: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد. فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت بقول الكهنة والسحرة والشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر، هات يدك؛ أبايعك على الإسلام، فبايعه، فقال: وعلى قومك؟ قال: وعلى قومي» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 وعن جامع بن شداد قال: " «كان رجل منا أخبر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. فقال: هل معكم شيء تبيعونه؟ قلنا: هذا البعير. قال: بكم؟ قلنا: بكذا وكذا وسقا من تمر، فأخذ بخطامه، وسار إلى المدينة. فقلنا: بعنا من رجل لا ندري من هو. ومعنا ظعينة، فقالت: أنا ضامنة لثمن البعير، رأيت وجه رجل مثل القمر ليلة البدر؛ لا يخيس بكم، فأصبحنا، فجاء رجل بتمر، فقال: أنا رسول رسول الله إليكم؛ يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر، وتكتالوا حتى تستوفوا، ففعلنا» ". وفي خبر الجلندي - ملك عمان - لما بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 قال الجلندي: " والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد، وينجز الموعود، وأشهد أنه نبي ". وقال نفطويه في قوله - تعالى -: ... {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} ... : " هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم - يقول: يكاد منظره يدل على نبوته، وإن لم يتل قرآنا، كما قال ابن رواحة: لو لم تكن فيه آيات مبينة ... لكان منظره ينبيك بالخبر " انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 وقد كان إيمان خديجة وأبي بكر وغيرهما من السابقين الأولين قبل انشقاق القمر، وإخباره بالغيوب، وتحديه بالقرآن. لكن كان بعد سماعهم القرآن الذي هو نفسه آية، ونفس إخباره أنه رسول الله، لما يعرف من أحواله المستلزمة لصدقه، إلى غير ذلك من آيات الصدق. كما قالت خديجة - رضي الله عنها - لما قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «لقد خشيت على نفسي» " وذلك أول ما جاءه الملك: أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 فاستدلت بما فيه من الأخلاق والصفات الفاضلة والشيم الكريمة على أن من كان كذلك لا يخزى أبدا. فعلمت بكمال عقلها وفطرتها أن الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والشيم الشريفة تناسب أشكالها من كرامة الله وتأييده وإحسانه، لا تناسب الخزي والخذلان، وإنما يناسبه أضدادها، فلذلك بادرت إلى الإيمان والتصديق. وأبو بكر كان من أعقل الناس وأخبرهم، فلما تبين له حاله علم علما ضروريا أنه نبي صادق. وكان أتم أهل الأرض يقينا، علما وحالا. وكذلك هرقل لما سأل أبا سفيان عن تلك المسائل في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجابه أبو سفيان، استدل بذلك على نبوته. والحديث في الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: حدثني أبو سفيان بن حرب، قال: " انطلقت في المدة التي كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 بيني وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام، فبينما أنا بها إذ جيء بكتاب من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل، جاء به دحية الكلبي، فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى عظيم الروم هرقل. فقال هرقل: هل ههنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقالوا: نعم، فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا عليه، فأجلسنا بين يديه. فقال: أيكم أقرب نسبا منه؟ فقلت: أنا. فأجلسني بين يديه وأصحابي خلفي، ثم دعا ترجمانه. فقال: قل لهؤلاء: إني سائل هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه. قال أبو سفيان: وأيم الله، لولا أن يؤثروا علي الكذب لكذبته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو حسب. فقال: هل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: كيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، يصيب منا، ونصيب منه. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال أبو سفيان: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا. فقال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها. وسألتك: هل كان في آبائه ملك فزعمت أن لا. فقلت: لو كان في آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك آبائه. وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا. فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ويكذب على الله. وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ فزعمت أن لا. فكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب. وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون. وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا؛ ينال منكم وتنالون منه. وكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر. وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا. فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله قلت: رجل ائتم بقول قيل قبله. ثم قال: بم يأمركم؟ قلنا: بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف. فقال: إن يك ما تقول حقا فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه. ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي. ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأه، فإذا فيه: " «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم؛ يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين، و {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} . » الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 «فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، فأمر بنا، فأخرجنا. فقلت لأصحابي: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة؛ أنه ليخافه ملك بني الأصفر. فمازلت موقنا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 المقام الرابع قال النصراني: " فصل في تمييز الأسباب التي بواسطتها انتشرت كلتا الشريعتين، قد قلنا في شأن الشريعة المسيحية: إنها انتشرت بواسطة الآيات والمعجزات التي صدرت، لا عن المسيح وحده، بل وعن تلاميذه، وبواسطة الصبر على الشدائد وأنواع العذاب في طاعة الله. أما الذين نشروا دين محمد فإنهم لم يظهروا شيئا من المعجزات، ولم يقاسوا شيئا من البلايا الشديدة، ولا من أنواع القتل الشنيعة من أجل اعتقادهم، بل تبعت الشريعة حيث سهل السيف طريقها قدامها، فإنها متعلقة بالكلية بالسيف والقتال ". الجواب - والله الموفق -: هذا الكلام يدل إما على الجهل المفرط، وإما على العناد والمكابرة في إنكار ما استفاضت به الأخبار، وتضمنته كتب السيرة، وتلقاه الخلف عن السلف من شدة ما عاناه المؤمنون من أذى المشركين، إذ كانوا بمكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وما قاسوه من الضيق والبلاء، تارة بالضرب الشديد، وتارة بالقتل الشنيع، وتارة بالحصار وقطع الميرة عنهم، وعدم اتصال أحد بنافعة إليهم، إلى غير ذلك من إخراجهم من ديارهم وإزعاجهم من أوطانهم. وهم في كل ذلك صابرون على دينهم متابعون نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لا يبالون بما أصابهم في ذات الله. قال الإمام محمد بن إسحاق في السيرة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 " إنهم - يعني المشركين - عدوا على أسلم وبايع واتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم، ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر. فمن استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يصبر، ويعصمه الله منهم. فكان بلال - مولى أبي بكر - لبعض بني جمح، مولدا من مولديهم، وكان صادق الإسلام طاهر القلب. فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة، فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله، لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى. فيقول - وهو في ذلك البلاء -: أحد أحد. حتى مر به أبو بكر الصديق يوما وهم يصنعون ذلك به، فاشتراه، وأعتقه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 قال ابن إسحاق: "ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب ... منهم زبيرة، فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى. فقالت: كذبوا، ما تضر اللات والعزى وما ينفعان. فرد الله إليها بصرها. ومر بجارية لبني عدي، وكان عمر بن الخطاب يعذبها، لتترك الإسلام - وهو يومئذ مشرك - وهو يضربها، حتى إذا مل، قال: إني أعتذر إليك أني لم أتركك إلا ملالة، فابتاعها أبو بكر، فأعتقها. وكان بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 وكانوا بيت إسلام - إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة ". قال ابن إسحاق: " فيمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول فيما بلغني: " «صبرا آل ياسر، موعدكم الجنة» ". فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام. وكان أبو جهل الذي يغري بهم في رجال من قريش، إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزاه، فقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنضعن شرفك. وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك. وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به ". قال: " وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه، ويعطشونه، حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي كان به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة ". فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يصيب أصحابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 من البلاء، وأنه لا يقدر أن يمنعهم مما هم فيه من ذلك قال لهم: " «لو خرجتم إلى إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه» ". فخرج إليها كثير منهم ممن لم يطق المقام بمكة، وصبروا على الجلاء ومفارقة الأوطان والعشائر والإقامة في دار البغضاء البعداء، حتى أنجز الله لهم ما وعدهم. ثم حصرت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين في شعب أبي طالب، ومعهم أبو طالب ومن تابعه على النصرة من مشركي بني هاشم وبني المطلب. وتعاقدت قريش على أن لا يجالسوهم، ولا يبايعوهم، ولا يتركوا أحدا يصل إليهم بنافعة، حتى يسلموا إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتد الأمر عليهم، ودام ذلك ثلاث سنين حتى نقض الله ما عقدوه، وأعز رسوله وحزبه. فهذا بعض حال المهاجرين من أهل مكة. وأما الأنصار فإن الذي دعاهم إلى الدخول في الإسلام واتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد عناية الله بهم وسابقة الحسنى أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 اليهود كانوا جيرانهم بالمدينة، وكانت تقع بينهم الحروب في الجاهلية. فكانت اليهود تستفتح عليهم، وتقول: هذا زمان نبي يبعث، فنتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد. فقدم طائفة منهم مكة في بعض المواسم، وسمعوا ما يدعو إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من محاسن الشريعة وما يتلوه من القرآن الذي دلتهم عقولهم أنه ليس من قول البشر، وعلموا أنه رسول الله، وأنه الذي كانت توعدهم به اليهود، فآمنوا به، وصدقوه، وبايعوه على الإيمان والنصرة. ولما أرادوا بيعته ليلة العقبة - وكانوا سبعين رجلا - قال لهم أسعد بن زرارة - وهو أحد ساداتهم - وقد أخذ بيد النبي - صلى الله عليه وسلم -: " رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وجزاؤكم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله. فقالوا: يا أسعد، انقل عنا يدك، فو الله لا ندع هذه البيعة، ولا نستقيلها. فبايعوه، وأعطاهم بذلك الجنة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 ومن المعلوم أن ما تحملوه من ذلك هو من أعظم ما يشق على النفوس؛ فإنهم نابذوا العرب قاطبة، بل الخلق كلهم، وقاطعوا من لم يدخل معهم في ذلك من أهليهم وعشائرهم، وقطعوا الحبال بينهم وبين الناس. وهكذا المهاجرون من غير أهل مكة، قد أسلم منهم كثير، وهجروا أوطانهم وعشائرهم، وهاجروا إليه في المدينة وصبروا على ما كابدوه من الجوع والعري والشدة ومفارقة المألوفات قبل أن يقوم الجهاد. وإنما دخلوا بالدعوة والقرآن، وإلا فلم يكن له - صلى الله عليه وسلم - ما يستميل به القلوب من مال، فيطمع فيه، ولا قوة يقهر بها الرجال، ولا أعوان على الأمر الذي أظهروه، والدين الذي دعا إليه. وكانوا حين دعاهم مجتمعين على عبادة الأصنام وتعظيم الأزلام، مقيمين على ما هم عليه من عبية الجاهلية في العصبية والحمية والتمادي والتباغي وسفك الدماء وشن الغارات. لا تجمعهم ألفة دين، ولا يمنعهم عن سوء أفعالهم نظر في عاقبة ولا خوف عقوبة ولا لائمة، فألف الله بنبيه - صلى الله عليه وسلم - بين قلوبهم، وجمع كلمتهم، حتى اتفقت الآراء، وتناصرت القلوب، وترادفت الأيدي. فصاروا إلبا واحدا في نصرته، وعنقا واحدا إلى طاعته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 وهجروا أوطانهم وبلادهم، وجفوا قومهم وعشائرهم في محبته، وبذلوا مهجهم وأرواحهم في نصرته، ونصبوا وجوههم لوقع السيوف في إعزاز كلمته، بلا دنيا بسطها عليهم، ولا أموال أفاضها إليهم، ولا عوض في العاجل أطمعهم في نيله يحوونه، أو ملك أو شرف في الدنيا يحوزونه. بل كان من شأنه - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل الغني فقيرا والشريف أسوة الوضيع. فهل تلتئم مثل هذه الأمور أو يتفق مجموعها لأحد؟. وهذا سبيله من قبيل الاختيار العقلي والتدبر الفكري، لا والذي بعثه بالحق، وسخر له هذه الأمور لا يرتاب عاقل في شيء من ذلك، وإنما هو أمر إلهي، وشيء غالب سمائي، ناقض للعادات ويعجز عن بلوغه قوى البشر، ولا يقدر عليه إلا من له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين. وبهذا يتبين أن قيام دينه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان بالحجة. ولكنه شرع الجهاد لتبليغ الأدلة، وإيصال الحجة، وإنفاذ البيان إلى المخاطبين. ومن أجل ذلك كان أكثر الداخلين بالسيف لما سمعوا القرآن وعرفوا الإسلام انفتحت بصائرهم، وصلحت عقائدهم، واستبصروا فيما كانوا عنه من قبل ذلك عمين. ولهذا المعنى لما وقعت الهدنة التي عقدها النبي - صلى الله عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 وسلم - بينه وبين المشركين يوم الحديبية، وأمن الناس بعضهم بعضا، واختلط المسلمون بالكفار، وبادؤوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن وخلى كل بأهله وأصدقائه، وأخبروهم بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته وأعلام نبوته وحسن سيرته وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك، دخل في الإسلام في مدة هذه الهدنة كثير من الناس، ولهذا سماه الله فتحا مبينا. والمقصود التنبيه على ما نال المسلمين من الشدائد، وما كانوا عليه من الصبر في طاعة الله ورسوله ونصرة دينه، وأن ذلك إنما كان باليقين الذي اقتضاه ما شاهدوه من آيات النبوة، وأعلام الرسالة، وأن دين الإسلام اشتهر وانتشر في القبائل بالدعوة والبيان قبل أن يفرض الجهاد. وسيأتي تتمة لهذا المعنى إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 فصل وأما قول النصراني: " لأنهم لم يظهروا شيئا من المعجزات ". فجوابه: أن معجزات نبيهم - صلى الله عليه وسلم - غنية عن غيرها فإنه قد حصل بها قيام الحجة والدلالة على أنه رسول الله، فلا حاجة بعد ذلك إلى ظهور الخوارق على يد أصحابه وأتباعه. ومع ذلك فقد ظهر على أيديهم من الخوارق والآيات الدالة على أن متبوعهم رسول الله ما لا يحصى. واعلم أن كثيرا من أهل الكلام لا يسمي معجزا إلا ما كان للأنبياء فقط. وأما ما يجري على يد الولي فيسمونه كرامة. ونقل عن السلف أنهم كانوا يسمون هذا معجزا، وذكر ذلك عن الإمام أحمد. ثم ما يجري على يد غير النبي من الخوارق، إن ظهر على يد صالح متبع للسنة قائم على قدم العبودية المرضية فهو المسمى كرامة. وإن كانت حال من ظهرت له الخوارق بضد ذلك فهو استدراج، وخيال شيطاني، وليس من حال أولياء الله وكرامتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 قال بعض الأئمة: "اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء، ومشى على الماء لم يغتر به حتى تنظر متابعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموافقته لأمره ونهيه". فأولياء الله المتقون هم المهتدون المقتدون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيفعلون ما أمر، وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم الله - تعالى - بملائكته، وروح منه، ويقذف في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين. وخيار أولياء الله تكون كراماتهم لحجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين مثل ما كانت معجزات نبيهم كذلك. فكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباعهم رسوله، فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم. إذا عرفت هذا، فاعلم أن الكرامات والخوارق والمعجزات المنقولة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من صلحاء الأمة وعلمائها كثيرة جدا. مثل ما كان لسفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انكسرت سفينة في البحر هو فيها، فركب لوحا منها، فطرحه في الساحل بأرض فيها أسد، قال: فخرج إلي الأسد يريدني، فقلت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 يا أبا الحارث، أنا مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقدم، ودلني على الطريق، ثم همهم، فظننت أنه يودعني، ورجع. وكان أسيد بن حضير وعباد بن بشر تحدثا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في حاجة لهما حتى ذهب بعض الليل. ثم خرجا من عنده وكانت ليلة شديدة الظلمة وفي يد كل واحد منهما عصا، فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها، فلما فرق بينهما الطريق أضاءت للآخر عصاه، حتى بلغ منزله. والقصة في صحيح البخاري وغيره. ومن ذلك قصة أبي بكر الصديق - وهي في الصحيحين - لما ذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 بثلاثة أضياف معه إلى بيته، وجعل لا يأكل لقمة إلا ربا أسفلها أكثر منها، فشبعوا، وصارت أكثر مما كانت عليه قبل ذلك. فنظر إليها أبو بكر وامرأته، فإذا هي أكثر مما كانت، فرفعها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء إليه أقوام كثيرون، فأكلوا منها. وكان خبيب بن عدي أسيرا عند المشركين بمكة، فكانوا يرون عنده العنب وما على وجه الأرض يومئذ عنب. وعامر بن فهيرة من شهداء بئر معونة التمسوا جسده فلم يقدروا عليه، وكان لما قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع. قال عروة: فيرون أن الملائكة رفعته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 وخرجت أم أيمن مهاجرة، وليس معها زاد ولا ماء، فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر - وكانت صائمة - سمعت حسا على رأسها، فرفعته فإذا دلو برشاء أبيض معلق، فشربت منه حتى رويت، فما عطشت بقية عمرها. والبراء بن مالك كان إذا أقسم على الله أبر قسمه. فكانت الحرب إذا اشتدت على المسلمين في الجهاد يقولون: يا براء، أقسم على ربك، فيقول: يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم. فيهزم العدو. فلما كان يوم اليمامة قال: يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم، وجعلتني أول شهيد، فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء شهيدا. وخالد بن الوليد حاصر حصنا، فقالوا: لا نسلم حتى تشرب السم. فشربه فلم يضره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 وسعد بن أبي وقاص كان مستجاب الدعوة، ما دعاه قط إلا استجيب له، وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق. وعمر بن الخطاب ظهرت له الكرامات الكثيرة. منها أنه أرسل جيشا، وأمر عليهم رجلا يدعى سارية. فبينما عمر يخطب إذ جعل يصيح وهو على المنبر: " يا سارية، الجبل، يا سارية، الجبل ". فقدم رسول ذلك الجيش، فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، لقينا عدونا فهزمونا، فإذا بصائح: يا سارية، الجبل، يا سارية الجبل، فأسندنا ظهورنا بالجبل، فهزمهم الله. ودعا سعيد بن زيد على أروى، حين كذبت عليه، فقال: " اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها ". فعميت، ووقعت في حفرة من أرضها، فماتت. والعلاء بن الحضرمي كان عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 على البحرين، وكان يقول في دعائه: " يا عليم ويا حليم يا علي يا عظيم " فيستجاب له. دعا الله بأن يسقوا فيتوضؤوا لما عدموا الماء، ولا يبقى الماء بعدهم، فأجيب. ودعا الله لما اعترضهم البحر، ولم يقدروا على المرور، فمروا كلهم هو والعسكر بخيولهم على الماء، ولم تبتل سروج خيولهم. ودعا الله ألا يروا جسده إذا مات، فلم يوجد جسده في اللحد. وجرى مثل ذلك لأبي مسلم الخولاني الذي ألقي في النار، فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي في قوة مدها، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: هل تفقدون من متاعكم شيئا حتى أدعو الله فيه؟ فقال بعضهم: فقدت مخلاة. فقال: اتبعني، فاتبعه، فوجدها قد تعلقت بشيء، فأخذها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة، فقال له: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: ما أسمع. قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. فأمر بنار، فألقي فيها، فوجدوه قائما يصلي فيها، وقد صارت عليه بردا وسلاما. وقدم المدينة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله. ووضعت له جاريته السم في طعامه، فأكله، فلم يضره، وخببت عليه امرأة زوجته، فدعا عليها، فعميت، فجاءت إليه وتابت، فدعا الله، فرد عليها بصرها. وكان عامر بن عبد قيس يأخذ عطاءه في كمه ألفي درهم، وما يلقاه سائل إلا أعطاه بغير عدد، ثم يجيء إلى بيته، فلم يتغير عددها أو وزنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 ومر بقافلة وقد حبسهم الأسد، فجاء حتى مس بثيابه فم الأسد، ووضع رجله على عنقه، وقال: إنما أنت كلب من كلب الرحمن، وإني أستحي من الله أن أخاف شيئا غيره. ومرت القافلة. ودعا الله أن يهون عليه الطهور في الشتاء، فكان يؤتى بالماء له بخار. ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان، فلم يقدر عليه. وتغيب الحسن البصري عن الحجاج، فدخلوا عليه ست مرات، فدعا الله ألا يروه؛ فلم يروه. ودعا على بعض الخوارج، وكان يؤذيه؛ فخر ميتا. وصلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو، فقال: اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة، ودعا الله فأحياه له. فلما وصلوا إلى بيته قال لابنه: يا بني، خذ سرج الفرس؛ فإنه عارية، فأخذ سرجه، فمات. وجاع مرة بالأهواز فدعا الله واستطعمه، فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير، فأكل، وبقي الثوب عند زوجته زمانا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 وجاءه الأسد وهو يصلي في غيضة بالليل، فلما سلم قال له: اطلب الرزق من غير هذا الموضع. فولى الأسد وله زئير. ورجل من النخع كان له حمار، فمات في الطريق، فقال أصحابه: هلم نتوزع متاعك، فقال: أمهلوا هنيئة، ثم توضأ، فأحسن الوضوء، وصلى ركعتين، ودعا الله، فأحيا له حماره، فحمل عليه متاعه. ولما مات أويس القرني وجدوا في ثيابه أكعانا لم تكن معه قبل، ووجدوا له قبرا محفورا فيه لحد من صخرة، فدفنوه فيه، وكفنوه في تلك الأثواب. وكان عمرو بن عتبة بن فرقد يصلي يوما في شدة الحر، فأظلته غمامة. وكان السبع يحميه، وهو يرعى ركاب أصحابه؛ لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أن يخدمهم. وكان مطرف بن عبد الله بن الشخير إذا دخل بيته سبحت معه آنيته. وكان هو وصاحب له يسيران بالليل، فأضاء لهما طرف السوط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 ولما مات الأحنف بن قيس وقعت قلنسوة رجل في قبره، فأهوى ليأخذها، فوجد القبر قد فسح فيه مد البصر. وكان إبراهيم التيمي يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئا. وخرج يمتار لأهله طعاما، فلم يقدر عليه، فمر بسهلة حمراء، فأخذ منها، ثم رجع إلى أهله، ففتحوها، فإذا هي حنطة حمراء. فكان اذا زرع منها تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها حبا متراكبا. وكان عتبة الغلام سأل ربه ثلاث خصال: صوتا حسنا، ودمعا غزيرا، وطعاما من غير تكليف. فكان إذا قرأ بكى، وأبكى، ودموعه جارية دهره، وكان يأوي إلى منزله، فيصيب فيه قوته، ولا يدري من أين يأتيه. وكان عبد الواحد بن زيد أصابه الفالج، فسأل ربه أن يطلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 له أعضاءه وقت الوضوء، فكان وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه، ثم تعود بعده. وهذا باب واسع جدا لا يمكن أن يؤتى منه في هذا الموضع بأكثر مما ذكرناه. وكلها قضايا عامتها مشهورة في كتب الحديث والأثر، وقد سقناها كما ساقها شيخ الإسلام أبو العباس. ثم قال: " ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، إذا احتاج إليها الضعيف الإيمان، أو المحتاج، آتاه منها ما يقوي إيمانه، ويسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيا عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها، لا لنقص ولايته. ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من تجري على يديه الخوارق لهداية الخلق أو لحاجاتهم، فهؤلاء أعظم درجة ". وهذا بخلاف الأحوال الشيطانيه كأحوال الكهان الذين يكون لأحدهم القرين من الشياطين، يخبره بكثير من المغيبات، مما يسترقه من السمع، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب، كما دل على ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، وغيره. وكان للأسود العنسي الذي ادعى النبوة من الشياطين من يخبره ببعض الأمور الغائبة. فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون أن تخبره الشياطين بما يقولون فيه حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره، فقتلوه. وكذلك مسيلمة الكذاب، كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات، ويعينه على بعض الأمور. وأمثال هؤلاء كثيرون، مثل: الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان، وادعى النبوة. وكانت الشياطين تخرج رجله من القيد وتمنع السلاح أن ينفذ فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 وكان يري الناس بجبل قاسيون رجالا ركبانا على خيل في الهواء، ويقول: هي الملائكة. وإنما كانوا جنا. ولما أمسكه المساك ليقتلوه، طعنه الطاعن بالرمح، فلم ينفذ فيه، فقال له عبد الملك: إنك لم تسم الله؛ فسم الله. وطعنه، فقتله. وهكذا أهل الأحوال الشيطانية تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها مثل: آية الكرسي. والمقصود عند ذكر هذه الخوارق التنبيه على الفرق بين كرامات الأولياء وبين ما يشبهها من الأحوال الشيطانية؛ فإن بينهما فروقا متعددة. منها: أن كرامات أولياء الله سببها الإيمان والتقوى، والأحوال الشيطانية يكون سببها ما نهى الله ورسوله عنه، ويستعان بها على ما نهى الله عنه ورسوله. وتجد كثيرا ممن ضعفت بصيرته، وقل علمه بالكتاب والسنة وأحوال السلف الصالح يكون عمدته في اعتقاده في شخص كونه وليا لله، أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض الخوارق للعادة. مثل: أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، وأن يمشي على الماء أحيانا، أو يملأ إبريقا من الهواء، أو ينفق بعض الأوقات من الغيب، أو أن أحدا استغاث به وهو غائب أو ميت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 فرآه قد جاء فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما يسرق لهم أو بحال غائب لهم أو مريض، أو نحو ذلك من الأمور. وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي الله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموافقته لأمره ونهيه. وكرامات أولياء الله أعظم من هذه الأمور. وهذه الأمور وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله فقد يكون عدوا لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين، وأهل الكتاب والمنافقين، وتكون لأهل البدع، فتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان فيه شيء من هذه الأمور يكون وليا لله. بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ويعرفون بنور الإيمان والإقرار بحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة. ومثال ذلك أن هذه الأمور المذكوره وأمثالها قد توجد في أشخاص، ويكون أحدهم لا يتوضأ، ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابسا للنجاسات، معاشرا للكلاب، يأوي إلى الحمامات والمزابل التي هي مأوى الشياطين، ولا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «لا تدخل الملائكه بيتا فيه كلب ولا جنب» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 وقال عن الأخلية: " «إن هذه الحشوش محتضرة» " أي: يحضرها الشياطين. وقال: " «من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» ". وقال: " «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا» ". وقال: " «إن الله نظيف يحب النظافة» ". وقال الله - تعالى -: ... {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ... إلى قوله: ... {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ... الآية. فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي تحبها الشياطين، يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين. أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي تحبها الشياطين. أو يدعو غير الله، فيستغيث بالمخلوقات، ويتوجه إليها. أو يسجد إلى ناحية قبر الشيخ، ولا يخلص الدين لرب العالمين. أو يلابس الكلاب، أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة. أو يأوي إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين. أو يكره سماع القرآن، وينفر عنه، ويقدم على سماع الأغاني، والأشعار، فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن. قال ابن مسعود: " ولا يسأل أحد عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ". وقال عثمان بن عفان: " لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله ". فإذا كان الرجل خبيرا بحقائق الإيمان الباطنة فارقا بين الأحوال الشيطانية والأحوال الرحمانية، قد قذف الله في قلبه نوره. كما قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} ... . ففرق بين حال أولياء الرحمن وحال أولياء الشيطان، كما يفرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزائف. وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء. وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق والمتنبي الكاذب. ففرق بين محمد الصادق رسول رب العالمين، وموسى والمسيح وغيرهم. وبين مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطليحة الأسدي والحارث الدمشقي، ونحوهم من الكذابين. فكذلك يجب الفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشياطين الظالمين، وبسط ذلك لا يتسع له هذا الموضع. ولشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية في ذلك مصنف سماه: " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " أتى فيه بالعجب العجاب، فجزاه الله خير الجزاء، وأثابه خير الثواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 فصل قال النصراني: " وإنما تستدل علماؤهم على صحتها - يعني الشريعة - بكثرة الغلبات والفتوحات، وعظم الملك، وهذا مما ليس شيء أقل يقينا منه، فإن مع أن عبادات الوثنيين في غاية الشناعة ترى كم من البلاد فتحت على أيدي الفرس واليونانيين والروم، حتى اتسعت ممالكهم في الأرض ". الجواب - ومن الله التأييد -: إن استدلال علمائنا على صحة الشريعة ليس محصورا في هذا الدليل - كما اقتضاه كلامه - فإن طرق الأدلة على صحتها لا تنحصر. فإن الله - تعالى - جعل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الآيات البينات قبل مبعثه، وفي حياته وموته، إلى هذه الساعة، وإلى قيام الساعة. فإن ذكره، وذكر البشارة به موجود في الكتب المتقدمة، كما قدمنا بعض ذلك. ولما ولد اقترن بمولده من الآيات ما هو معروف في كتب الأخبار والسير، كارتجاس إيوان كسرى، وسقوط شرافات منه وانصداعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 وما اقترن به من رؤيا الموبذان، التي أولها سطيح الكاهن بخمود نار فارس التي يعبدونها، ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة، وغيض بحيرة ساوة. وحفظ السماء بالشهب رجوما للشياطين المسترقة للسمع، وجرى ذلك العام قصة أصحاب الفيل. وكل ذلك إرهاص بين مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى ما كان يحصل في مدة نشأته من الآيات والدلائل مثل ما حصل لمرضعته لما كان عندها، ومثل ما شوهد منه في صغره من شق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 صدره، وتظليل الغمامة له، ومعرفه جماعة له بعلاماته، كما في قصة بحيرى الراهب. وأما ما في أيام نبوته فظاهر، كما تقدم ذكر بعضه. وأما بعد موته فمثل نصر أتباعه، وإهلاك أعدائه، وإعلاء ذكره، ونشر لسان الصدق له، وإظهار دينه على كل دين باليد واللسان، والدليل والبرهان. وهذا مما يطول وصف تفصيله. وهكذا آيات غيره من الأنبياء متنوعة قبل المبعث، وحين المبعث، وبعد موتهم، لكن آيات نبينا - صلى الله عليه وسلم - أكثر، وبراهين نبوته أظهر، ثم إن غير الفتوحات من آياته أبلغ في الدلالة وأبهر في المعجزة، وأكبر في البرهان من التمكين في الأرض ووراثتها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 أيدي الأمم الذين عصوه وخالفوا أمره، مع أن هذا - أيضا - دليل ظاهر وبرهان قاطع. وللاستدلال به طرق: الطريق الأول: ما تقدمت الإشارة إليه من إخباره - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ثم وقوعه على وفق ما أخبر، قال الله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} . وقال - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} ... الآية. ووردت الأحاديث الصحيحة بهذا الوعد - كما قدمنا ذكر بعضها - وقد وقع ذلك كله كما أخبر، فإن الله - تعالى - أظهر دينه على سائر الأديان بحيث أنه لم يبق أهل دين يخالف الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون، فظهروا عليهم، وإن لم يكن ذلك في كل المواضع، وفي جميع الأزمان. فقد قهروا اليهود، وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد مصر والشام وما والاها إلى ناحية الروم، إلى ما ورائها، وغلبوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 أهل المغرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا كثيرا من عباد الأصنام على كثير من بلادهم، مما يلي الترك والهند، وذلك سائر الأديان، فثبت أن الذي أخبر الله به في قوله: ... {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} .... قد وقع. وقيل في معنى الظهور المذكور في الآية: إنه الظهور بالحجة. والكل حق. فإن الله أظهر دين الإسلام بالاعتبارين على أكمل الوجوه، فجعل لأهله الظهور بالحجة والبيان، والسيف والسنان، وقد وقع ما وعدهم من الاستخلاف في الأرض وتمكين الدين، وتبديل الخوف بالأمن، وبلوغ ملك هذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها، وقد أخبر بذلك - وهو خبر عن الغيب - وأصحابه في غاية القلة، فوقع كما أخبر، فكان معجزا. الطريق الثاني: أن الفتوحات الإسلامية وقعت خارقة للعادة، بحيث لم يقع قبلها ولا بعدها نظيرها، وهذا يدل على عناية الرب - تعالى - بذلك، وعلى تأييده لمن جاء بهذه الشريعة بأمر سمائي، لا من قبيل قوة البشر وتغلبات الملوك. وذلك يعرف بوجوه: منها قلة من قام به في أول الأمر، وضعفهم وقوة عدوهم وكونهم في غاية الكثرة ونهاية الحنق عليهم والبغض لهم، والجد في عداوتهم بكل ممكن، فأيدهم الله عليهم وأظهرهم، فدل على أن هذا النصر من السماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 ومنها: أن أعداءه مع كون حالهم ما وصفناه، كانوا على أديان وجدوا عليها آباءهم، ونشأوا عليها، وألفتها طباعهم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى تركها، وأن يتبعوا ما جاء به من الشريعة والمنهاج. وكان أول من دعا إلى ذلك العرب الذين هم أقوى الناس نفوسا، وأقساهم قلوبا، وأشدهم توحشا، وأمنعهم جانبا، وأحبهم لأن يغلبوا، ولا يغلبوا، وأعسرهم انقيادا للملوك، وأجفاهم أخلاقا، وأقلهم احتمالا للضيم والذلة، فما كانوا ليجيبوا إلى ما طلبه منهم إلا لما رأوه من الآيات وشاهدوه من المعجزات الدالة على أنه رسول الله، أو بأمر خارق للعادة، ليس من صنع البشر، فكان معجزا، فدل على أنه من عند الله. ومنها: أن تلك الفتوحات وقعت في مدة قريبة، ففتحت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جزيرة العرب كلها إلى ما يليها من أرض الشام في مدة عشر سنين، فدخلوا في طاعته، والتزموا دينه، وتركوا أديانهم، سوى من قبلت منه الجزية والصغار، وهذا ما لم يعهد له نظير. وكذلك الفتوحات الواقعة في أيام خلفائه الراشدين في المشارق والمغارب، كان ذلك في أقرب مدة، وكانت أعداؤهم في غاية الكثرة والشجاعة، والقوة والنجدة، ولم يكن للمسلمين إذ ذاك من العدد والعدة والقوة ما يكون له نسبة بجنب ما عند أعدائهم من ذلك، فكيف بما كافأتهم؟ فلا يرتاب عاقل أن ما أعطوه من الظهور والغلبة ليس إلا بالنصر الإلهي والتأييد السمائي، الخارق للعوائد، الدال على صدق من جاء بهذه الشريعة، وأنها مرضية لله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 الطريق الثالث: ما أشرنا إليه فيما تقدم، بما حاصله أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قام بهذه الشريعة ناسخا شرائع الأنبياء قبله، مستحلا دماء من خالفه من أهل الكتاب وغيرهم، وأموالهم ونسائهم، قائلا: إن الله أمرني بذلك. ومع ذلك أيده الله - تعالى - بأنواع التأييد، وصدقه بأكمل انواع التصديق، ومكنه في الأرض، وأظهر دينه على كل الأديان، وجعل لأمته من التميكن في الأرض ما لم يكن لغيرهم، فدل ذلك على أنه رسول الله، وأنه إنما فعل ذلك عن أمر الله له بذلك، وإلا لكان ذلك طعنا في الرب - تعالى - حيث زعم أعداؤه أنه سلط جبارا كاذبا عليه، وعلى أوليائه وأتباع رسله، ويمكن له غاية التمكين، ويؤيده أعظم التأييد. فمن آمن بربوبية الله لهذا الخلق، ورأى ما ذكرنا لم يرتب في صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه رسول الله، وأن ما أعطاه من النصر والتأييد هو من آيات نبوته، كما كان من آيات الأنبياء إهلاك الله مكذبيهم ونصرة المؤمنين بهم، كإغراق قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. وقد ذكر الله قصصهم في القرآن في غير موضع، وبين أنها من آيات الأنبياء، كما في سورة الشعراء، يختم كل قصة من تلك القصص بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 ومن ذلك ما جعله من اللعنة التابعة لمن كذبهم، ومن لسان الصدق والثناء والدعاء لهم ولمن آمن بهم، كما قال في قصة نوح: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} ، وكذلك في قصة إبراهيم، أي: تركنا هذا القول يقوله المتأخرون. وكذلك في قصة موسى وهارون وإلياس. وقال في قصة فرعون وقومه: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً} . وقال في عاد: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} ... . ولهذا قال - تعالى -: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وقال: ... {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} . وكل واحد من هذه الطرق التي ذكرناها كاف في الدلالة على صحة الشريعة، وصدق من جاء بها، فكيف وهي كلها متفقة متظاهرة على ذلك، مضافة إلى ما لا يحصى من الأدلة والبراهين التي هي أظهر من شمس الظهيرة لأولي الألباب والبصيرة. وأما اعتراض النصراني بتمكين من مكن في بعض البلاد من الوثنيين ونحوهم من ملوك الكفار، فهو اعتراض فاسد، فإن أولئك لا يشبهون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 المسلمين فيما ذكرناه من قوة التمكين في مثل هذه المدة اليسيرة، ولم يحصل لهم ما حصل لهم، ولا ما قاربه، ولم يدع أحد منهم أن ذلك عن أمر الله له بذلك، ولم يشرع شريعة يحمل الناس عليها مدعيا أنها من عند الله. فإن سنة الله في المتنبئين الكذبة على الله أن يهتك أستارهم، ويظهر للخلائق عارهم، ويهزم أنصارهم، ويدمر ديارهم. كما جرى لمسيلمة والأسود وطليحة وأضرابهم من الكذبة. فإن الله أظهر لخلقه من الدلالة على صدق رسله - بما جرى لهم وما عرف من أحوالهم وسيرهم الباطلة، وتدمير الله إياهم - ما هو من الحكم الباهرة والمصالح العظيمة، فإن الضد يظهر حسنه الضد. وكذلك من سبر أحوال ملوك الكفار رأى العبرة في هذا الباب. فإنهم وإن انتصروا على أتباع الرسل - أحيانا - فإن أولئك لا يقول مطاعهم: إنه نبي. ولا يقاتلون أتباع الأنبياء على دين، ولا يطالبون منهم أن يتبعوهم على دينهم، بل يصرحون: إنا نصرنا عليكم بذنوبكم، وإنكم لو اتبعتم دينكم لم ننصر عليكم. وأيضا فلا عاقبة لهم، بل الله يهلك الظالم بالظالم، ثم يهلك الظالمين جميعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 وليس قتيلهم يطلب بقتله سعادة بعد الموت. فهذا وأمثاله مما يظهر به الفرق، ويبين أن ظهور محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته على أهل الكتاب من جنس ظهورهم على عبدة الأوثان، فإن من أهل الكتاب من يقول: سلطتهم علينا بذنوبنا مع صحة ديننا، كبخت نصر. وهذا قياس فاسد، فإن ذلك من جنس خرق العادات المقترن بدعوى النبوة. وهذا من جنس خرق العادات التي لم تقترن بدعوى النبوة وما لم يقترن بدعوى النبوة لا يكون دليلا عليها، وقد يغرق في البحر أمم كثيرة فلا يدل على نبوة نبي، بخلاف غرق فرعون وقومه. وهذا موافق لما أخبر به موسى - عليه السلام -: " إن الكذاب لا يتم أمره "، وذلك أن الله حكيم لا يليق به تأييد الكاذب على كذبه، من غير أن يبين كذبه. ولهذا إن أعظم الفتن (الدجال) لما اقترن بدعواه خوارق كان معها ما يدل على كذبه، كدعوى الإلهية، وهو أعور مكتوب بين عينيه " كافر "، يقرؤه كل مؤمن، والله لا يراه أحد حتى يموت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه العلامات الثلاث في الأحاديث الصحيحة. فأما تأييد الكاذب دائما فهذا لم يقع قط، فمن يستدل على ما يفعله الرب - تعالى - بالعادة والسنة، فهذا هو الواقع، ومن يستدل بالحكمة فحكمته تناقض أن يفعل ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 فصل قال النصراني: " ثم إنه لم يكن للمسلمين النصر والغلبة دائما، فإن من المشهور أنهم انهزموا عدة مرات في البر والبحر، وأنهم طردوا عن جميع بلاد الأندلس وغيرها من البلاد، ولا يمكن الأمر الذي هو كثير الانقلاب من حال إلى حال، والذي يشترك فيه أهل الصلاح والطلاح أن يكون دليلا على صحة الدين ". الجواب - والله الهادي إلى سواء السبيل -: أن انهزام المسلمين في بعض المواطن غير قادح في صحة الدليل لوجوه: الأول: أن ذلك لم يمنع حصول الظهور على الأعداء وتمام الوعد الذي وعد به النبي - صلى الله عليه وسلم - بل مع وقوع ذلك في بعض المواطن كان الظهور للمسلمين على جميع أهل الملل، ولما كان الأمر كذلك بطل الاعتراض. الوجه الثاني: أن سنة الله - تعالى - في رسله وأتباعهم أن يدالوا مرة، ويدال عليهم مرة أخرى، ثم تكون العاقبة لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 وبهذا أجاب هرقل أبا سفيان في حديثه الذي قدمناه، حيث قال له هرقل: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجالا، يدال علينا المرة، وندال عليه الأخرى. فقال هرقل: كذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لها العاقبة. فصار هذا من أعلام الرسل، فهو دليل لنا لا علينا، ولله الحمد والمنة. فإن قيل: ففي الأنبياء من قتل، كما أخبر الله أن بني إسرائيل يقتلون النبيين بغير حق، وفي أهل الفجور من يؤتي سلطانا، ويسلط على قوم مؤمنين كبخت نصر. أجيب بأن من قتل من الأ نبياء فهو كمن يقتل من المؤمنين في الجهاد، كما قال -تعالى-: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . ومعلوم أن حال هؤلاء أكمل من حال من يموت من المؤمنين حتف أنفه. كما قال - تعالى -: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 ثم الدين الذي قاتل عليه الشهيد ينتصر ويظهر، فتكون لطائفته السعادة في الدنيا والآخرة، ومن قتل منهم كان شهيدا. وهذا غاية ما يكون من النصر، إذ كان الموت لا بد منه، بخلاف من يهلك هو وطائفته فلا يفوز لا هو ولا هم بمطلوبهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة. والشهداء قاتلوا باختيارهم، وفعلوا الأسباب التي بها قتلوا، فهم اختاروا الموت، إما أنهم قصدوه، وإما قصدوا ما به يصيرون شهداء، عالمين بأن لهم السعادة في الآخرة وفي الدنيا بالانتصار لطائفتهم، وبقاء لسان الصدق لهم ثناء ودعاء. بخلاف غيرهم، فإنهم هلكوا بغير اختيارهم هلاكا لا يرجون معه سعادة الآخرة، ولم يحصل لهم ولا لطائفتهم شيء من سعادة الدنيا، بل أتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين، وقد أخبر الله -تعالى- أن كثيرا من الأنبياء قتل معه ربيون كثير، أى: ألوف كثيرة - كما هو أحد الأقوال في الآية - وأنهم ما استكانوا لما أصابهم، بل استغفروا من ذنوبهم التي كانت سبب ظهور العدو، وأن الله آتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. فإذا كان هذا قتل المؤمنين، فما الظن بقتل الأنبياء، ففيه لهم ولأتباعهم من سعادة الدنيا والآخرة ما هو أعظم الفلاح. الوجه الثالث: أن في وقوع الهزيمة والكسر على المسلمين في بعض المواطن مصالح عظيمة، وحكما باهرة كثيرة، فمع عناية الله بهم وإرادته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 ظهورهم وكرامتهم، ابتلاهم بذلك في بعض الأوقات، لتتم المصلحة، وتنفذ الحكمة، فيعود المكروه محبوبا. وقد أشار - سبحانه - في سورة آل عمران في سياق قصة أحد إلى أصول المصالح، والحكم في ذلك. منها: تمييز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإنهم لو انتصروا دائما دخل معهم المؤمنون وغيرهم، ولم يتميز الصادق من الكاذب، فاقتضت حكمة الرب - تعالى - أن يبتليهم بذلك ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق الذي جاءوا به، ممن لا يتبعهم إلا على الظهور والغلبة خاصة، ولم يجعل الغلبة على المؤمنين دائما، لأن ذلك يمنع حصول مقصود البعثة، فاقتضت حكمته - تعالى - أن يجمع لهم بين الأمرين، لتتم المصلحة، ثم يجعل العاقبة لهم. ومنها: تعريفهم عاقبة المعصية، فإنه - تعالى - أخبر أن ما يصيبهم فهو بسبب ذنوبهم، فيكون ذلك تنبيها على شؤم عاقبة الذنب، ليحتروزا منه. ومنها: أنه لو نصرهم دائما وأظفرهم بعدوهم في كل موطن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 وجعل لهم التمكن والقهر لأعدائهم أبدا لطغت نفوسهم، وشمخت أنوفهم، كما يكونون لو بسط لهم الرزق، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض والبسط، فهو المدبر لأمر عباده، كما يليق بحكمته، إنه بهم خبير بصير. ومنها: أنه - سبحانه - هيأ لعباده منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة، فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه. ومنها: أن الشهادة عند الله من أعلى المراتب، والشهداء هم خواصه المقربون من عباده، ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتسلط العدو. إلى غير ذلك من الحكم، والمصالح التي تفوت الوصف. فإذا كان في إدالة العدو على المؤمنين في بعض المراتب ما فيه من المصالح والغايات المحمودة، كان إلى الدلالة على صحة الشريعة أقرب منه إلى العكس، ولم يكن ناقضا للاستدلال؛ إذ هذا يكون لأمر عارض، ومقتض طارئ، ثم تكون العاقبة والنصر للمؤمنين. بل قد قدمنا أن مثل هذه الأدلة من أعلام الرسل. ومما يزيد ذلك بيانا ما أشرنا إليه من أن ظهور الكفار على المؤمنين - أحيانا - هو سبب ذنوب المسلمين كيوم أحد. فإذا تابوا انتصروا، كما قد جرى للمسلمين في عامة ملاحمهم مع الكفار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 فهذا من آيات النبوة؛ فإن النبي إذا قاموا بوصاياه نصروا، وإذا ضيعوها ظهر أولئك عليهم. فمدار النصر والظهور مع متابعة النبي وجودا وعدما من غير سبب يزاحم ذلك، ودوران الحكم مع الوصف وجودا من غير مزاحمة وصف آخر يوجب العلم بأن المدار عليه. ومن المعلوم بالاستقراء والتتبع أن نصر الله سببه اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو يدل على أن الله - سبحانه - يريد إعلاء كلمته ونصره ونصر أتباعه. فهذا يوجب العلم بنبوته. ومن هذ ظهور بخت نصر، إنما كان لما غيرت بنو إسرائيل عهود موسى - عليه السلام - فإذا اتبعوها كانوا منصورين، كما كان في زمن داود وسليمان وغيرهما. قال الله - تعالى -: " {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 فكان ظهور بني إسرائيل تارة وظهور عدوهم تارة من دلائل نبوة موسى صلى الله عليه وسلم. وقد قال - تعالى -: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} فأخبر - تعالى - أن سنته التي لا تبديل لها نصر المؤمنين على الكافرين، والإيمان المستلزم لذلك يتضمن طاعة الله ورسوله، فإذا نقص بالمعاصي كان الأمر بحسبه، كيوم أحد. فهذه عادته المعلومة. والكاذب الفاجر وإن أعطي دولة فلا بد من زوالها، ولا بد من بقاء لسان السوء له في العالم، وهو وإن ظهر سريعا فإنه يزول سريعا. وأما الأنبياء فإنهم يبتلون كثيرا؛ ليمحصوا بالبلاء، فإن الله - تعالى - إنما يمكن العبد إذا ابتلاه، ويظهر أمرهم شيئا فشيئا كالزرع. قال الله - تعالى -: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} ... إلى قوله: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} ... الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 ولهذا كان أول من يتبعهم ضعفاء الناس، أشار إليه بعض الأئمة. فاعتبار هذه الأمور، وسنة الله في أوليائه وأعدائه مما يوجب الفرق بين النوعين وبين دلائل هذا ودلائل هذا. وأما قول النصراني: " إنهم - يعني المسلمين - طردوا عن بلاد الأندلس وغيرها من البلاد " فهذا من قبيل ما تقدم مما يبتلي الله - تعالى - به عباده، وهو مما جاءت به الأنذار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه أخبر بإدالة العدو على المسلمين، حتى يأخذوا بعض ما في أيديهم إذا أضاعوا أمر الله، وفرطوا فيما أوجبه عليهم من طاعة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فهو من أدلة الرسالة من وجهين: من جهة إخباره بذلك، فوقع كما أخبر. ومن جهة الاعتبار في ترتب ذلك على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم إنه وإن أخذت من أيدي المسلمين بعض البلاد التي كانت في أيديهم فقد غلبوا على بلاد كثيرة بعد غلبهم على ما غلبوا عليه، فإنه قد حصل للمسلمين الغلبة في بلاد الروم وما والاها بعد خروج الأندلس عن أيديهم بما أكبر بكثير مما غلبوا عليه. ولا تزال طائفة من هذه الأمة المحمدية على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 فظهر بما قررناه الفرق بين الفتوحات الإسلامية وصحة الاستدلال بها على صحة الشريعة، وبين محاربات الملوك المبطلين. وتبين أن الاشتراك الصوري بين أهل الصلاح والطلاح من بعض الوجوه مع ظهور الفروق الصورية والمعنوية من وجوه أخرى غير قادح في صحة الدليل. كما أن دخول كثير من الناس في الأديان الباطلة بمجرد الدعوة إليها وإلقاء الشبهات غير مقتض صحة ذلك الباطل، ولا قادح في صحة حجج الأنبياء وأتباعهم، حيث استجاب لهم كثير من الناس بمجرد الدعوة. فهذا اشتراك في صورة الاستجابة بالدعوة. ولما لم يكن هذا الاشتراك الصوري بين أهل الصلاح والطلاح قادحا في صحة دين الحق ولا مضعفا حجة أهله، فكذلك ما نحن فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 فصل قال النصراني: " لا سيما حيث إن أكثر حروب الملوك بغير عدل، إذ يقاتلون أمما من غير الظالمين لهم، وليس لهم ما يتعللون به على محاربتهم سوى الاختلاف في الدين، وهذا ما هو إلا غاية عدم الدين، إذ لا تكون عبادة الله إلا ما يصدر عن إرادة النفس. وأما الإرادة فهي تنقاد بالتعليم والإقناع، لا بالتهديد والقهر. ومن اضطر لتصديق الدعوى من غير إرادة منه، فهو لا يصدقها، بل يظهر فقط أنه يصدقها هربا من الشدائد. ومن يلزم غيره بالتسليم له بوساطة التعذيب له، فهو بفعله هذا يدل على عدم ما يستدل به على صحة دعواه ". الجواب - وبالله التوفيق -: أما حروب ملوك المسلمين بعضهم لبعض في طلب الملك فليس مما نحن فيه، إذ هو من قتال الفتنة الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وحذر منه، وهو قتال على الدنيا. وأما القتال الشرعي فهو القتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 ولا ريب عند الموافق والمخالف، أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - جاء بشرع الجهاد، وتضمن الأمر به القرآن الذي أنزل عليه. وإنما شرع في المدينة بعد الهجرة إلى المدينة حين اجتمع بها المهاجرون والأنصار. وعند ذلك علم أعداؤه من العرب واليهود أنها كانت لهم دار منعة، فخافوا منهم ما كانوا يحذرون، فرموهم عن قوس واحد، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم من كل جانب، وكان الله يأمرهم بالصبر والعفو والصفح. ثم إنه - تعالى - بحكمته أذن لهم في القتال، ولم يفرضه عليهم، فقال - تعالى -: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} .... . ثم فرض عليهم القتال لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم، فقال - تعالى -: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ... . ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، فقال - تعالى -: ... {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} . فكان محرما، ثم مأذونا فيه، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورا به لجميع المشركين. وإذ كان القتال عن أمر الله وشرعه، كان القيام به من أكبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 الفضائل، وأعظم الوسائل، لما فيه من بذل النفوس والأموال في مرضاة الله وما كان عن أمر الله فهو على وفق الحكمة والعدل، لأنه صدر عن أمر الحكيم الخبير، وقد قامت البراهين واتضحت الدلائل، وظهرت المعجزات على أن محمدا رسول الله، فبطل أن يكون قتال المسلمين لمن خالف الملة قتالا بغير عدل. وقد ذكرنا فيما تقدم إشارة إلى بعض ما في شرع الجهاد من الحكم والغايات المحمودة. وأما قتال المسلمين أمما من غير الظالمين لهم، وأن السبب إنما هو الاختلاف في الدين، فهذا أوضح حجة على أنه على مقتضى العدل، لأنهم إنما يقاتلون المشركين بالله الكافرين به وبرسله، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية، قال: .... «اغزوا بسم الله، قاتلوا من كفر بالله» ... . فأعظم الظلم وأكبر الذنوب الشرك بالله والكفر به. فشرع الله الجهاد ليكون الدين كله له كما قال تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} . وإذا كان قتالك من ظلمك واعتدى عليك، حتى يكف عن ظلمه واعتدائه لا يكون ظلما ولا قبيحا، فكيف يكون قتال الكافر بالله، المكذب لرسوله وكتابه، الآتي بأعظم الظلم وأكبر الذنب، يقال فيه: إنه بغير عدل؟ ! ما هذا إلا جهل عظيم، كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون. وقوله: " إذ لا تكون عبادة الله إلا ما يصدر عن إرادة النفس " إلى قوله: " فهو لا يصدقها، بل يظهر فقط أنه يصدقها، هربا من الشدائد ". جوابه: أن هذا وإن وجد في آحاد من الناس فليس على العموم، فلا تنتقض به الحكمة في مشروعية الجهاد، فإنه قد دخل في الإسلام فئام من الناس بالقتال، وافتتحت ديارهم بالسيف، فدخلوا وكثير منهم كارهون، فلما خالطوا المسلمين، وسمعوا القرآن، وبلغتهم معجزات النبوة وآيات الرسالة صلحت عقائدهم، وانفتحت بصائرهم، وعلموا أنه الحق، ودانوا به باطنا وظاهرا، وعلموا أبناءهم ونساءهم، وبذلوا يه نفوسهم وأموالهم. هذا ما لا يرتاب فيه ذو عقل صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 وهل يستجيز من له أدنى مسكة من عقل أن يقول: إن من دخل في الإسلام بعد قيام الجهاد من العرب وغيرهم من أصناف الأمم أنهم إنما يصدقون بالإسلام ظاهرا فقط؟ هذا مما يعلم فساده ببديهة العقل فإن الله قد خص هذه الأمة بما وهبها من الإيمان بالله ورسوله، وتمام الانقياد لما جاء به الرسول، منشرحة بذلك صدورهم، مصدقة به قلوبهم، ما لم يعط غيرهم من الأمم، وذلك لما أيد به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - من المعجزات، وأنواع الأدلة والآيات، ولهذا كان أكثر الأنبياء تابعا يوم القيامة، وكان أمته خير الأمم، وأكثر أهل الجنة، وأول الناس سبقا إلى الجنة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» ". ولا ينتقض ما ذكرناه بالمنافقين والزنادقة، فإنهم مقهورون مغمورون في المؤمنين، بل في وجودهم بين المؤمنين مع كونهم أعداء لهم في صورة أولياء، واجتهادهم في الإضرار بدينهم ودنياهم وسعيهم في ذلك بكل ما أمكنهم، ثم لم يظفروا بمطلوبهم، ولم يحصلوا على مرادهم دليل على صحة الشريعة وأنها من عند الله عز وجل. والمقصود أن الله نصب الأدلة والبراهين على صدق رسوله وصحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 ما جاء من النبوة والكتاب، وشرع الجهاد وسيلة إلى إبلاغ الحجة وإيصال الدليل إلى المكلفين، فإن من كان على دين وجد عليه آباءه وأسلافه، وأشربه قلبه، وألفته نفسه لا يختار دينا غيره، ولا يلتفت إلى سواه، فلا يصغي إلى حجج الحق وبراهينه. فكان من رحمة الله بعباده أن أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالجهاد، لتبلغ الحجة مبلغها، فينذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين. وأما قول النصراني: " ومن يلزم غيره بالتسليم له بوساطة التعذيب أو التخويف ... إلى آخره " فهو كلام ساقط، فإن الأنبياء - عليهم السلام - جاؤوا بالرسالة إلى الأمم مقرونة بالتخويف بالعذاب للمكذبين والإنذار للمخالفين، كما جاءت بالبشارة للمؤمنين والرجاء للمصدقين، ومنهم من جاء بالقتال. وبنو إسرائيل لما امتنعوا من التزام أحكام التوراة - لثقلها عليهم - رفع الله جبلا فوق رؤوسهم، وقيل لهم: التزموا وإلا وقع عليكم الجبل. كما قال - تعالى -: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وقال - تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} .... . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 وأيضا فالشرائع جاءت بالحدود وإيقاع العقوبة بالعصاة، ليرتدعوا عن المعاصي والمخالفات، وكل هذا إلزام بالأحكام بوساطة التعذيب أو التخويف، أفكان ذلك دليلا على عدم البرهان فيما دعا إليه الأنبياء عليهم السلام؟ ! وإذا لم يكن كذلك بطل هذا التمويه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 فصل قال النصراني: " ثم إن ما يجعلونه علة للقتال من الاختلاف في الدين فينقضه فعلهم، حيث يتركون من ينخضع لهم، ويتدين بأي دين أراد. وقولهم - أيضا -: إن للنصارى في شريعتهم ما يكفي لهم خلاصا ". الجواب - وبالله التوفيق -: مراده بتركهم من يخضع لهم إقرار أهل الكتاب ونحوهم بالجزية. وهذا ليس على العموم في أهل كل دين، فإطلاقه باطل، فإنها لما نزلت آية الجزية، وهي قول الله - تعالى -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . أخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - من ثلاث طوائف: اليهود، والنصارى، والمجوس، ولم يأخذها من عباد الأصنام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 فاختلف العلماء ههنا، فقيل: لا يجوز أخذها من كافر غير هؤلاء ومن دان بدينهم، اقتداء بأخذه وتركه. وقيل: بل تؤخذ - أيضا - من عبدة الأصنام من العجم دون العرب. والأول قول الشافعي وأحمد في رواية عنه. والثاني قول أبي حنيفة وأحمد في روايته الأخرى. وعلى القول الأول فإنما أخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - من المجوس، لأن لهم شبهة كتاب، لما ورد في بعض الأحاديث أنه كان لهم كتاب ثم رفع. وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في المجوس: " «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 وليس المراد بسط هذه المسألة، وإنما المقصود أن أخذ الجزية ممن بذلها للمسلمين ليس على العموم في حق كل كافر. وإذا عرف هذا فليس في إقرار من يقر بالجزية من الكفار ما يكون قدحا في حكمة الشريعة وكمالها، فإن أحكام الشريعة جاءت في كل باب على وفق الحكمة والمصلحة، والذي شرعها هو الرب - سبحانه وتعالى - وهو أحكم الحاكمين. وقد قامت الأدلة القاطعة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن القرآن كلام الله - تعالى - ورسالته إلى خلقه، وشرعه هو ما تضمنه كتابه وحكمة رسوله، والحكم والغايات في أحكامه لا يحيط بها إلا هو، فما علمناه منها قلنا به، وما جهلناه وكلناه إلى عالمه. وقد ذكر العلماء من الحكمة في إقرارهم بالجزية وجوها: فمنها: أنهم أقروا بذلك، ولم يعاملوا معاملة غيرهم من الكفار لحرمة الكتاب الذي ينتمون إليه. ومنها: أن ذلك لحرمة آبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل. ومنها: أن إقرارهم بذلك لأنهم أهل الكتاب وبأيديهم التوراة والإنجيل، وفيها صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - فربما يتفكرون ويعلمون صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - فيتبعون الحق، فأمهلوا لهذا المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 ومنها: أن إبقاءهم كذلك من الشواهد والدلائل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن في الكتب التي بأيديهم ما يدل على أنهم بدلوا، وفيها ما يدل على أن شريعتهم ستنسخ بغيرها، كما قدمنا الإشاره إلى بعض ذلك. وفيها من صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأدلة نبوته ما قدمنا بعضه. وفيها من التناقض والاختلاف ما يبين - أيضا - وقوع التبديل. قال شيخ الإسلام أبو العباس: " وعند أهل الكتاب ما يدل على هذه المطالب، وقد ناظرنا غير واحد منهم، وبينا لهم ذلك، وأسلم من علمائهم وخيارهم طوائف، وصاروا يناظرون أهل دينهم، ويتبينون ما عندهم من الشواهد والدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. قال: وهذا من الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية، إذ عندهم من الشواهد والدلائل على نبوته، وعندهم من الشواهد على ما أخبر به من الإيمان بالله واليوم الآخر ما يبين أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - جاء بالدين الذي بعث الله به الرسل قبله، وأخبر من توحيد الله ومن صفاته بمثل ما أخبرت به الأنبياء قبله. قال الله - تعالى -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 وقال: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} . انتهى. وأما قول النصراني: " وقولهم - يعني المسلمين -: إن للنصارى في شريعتهم ما يكفي لهم خلاصا " فهو كلام باطل، وكذب صريح، فإن المسلمين متفقون على مقالة واحدة لا اختلاف بينهم، أن من بلغته رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا خلاص له ولا نجاة إلا باتباعه والإيمان به، سواء في ذلك اليهود والنصارى وعباد الأصنام وغيرهم من طوائف بني آدم. وقد علم من دينه بالضرورة أنه دعا الناس كافة إلى اتباعه، وأنه جاهد أهل الكتاب، كما جاهد المشركين، فجرى له مع يهود المدينة وغيرهم ما هو معلوم. وغزا النصارى عام تبوك بنفسه وسراياه، وضرب الجزية على نصارى نجران. وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده جاهدوا أهل الكتاب يهودهم ونصاراهم، وقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن يد وهم صاغرون. وهذا الكتاب الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به مملوء من دعوة أهل الكتاب إلى اتباعه، ويكفر من لم يتبعه منهم، ويذمه، ويلعنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} . وقال - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} ... . وقال - تعالى -: ... {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} . وقال - تعالى -: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: " «بعثت إلى الأحمر والأسود» ". وقال: " «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» ". إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على هذا الأصل الذي لا يرتاب فيه مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 المقام الخامس قال النصراني: " فصل: في الترجيح بين الشريعتين من جهة الوصايا ". ونقول قبل إيراد كلامه في هذا الفصل: إنا قد بينا - فيما تقدم - أن النظر في الترجيح بين الشريعتين ساقط بعد ثبوت نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وعموم رسالته، وأنه لا يبقى لطالب النجاة والسعادة إلا الإيمان به واتباعه مع الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله، وألا يفرق بين أحد منهم. ثم إذا نظرنا إلى كمال الشرائع وحكمتها وعظمة وصاياها، وجدنا شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير الشرائع وأفضلها من كل طريق من طرق التفضيل. كما أن الذي جاء بها أفضل المرسلين وسيدهم في الدنيا والآخرة. وكما أن ما جاء به من المعجزات أعظم مما جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء - عليهم السلام - فالذي جاء به من الدين والشريعة كذلك، فما جاء به من النوعين أعظم مما جاء به موسى وعيسى، وقد جمع الله له محاسن ما في التوراه والإنجيل. ولهذا يقال: " إن موسى - عليه السلام - بعث بشريعة الجلال، والمسيح - عليه السلام - بعث بشريعة الجمال، ومحمد - صلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 وأما نبينا - صلى الله عليه وسلم - فكان في مظهر الكمال الجامع بين القوة والعدل والشدة في الله وبين اللين والرأفة والرحمة، فشريعته أكمل الشرائع، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات، ولذلك تأتي شريعته بالعدل إيجابا له وفرضا، وبالفضل ندبا إليه واستحبابا، وبالشدة في موضع الشدة وباللين في موضع اللين، ووضع السيف موضعه، ووضع الندى موضعه. فيذكر الظلم فيحرمه، والعدل فيأمر به، والفضل فيندب إليه في بعض آيه. كقوله - تعالى -: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} .... فهذا عدل، ... {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} .... فهذا فضل، ... {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} فهذا تحريم الظلم. وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} فهذا إيجاب للعدل، وتحريم للظلم، .... {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} فهذا ندب إلى الفضل. وكذلك تحريم ما حرم على هذه الأمة كان صيانة وحماية لهم، حرم عليهم كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع، فتحريمه عليهم رحمة، وعلى غيرهم لم يخل من عقوبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم كيوم الجمعة، ووهب لهم من علمه وحلمه، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس. وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم، كما كمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله، وكمل في كتابه من المحاسن ما فرقه في الكتب قبله. وكذلك في شريعته، فهذه الأمة هم المجتبون، كما قال إلههم: ... {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ... . وجعلهم شهداء على الناس وقال - تعالى -: ... {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ... فأقامهم في ذلك مقام الرسل الشاهدين على أممهم " انتهى. ولا ريب أن حنس أهل الكتاب أكمل في العلوم النافعة والأعمال الصالحة ممن لا كتاب لهم. وأن هذه الأمة أكمل من أهل الكتابين وأعدل، فليس عند أهل الكتاب فضيلة علمية وعملية إلا وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل منهم فيها. كما قال شيخ الإسلام أبو العباس: من نظر بعقله حتى في هذا الوقت إلى ما عند المسلمين من العلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 النافع والعمل الصالح، وما عند اليهود والنصارى، علم أن بينهما من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق. فإن الذي عند المسلمين من توحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته وملائكته وأنبيائه ورسله، ومعرفة اليوم الآخر، وصفة الجنة والنار، والثواب والعقاب، والوعد والوعيد، أعظم وأجل مما عند اليهود والنصارى. وما عند المسلمين من العبادات الظاهرة والباطنة مثل الصلوات الخمس وغيرها من الصلاة والأذكار والدعوات أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب. وما عندهم من الشريعة في المعاملات والمناكحات والأحكام والحدود والعقوبات أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب. فالمسلمون فوقهم في كل علم نافع وعمل صالح. وهذا يظهر لكل أحد بأدنى نظر، لا يحتاج إلى كثير سعي. والمسلمون متفقون على أن كل هدى وخير حصل لهم فإنما حصل بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - " انتهى. فأما العلوم فالمسلمون أحذق من جميع الأمم، حتى العلوم التي ليست بدينية كعلم الحساب والطب ونحو ذلك هم فيها أحذق، ومصنفاتهم فيها أكمل، وهم أحسن علما وبيانا لها من الأولين الذين كانت هي غاية علمهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 وقد يكون الحاذق فيها من هو عند المسلمين مرمي بنفاق، ولا قدر له عندهم، لكن حصل له بما تعلمه من المسلمين من العقل والبيان ما أعانه على الحذق في تلك العلوم، فصار حثالة المسلمين أحسن معرفة وبيانا لها. وأما العلوم الإلهية فكل من نظر في كلام المسلمين وأهل الكتاب وجد كلام المسلمين فيها أكمل وأتم، ومعلوم أن أهل الكتاب فيها أتم من غيرهم. وأما العبادات فالناس مختلفون في صفاتها: فمنهم من يظن أن الأشق هو الأفضل. وهذا مذهب كثير من مشركي الهند وغيرهم وكثير من مبتدعة المسلمين. ومنهم من يقول: الأفضل ما كان أدعى إلى تحصيل الواجبات العقلية. ومنهم من يقول: الأفضل لا علة له، بل يرجع إلى محض المشيئة. والرابع - وهو الصواب -: أن أفضلها ما كان لله أطوع، وللعبد أنفع. وعلى كل قول فعبادات المسلمين أكمل. أما الأولون فيقال لهم: الجهاد أعظم مشقة من الجوع والسهر وغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 وأما على القول الثاني فلا ريب أن عبادات المسلمين أدعى إلى العدل الذي هو جماع الواجبات العقلية من عبادات غيرهم، فإنها متضمنة للظلم المنافي للعدل. وأما على قول النفاة فمن تكون عباداته تابعة لأمر الله - تعالى - خير ممن عباداته قد ابتدعها أكابرهم. وأما على القول الرابع فما علم أن الله أمر به يتضمن طاعته دون ما ابتدع، وأما انتفاع العباد بها فهذا يعرف بثمراتها، ومن ذلك آثارها في صلاح القلوب، فليتدبر العاقل عقول المسلمين وأخلاقهم وعدلهم، يظهر له الفرق. فالصلاة فيها من الكمال والاعتدال كالطهارة والاصطفاف، والركوع والسجود، واستقبال بيت إبراهيم والإمساك عن الكلام، وما فيها من الخشوع وتلاوة القرآن واستماعه الذي يظهر الفرق بينه وبين غيره لكل متدبر منصف. إلى أمثال ذلك مما يظهر به فضل عبادات المسلمين. وأما حكمهم في الحدود والحقوق فلا تخفى على عاقل، حتى إن النصارى في طائفة من بلادهم ينصبون من يقضي بينهم بشرع المسلمين، وهذه جمل يطول تفصيلها. وبما ذكرناه يعلم الجواب عن كلام النصراني في هذا الفصل على وجه الإجمال، ويتبين به أفضلية شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - على غيرها من شرائع الأنبياء عليهم السلام، كما أنه خيرهم وسيدهم في الدنيا والآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 فصل وأما شريعة الضلال التي بدل بها النصارى دين المسيح - عليه السلام - فتلك ضلالة استخفهم بها الشيطان فأطاعوه، ودعاهم إليها فأجابوه، وتلاعب بهم فيها كل التلاعب حتى خرجوا عن مقتضى العقول والشرائع في أصول دينهم وفروعه. كما أشرنا إلى بعض ذلك فيما سبق، فتلاعب بهم الشيطان في شأن الملك المعبود - سبحانه وتعالى - وتلاعب بهم في أمر المسيح، وتلاعب بهم في شأن الصليب وعبادته، وتلاعب بهم في تصوير الصور في الكنائس. فلا تجد كنيسة من كنائسهم تخلو من صورة مريم والمسيح وجرجيس وبطرس وغيرهم من القديسين والشهداء، وأكثرهم يسجد للصور، ويدعونها من دون الله. حتى لقد كتب بطريق الإسكندرية إلى ملك الروم كتابا يحتج فيه بالسجود للصور، وأن الله أمر موسى أن يصور صورة الساروس، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 وبأن سليمان بن داود لما عمل الهيكل عمل صورة الساروس من ذهب ونصبها داخل الهيكل. قال في كتابه: " وإنما مثال هذا مثال الملك يكتب إلى بعض عماله كتابا، فيأخذه العامل ويقبله، ويضعه بين عينيه، ويقوم لا تعظيما للقرطاس والمداد، بل تعظيما للملك. كذلك السجود للصور تعظيما لاسم هذا المصور لا للأصباغ والألوان ". قال ابن القيم: " وبهذا المثال بعينه عبدت الأصنام. وما ذكر هذا المشرك عن موسى وسليمان لو صح لم يكن فيه دليل على السجود للصور، وغايته أن يكون بمثابة ما يذكر عن داود: أنه نقش خطيئته في كفه، لئلا ينساها. فأين هذا مما يفعله هؤلاء المشركون من التذلل والخضوع والسجود بين تلك الصور؟ !. وإنما المثال المطابق لما يفعله هؤلاء المشركون مثال خادم من خدام الملك دخل على رجل، فوثب من مجلسه، وسجد له وعبده، وفعل به ما لا يصلح أن يفعل إلا مع الملك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 فكل عاقل يستجهله ويستحمقه في فعله، إذ قد فعل مع عبد الملك ما كان ينبغي أن يختص به الملك دون عبيده من الإكرام والخضوع والتذلل. ومعلوم أن هذا إلى مقت الملك وسقوطه من عينه أقرب منه إلى إكرامه له، ورفع منزلته. كذلك حال من سجد لمخلوق ولصورة مخلوق، لأنه عمد إلى السجود الذي هو غاية ما يتوسل به العبد إلى رضا ربه، ولا يصلح إلا له، ففعله لصورة عبد من عبيده، وسوى بين الله وبين عبده في ذلك، وليس وراء هذا في القبح والظلم شيء، ولهذا قال تعالى: ... {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . وقد فطر الله -سبحانه- عباده على استقباح معاملة عبيد الملك وخدمه بالتعظيم والإجلال والخضوع والذل الذي يعامل به الملك، فكيف بحال من فعل ذلك بأعداء الملك؟ فإن الشيطان عدو الله، والمشرك إنما يشرك به لا يوالي الله ورسوله، بل الله ورسوله وأولياؤه بريئون ممن أشرك بهم، معادون لهم، وهم أشد الناس مقتا لهم في نفس الأمر، إنما أشركوا بأعداء الله، وسووا بينهم وبين الله في العبادة والتعظيم والسجود والذل. ولهذا كان بطلان الشرك وقبحه معلوما في الفطرة السليمة والعقل الصحيح، والعلم بقبحه أظهر من العلم بسائر القبائح ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 والمقصود ذكر تلاعب الشيطان بالأمة الضالة في أصول دينهم وفروعه، وأنهم ليسوا على شيء من دين المسيح ألبتة. فمن ذلك تلاعبه بهم في صلاتهم، وذلك من وجوه: أحدها: أن طوائف منهم كثيرين يصلون بالنجاسة والجنابة، ويقوم أحدهم فيتغوط، ويقوم بأثر البول والغائط إلى صلاته بتلك الرائحة، ويحدث من يليه بأنواع الحديث، كذبا كان أو فجورا، أو غيبة، أو سبا أو شتما، ويخبره بسعر الخمر ولحم الخنزير وما شاكل ذلك، ولا يضر ذلك الصلاة، ولا يبطلها، وإن دعته الحاجة إلى البول في الصلاة بال وهو يصلي، ولا يضر ذلك صلاته. والمسيح - عليه السلام - بريء من هذه الصلاة، وسبحان الله، أن يتقرب إليه بمثل هذه الصلاة! فقدره أعلى وشأنه أجل من ذلك. ومنها: صلاتهم إلى مشرق الشمس، وهم يعلمون أن المسيح لم يصل إلى المشرق أصلا، بل قد نقل مؤرخوهم أن ذلك حدث بعد المسيح بثلاثمائة سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 وإلا فالمسيح إنما كان يصلي إلى قبلة بيت المقدس، وهي قبلة الأنبياء قبله، وإليها كان يصلي نبينا - صلى الله عليه وسلم - مدة مقامه بمكة، وبعد هجرته ثمانية عشر شهرا، ثم نقله الله إلى قبلة أبيه إبراهيم. ومنها تصليبهم على وجوههم عند الدخول في الصلاة، والمسيح بريء من ذلك. فصلاة مفتاحها النجاسة، وتحريمها التصليب على الوجه، وقبلتها الشرق، وشعارها الشرك، كيف يخفى على العاقل أنها لا تأتي بها شريعة من الشرائع ألبتة؟. ولما علمت الرهبان والمطارنة والأساققة أن مثل هذا الدين تنفر عنه العقول أعظم نفرة، زينوه بالحيل والصور في الحيطان بالذهب واللازورد، والزنجفر، وبالأعياد المحدثة، ونحو ذلك مما يروج على السفهاء وضعفاء العقول والبصائر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 ومن ذلك: تلاعبه بهم في صيامهم، فإن أكثر صومهم لا أصل له في شرع المسيح، بل هو مختلق مبتدع، فمن ذلك أنهم زادوا جمعة في بدء صومهم يصومونها لهرقل ملك بيت المقدس. وذلك أن الفرس لما ملكوا بيت المقدس، وقتلوا النصارى، وهدموا الكنائس أعانهم اليهود على ذلك، وكانوا أكثر قتلا وفتكا في النصارى من الفرس. فلما سار هرقل إليها استقبله اليهود بالهدايا، وسألوه أن يكتب لهم عهدا. ففعل، فلما دخل بيت المقدس شكا إليه من فيه من النصارى ما كان اليهود صنعوه بهم. فقال لهم هرقل: وما تريدون مني؟ قالوا: تقتلهم. قال: كيف أقتلهم وقد كتبت لهم عهدا بالأمان، وأنتم تعلمون ما يجب على ناقض العهد؟ قال: إنك حين أعطيتهم الأمان لم تدر ما فعلوا من قتل النصارى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 وهدم الكنائس، ونحن نحتمل عنك هذا الذنب، ونكفره، ونسأل المسيح ألا يؤاخذك به، ونجعل لك جمعة كاملة في بدء الصوم نصومها لك، ونترك فيها أكل اللحم ما دامت النصرانية، ونكتب به إلى جميع الآفاق غفرانا لما سألناك. فأجابهم، وقتل اليهود لما لا يحصى كثرة، فصيروا أول جمعة من الصوم الذي تترك فيه الملكية أكل اللحم يصومونها لهرقل الملك غفرانا لنقضه العهد، وقتل اليهود، وكتبوا بذلك إلى الآفاق. وكذلك لما أرادوا نقل ذلك الصوم إلى فصل الربيع المعتدل، وتغيير شريعة المسيح، زادوا فيه عشرة أيام عوضا وكفارة لنقلهم له. ومن ذلك ما أحدثوه من الأعياد الباطلة المخترعة، فإن أعيادهم كلها مختلقة محدثة بآرائهم واستحسانهم، فمن ذلك عيد ميكائيل، وسببه أنه كان بالإسكندرية صنم، وكان جميع من بمصر والإسكندرية يعيدون له عيدا عظيما، ويذبحون له الذبائح، فولي بتركة الإسكندرية واحد منهم، فأراد أن يكسره، ويبطل الذبائح، فامتنعوا عليه، فاحتال عليهم، فقال: إن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر، فلو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله، وجعلتم هذه الذبائح له كان يشفع لكم عند الله، وكان خيرا لكم من هذا الصنم، فأجابوه إلى ذلك، فكسر الصنم وصيره صلبانا، وسمى الكنيسة كنيسة ميكائيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 ثم احترقت الكنيسة وخربت، وصيروا العيد والذبائح لميكائيل، فنقلهم من كفر إلى كفر، ومن شرك إلى شرك، فكانوا في ذلك كمجوسي أسلم فصار رافضيا، فدخل عليه الناس يهنئونه، ودخل عليه رجل، وقال: إنك إنما انتقلت من زاوية من النار إلى زاوية أخرى. ومن ذلك عيد الصليب. وهو مما اختلقوه وابتدعوه، فإن ظهور الصليب إنما كان بعد المسيح بزمن كثير، وكان الذين أظهروه زورا وكذبا أخبرهم به بعض اليهود أن هذا هو الصليب الذي صلب عليه إلههم وربهم. فنظروا إلى هذا السند، وهذا الخبر. فاتخذوا ذلك الوقت الذي ظهر فيه عيدا، وسموه عيد الصليب. ولو أنهم فعلوا ما فعل أشباههم من الرافضة، حيث اتخذوا وقت مقتل الحسين مأتما وحزنا لكان أقرب إلى العقول. قال ابن القيم: " وكان من حديث الصليب أنه لما صلب المسيح - على زعمهم الكاذب - وقتل ودفن، ورفع من القبر إلى السماء، كان التلاميذ كل يوم يصيرون إلى القبر وإلى موضع الصليب، ويصلون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 فقالت اليهود: إن هذا الموضع لا يخفى، وسيكون له نبأ، وإذا رأى الناس القبر خاليا آمنوا به، فطرحوا عليه التراب والزبل، حتى صار مزبلة عظيمة. فلما كان في أيام قسطنطين الملك جاءت زوجته إلى بيت المقدس تطلب الصليب، فجمعت من اليهود الساكنين ببيت المقدس والخليل مائة رجل، واختارت منهم عشرة، واختارت من العشرة ثلاثة: اسم أحدهم يهودا، فسألتهم أن يدلوها على الموضع، فامتنعوا، وقالوا: لا علم لنا بالموضع، فطرحتهم في الحبس في جب لا ماء فيه، فأقاموا سبعة أيام لا يطعمون ولا يسقون. فقال يهودا لصاحبيه: إن أباه عرفه بالموضع الذي تطلب. فصاح الاثنان، فأخرجوهما، فأخبراها بما قال يهودا، فأمرت بضربه بالسياط، فأقر، وخرج إلى الموضع الذي فيه المقبرة، وكان مزبلة عظيمة، فصلى، وقال: اللهم، أسألك إن كان في هذا الموضع أن يتزلزل، ويخرج منه دخان، فتزلزل الموضع، وخرج منه دخان. فأمرت الملكة بكنس الموضع من التراب، فخرجت المقبرة وأصابوا ثلاثة صلبان، فقالت الملكة: كيف لنا أن نعلم صليب سيدنا المسيح؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة قد أيس منه، فوضع الصليب الأول عليه، ثم الثاني، ثم الثالث، فأفاق عند الثالث واستراح من علته، فعلمت أنه صليب المسيح، فجعلته في غلاف من ذهب، وحملته إلى قسطنطين. وكان من ميلاد المسيح إلى ظهور هذا الصليب ثلاثمائة وثلاثا وعشرين سنة. هذا كله نقله سعيد بن بطريق النصراني في تاريخه. والمقصود أنهم ابتدعوا هذا العيد بنقل علمائهم بعد المسيح بهذه المدة. وبعد، فسند هذه الحكاية من بين يهودي ونصراني مع انقطاعها وظهور الكذب فيها لمن له عقل من وجوه كثيرة. ويكفي في كذبها وبيان اختلاقها أن ذلك الصليب الذي شفى العليل كان أولى ألا يميت الإله الرب المحيي المميت. ومنها: أنه إذا بقي تحت التراب خشب ثلاثمائة وثمان وعشرين سنة فإنه ينخر ويبلى لدون هذه المدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 فإن قال عباد الصليب: إنه لما مس جسم المسيح حصل له الثبات والقوة والبقاء، قيل لهم: فما بال الصليبين الباقيين لم يتفتتا واشتبها به؟ فلعلهم يقولون: لما مست صليبه مسهما البقاء والثبات. وجهل القوم وحمقهم أعظم من ذلك. والرب - سبحانه - لما تجلى للجبل تدكدك الجبل وساخ في الأرض، ولم يثبت لتجليه، فكيف تثبت الخشبة لركوبه عليها في تلك الحال؟ ! ولقد صدق القائل: إن هذه الأمة عار على بني آدم أن يكونوا منهم. فإن كانت هذه الحكاية صحيحة فما أقربها من حيل اليهود التي تخلصوا بها من الحبس والهلاك. وحيل بني آدم تصل إلى أكثر من ذلك بكثير، ولا سيما لما علم اليهود أن ملكة دين النصرانية قاصدة إلى بيت المقدس، وأنها تعاقبهم حتى يدلوها على موضع القتل والصلب، وعلموا أنهم إن لم يفعلوا لم يتخلصوا من عقوبتها. ومنها: أن عباد الصليب يقولون: إن المسيح لما قتل غار دمه، ولو وقع قطرة على الأرض ليبست ولم تنبت. فيا عجبا، كيف يحيي الميت، ويبرئ العليل بالخشبة التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 صلب عليها، وسمر. هذا كله من بركتها وفرحها به، وهو مشدود عليها يبكي ويستغيث؟ ! ولقد كان الأليق أن يتفتت الصليب ويضمحل لهيبة من صلب عليه، وتخسف الأرض بالحاضرين عند صلبه والمتمالئين عليه، بل تفطر السموات والأرض، وتخر الجبال هدا. ثم يقال لعباد الصليب: لا يخلو أن يكون المصلوب الناسوت وحده أو مع اللاهوت. فإن كان المصلوب هو الناسوت وحده فقد فارقته الكلمة، وبطل اتحادها به، وكان المصلوب جسدا من الأجساد ليس بإله ولا فيه شيء من الإلهية والربوبية ألبتة. وإن قلتم: إن الصلب وقع على اللاهوت والناسوت معا، فقد أقررتم بصلب إلإله وقتله وموته، وقدرة الخلق على أذاه. وهذا أبطل الباطل، وأمحل المحال، فبطل تعلقكم بالصليب من كل وجه عقلا وشرعا ". ومن العجب أنهم يقرؤون في التوراة: " ملعون من تعلق بالصليب ". وهم قد جعلوا شعار دينهم ما يلعنون عليه. ولو كان لهم أدنى مسكة من عقل لكان الأولى أن يحرقوا الصليب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 حيث وجدوه، ويكسروه، ويلطخوه بالنجاسة، فإنه قد صلب عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم، وأهين عليه وفضح. فيا للعجب! بأي وجه بعد هذا يستحق الصليب التعظيم لولا أن القوم أضل من الأنعام، فلو عقلوا لكان ينبغي ألا يحملوا صليبا، ولا يمسوه بأيديهم، ولا يذكروه بألسنتهم، وإذا ذكر لهم سدوا مسامعهم من ذكره. ولقد صدق القائل: " عدو عاقل خير من صديق أحمق "، لأنهم بحمقهم قصدوا تعظيم المسيح، فاجتهدوا في ذمه، وتنقصه، والازدراء به والطعن عليه. وكان مقصودهم بذلك التشنيع على اليهود، وتنفير الناس عنهم وإغراقهم بهم، فنفروا الأمم عن النصرانية وعن المسيح ودينه أعظم تنفير. وقد قال بعض عقلائهم: " إن تعظمينا للصليب جار مجرى تعظيم قبور الأنبياء، فإنه كان قبر المسيح إذ هو عليه، ثم لما دفن صار قبره في الأرض ". وليس وراء هذا الحمق والجهل حمق، فإن السجود إلى قبور الأنبياء وعبادتها شرك، بل من أعظم الشرك. وقد لعن إمام الحنفاء وخاتم الأنبياء اليهود والنصارى، حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 وأصل الشرك وعبادة الأصنام من العكوف على القبور واتخاذها، ثم يقال: فأنتم تعظمون كل صليب لا تخصون التعظيم بذلك الصليب بعينه. فإن قلت الصليب من حيث هو يذكر بالصليب الذي صلب عليه إلهنا. قيل: وكذلك الحفر تذكر بحفرته، فعظموا كل حفرة، واسجدوا لها، لأنها كحفرته - أيضا - بل أولى، لأن خشبة الصليب لم يستقر عليها استقراره في الحفرة. ثم يقال: اليد التي مسته أولى أن تعظم من الصليب، فعظموا أيدي اليهود لمسهم إياه، وإمساكهم له، ثم انقلوا ذلك التعظيم إلى سائر الأيدي. فإن قلتم: منع من ذلك مانع العداوة. قلنا: فعندكم أنه هو الذي رضي بذلك واختاره، ولو لم يرض به لم يصلوا إليه. فعلى هذا فينبغي لكم أن تشكروهم وتحمدوهم، إذ فعلوا موجب رضاه واختياره الذي كان سبب خلاص جميع الأنبياء والمؤمنين والقديسين من الجحيم ومن سجن إبليس. فما أعظم منة اليهود عليكم وعلى آبائكم وعلى سائر النبيين من لدن آدم إلى زمن المسيح! !. والمقصود أن هذه الأمة جمعت بين الشرك وعيب الإله وتنقصه، وتنقص نبيهم وعيبه، ومفارقة دينه بالكلية، فلم يتمسكوا بشيء كان عليه المسيح، لا في صلاتهم، ولا صيامهم، ولا أعيادهم. بل هم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 ذلك أتباع كل ناعق، مستجيبون لكل ممخرق ومبطل، إذ أدخلوا في الشريعة ما ليس فيها، وتركوا ما أتت به. وإذ شئت أن ترى العبر في دينهم فانظر ما أشرنا إليه من صيامهم الذي وضعوه لملوكهم وعظمائهم، فلهم صيام للحواريين، وصيام لمارمريم، وصيام لمارجرجس، وصيام الميلاد. وتركهم أكل اللحم في صيامهم مما أدخلوه في دين المسيح، وإلا فهم يعلمون أن المسيح كان يأكل اللحم، ولم يمنعهم منه في صوم ولا فطر. واصل ذلك أن المانوية كانوا لا يأكلون ذا روح، فلما دخلوا في النصرانية خافوا أن يتركوا أكل اللحم، فيقتلوا، فشرعوا لأنفسهم صياما للميلاد والحواريين ومارمريم، وتركوا في هذا الصوم أكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 اللحم محافظة على ما اعتادوه من مذهب ماني، فلما طال الزمان تبعهم على ذلك النسطورية واليعقوبية، فصارت سنة متعارفة بينهم، ثم تبعهم على ذلك الملكانية. قال ابن القيم: ثم إنك إذا كشفت عن حالهم وجدت أئمة دينهم قد نصبوا حبائل الحيل، ليقتنصوا بها عقول العوالم، ويتوصلوا بالتمويه والتلبيس إلى استمالتهم وانقيادهم لهم واستدرار أموالهم، وذلك أشهر وأكثر من أن يذكر. فمن ذلك ما يعتمدونه في العيد الذي يسمونه عيد النور - ومحله ببيت المقدس - فيجتمعون من سائر النواحي في ذلك اليوم، ويأتون إلى بيت فيه قنديل معلق، لا نار فيه، فيتلو أحبارهم الإنجيل، ويرفعون أصواتهم، ويبتهلون في الدعاء. فبينما هم كذلك، وإذا نار قد نزلت من سقف البيت، فتقع على ذبالة القنديل، فيشرق، ويضيء ويشعل، فيصيحون صيحة واحدة، ويصلبون على وجوههم، ويأخذون في البكاء والشهيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 قال أبو بكر الطرطوشي: " كنت ببيت المقدس، وكان واليها إذ ذاك رجلا يقال له: سقمان، فلما انتهى إليه خبر هذا العيد أنفذ إلى بتاركهم، وقال: أنا نازل إليكم في هذا اليوم، لأكشف عن حقيقة ما تقولون فإن كان حقا ولم يتضح لي وجه الحيلة أقررتكم عليه، وعظمته معكم، وإن كان مخرفة على عوامكم أوقعت بكم ما تكرهون. فصعب ذلك عليهم جدا وسألوه ألا يفعل، فأبى وألح في ذلك، فحملوا له مالا عظيما فأعرض عنهم ". قال الطرطوشي: ثم اجتمعت بأبي محمد بن الأقدم بالإسكندرية، فحدثني أنهم يأخذون خيطا دقيقا من نحاس - وهو الشريط - ويجعلونه في وسط قبة البيت إلى رأس الفتيلة التي في القنديل، ويدهنونه بدهن البلسان، والبيت مظلم، بحيث لا يدرك الناظرون الخيط النحاس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 وقد عظموا ذلك البيت، فلا يمكنون أحدا من دخوله. وفي رأس القبة رجل، فإذا قسسوا ودعوا ألقى على ذلك الخيط النحاس شيئا من نار النفط، فتجري النار مع دهن البلسان إلى آخر الخيط النحاس، فيلقى الفتيلة فيتعلق بها. فلو نصح أحد منهم نفسه، وفتش على نجاته لتتبع ذلك، وطلب الخيط النحاس، وفتش رأس القبة، ليرى الرجل والنفط، ويرى أن منبع ذلك النور من ذلك الممخرق الملبس. وأنه لو نزل من السماء لظهر من فوق، ولم يكن ظهوره من الفتيلة!. ومن حيلهم - أيضا - أنه كان بأرض الروم في زمن المتوكل كنيسة، إذا كان يوم عيدها يحج الناس إليها، ويجتمعون عند صنم فيها، فيشاهدون ثدي ذلك الصنم في ذلك اليوم يخرج منه اللبن، فكان يجتمع للسادن في ذلك اليوم مال عظيم. فبحث الملك عنها، فانكشف له أمرها، فوجد القيم قد ثقب من وراء الحائط ثقبا إلى ثدي الصنم، وجعل فيه أنبوبة من نحاس، وأصلحها باللجين، ليخفى أمرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 فإذا كان يوم العيد فتحها، وصب فيها اللبن، فيجري إلى الثدي، فيقطر منه، فيعتقد الجهال أن هذا سر في الصنم، وأنه علامة من الله لقبول قربانهم وتعظيمهم له. فلما انكشف له ذلك أمر بضرب عنق السادن ومحو الصور من الكنائس، وقال: إن هذه الصور مقام الأصنام، فمن سجد للصور فهو كمن سجد للأصنام. ولقد كان من الواجب على ملوك الإسلام أن يمنعوا هؤلاء من هذا وأمثاله، لما فيه الإعانة على الكفر وتعظيم شعائره، فالمساعد على ذلك والمعين عليه شريك للفاعل، ولكن لما هان دين الإسلام، وكان السحت الذي يأخذونه أحب إليهم من الله ورسوله أقروهم على ذلك، ومكنوهم منه. والمقصود أن رهبان النصارى وأساقفتهم لما علموا أن دينهم مما تنفر منه العقول أعظم نفرة، وضعوا لهم من الحيل والمخارق ما روجوا به على السفهاء وضعفاء البصائر، واستمالوا به الجهلة إلى التمسك بالنصرانية. وساعدهم ما عليه اليهود من القسوة والغلظة والمكر والكذب والبهت، وما عليه كثير من المسلمين من الظلم والفواحش والفجور والبدع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 والغلو في المخلوق، حتى يتخذ إلها من دون الله. واعتقاد كثير من الجهال أن هؤلاء من خواص المسلمين وصالحيهم. فتركب من هذا وأمثاله تمسك القوم بما هم عليه من رؤيتهم أنه خير من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البدع والفجور والشرك والفواحش. ولو أنهم تمسكوا بسنة محمد - صلى الله عليه وسلم - واقتفوا آثاره، وتركوا البدع والمحدثات، واقتدوا بالسلف الصالح من هذه الأمة، لكان ذلك من أعظم الدواعي إلى الدخول في الإسلام. ولهذا لما رأى النصارى الصحابة وما هم عليه آمن أكثرهم اختيارا وطوعا، وقالوا: ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء. قال ابن القيم: " ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيرا من أهل الكتاب إلى الإسلام، فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام من البدع والظلم والفجور والمكر والاحتيال، ونسبة ذلك إلى الشرع، فساء ظنهم بالشرع وبما جاء به، فالله طليب قطاع الطريق وحسيبهم ". فهذه إشارة يسيرة جدا إلى تلاعب الشيطان بالأمة الصليبية تدل على ما بعدها، ويعتبر بها العاقل من وجوه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 منها: ظهور شرف دين الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فيعلم ذو العقل السليم أنه الحق من ربنا، لا ما ابتدعه الضلال، واخترعوه من الباطل والمحال إذ من عرف الباطل وما اشتمل عليه من القبائح ظهرت له فضيلة الحق، وما فيه من المحاسن (فبضدها تتبين الأشياء) . ومنها: أن يعلم الموقن بالله وربوبيته لهذا العالم أنه لا يدع الخلق في هذه الضلالات، وارتكابهم لأقبح الجهالات من غير إقامة الحجة ببعثة الرسول، وبلوغ الإنذار. فكان هذا من أعظم الأدلة على صحة رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث جاء بالدين القويم والصراط المستقيم. كما قال الله - تعالى -: .... {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} .... . وإذا عرف ما قدمناه فنذكر الجواب على أفراد المسائل التي ذكرها النصراني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 فصل قال النصراني: " إنما المسيحيون قد أمروا بالصبر والإحسان حتى للمبغضين لهم. أما المسلمون أمروا بالقصاص وأخذ الثأر ". الجواب - وبالله التوفيق -: إن الذي شرعه الله للمسلمين في هذا الباب أكمل وأجل مما عند غيرهم، فإنه - تعالى - أذن لهم في القصاص من المعتدي، وجعله حقا واجبا للمظلوم، وشرع التمكين له من أخذ حقه. ولم يوجب ذلك عليه، بل ندبه إلى الفضل والصبر. فقال - تعالى -: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} ... . وقال - تعالى -: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .... . فشرع - تعالى - العدل، وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو، ووعد عليه الأجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 ولهذا قال: ... {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ... ، أي: لا يضيع ذلك عنده. وقال تعالى: ... {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .... . وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «ما زاد الله عبدا بعفوا إلا عزا» " في أحاديث كثيرة في الترغيب في العفو والحث عليه. وكان - صلى الله عليه وسلم - أول متصف بهذا الوصف الجميل. ولا خفاء عند نقلة أخباره بما يؤثر من حلمه واحتماله وعفوه. كما عفا - صلى الله عليه وسلم - عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، ونزلوا من جبل ليقتلوه، فلما قدر عليهم عفا عنهم مع قدرته على الانتقام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 وكذلك عفوه عن غورث بن الحارث، الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو نائم، فاستيقظ - صلى الله عليه وسلم - وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله. فسقط السيف من يده، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ومن يمنعك مني؟ فقال: كن خير آخذ. فتركه، وعفا عنه، فأتى قومه، وقال: جئتكم من عند خير الناس. وعفا - أيضا - عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحره، ولم يعرض له، ولا عاتبه مع قدرته عليه. وكذلك عفوه عن المرأة اليهودية، وهي زينب أخت مرحب اليهودي - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 التي سمت الذراع يوم خبير، فأخبره الذراع بذلك، فدعاها، فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك؟ قالت: أردت إن كنت نبيا لم يضرك، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك. ولكن لما مات بشر بن البراء من أكله تلك الشاة المسمومة قتلها به. والأخبار بحلمه واحتماله وعفوه كثيرة جدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 فصل قال النصراني: " وأمر المسيحيون بإثبات عقدة التزويج واحتمال الزوجين أخلاق بعضهما بعضا. أما المسلمون أجيز لهم نقضها بالطلاق ". ونقول: لا ريب أن الذي شرع الله للمسلمين من ذلك أكمل وأليق بالحكمة، فإن تحريم الطلاق يفضي كثيرا إلى ضرر الزوجين، فإنه قد لا يلائم خلقها خلقه، فتقع النفرة بينهما، والبغض من كل منهما للآخر، ويحصل الشقاق، فيبقيان عمرهما في نكد العيش. ففي إباحة الطلاق الخلاص من هذا الضرر، وأيضا فإنه وإن لم يحصل شقاق فقد يحتاج إلى فراقها لمصلحة الاستبدال بأوفق منها، أو لكونها عاقرا لا تلد، فيستبدل بها ولودا، ويعرض لها ما يمنع مقصود الاستمتاع، بحيث لو منع الاستبدال بغيرها فات مقصود النكاح ومصالحه، إلى غير ذلك من الأسباب المقتضية لفراق الزوجة. فأباح الله - تعالى - للزوج طلاقها تحصيلا للمصلحة الراجحة له، وتبقى هي مباحة للأزواج، فتتم المصلحة لكل منهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 وهذا هو اللائق برحمة الله بخلقه، وحكمته في شرعه وأمره، وقد قال - تعالى -: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} . فإن لم يكن حاجة إلى الطلاق فهو مكروه، لما فيه من تفويت المصالح المترتبة على النكاح من غير سبب يدعو إليه. وجاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» ". رواه الدارقطني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 فصل قال النصراني: " والمسيحيون، فعندهم يجب على الرجل أن يفعل لامرأته ما يريد أن تفعل له، ويصير لها أسوة في الاقتصار على حبه وحده. وأما المسلمون أحل لهم تكثير النساء الذي يزداد فيه الشره في النكاح ". الجواب - وبالله التوفيق -: أن نقول: ما شرعه الله - تعالى - للمسلمين في عدد الزوجات مطابق للحكمة، فإنه جاء وسطا بين الإكثار منهن المفضي إلى تفويت الحقوق الواجبة لهن، وتحمل الرجل ما لا طاقة له به من أعباء حقوق الزوجية، وبين الإقلال الذي قد تفوت معه مصلحة كمال الاستمتاع، وكثرة الأولاد، والتمتع بنعمة الله التي امتن بها على عباده. فأباح - تعالى - للرجل أن ينكح أربعا إن قدر على القيام بحقوقهن والعدل فيهن، وأمره بالاقتصار على واحدة إن خاف ألا يعدل، فقال - تعالى -: .... {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 والمقصود أن في إباحة العدد من الزوجات حكما عظيمة ومصالح جمة. فمنها: أن الرجل قد لا تكفيه الواحدة، لفضل ما أعطي من القوة على النكاح، أو لما يترتب له على التعدد من المصالح المطلوبة، فأبيح له العدد المذكور من الزوجات، وما شاء من السراري، إتماما لنعمة الله عليه، وتحصينا لفرجه. ومنها: أنه قد يعرض للمرأة ما يمنع استمتاعه بها من حيض أونفاس أو مرض أو غيبتها عنه لعذر أو سفره عنها، فأبيح له التعدد، لتحصيل المصلحة، وإتمام الإحصان. ومنها: أن المرأة قد تكون عاقرا لا تحبل، أو يعرض لها ما يقطع الحبل من كبر أو مرض، وهو يؤثر إمساكها، وألا يفارقها، فلو اقتصر عليها فاته الولد، وهم من النعم العظيمة، وفيه تكثير الأمة. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم» ". ومنها: أن في إباحة العدد مصلحة تعود على جنس النساء، فإنهن غالبا أكثر من الرجال، ففي إباحة التعدد من مصلحة إحصانهن والقيام عليهن ما يفوت كثير منه لو منع التعدد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 وأما ما يحصل للمرأة من مشقة الغيرة بتزويج غيرها فذلك لا يوازي تلك المصالح ولا يقارب. وأيضا فإن للرجال مزيد فضل على النساء بتفضيل الله لهم، وبما أوجب عليهم في أموالهم من الإنفاق على النساء، والقيام بهن، فناسب ذلك، وإن قصرت عليه أن يوسع له في قضاء وطره بغيرها إذا أحب ذلك، ولم يقصر عليها. وأما كون كثرة النساء يزداد فيه الشره في النكاح فقد قدمنا الكلام على فضيلة النكاح بما أغنى عن إعادته. وما ترتب عليه الزيادة في الفضيلة فهو فضيلة، ولهذا استكثر النبي - صلى الله عليه وسلم - منهن، وأبيح له من العدد ما لم يبح للأمة. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: " خير هذه الأمة أكثرها نساء ". وبالجملة، إذا اعتبرت ما شرعه الله - تعالى - لهذه الأمة في هذا الباب وجدته على أحسن وجوه الحكمة وأكمل طرائق المصلحة، كما هو كذلك في كل باب، فلله الحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 فصل قال النصراني: " وعند المسيحيين أصل الدين موضوع في القلب، أن يصلح، ويثمر بما ينتفع به أبناء الجنس كلهم. وأما عند المسلمين فمعظمه في الختانة والوضوء وغيرهما من الأشياء التي من ذواتها لا تنفع ولا تضر ". هذا كلامه. لعمر الله، إنه كلام في غاية السخافة والجهالة والكذب، فإن مبنى دين الإسلام على ما فيه غاية صلاح القلب، وفلاحه، وحياته، وهو إخلاص العبودية لله، وصدق المحبة له، وتحقيق التوكل عليه، والخوف منه، والرجاء له، والاستعانة به، والرضا عنه، والصبر والتفويض، وغير ذلك من منازل العبودية. وكذلك الإيمان بالأصول التي جاءت بها الرسل، واتفقت عليها ملل الأنبياء، بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره. وغير ذلك من أصول الإيمان الثابتة في القلب، والأعمال الباطنة التي لا تنفع الأعمال الظاهرة بدونها. قال الله - تعالى -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 وقال - تعالى -: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وقال - تعالى -: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وقال - تعالى -: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} . إلى غير ذلك من نصوص القرآن في الوصية بهذه الأصول، والحث عليها، ومدح من اتصف بها، إلى ما يتبع أعمال القلب من الأعمال الظاهرة التي مقصودها صلاح القلب ورعاية حياته وإيقاعها على وجهها من ثمرات صلاحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 فافترض - تعالى - الصلوات الخمس المشتملة على توحيد الله - تعالى - والتأله إليه، والخضوع له رهبة منه، والابتهال إليه رغبة فيه. ولهذا جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «إذا قام أحدكم إلى صلاته فإنما يناجي ربه، فلينظر أحدكم بم يناجيه؟» ". وجعل من شروطها رفع الحدث، وإزالة النجاسة، لتتم النظافة للقاء ربه، والطهارة لأداء فرضه. ثم ضمنها تلاوة كتابة المنزل، ليتدبر ما فيه من أوامره ونواهيه، ويعتبر إعجاز ألفاظه ومعانيه. ثم علقها بأوقات راتبة، وأزمان مترادفة، ليكون ترادف زمانها وتتابع أوقاتها سببا لاستدامة الخضوع والابتهال إليه، وألا تنقطع الرهبة منه ولا الرغبة فيه. وبهذا تنفتح أبواب المعارف في القلب، ويحصل له غاية الصلاح ونهاية الفلاح. وكذلك فريضة الزكاة والنفقات من الأموال، ففيه من تمرين النفس على السماحة المحمودة، ومجانبة الشح المذموم، ومواساة الفقراء، ومعونة ذوي الحاجات، وظهور إيثار المنفق رضا مولاه ببذل ما يحبه من المال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 وكذلك الصيام الذي فيه رياضة النفس وصفاء القلب، وهو سر بين العبد وبين ربه، وفيه حث على رحمة الفقراء، وإطعامهم، وسد جوعتهم، لما قد عاناه الصائم من شدة المجاعة في صومه، وفيه من قهر النفس وإذلالها وكسر الشهوة المستولية عليها وإشعار النفس ما هي عليه من الحاجة إلى الطعام والشراب ما هو من أعظم صلاح القلب ومعرفته بربه وفاطره، الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه. ولهذا احتج الله - تعالى - على من اتخذ عيسى وأمه إلهين من دونه بقوله - تعالى -: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} .... ، فجعل حاجتهما إلى الطعام نقصا فيهما عن أن يكون إلهين. وكذلك الحج، وما فيه من تحمل المشاق امتثالا للأمر في قضاء المناسك في تلك المواطن الفاضلة. وفيه تذكير بيوم الحشر في مفارقة المال والأهل، وخضوع العزيز والذليل بين يدي الله، واجتماع المطيع والعاصي في الرهبة منه والرغبة إليه، وإقلاع أهل المعاصي عما اجترحوه، وندم المذنبين على ما أسلفوه. كما قال بعض العلماء: " قل من حج إلا أحدث توبة من ذنب، وإقلاعا عن معصية ". ولذلك قيل: " من علامة الحجة المبرورة أن يكون صاحبها بعدها خيرا من قبلها ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 ثم نبه بما يعانيه من مشاق السفر المؤدي إليه على مواضع النعمة برفاهة الإقامة، ونسيه الأوطان، ليحنو بما سلف من هذه النعمة على أبناء السبيل. ثم علم بمشاهدة حرم الله الذي أنشأ منه دينه، وبعث منه رسوله، ثم بمشاهدة دار الهجرة، التي أعز الله بها أهل طاعته، وأذل بنصرة نبيه بها أهل معصيته، حتى خضع له عظماء المتكبرين، وتذلل له زعماء المتجبرين، أنه لم ينتشر عن ذلك المكان المنقطع، ولا قوي بعد الضعف البين حتى طبق الأرض شرقا وغربا إلا بمعجزة ظاهرة ونصر عزيز، يدل على عناية الله بهذه الشريعة وأنها من عنده. وكذلك الجهاد، وما فيه من بذل النفس وإنفاق النفيس طاعة لله وامتثالا لأمره. وكذلك أنواع العدل والإحسان والبر والصلة. وكذلك الأقوال الطيبة من تلاوة كتاب الله، وإكثار ذكره واستغفاره، وتحصيل التوبة التي هي أحب شيء إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأعمال الباطنة والظاهرة التي مقصودها صلاح القلب وصفاؤه، ونماء الإيمان والمعرفة فيه، فإن أصل الدين في الحقيقة هي الأمور الباطنة من العلوم والأعمال، فلا تنفع الأعمال الظاهرة بدونها. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده: " «الإسلام علانية، والإيمان في القلب» ". ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 " «الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» ". وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا خبث الملك خبثت جنوده ". وإذا كان الأمر ما ذكرنا بعض وصفه، فكيف يقال: إن معظم دين الإسلام في الختانة والوضوء ونحوهما؟ وما هذه الوقاحة والجرأة بالكذب البحت والجهل الصرف؟ وليس هذا بكثير على من فسد عقله وانتكست فطرته حتى سب خالقه وفاطره أعظم مسبة، وتنقصه أسوأ تنقص، بالشرك به، ودعوى الولد له، وكفر برسله وأنبيائه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 وأما الختان والوضوء وتطهير النجاسات ورفع الأحداث فهو من محاسن الشريعة، فإن بالتوحيد وتوابعه طهارة الباطن، وبالوضوء ونحوه طهارة الظاهر. فيجمع العبد في عبادة ربه بين الطهارتين، ويقوم بين يديه على أحسن الهيئات وأكمل الأحوال. وكان كا جاءت به الشريعة المحمدية من ذلك وسطا بين جفاء النصارى وغلو اليهود، كما تقدمت الإشارة إليه. وقد أخرج الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «ما منكم من أحد يتوضأ، فيسبغ الوضوء، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 فهذا فيه الإتيان بالشهادتين المتضمنتين طهارة القلب بعد الوضوء الذي هو طهارة الظاهر، لتتم له الطهارتان الظاهرة والباطنة. وهذا غاية الكمال. وفي الختان من الطهارة والنظافة ما هو اللائق بحكمة الله في شرعه، فإن الأقلف يحمل النجاسة، ولا يمكنه الاستبراء من البول، فشرع الختان تحصيلا للطهارة، وتكميلا للعبادة، وتعظيما للمعبود. وهو من الحنفية ملة إبراهيم، وجاءت التوراة بتقريره والأمر به، ولم تنسخه شريعة الإنجيل، وإنما إبطاله من تغيير الأمة الضالة لدين المسيح في زمن قسطنطين، كما قدمنا ذكره. وقد اعترف هذا النصراني أن المسيح - عليه السلام - اختتن على سنة التوراة. وليس معهم في إبطال الختان حجة ألبتة، بل قد ذكر هو نص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 التوراة من الفصل السابع عشر من السفر الأول منها: أن الله قد قال لإبراهيم: " أعطي لك ولنسلك بعدك بلدة سكناك وهي جميع أرض كنعان حوزا مؤبدا، وأكون لكم إلها، وأنت عهدي، تحفظ أنت ونسلك بعدك لأجيالهم، هذا عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك أن يختتن كل ذكر منكم ". فما معنى هذا النص؟ أليس صريحا في أن شرع الختان ثابت على ذرية إبراهيم وأتباعه؟ فكيف يجعلون من شريعة المسيح إبطال الختان، وقد حتم عليهم وأبد حكمه؟ ! وإنما حملهم على ذلك متابعة دين قسطنطين وأضرابه من المبدلين {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 فصل قال النصراني: " والمسيحيون أحل لهم استعمال المأكل وشرب الخمر على وجه الاعتدال. أما المسلمون قد حرم عليهم أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، مع أنه نعمة عظيمة من الله ينتفع بها النفس والجسم لمن يستعمله بالاعتدال ". الجواب - وبالله التوفيق -: قد تقدم أن ما حرم الله على المسلمين فمصدره من رحمة الله بهم وحمايته لهم، فإنه - تعالى - أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث. كما قال - تعالى - في صفة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .... {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} .... . والطيب والخبيث وصف قائم بالأعيان، ليس المراد به مجرد التذاذ الأكل وعدمه، أو التذاذ طائفة من الأمم لا من العرب ولا غيرهم على القول الصحيح. فالخبث القائم بالعين هو علة التحريم، فحرم الله - تعالى - أكل الخبائث صيانة لعباده عن ملابسة الخبيث والاغتذاء به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 قال أهل العلم: " لأن الغذاء يصير جزءا من جوهر المغتذي، ولا بد وأن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء ". كما حرم الله - تعالى - الدم المسفوح، لأنه مجمع قوى النفس الشهوانية الغضبية، فيكتسب به المغتذي به كيفية توجب طغيان هذه القوى، وهو مجرى الشيطان من البدن. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» . وكما حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، لأنها عادية باغية، فإذا أكلها الناس صار في أخلاقهم شوب من أخلاق هذه البهائم، وهو البغي والعدوان، وهكذا سائر المحرمات. ومن ذلك الخنزير، فإنه مطبوع على أخلاق ذميمة، وصفات قبيحة، فحرم أكله على الإنسان صيانة له وحماية له عن أن يتكيف بتلك الكيفية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 واستحلال النصارى لها من إحداثهم في دين المسيح وتبديلهم له. وقد قال الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسن حدثنا نعيم بن حماد ثنا ابن الفضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل، قال: " نزل آدم بتحريم أربع: الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به. وإن هذه الأربعة الأشياء لم تحل قط، ولم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض، فلما بعث الله عيسى ابن مريم جاء الأمر الذي نزل به آدم - عليه السلام - وأحل لهم ما سوى ذلك، فكذبوه، وعصوه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 قال الحافظ ابن كثير: " وهذا أثر غريب ". وأما الخمر فهي أم الخبائث ومنبع الرذائل، مفسدة للدين والعقل، فتحريمها من محاسن الشريعة. وليس يوازي ما فيها من المنافع ما اشتملت عليه من المفاسد، لأن المنافع التي فيها تعود إلى البدن، والمفاسد تعود إلى الدين والعقل، وهما أعظم نعم الله على عباده، فلهذا قال - تعالى -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} .... . فهذه الشريعة الزاكية جاءت بتحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد، وتقليلها. فإذا تعارضت المصلحة والمفسدة روعي أكبرهما، فعطلت المفسدة الكبرى، ولو بإهمال مصلحة لا توازي تلك المفسدة. وهذا من حكمة الله في شرعه وأمره، وهو الحكيم العليم. وقد قال - تعالى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 فذكر - تعالى - نوعين من المفسدة في الخمر: الأول: يتعلق بالدنيا، وضرره - أيضا - عائد على الدين، وهو العداوة والبغضاء. وذلك أن الغالب على من يشرب الخمر أن يشربها مع جماعة ويكون من غرضه في ذلك الشرب أن يستأنس برفقائه، ويفرح بمحادثتهم ومكالمتهم. فكان من غرضه في ذلك الاجتماع تأكيد المحبة والألفة، ولكنه ينقلب في الأغلب إلى الضد، لأن الخمر تزيل العقل، وإذا زال العقل استولت الشهوة والغضب من غير مدافعة العقل، وعند استيلائهما تحصل المنازعة بين أولئك الأصحاب، وربما آلت إلى الضرب والقتل والمشافهة بالفحش، وذلك يورث العداوة والبغضاء. والشيطان سول لهم أن الاجتماع على الشرب يوجب تأكيد المحبة والألفة، فينقلب الأمر إلى نهاية العداوة والبغضاء المفضيين غالبا إلى الهرج والمرج والفتنة، وكل ذلك مضاد لصلاح العالم. النوع الثاني: المفاسد المتعلقة بالدين، وذلك في قوله: .... {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} ... . وكون الخمر مانعة عن ذكر الله وعن الصلاة ظاهر، لأن شرب الخمر يورث السكر واللذة والطرب في الجسم، فيمنعه ذلك من أداء العبادة، ويحول بينه وبين أسباب السعادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 وأيضا فالنفس إذا استغرقت في اللذات الجسمانية غفلت عن ذكر الله، ومالت إلى العاجلة. ومن الدليل على قبح الخمر وخساستها أن عقل الإنسان أشرف صفاته، والخمر عدو للعقل ومفسد له، وذلك أن الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل القبيح كان عقله مانعا له من الإقدام عليه، فإذا شرب الخمر بقي الطبع الداعي إلى فعل القبائح خاليا عن العقل المانع منها. ولهذا امتنع من شربها جماعة في الجاهلية صيانة لعقولهم. قيل للعباس بن مرداس - في الجاهلية -: لم لا تشرب الخمر، فإنها تزيد في جراءتك؟ فقال: ما كنت لآخذ الجهل بيدي، فأدخله جوفي. ولا أرضى أن أصبح سيد قومي، فأمسي سفيههم. وأيضا فإن من خواص الخمر - كما قال بعض العلماء - أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر، ومواظبته عليها أتم كان الميل إليها أكثر، وقوة الإقدام عليها أوفر. بخلاف سائر المعاصي كالزنا مثلا، فإنه إذا واقعه مرة واحدة قلت رغبته فيه، وكلما كثر فعله لذلك العمل كان فتوره عنه أكثر. بخلاف الشرب فإنه كلما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه إليه أكثر، ورغبته فيه أتم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 فإذا واظب الإنسان عليه صار غريقا في اللذات البدنية معرضا عن تذكر الآخرة والمعاد، حتى يكون من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم. وبالجملة، فالخمر يزيل العقل، فإذا زال العقل حصلت الخبائث بأسرها. فظهر بما قررناه أن تحريم الخمر والخنزير من محاسن الشريعة، ومن أدلة أنها من عند الله، وأنها أكمل الشرائع وأزكاها، فلله الحمد والمنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 فصل قال النصراني: " وأما قبل أن وضعت الشريعة التي هي في غاية الكمال كما هي حال شريعة المسيح، فلا عجب أن تقدم ما يشبه الأصول التي تصلح لتعليم الصبيان، بل بعد إظهار الشريعة التي هي على تلك الحال فالرجوع بعد إلى الرموز والإشارات فهو أمر غير مستقيم، ولا يمكن أن يؤتى بمعنى يدل على أنه يليق - بعد إظهار شريعة المسيح التي هي في غاية الصلاح - أن يؤتى بغيرها ". هذا كلامه، وهو يتضمن أمرين: الأول: دعواه أن شريعة المسيح أكمل من شريعة محمد عليهما الصلاة والسلام. والثاني: ما اقتضاه كلامه من أن المسيح خاتم الرسل، كما صرح به هو - أعني هذا النصراني - في أول كتابه. والجواب عن الأول من وجوه: الأول: أن نقول: لا ريب أن إثبات الكمال كغيره من المعلومات ليس بمجرد الدعوى، وإنما يعرف بالدلائل والبينات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 فالدعاوى ما لم يقيموا عليها ... بينات أبناؤها أدعياء وقد دللنا فيما تقدم على أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - في نهاية الكمال وتمام المصلحة ومقتضى الحكمة، بما فيه مقنع لذوي الإنصاف، وإن كانت الأدلة على ذلك تفوت الإحصاء، ولا يبلغها الحصر، فإن الحكم والمصالح في شرع الله وأمره لا يحيط بها إلا هو، فما ظهر لنا من ذلك قلنا به، وما لم يظهر لنا وكلناه إلى عالمه. الوجه الثاني: أن الله - سبحانه - شرع لعباده الشرائع على وفق الحكمة والمصلحة، وخص كل أمة بشريعة اقتضتها حكمته، ولكنه - سبحانه - فضل الشرائع بعضها على بعض، كما فضل الرسل بعضهم على بعض، ورفع بعضهم فوق بعض درجات. فالكمال حاصل في كل شرع شرعه الله، ولكن حصول الكامل لا يمنع وجود ما هو أكمل منه. فكمال شريعة موسى وعيسى - عليهما السلام - ليس مانعا من ظهور شرع أكمل منهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 كما أن فضل السابق في الزمان من الأنبياء والرسل لا يمنع وجود أفضل منه، إذ الكمال في أمر الله وشرعه غير متناه. وإذا اعتبر ذو البصيرة ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق، علم أنه جاء بالكمال الذي لم يتقدم نظيره في الشرائع السالفة. ولا عجب، فإنه الذي جاء به أفضل الخلق وسيد المرسلين وخاتمهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. الوجه الثالث: أن دعواه أن شريعة المسيح لا يمكن نسخها دعوى مجردة عن الدليل، وكذب محض على شريعة من جاء بالإنجيل، شبيهة بدعوى اليهود عدم جواز النسخ في الشرائع. وهذا النصراني قد رد على اليهود في إنكارهم النسخ، فما باله رجع يدعي كدعواهم بغير برهان عقلي ولا دليل شرعي؟. فقد حجر على الله في شرعه بمجرد هوى النفس {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . ثم يقال: أي فرق بين طرو النسخ على شريعة موسى وما قبلها من الشرائع، وبين طروه على شريعة المسيح؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 فإنه لا يمكن أن يؤتى بفرق صحيح عقلي، فقد خالفوا العقل والشرع في هذه الدعوى الباطلة. فلا حجر على الله في شرعه وأمره، كما لا اعتراض عليه في خلقه. ... {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . واعلم أن الشرائع نوعان: منها: ما يعرف بضرورة العقل والفطرة نفعه معاشا ومعادا. فهذا يمتنع طرو النسخ عليه، لعبادة الله وحده لا شريك له، وطاعته أبدا. ومجامع هذه الشرائع أمران: التعظيم لله، والشفقة على خلق الله. وهذه لا تختلف فيها شرائع الأنبياء. ومنها: ما لا يعرف إلا بالسمع مما يكون تابعا للمصلحة، وذلك يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال. فهذا يمكن طرو النسخ عليه وتبديله، فيكون الشيء الواحد حراما في ملة دون ملة، وفي وقت دون وقت، وفي مكان دون مكان، وفي حال دون حال. وهذا معلوم بالاضطرار من الشرائع، ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غير ذلك. ألا ترى أن تحريم السبت لو كان لعينه لكان على إبراهيم ونوح وسائر النبيين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 وكذلك ما حرمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها، لو كان حراما لعينه وذاته لكان حراما على كل نبي وفي كل شريعة. والأدلة على هذا كثيرة جدا، وهي تبطل شبهة أمة الغضب في دعوى عدم النسخ، ليس هذا موضع بسطها، لأن ذلك ليس من غرضنا في هذا الكتاب، إذ الكلام فيه مع الأمة الضالة، وهم يوافقوننا على جواز وقوع النسخ في الشرائع. فإذا كان الرب - تعالى - لا حجر عليه، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويبتلي عباده بما شاء، ويحكم ولا يحكم عليه، وينسخ من أمره ما يشاء ويثبت، لا معقب لحكمه، فما الذي يحيل عليه أن ينزل شريعة بعد شريعة المسيح تكون أكمل منها وأفضل؟ !. وهل هذا إلا ما ادعته اليهود؟ فإن كان ذلك صحيحا، وأنه يمتنع أن يؤتى بشريعة بعد شريعة المسيح لزم منه صحة دعوى اليهود، إذ لا فرق، فعاد الطعن في نبوة المسيح. وإذا كانت دعوى اليهود واضحة البطلاان فدعوى هذا الضال أبطل وأبطل. قال بعض العلماء: " وحكمة النسخ فيما يجوز نسخه وتبديله أن الأعمال البدنية إذا واظب عليها الخلف عن السلف صارت كالعادة، وظن أنها مطلوبة لذاتها، فيمتنع الوصول بها إلى ما هو المقصود من معرفة الله وتمجيده، بخلاف ما إذا تغيرت تلك الطرائق ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 وقال غيره: " حكمته أن الخلق طبعوا على الملالة من الشيء، فوضع لهم في عصر كل رسول شريعة جديدة، لينشطوا في أدائها ". ومن الحكمة إظهار شرف نبينا - صلى الله عليه وسلم - فإنه نسخ بشريعته شرائعهم، وشريعته لا ناسخ لها. ومن حكم النسخ - أيضا - ما فيه من حفظ مصالح العباد، كطبيب يأمر بدواء في يوم، وبآخر في يوم ثان، وهكذا بحسب المصلحة، وإن كان الثاني أفضل. انتهى. والجواب عن الأمر الثاني - وهو دعواه أن المسيح خاتم الرسل - من وجوه، تعلم مما تقدم: الأول: أنها دعوى مجردة عن البرهان، وعارية عن الدليل والدعاوى التي لا دليل عليها مطروحة، وهم لا يستندون في ذلك إلى دليل ألبتة. وليس في الأناجيل التي بأيديهم ما يدل على ما زعمه، بل قد تقدم فيما أوردناه من نصوص الإنجيل الدلالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما يبطل هذا الزعم. الوجه الثاني: أن أدلة الرساله المحمدية ومعجزاتها، وبراهينها، التي هي أظهر من شمس الظهيرة لا يحتاج بعدها إلى تنويع الرد في إبطال هذه الدعوى الكاذبة الخاطئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 الوجه الثالث: أن هذا القول من مخترعاتهم المحدثة من بعض متأخريهم، إما من هذا المصنف، أو أمثاله من الضالين. وهذا كما رام بعض إخوانهم في الكفر من أنصار اليهودية أن يدعي أن موسى خاتم الرسل، وأنه عهد إليهم أن لا نبي بعده. فدعوى هذا الضال أن المسيح خاتم الرسل، وأن شريعته خاتمة الشرائع لا نعلم به قائلا قبله من النصارى. بل قد قال الإمام العلامة أبو عبد الله ابن القيم - وهو الإمام المحيط بأقاويل الناس-: " أهل الكتاب مجمعون على أن نبيا يخرج في آخر الزمان، ولا يشك علماؤهم أنه محمد بن عبد الله، وإنما يمنعهم من الدخول في الإسلام رياستهم على قومهم وخضوعهم لهم، وما ينالون منهم من المال والجاه ". انتهى. وقول النصراني: " ولا يمكن أن يؤتي بمعنى يدل على أنه يليق - بعد إظهار شريعة المسيح التي هي في غاية الصلاح - أن يؤتى بغيرها " يعلم جوابه مما تقدم من بيان أفضلية شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي اقتضت حكمة الرب - تعالى - أن جعلها خاتمة الشرائع، ففضلها على غيرها، كما فضل من جاء بها على سائر الأنبياء، وفضل أمته على جميع الأمم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 وأيضا فالأصل الذي اتفقت عليه شرائع الأنبياء، ودعا إليه جميع الرسل هو: إخلاص العبودية لله - تعالى - وخلع الأنداد التي تعبد من دونه. ولا ريب أن الذي جاءت به شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - في تشييد هذا المقام وحماية هذا الباب أعظم مما جاء به غيره، فإنه قد جاء من تحقيق التوحيد، وسد طرق الشرك، والتحذير من دقيقه وجليله، وظاهره وخفيه، ما فضلت به شريعته على سائر الشرائع. كما جاء في الخبر عن الله، وعن اليوم الآخر، وتقرير نبوة الأنبياء، وتصديق ما تضمنته التوراة والإنجيل مع زيادة البيان والتفصيل مما تضمنه القرآن وحكمة الرسول ما حصل به للمؤمنين من العلوم النافعة ما فاقوا به على جميع الأمم. فأي معنى يليق ببعثة الرسول أعظم من هذا؟ وأيضا فقد قدمنا في المقام الأول بيان اعتراف النصراني بخفاء الحق وظهور الضلال قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بما يكفي في إبطال كلامه ههنا، ويعلم به أن الخلق محتاجون إلى بعثته - صلى الله عليه وسلم - أعظم من كل حاجة، ومضطرون إليه غاية الضرورة. كما قال الله - تعالى -: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 وفي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «إن الله اطلع على أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب» ". وأيضا فإن النصارى - عليهم لعائن الله - قد أشركوا بالله أعظم الشرك، وافتروا عليه أعظم الفرية، فقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وادعوا له ولدا، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. فلو لم يكن في بعثة الرسول من الحكمة سوى النهي عن هذا الكفر الشنيع والشرك الفظيع من أمة يدعون اتباع رسول الله، والإيمان بكتابه، وهم إذ ذاك أقرب الناس عهدا بالكتب والرسل، لكان ذلك كافيا في الحكمة، ولائقا بالمعنى الذي مضت به سنة الله في خلقه من بعثة الرسول عند الحاجة إليه. {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} . هذا ما يسره الله - تعالى - من كتاب " منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب ". وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699